رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

وقيل : هو ما أخبرنا أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان قالا : حدثنا أبو الوقت عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا إسحاق بن [نصر](١) ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر. فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فجمح موسى في أثره يقول : ثوبي يا حجر ، ثوبي يا حجر ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى ، وقالوا : والله ما بموسى من بأس ، وأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا.

قال أبو هريرة : والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة» (٢). أخرجه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق.

وفي رواية أخرى للبخاري : «فذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ..). الآية» (٣).

والآدر : العظيم الخصيتين (٤).

قوله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو

__________________

(١) في الأصل : نصير. والتصويب من البخاري (١ / ١٠٧). وانظر : ترجمته في : التهذيب (١ / ١٩٢) ، والتقريب (ص : ٩٩).

(٢) أخرجه البخاري (١ / ١٠٧ ح ٢٧٤) ، ومسلم (١ / ٢٦٧ ح ٣٣٩).

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٢٤٩ ح ٣٢٢٣).

(٤) انظر : اللسان (مادة : أدر).

٢٠١

وجيه ؛ إذا كان ذا جاه وقدر (١).

قال ابن عباس : كان عند الله حظيا لا يسأله شيئا إلا أعطاه (٢).

وقال الحسن : كان مستجاب الدعوة (٣).

وقرأ ابن مسعود والأعمش : «وكان عبدا لله وجيها» (٤).

قال ابن خالويه (٥) : صليت خلف ابن [شنبوذ](٦) في شهر رمضان فسمعته قرأها.

وقراءة العامة أوجه ؛ لأنها مفصحة عن [وجاهته](٧) عند الله ، لقوله تعالى : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير : ٢٠] وهذه ليست كذلك (٨).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً)(٧١)

قوله تعالى : (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) قال ابن عباس : صوابا (٩).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : وجه).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٦).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٧) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٦).

(٥) المختصر في شواذ القرآن (ص : ١٢١).

(٦) في الأصل : سنبوذ. وهو خطأ. والتصويب من الكشاف (٣ / ٥٧٢).

(٧) في الأصل : وجاة. والتصويب من الكشاف (٣ / ٥٧٢).

(٨) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥٧٢).

(٩) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٧).

٢٠٢

وقال ابن قتيبة (١) : قصدا.

قال قتادة : عدلا في جميع الأقوال والأعمال (٢).

قال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله (٣).

والمراد من ذلك : حفظ اللسان من الخوض فيما لا يجوز.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) قال مقاتل (٤) : يزكيها.

وقال ابن عباس : يتقبل حسناتكم (٥).

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) قال ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين : الأمانة : هي الفرائض والأحكام التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب (٦).

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٥٢).

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ٥٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٢٢ / ٥٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٥٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٨) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٥٧).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٧).

(٦) أخرجه الطبري (٢٢ / ٥٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٥٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٨) ـ

٢٠٣

ويدخل في هذا القول : جميع ما ذكره المفسرون من أنواع الأمانات.

قال الحسن : عرضت الأمانة على السموات السبع الطباق التي زينت بالنجوم وحملة العرش العظيم ، فقيل لهن : أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قيل : إن [أحسنتن جزيتن](١) ، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن : لا ، ثم عرضت على الأرضين السبع اللاتي شدت بالأوتاد وذللت للمهاد وأسكنت العباد ، فقيل لهن : أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قيل : إن أحسنتن جزيتن ، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن : لا ، ثم عرضت على الجبال الشوامخ البواذخ الصلاب الصعاب ، فقيل لهن : أتأخذن الأمانة بما فيها؟ قلن : وما فيها؟ قيل : إن أحسنتن جزيتن ، وإن أسأتن عوقبتن؟ قلن : لا ، فذلك قوله : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها)(٢).

وقال ابن جريج : قالت السماء : يا رب خلقتني وجعلتني سقفا محفوظا ، وأجريت فيّ الشمس والقمر والنجوم ، لا أتحمل فريضة ولا أبتغي ثوابا ولا عقابا (٣).

وروى السدي عن أشياخه : أن آدم عليه‌السلام لما أراد الحج قال للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، وقال لقابيل فقال : نعم تذهب وتجيء وتجد ولدك كما يسرّك ، فلما انطلق آدم قتل قابيل

__________________

ـ وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس.

(١) في الأصل : خنتن خربتن. والتصويب من الماوردي (٤ / ٤٣٠) ، والوسيط (٣ / ٤٨٤).

(٢) ذكره الماوردي (٤ / ٤٣٠) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٤).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٥٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٩) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري.

٢٠٤

هابيل ، فرجع آدم فوجد ابنه قد قتل أخاه ، فذلك حيث يقول : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ...) الآية (١).

قال جمهور المفسرين : ركب الله تعالى العقل في هذه الأعيان وأفهمهنّ خطابه وأنطقهنّ بالجواب (٢).

وقال الحسن : المراد : عرضنا الأمانة على أهل السموات والأرض وأهل الجبال من الملائكة ولم يكن إباؤهن مخالفة ، وإنما كان خشية من خوف الخيانة ؛ لأن العرض كان على وجه التخيير لا على وجه الإلزام ، وهو قوله تعالى : (وَأَشْفَقْنَ مِنْها)(٣) ، أي : خفن من حملها العقاب بتقدير ترك الأداء.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) قال ابن عباس : يريد : آدم ، عرض الله تعالى عليه أداء الفرائض ، الصلوات الخمس في مواقيتها ، وأداء الزكاة عند محلها ، وصيام رمضان ، وحج البيت على أن له الثواب وعليه العقاب ، فقال آدم : بين أذني وعاتقي (٤).

قال مقاتل بن حيان : قال الله تعالى لآدم : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ قال آدم : وما لي عندك؟ قال : إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك الكرامة وحسن الثواب في الجنة ، وإن عصيت وأسأت فإني معذبك ومعاقبك ، قال : قد رضيت رب وتحملتها ، فقال : قد حملتكها ، فذلك قوله تعالى : (وَحَمَلَهَا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ٥٦ ـ ٥٧).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٨).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٥).

٢٠٥

الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(١).

قال مجاهد : ما كان بين أن يحملها وبين أن خرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر إلى العصر (٢).

وقال الزجاج (٣) : حقيقة هذه الآية ـ والله تعالى أعلم وهو موافق للتفسير ـ : أن ائتمان بني آدم على ما افترضه عليهم ، وائتمان السموات والأرض والجبال ؛ لقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١].

واعلم أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة وكثيرا من الناس يسجدون له ، فعرّفنا سبحانه أن السموات والأرض والجبال لم تحمل الأمانة ، أي : أدّتها ، وكل من خان الأمانة فقد احتملها ، وكذلك كل من أثم فقد احتمل الإثم. قال الله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) [العنكبوت : ١٣] ، فأعلم أن من باء بالإثم يسمى حاملا للإثم ، والسموات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة وأدّينها ، وأداؤها طاعة الله تعالى فيما أمر به وترك المعصية.

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) الكافر والمنافق حمل الأمانة ، أي : خانا ولم يطيعا. هذا آخر كلام الزجاج.

قال المقاتلان (٤) : إنه كان ظلوما لنفسه ، جهولا بعاقبة أمره.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٥).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٦٩) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٣٨).

(٤) انظر : تفسير مقاتل بن سليمان (٣ / ٥٧). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٥).

٢٠٦

وقال ابن السائب : ظلمه حين عصى ربه ، فأخرج من الجنة وحمله حين احتملها (١).

وعلى قول السدي : «الإنسان» : قابيل (٢).

قال ثعلب : جميع الناس (٣).

قوله تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) أي : ليعذبهم بما خانوا الأمانة وكذبوا الرسل ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم حين استخرجهم من ظهر آدم.

قال ابن قتيبة (٤) : المعنى : عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافقين وشرك المشركين فيعذبهم الله ويعاقبهم ، ويظهر إيمان المؤمنين فيتوب الله عليهم ، أي : يرجع عليهم بالرحمة والمغفرة إن حصل منهم تقصير في بعض الطاعات.

وقرأ الأعمش : «ويتوب» بالرفع على الاستئناف (٥).

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للمؤمنين (رَحِيماً) بهم.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٥).

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ٥٧).

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٣٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٢٩).

(٤) تأويل مشكل القرآن (ص : ٣٣٨).

(٥) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٦).

٢٠٧

سورة سبأ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي أربع وخمسون في العدد الكوفي والمدني ، وهي مكية بإجماعهم.

واستثنى الضحاك وابن السائب ومقاتل آية ، وهي قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فقالوا : نزلت بالمدينة (١).

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢)

قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)(٢) يعني :

__________________

(١) قال السيوطي في الإتقان (١ / ٥٢) : روى الترمذي عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي ... الحديث ، وفيه : وأنزل في سبأ ما أنزل ، فقال رجل : يا رسول الله وما سبأ ... الحديث (الترمذي ٥ / ٣٦١). قال ابن الحصار : هذا يدل على أن هذه القصة مدنية ، لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع. قال : ويحتمل أن يكون قوله : «وأنزل» حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته.

(٢) في هامش الأصل : قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ... إلخ) قال ابن جرير (٢٢ / ٥٩) : يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل والحمد التام كله للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السماوات السبع وما في الأرضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه لا مالك لشيء من ذلك غيره ، فالمعنى الذي هو مالك جميعه ، (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) يقول : وله الشكر الكامل في الآخرة كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة ؛ لأن منه النعم كلها على كل من في السماوات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في الآخرة ، فالحمد لله خالصا دون ما سواه ، في عاجل الدنيا وآجل الآخرة ؛ لأن النعم كلها من قبله ـ

٢٠٨

ملكا وخلقا ، (وله في الحمد في الآخرة) (١) يريد : أن أهل الجنة يحمدونه إذا أخذوا منازلهم ، كقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا)(٢) [الأعراف : ٤٣].

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي : ما يدخل فيها من مطر ، أو يجنّ فيها من ميت ، (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من زرع ونبات.

وقال النقاش : ما يخرج منها من كنوز الذهب والفضة والمعادن كلها (٣).

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من مطر وزق وملك قضاء ، (وَما يَعْرُجُ فِيها)(٤) من القضاء والدعاء والأعمال والملائكة.

__________________

ـ لا يشركه فيها أحد من دونه ، (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك.

يعلم ما يدخل الأرض وما يغيب فيها من شيء ، (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) وذلك خبر من الله أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء في السماوات والأرض ، مما ظهر فيها وما بطن ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) بأهل التوبة من عباده أن يعذبهم بعد توبتهم ، الغفور لذنوبهم إذا تابوا منها.

(١) زيد في هامش الأصل بخط مغاير قوله تعالى : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

(٢) قال الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥٧٦) : فإن قلت : ما الفرق بين الحمدين؟

قلت : أمّا الحمد في الدنيا فواجب ؛ لأنه على نعمة متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب ؛ لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها ، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم ، يلتذون به كما يلتذ من به العطاش بالماء البارد.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٣٢).

(٤) زيد في هامش الأصل بخط مغاير قوله تعالى : (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

٢٠٩

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(٦)

قوله تعالى : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقرئ شاذا : «ليأتينّكم» بالياء (١).

قال ابن جني (٢) : جاز التذكير ؛ لأن [المخوف](٣) منها إنما هو عقابها ، وعليه قولهم : ذهبت بعض أصابعه ؛ لأن بعض أصابعه إصبع في المعنى.

وحكى الأصمعي عن أبي عمرو قال : سمعت رجلا من اليمن يقول : فلان لغوب (٤) ، جاءته كتابي فاحتقرها ، فقلت له : أتقول : جاءته كتابي؟ فقال : نعم ، أليس [بصحيفة](٥). وهذا من أعرابيّ جاف هو الذي نبّه أصحابنا على انتزاع [العلل](٦) ، وكذلك ما يجري مجراه ، فاعرفه.

__________________

(١) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ٢٤٨) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٤٢٨).

(٢) المحتسب (٢ / ١٨٦).

(٣) في الأصل : المحذوف. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

(٤) اللغوب : الأحمق (اللسان ، مادة : لغب).

(٥) في الأصل : تصحيفة. والتصويب من المحتسب (٢ / ١٨٦).

(٦) في الأصل : العامل. والتصويب من المحتسب ، الموضع السابق.

٢١٠

قوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ) قرأ نافع وابن عامر : (عالِمِ) بالرفع على معنى : هو عالم ، أو على الابتداء ، والخبر : (لا يَعْزُبُ). وقرأ الباقون بالجر ، نعتا للرب الله ، إلا أن حمزة والكسائي قرءا : [علّام](١) بالتشديد (٢) ، على وزن [فعّال](٣).

وقرأ ابن السميفع والأعمش : «ولا أصغر» «ولا أكبر» بالفتح (٤) ، على نفي الجنس ؛ كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله.

قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) اللام متعلقة بقوله تعالى : (لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

وقال ابن جرير (٥) : المعنى : أثبت مثقال الذرة وأصغر منه ليجزي.

قوله تعالى : (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) قرأ ابن كثير وحفص : «أليم» بالرفع ، هاهنا وفي الجاثية (٦). وقرأ الباقون بالجر (٧).

قال أبو علي (٨) : من قرأ بالجر جعله صفة للرجز ، ومن قرأ بالرفع جعله صفة للعذاب ، أي : لهم عذاب أليم من رجز ، والجر في «أليم» أبين ؛ لأن الرجز العذاب.

__________________

(١) في الأصل : إعلام. وهو خطأ. والتصويب من المصادر التالية.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٨٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨١) ، والكشف (٢ / ٢٠١) ، والنشر (٢ / ٣٤٩) ، والإتحاف (ص : ٣٥٧) ، والسبعة (ص : ٥٢٦).

(٣) في الأصل : فقال. وهو خطأ. انظر المصادر السابقة.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٧).

(٥) انظر : تفسير الطبري (٢٢ / ٦٢).

(٦) عند الآية رقم : ١١.

(٧) الحجة للفارسي (٣ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨٢) ، والكشف (٢ / ٢٠١) ، والنشر (٢ / ٣٤٩) ، والإتحاف (ص : ٣٥٧) ، والسبعة (ص : ٥٢٦).

(٨) الحجة (٣ / ٢٨٩).

٢١١

فالمعنى : لهم عذاب من عذاب أليم ، فإذا وصف العذاب الثاني بأليم ، كان العذاب الأول أليما ، وإذا أجريت الأليم على العذاب الأول كان المعنى : لهم عذاب أليم من عذاب ، فالأول أكثر فائدة.

قوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في قول قتادة (١).

[ومؤمنوا](٢) أهل الكتاب ؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه ، في قول مجاهد (٣).

قال الزجاج (٤) وغيره : موضع «يرى» نصب عطف على قوله : «ليجزي» ، و «الحق» مفعول ثان ل «يرى» ، وهو هاهنا فصل ، ويسميه الكوفيون : العماد (٥).

فإن قيل : ما فائدة الفصل؟

قلت : شيئان :

أحدهما : التفصلة بين الخبر والصفة.

والثاني : التأكيد ، في نحو قولك : زيد هو المنطلق ، أي : لا منطلق إلا هو.

ويجوز أن يكون قوله : (وَيَرَى) كلاما مستأنفا خارجا مخرج الثناء على الذين

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في الأصل : ومونوا. والتصويب من زاد المسير (٦ / ٤٣٣).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦١) عن الضحاك. وذكره الطبري (٢٢ / ٦٢) بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٣٣) عن ابن عباس ، والسيوطي في الدر (٦ / ٦٧٤) وعزاه لابن أبي حاتم عن الضحاك.

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٢٤١).

(٥) انظر : التبيان (٢ / ١٩٥) ، والدر المصون (٥ / ٤٣٠). والعماد هو : ضمير الفصل.

٢١٢

أوتوا العلم ، والذم لمن لم يكن على مثل ما هم عليه من العلم والإيمان.

(وَيَهْدِي) يعني : القرآن (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) وهو دين الإسلام.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) منكري البعث ، قال بعضهم لبعض : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ) أي : يخبركم أنكم (إِذا مُزِّقْتُمْ) وأكلتكم الأرض (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر في معنى التمزيق.

قال مقاتل (١) : إذا تفرقتم في الأرض وذهبت الجلود والعظام وكنتم ترابا.

وقوله : «إذا» منصوب بفعل مضمر ، يدل عليه قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) تقديره : إذا مزّقتم كل ممزّق بعثتم ولا ينتصب ب «جديد» ؛ لأن ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها ، ولا ينتصب بقوله : «ينبئكم» ؛ لأن الأخبار ليس في ذلك الوقت ، ومثله : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥] ، ومثله : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) [العاديات : ٩ ـ ١١] حملوا هذه الآي على إضمار فعل ينتصب به «إذا» ، ولم يحملوه على ما بعد

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٥٩).

٢١٣

«إنّ» ، ألا ترى أنك لو قلت : عمرا إنّ زيدا ضارب ، لا ينتصب عمرا بضارب.

قوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) هذا قول منكري البعث ، قال بعضهم لبعض على وجه التعجب [والإنكار](١) لما أخبرهم به من البعث بعد الموت : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) ، وهذه همزة الاستفهام دخلت على همزة الوصل ، وحذفت التي للوصل لوقوع الاستغناء عنها ، وإنما لم تسقط في قوله : «السحر» لخوف الالتباس ، لكون همزة الخبر مفتوحة كهمزة الاستفهام ، و «أم» معادلة لهمزة [الاستفهام](٢).

فردّ الله عليهم فقال : (بَلِ) أي : ليس الأمر على ما قالوه من الافتراء أو الجنون ، (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ) يعني : في الآخرة (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) عن الهدى في الدنيا.

وقال السدي : «الضلال البعيد» : هو الشقاء الطويل (٣).

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) استفهام في معنى التقرير لهم بإحاطة السماء والأرض بهم حيث نظروا وتوجهوا.

ومقصود ذلك : [تذكيرهم](٤) بقدرة الله تعالى عليهم وتخويفهم من سطوته وبطشته ، ألا تراه يقول : (إن يشأ يخسف بهم الأرض). وهذا المعنى قول قتادة

__________________

(١) في الأصل : والإكار.

(٢) في الأصل : الاسم ستفهام.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٣٤).

(٤) في الأصل : تذكرهم.

٢١٤

وجمهور المفسرين (١). لكن لي فيه حسن السفارة [بإيضاح](٢) المعنى في أحسن صورة.

وقال أبو صالح : المعنى : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم ممن أهلكهم الله من الأمم في أرضه ، وما خلفهم من أمر الآخرة في سمائه (٣).

(إن يشأ يخسف بهم الأرض) التي تحتهم كما خسفنا بقارون (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) التي هي فوقهم.

قرأ الأكثرون : «نخسف» «ونسقط» بالنون فيهما ، حملا على قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً). وقرأهما حمزة والكسائي بالياء ، ردا على قوله : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً). وقرأ الكسائي : «يخسف بهم» بإدغام الفاء في [الباء](٤).

قال أبو علي (٥) وغيره : لا يجوز إدغام الفاء في الباء ، وإن جاز إدغام الباء في الفاء ؛ لأن الفاء فيها زيادة صوت ؛ لأنها من باطن الشفة السفلى وأطراف

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦١ ـ ٣١٦٢) كلاهما عن قتادة بمعناه.

وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٤ ـ ٦٧٥) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة بمعناه.

(٢) في الأصل : بإضاح.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٣٤).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٢٨٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨٣) ، والكشف (٢ / ٢٠٢) ، والنشر (٢ / ٣٤٩) ، والإتحاف (ص : ٣٥٧) ، والسبعة (ص : ٥٢٧).

وما بين المعكوفين في الأصل : الياء. وكذا وردت في المواضع التالية.

(٥) الحجة (٣ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠).

٢١٥

[الثنايا](١) العليا ، فانحدر الصوت بها إلى الفم حتى اتصلت بمخرج الثاء ، ولهذا جاز إبدال الثاء بالفاء ، نحو : الحدث ، والحدف ، والمغافير ، والمغاثير ، فتعاقبا للمقاربة التي بينهما ، فكما لا يجوز إدغام في الباء ، لا يجوز إدغام الفاء في الباء ؛ لزيادة صوتها على صوت الباء.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي يرونه من السماء والأرض (لَآيَةً) دالة على وحدانية الله وقدرته على البعث (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) راجع إلى طاعة الله.

قال قتادة : هو المقبل بتوبته (٢).

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) وهو ما أعطي من النبوة والزبور والملك في الدنيا ، (يا جِبالُ) أي : وقلنا إظهارا لشرفه ومنزلته وكرامته علينا : يا جبال (أَوِّبِي مَعَهُ) رجّعي معه التسبيح ، وكان داود إذا سبّح سبّحت الجبال معه.

وقرأت لأبي عمرو من رواية [عبد الوارث عنه : أوبي](٣) ، بضم الهمزة

__________________

(١) زيادة من الحجة (٣ / ٢٨٩).

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٢). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٥) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) في الأصل : عبد الورث عنه وأبي. وانظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٨).

٢١٦

وتخفيف الواو وتسكينها (١) ، من الأوب ، وهو في معنى : أوّبي.

قرأ الأكثرون : (وَالطَّيْرَ) بالنصب ، عطفا على موضع «الجبال» ، كقوله :

ألا يا زيد والضحاك سيرا

 ................ (٢)

قال الزجاج (٣) : كل منادى ـ عند البصريين كلهم ـ في موضع نصب.

ويجوز أن يكون منصوبا على معنى : «مع» ، كما تقول : قمت وزيدا ، أي : مع زيد (٤).

وحكى أبو عبيدة (٥) معمر بن المثنى عن أبي عمرو ابن العلاء : أنه منصوب على معنى : وسخرنا له الطير ، فيكون عطفا على «فضلا».

وقرأت لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه وليعقوب من رواية زيد عنه : «والطير» بالرفع (٦) ، عطفا على «جبال» ، أي : يا جبال ويا أيها الطير أوبي معه.

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) كان إذا أخذه صار في يده كالعجين والطين والشمع ، يتصرف فيه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وإنما أتته القدرة الإلهية مع قطع النظر إلى الأسباب.

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٨).

(٢) صدر بيت وعجزه : (فقد جاوزتما خمر الطريق). انظر : ابن يعيش (١ / ١٢٩) ، والهمع (٢ / ١٤٢) ، والدر المصون (١ / ٥٣٥ ، ٥ / ٤٣٤) ، والطبري (٢٢ / ٦٦) ، والقرطبي (٣ / ٥١).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٤٣).

(٤) قال أبو حيان في البحر (٧ / ٢٥٣) : وهذا لا يجوز ؛ لأن قبله «معه» ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل ، أو العطف.

(٥) مجاز القرآن (٢ / ١٤٣).

(٦) النشر (٢ / ٣٤٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥٨).

٢١٧

وقيل : لان له في يده ما أتي من شدة القوة أن يعمل سابغات.

قال الزجاج (١) : «أن اعمل» في تأويل التفسير ، كأنه قيل : وألنّا له الحديد (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ).

والمعنى : اعمل دروعا كوامل يجرّها لابسها على الأرض.

قال قتادة : وكان أول من عملها ، وإنما كانت قبله صفائح (٢).

(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) السّرد : نسج الدروع ، ومنه قيل لصانعها : سرّاد وزرّاد ، على إبدال السين زايا. والمعنى : اجعله على القصد وقدر الحاجة.

قال ابن عباس وعامة المفسرين واللغويين في معناه : لا [تدقق](٣) المسامير فتفلق ، ولا غلاظا فتفصم الحلق (٤).

والفصم ـ بالفاء ـ : الكسر من غير إبانة (٥) ، وبالقاف : الكسر مع الإبانة (٦) ، تقول : فصم وما قصم. قال الله تعالى : (لَا انْفِصامَ لَها) [البقرة : ٢٥٦] ، وقال الله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) [الأنبياء : ١١] لما كان موضع استئصال.

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٤٤).

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) في الأصل : تجعل. والتصويب من المصادر التالية.

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٨) ، ومجاهد (ص : ٥٢٣) ، والحاكم (٢ / ٤٥٩ ح ٣٥٨٣). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٦) وعزاه لعبد الرزاق والحاكم عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن مجاهد وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير.

(٥) انظر : اللسان (مادة : فصم).

(٦) انظر : اللسان (مادة : قصم).

٢١٨

(وَاعْمَلُوا صالِحاً) خطابا لداود وأهله.

قال ابن عباس وغيره : اشكروا الله تعالى بما هو أهله (١).

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ)(١٣)

ثم ذكر سليمان وما اختصه به من الكرامة فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) قال الفراء (٢) : نصب «الريح» على «وسخرنا».

وقرأ أبو بكر عن عاصم : «الريح» بالرفع (٣).

وقرأ أبو جعفر : «الرياح» بالرفع أيضا والجمع (٤).

قال أبو علي (٥) : من رفع فوجهه : أن الريح إذا سخّرت لسليمان ، جاز أن يقال : له الريح ، على معنى : له تسخير الريح ، فالرفع على هذا يؤول إلى معنى النصب.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٨).

(٢) معاني الفراء (٢ / ٣٥٦).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٩٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨٣ ـ ٥٨٤) ، والكشف (٢ / ٢٠٢) ، والنشر (٢ / ٣٤٩) ، والإتحاف (ص : ٣٥٨) ، والسبعة (ص : ٥٢٧).

(٤) النشر (٢ / ٢٢٣) ، والإتحاف (ص : ١٥١).

(٥) الحجة (٣ / ٢٩١).

٢١٩

(غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) قال قتادة : تسير مسيرة شهر إلى نصف النهار ، وتروح مسيرة شهر إلى آخر النهار ، فهي تسير في اليوم مسيرة شهرين (١).

قال الحسن : كان يغدو من دمشق (٢) فيقيل بإصطخر (٣) وبينهما مسيرة شهر للمسرع ، ويروح من إصطخر فيبيت بكابل (٤) وبينهما مسيرة شهر للمسرع (٥).

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أذبنا له عين النحاس.

قال المفسرون : أجريت له عين الصّفر (٦) ثلاثة أيام ولياليهن كجري الماء ، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان. والقطر : النحاس المذاب (٧).

قال قتادة : هي عين بأرض اليمن (٨).

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) قال ابن عباس : سخرهم الله تعالى لسليمان وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به (٩).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٢) دمشق : البلدة المشهورة قصبة الشام (معجم البلدان ٢ / ٤٦٣).

(٣) اصطخر : بلدة من بلاد الفرس (معجم البلدان ١ / ٢١١) ، إيران حاليا.

(٤) كابل : اسم يشمل الناحية بين الهند ونواحي سجستان (معجم البلدان ٤ / ٤٢٦).

(٥) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٩) بأقصر منه. وذكره الماوردي (٤ / ٤٣٧) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٣٨).

(٦) الصّفر : النحاس الجيد (اللسان ، مادة : صفر).

(٧) ذكره الطبري (٢٢ / ٦٩) ، والماوردي (٤ / ٤٣٧) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٦ / ٦٧٨).

(٨) أخرجه الطبري (٢٢ / ٦٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٦٧٨) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٩) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٨٩).

٢٢٠