رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

قوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) قال جمهور المفسرين : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١). ويؤيده قراءة من قرأ : «جاءتكم النّذر».

وقيل : الحمى. وقيل : موت الأهل والأقارب (٢).

وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الأمراض والأوجاع كلها بريد ملك الموت ورسل الموت ، فإذا جاء الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال : يا أيها العبد! كم خبر بعد خبر ، وكم رسول بعد رسول ، وكم بريد بعد بريد ، أنا الخبر ليس بعدي خبر ، وأنا الرسول ليس بعدي رسول ، أجب ربك طائعا أو مكرها ، فإذا قبض روحه وتصارخوا عليه قال : على من يصرخون؟ وعلى من يبكون؟ فو الله ما ظلمت له أجلا ، ولا أكلت له رزقا ، بل دعاه ربّه ، فليبك الباكي على نفسه ، فإن لي فيكم عودات وعودات حتى لا أبقي منكم أحدا» (٣).

وقال ابن [عمر](٤) وعكرمة وسفيان بن عيينة : النّذير : الشّيب (٥).

المعنى : أو لم نعمركم حتى شبتم.

أخبرنا عبد العزيز بن منينا ، أخبرنا أبو بكر بن عبد الباقي الأنصاري ، أخبرنا

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٤٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٨٥). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣٢) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي. ومن طريق آخر عن ابن زيد وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٢) ذكر هذين القولين : الماوردي في تفسيره (٤ / ٤٧٦).

(٣) لم يسنده المصنف ، وروي نحوه في الجامع الصغير (٢ / ٨٥٤) وهو حديث ضعيف.

(٤) زيادة من زاد المسير (٦ / ٤٩٤).

(٥) أخرجه البيهقي في سننه (٣ / ٣٧٠ ح ٦٣١٣) عن ابن عباس ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٨٥) عن عكرمة. وذكره الطبري (٢٢ / ١٤٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٩٤) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٣٢) وعزاه لابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن عكرمة.

٣٠١

الخطيب أبو بكر بن ثابت ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد النيسابوري ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن شاذان الرازي قال : سمعت أبا عبد الله القرشي يقول : كان لي جار شاب وكان أديبا ، وكان يهوى غلاما أديبا ، فنظر يوما إلى طاقات شعر بيض في عارضيه ، فوقع له شيء من الحق ، فهجر الغلام وقلاه ، فلما نظر الغلام إلى هجره كتب إليه :

ما لي جفيت وكنت لا أجفى

ودلائل الهجران ما تخفى

وأراك تشربني وتمزجني

ولقد عهدتك شاربي صرفا

قال : فقلبت الرقعة على ظهرها وكتبت :

التّصابي مع الشّمط

سمتني خطة شطط

لا تلمني على جفاي

فحسبي بما فرط

أنا رهن بما جنيت

فذرني من الغلط

قد رأينا أبا الخلائق

في زلّة هبط (١)

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً)(٣٩)

وما بعده مفسر إلى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) الخلائف : جمع خليفة ، والخليفة والخليف : المستخلف ، وهو التالي للمتقدم ،

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في كتاب ذم الهوى (ص : ٢٦٩).

٣٠٢

ولذلك قيل لأبي بكر : خليفة الله ، فقال : لست بخليفة الله ، ولكني خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال بعض السلف : إنما يستخلف من يغيب أو يموت ، والله تعالى لا يغيب ولا يموت (١).

والمعنى : أنه جعلكم خلفاء في الأرض وسلّطكم على ما فيها وملّككم مقاليد التصرف لتوحدوه وتعبدوه.

(فَمَنْ كَفَرَ) منكم أو غمط هذه النعمة (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي : وبال كفره.

فعلى هذا : الخطاب لعموم بني آدم.

وقيل : الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أي : خلقكم خلائف خلفتم من قبلكم من الأمم ، ورأيتم وسمعتم آثار غضبي عليهم حين كفروا بوحدانيتي وعصوا رسلي.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١)

قوله تعالى : (أَرُونِي) بدل من «أرأيتم» (٢) ؛ لأن معنى أرأيتم : أخبروني عن

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٤٧٧).

(٢) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٦٢٦). وردّه أبو حيان في البحر (٧ / ٣٠٢) فقال : لا يصح ؛ ـ

٣٠٣

هؤلاء الشركاء أروني ما خلقوا من الأرض دوني.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي : شركة (فِي) خلق (السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) فجاؤكم به من عندي ينطق بأنهم شركائي.

وجمهور المفسرين على أنّ الضمير في «آتيناهم» للمشركين ؛ كقوله تعالى : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) [الروم : ٣٥].

قال مقاتل (١) : المعنى : هل أعطينا أهل مكة (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) [بأن مع الله عزوجل شريكا من الملائكة](٢).

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي : «بينات» على الجمع (٣).

ثم استأنف فقال : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ) وهم الرؤساء (بَعْضاً) وهم الأتباع (إِلَّا غُرُوراً) وهو قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) قال الزمخشري (٤) : أي : كراهة أن تزولا ، أو يكون المعنى : يمنعهما أن تزولا ؛ لأن الإمساك منع.

(وَلَئِنْ زالَتا) وقرئ : «ولو زالتا». و (إِنْ أَمْسَكَهُما) جواب القسم في «ولئن زالتا» سدّ مسد الجوابين (٥) ، و «من» الأولى مزيدة لتأكيد النفي ، والثانية للابتداء.

__________________

ـ لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل.

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٧٩).

(٢) زيادة من تفسير مقاتل ، الموضع السابق.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠١ ـ ٣٠٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٤) ، والكشف (٢ / ٢١١) ، والنشر (٢ / ٣٥٢) ، والإتحاف (ص : ٣٦٢) ، والسبعة (ص : ٥٣٥).

(٤) الكشاف (٣ / ٦٢٦).

(٥) قوله : «سدّ مسدّ الجوابين» ، أي : أنه دلّ على جواب الشرط المحذوف. ـ

٣٠٤

و (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إمساكه.

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكهما ، وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا ، لعظم كلمة الشرك ، كما قال الله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) [مريم : ٩٠].

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

__________________

ـ قال أبو حيان في البحر (٧ / ٣٠٣) : وكلامه إن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ؛ لأنه لو سدّ مسدّهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم. والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول.

قلت : قصد أبو حيان أن جملة «إن أمسكهما» إن جعلت سادّة مسدّ الجوابين كانت معمولة ، إن هي في محل جزم باعتبارها جواب الشرط ، وغير معمولة لأنه لا محل لها باعتبارها جواب القسم.

وانظر في سد الجملة مسدّ جوابي الشرط والقسم : الأشموني (٤ / ٢٩).

٣٠٥

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) يعني : كفار مكة حلفوا بالله قبل أن يرسل الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمعوا ما قوبل به أهل الكتاب من اللعنة والعذاب ، (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني : اليهود والنصارى وغيرهم. (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) عن الهدي.

وهذا من الإسناد المجازي ؛ لأنه كان السبب في أن زادوا أنفسهم نفورا.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ) مصدر ، أو بدل من «نفورا» ، أو مفعول له ، أو حال بمعنى : مستكبرين وماكرين (١).

قيل : «ومكر السيء» معطوف على «نفورا» (٢) ، ومكر السيء سبق القول عليه.

وقيل : هو من باب إضافة الاسم إلى صفته ؛ كقوله تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ) [الأعراف : ١٦٩] ، (لَحَقُّ الْيَقِينِ) [الحاقة : ٥١].

قرأ حمزة : «السّيء» بسكون الهمزة ، وقلبها في الوقف ياء (٣).

قال أبو علي (٤) : هو على إجراء الوصل مجرى الوقف ، ويحتمل أنه خفف آخر الاسم لاجتماع الكسرتين والياءين ، كما خففوا الباء من «إبل» لتوالي الكسرتين.

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) قال ابن عباس : عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك (٥).

__________________

(١) انظر : البحر (٧ / ٣٠٥) ، والدر المصون (٥ / ٤٧٣).

(٢) مثل السابق.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٤) ، والكشف (٢ / ٢١٢) ، والنشر (٢ / ٣٥٢) ، والإتحاف (ص : ٣٦٢) ، والسبعة (ص : ٥٣٥ ـ ٥٣٦).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٣).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٩٨). ـ

٣٠٦

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي : فهل ينتظرون إلا نزول العذاب بهم كما نزل بالأمم المكذبة قبلهم. وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم.

ثم أخبر أن ذلك كائن لا محالة فقال تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) قال ابن جرير (١) : بصير بمن يستحق العقوبة منهم ومن يستحق الكرامة (٢).

__________________

ـ فائدة : قال أبو حيان في البحر (٧ / ٣٠٥) : قال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيرا نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول ، من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر.

وثانيها : أنه عام ؛ وهو الأصح ، فإنه عليه‌السلام نهى عن المكر وقال : «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فإنه تعالى يقول : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلا فلا يرد نقضا.

وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك. انتهى.

(١) تفسير ابن جرير الطبري (٢٢ / ١٤٨).

(٢) في الأصل : آخر الجزء الثالث. يتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع من أول سورة يس إلى آخر القرآن.

٣٠٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل.

سورة يس

وهي اثنان وثمانون آية في المدني ، وثلاث في الكوفي.

وهي مكية في قول .. (١) وعامة المفسرين. وقيل : مدنية وليس بصحيح.

واستثنى .. وهي قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ... واستثنى ابن عباس آية أخرى لم أرها في التفاسير ، وهي قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فإنها مدنية .. إن شاء الله تعالى.

أخبرنا أبو المجد محمد بن محمد بن أبي بكر البناني ، أخبرنا الشيخان أبو المحاسن عبد الرزاق بن إسماعيل بن محمد وابن عمه المطهر بن عبد الكريم بن محمد قالا : أخبرنا عبد الرحمن [بن](٢) حمد الدوني ، أخبرنا أبو نصر أحمد الكسار ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، أخبرنا عبد الله بن أحمد [بن](٣) عبدان ، حدثنا زيد بن الحريش (٤) ، حدثنا الأغلب بن تميم (٥) ، عن أيوب ويونس

__________________

(١) تعرضت اللوحة الأولى والثانية من المخطوط لرطوبة مما تسبب عنه تآكل أطراف اللوحتين ، وقد وضعنا نقطتين اثنتين مكان التآكل.

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) زيادة من عمل اليوم والليلة (ص : ٣١٨).

(٤) زيد بن الحريش الأهوازي ، يروى عن عمران بن عيينة ، ثنا عنه عبد الله بن أحمد بن موسى القاضى عبدان ، ربما أخطأ (الثقات ٨ / ٢٥١).

(٥) أغلب بن تميم بن النعمان سنان ، أبو حفص. حدّث عن سليمان التيمي ، قال البخاري : منكر الحديث ، وقال ابن معين : ليس بشيء (لسان الميزان ١ / ٤٦٤).

٣٠٨

وهشام ، عن الحسن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ يس في يوم وليلة ابتغاء وجه الله عزوجل غفر الله له» (١).

وأخرج الإمام أحمد في المسند من حديث معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا ، واستخرجت (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) من تحت العرش فوصلت بها ، أو فوصلت بسورة البقرة ، ويس قلب القرآن ، لا يقرؤها رجل يريد الله عزوجل والدار الآخرة إلا غفر له ، واقرؤوها على موتاكم» (٢).

وقال يحيى بن أبي كثير : .. من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرج الله حتى يمسي ، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرج [الله](٣) حتى يصبح.

وقد حدثني من جربها ..

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٧)

قال الله تعالى : (يس) اختلف القرّاء فيها ؛ فقرأ السبعة والأكثرون «يس» على الوقف.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (٤ / ٢١ ح ٣٥٠٩) ، والصغير (١ / ٢٥٥ ح ٤١٧) ، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص : ٣١٨).

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٢٦).

(٣) زيادة على الأصل.

٣٠٩

وقرأ أبو المتوكل وأبو رجاء : بفتح النون (١).

وقرأ الحسن وأبو الجوزاء وأبو السّمّال : بكسر النون (٢).

وقرأ ابن عباس بالرفع وقال : هي بلغة طيء : يا إنسان (٣).

وقد ذكرنا وجه قراءة ..

وأما الفتح فإما أن يكون كأين وكيف ، أو يكون مفعولا على معنى : اتل ياسين.

وأما الرفع فعلى معنى : هذه ياسين .. الكسر والتقاء الساكنين.

واختلف القراء .. وابن كثير .. على النون.

واختلف المفسرون .. أقوال :

أحدها : يا إنسان. قاله ابن عباس (٤) .. أن يكون .. اقتصروا على ..

الثاني : أنه اسم من أسماء الله أقسم الله تعالى به. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (٥).

الثالث : أنه اسم من أسماء القرآن. قاله قتادة (٦).

__________________

(١) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤) ، والسمين الحلبي في الدر المصون (٥ / ٤٧٤).

(٢) إتحاف فضلاء البشر (٣٦٣). وانظر : زاد المسير (٧ / ٤).

(٣) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٤٨) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٨٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤١) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) مثل السابق.

(٥) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٤٨). وذكره الماوردي (٥ / ٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٣).

(٦) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٤٨). وذكره الماوردي (٥ / ٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤).

٣١٠

الرابع : أنه اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قاله محمد بن الحنفية وسعيد بن جبير (١). وأنشدوا للسيد الحميري :

يا نفس لا تمحضي بالنصح مجتهدا

على المودّة إلا آل ياسينا (٢)

ثم أقسم بالقرآن الحكيم .. فقال تعالى : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وهذا تكذيب لهم في قولهم : .. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) خبر بعد خبر ، أو صلة «للمرسلين» (٣).

قوله : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) قرأ .. وأهل الكوفة : «تنزيل» ، والباقون بالرفع (٤).

فمن فتح فعلى معنى .. ، ومن رفع فعلى : هذا تنزيل.

وقرئ شاذا : .. بالقرآن.

قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ) .. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، (قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) .. في قول .. العلماء ويؤيده قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) فيكون وصفا أي : .. فهم غافلون لعدم إنذارهم.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٥) من قول محمد بن الحنفية ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤١) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن محمد بن الحنفية.

(٢) البيت للسيد الحميري. وهو في : البحر (٧ / ٣١٠) ، والقرطبي (١٥ / ٤) ، وروح المعاني (٢٢ / ٢١١).

(٣) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٥).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٥ ـ ٥٩٦) ، والكشف (٢ / ٢١٤) ، والنشر (٢ / ٣٥٣) ، والإتحاف (ص : ٣٦٣) ، والسبعة (ص : ٥٣٩).

٣١١

وقيل : .. مثل إنذار آباءهم. وقيل : موصولة منصوبة ..

قال السدي : وجب العذاب (١).

وقال الضحاك : سبق القول بكفرهم (٢).

(عَلى أَكْثَرِهِمْ) .. عن إرادة الله تعالى ..

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)

(فِي أَعْناقِهِمْ) ... وإنما حصل تصميمهم على .. نسيانهم عن الإنفاق من .. (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ..

والإنفاق عليها. قاله الفراء والزجاج.

قال .. يؤيد والله أعلم أن الأيدي غلت إلى الأعناق .. لوجود الأذقان .. الزمخشري أن يكون ، فهي كناية عن الأيدي محتجا .. ابن عباس : «إنا جعلنا في

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٦) عن السدي ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٥) كلاهما بلا نسبة.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٨٨). وذكره الماوردي (٥ / ٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٥) بلا نسبة ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

٣١٢

أيديهم».

وقراءة ابن مسعود : «في أيمانهم» وقال : فهي يعني الأغلال والله إلى الأذقان .. إليها .. مقمحون.

قال الفراء والزجاج (١) : المقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه. يقال : أقمح البعير رأسه وقمح ؛ إذا رفعه ولم يشرب الماء (٢) ، وأنشدوا لشاعر يذكر سفينة كانوا فيها :

ونحن على جوانبها قعود

نغضّ الطّرف كالإبل القماح (٣)

قال الأزهري (٤) : أراد الله تعالى أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا ، فهم مرفوعوا الرؤوس برفع الأغلال إياها.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) قرأ حمزة والكسائي وحفص : «سدّا» بفتح السين في الحرفين ، وضمّها الباقون (٥). وقد أشرنا إلى الفرق بينهما في الكهف (٦).

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٣٧٣) ، والزجاج (٤ / ٢٧٩).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (قمح).

(٣) البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي. انظر : ديوانه (ص : ٤٨) ، والبحر المحيط (٧ / ٣١١) ، واللسان ، مادة : (قمح) ، ومجاز القرآن (٢ / ١٥٧) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٨١) ، والدر المصون (٥ / ٤٧٦) ، وزاد المسير (٧ / ٤٤) ، وروح المعاني (٢٢ / ٢١٤).

(٤) تهذيب اللغة (٤ / ٨٢).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٦) ، والكشف (٢ / ٢١٤) ، والنشر (٢ / ٣١٥) ، والإتحاف (ص : ٢٩٥) ، والسبعة (ص : ٥٣٩).

(٦) آية رقم : ٩٤.

٣١٣

وفي معنى الكلام وجهان :

أحدهما : منعناهم بموانع سدّت عليهم مسالك الهدى.

الثاني : سددنا عليهم طريق الوصول إلى الرسول حين مكروا به وأجمعوا على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا معنى قول السدي (١).

(فَأَغْشَيْناهُمْ) أي : أغشينا بصائرهم بالأكنّة الصادرة لها من النظر إلى الهدى. وهذا على الوجه الأول.

وقال السدي : فأغشينا أبصارهم بظلمة الليل فهم لا يبصرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

يشير إلى أنهم أرادوا اغتياله ليلا فحالت الظلمة بينهم وبينه.

وقرأ ابن عباس وعكرمة وقتادة والحسن وسعيد بن جبير : «فأعشيناهم» بالعين المهملة (٣) ، من عشي يعشى ؛ إذا ضعف بصره (٤).

والآية .. هذه إخبار بأن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إليهم حيث أغشيت أبصارهم وشدت عليهم .. الإيمان.

وقد ثبت بطرق صحيحة (٥) : أن عمر بن عبد العزيز دعا غيلان القدري فقال : يا غيلان! بلغني أنك تتكلم في القدر؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون عليّ ، فقال : يا غيلان ، اقرأ أول سورة يس ، فقرأ : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى قوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٨٩). وذكره الماوردي (٥ / ٨) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) مثل السابق.

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٣). وانظر : زاد المسير (٧ / ٨).

(٤) انظر : اللسان ، مادة : (عشا).

(٥) أخرجه الثعلبي في تفسيره (٨ / ١٢٢).

٣١٤

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فقال غيلان : والله يا أمير المؤمنين لكأني ما قرأتها قط قبل اليوم ، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر ، فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبّته ، وإن كان كاذبا [فسلّط عليه من](١) لا يرحمه واجعله آية [للمؤمنين. قال : فأخذه](٢) هشام فقطع يديه ورجليه.

قال ابن عون : أنا رأيته مصلوبا على باب دمشق.

فإن قيل : .. الزهري وابن محيصن : أنذرتهم .. ينبغي أن .. الاستفهام آية .. الكميت :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب (٣)

معناه : أو ذو الشيب يلعب.

ويدل على .. الخبر لقال : أو لم تنذرهم.

فإن قيل : أم هذا .. وكقولهم .. قيل : إن قدرت ذلك نفي ذلك.

قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) .. لا ثاني له .. خبر سواء اثنان فقد علمته بهذا أن قول .. مجاهد على الخبر لا وجه له.

قال الزجاج (٤) : إن من أضله الله تعالى هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار.

__________________

(١) غير ظاهر في الأصل. والمثبت من تفسير الثعلبي (٨ / ١٢٢).

(٢) غير ظاهر في الأصل. والمثبت من تفسير الثعلبي ، الموضع السابق.

(٣) البيت لكميت ، وهو في : الخصائص لابن جني (٢ / ٢٨١) ، ومغني اللبيب (ص : ٢٠) ، والأغاني (١٧ / ٣٠).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٢٨٠).

٣١٥

إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) يعني : القرآن ، (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) خاف الله تعالى في الدنيا.

قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي : نحييهم بالإيمان بعد الكفر. قاله الضحاك (١).

وقال غيره : .. جهنم للجنة.

(وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) ما عملوا من خير أو شر.

و «آثارهم» قال سعيد بن جبير : ما أثروا من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها من بعدهم (٢).

وقال مجاهد : «آثارهم» : خطاهم إلى المساجد (٣).

أخرج الإمام أحمد في الزهد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : «كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا فيكونوا قريبا من المسجد ، فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) ، فقالوا : لا بل نثبت في مكاننا» (٤).

.. أن هذه الآية مدنية.

وفي أفراد مسلم من حديث جابر قال : «خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم : إنه بلغني

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٩).

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٩).

(٣) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٥٣ ـ ١٥٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٩٠). وذكره الماوردي (٥ / ٩) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤٧) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) لم أقف عليه في المطبوع من الزهد. وقد أخرجه ابن ماجه (١ / ٢٥٨ ح ٧٨٥).

٣١٦

أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قد أردنا ذلك ، فقال : يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم» (١).

وفي رواية أخرى : «إن لكم بكل خطوة درجة» (٢).

قوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) .. بيّناه وحفظناه (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) وهو اللوح المحفوظ.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)(٢٥)

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٤٦٢ ح ٦٦٥).

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٤٦١ ح ٦٦٤).

٣١٧

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) ، قال الزجاج (١) : «مثلا» مفعول به (٢) ، ومعنى قول الناس : عندي من هذا الضّرب شيء كثير ، أي : من هذا المثال ، وتقول : هذه الأشياء على ضرب واحد ، أي : على مثال واحد ، فمعنى اضرب لهم مثلا : مثّل لهم مثلا.

والقرية : أنطاكية ، وأصحابها : أهلها الثّاوون بها.

و «إذ» بدل من (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ)(٣).

و «المرسلون» رسل عيسى عليه‌السلام ، في قول قتادة وابن جريج (٤).

وقال كعب ووهب : هم رسل الله تعالى (٥) ، وهو ظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ).

قال ابن عباس : اسمهما : صادق وصدوق (٦).

وقيل : شمعون ويوحنا (٧).

__________________

(١) معاني القرآن الزجاج (٤ / ٢٨١).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢٠٢) ، والدر المصون (١ / ١٦٣).

(٣) انظر : التبيان (٢ / ١١١) ، والدر المصون (٤ / ٤٩٦).

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٥٥) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٩١) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤٩) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.

(٥) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٥٦).

(٦) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٥٦) وفيه : صادق ومصدوق. وذكره الماوردي (٥ / ١٠).

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٩٢) عن شعيب الجبائي. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٥٠) وعزاه لابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي.

٣١٨

قال ابن عباس : فضربوهما وسحبوهما (١).

(فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) وقرأ أبو بكر عن عاصم : «فعززنا» بالتخفيف (٢) ، أي : فقوّينا [وشددنا](٣) الرسالة برسول ثالث.

قال ابن عباس : واسمه : [شلوم](٤).

وقال غيره : يونس (٥).

وقيل : شمعون الصفا (٦).

وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة ، وكان يعبد الأصنام ، فبعث عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم بإذن الله عزوجل رجلين من الحواريين ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنما له ، وهو حبيب بن إسرائيل النجار صاحب يس ، فسلّما عليه ، فقال الشيخ لهما : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، فقال : معكما آية؟ فقالا : نعم ، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، فقال الشيخ : إن لي ابنا مريضا منذ سنين ، قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نطلع حاله ، فأتى

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥١١) وفيه : فضربوهما وسجنوهما.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٧) ، والكشف (٢ / ٢١٤) ، والنشر (٢ / ٣٥٣) ، والإتحاف (ص : ٣٦٣) ، والسبعة (ص : ٥٣٩).

(٣) في الأصل : وشدنا.

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٥٦) وفيه : سلوم. وذكره الماوردي (٥ / ١٠). وما بين المعكوفين في الأصل : شلوه. والتصويب من الماوردي.

(٥) هو قول شعيب الجبائي. ذكره الماوردي (٥ / ١٠).

(٦) ذكره القرطبي (١٥ / ١٥) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١١) عن مقاتل ، والسيوطي في الدر المنثور (٧ / ٥٠).

٣١٩

بهما إلى منزله ، فمسحا ابنه فقام في الوقت صحيحا بإذن الله تعالى ، وفشى خبرهما في المدينة ، فشفى الله تعالى بهما خلقا كثيرا من المرضى ، وآمن حبيب وجعل يعبد ربه متخفيا في غار ، فدعا بهما الملك وسمع كلامهما ، وأفضى الحال إلى أن ضربا وحبسا وكذّبا ، فبعث عيسى عليه‌السلام رأس الحواريين شمعون الصفا لينصرهما ، فدخل البلدة متلطفا (١) حتى دخل على الملك ، فلما أنس به قال له : أيها الملك! بلغني أنك حبست رجلين وضربتهما حين دعوك إلى دينهما ، فإن رأى الملك أن يتطلع ما عندهما ، فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون ـ يقصد استرواح الملك بألطف الطرق ـ : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال : صفاه لي وأوجزا. قالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فقال : وما آيتكما؟ فقالا : ما يتمنّاه ، فأمر الملك بغلام مطموس العينين فأحضر ، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاها في حدقتيه ، فصارتا مقلتين يبصر فيهما ، فعجب الملك ، فقال شمعون ـ رأس الحواريين ـ للملك : سل إلهك أن يصنع مثل هذا فيكون لك البشرى والملك ، فقال له الملك : ليس لي عندك سرا ، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ، ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون يدخل على الصنم مع الملك فيصلي كثيرا ويبكي ويتضرع ، حتى ظنوا أنه على ملّتهم ، فقال الملك للرسولين : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فقالا : إن إلهنا قادر على كل شيء ، فقال الملك : إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابن دهقان (٢) ، وقد أخّرت دفنه حتى يقدم أبوه ، وكان غائبا ، فجاؤوا بالميت وقد تغير ، فجعلا يدعوان ربهما ،

__________________

(١) أي : متخفيا ومتنكرا.

(٢) الدّهقان : التاجر ، فارسي معرّب.

٣٢٠