رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ)(٧٣)

ثم دلّهم بما يشاهدون من آثار قدرته على وجوب وحدانيته فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) أي : عملناه بغير واسطة ولا شركة. وهذا معنى قول السدي (١).

قال الحسن : الأيدي : القوة ، كما قال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ)(٢) [الذاريات : ٤٧].

(فَهُمْ لَها مالِكُونَ) قادرون على التصرف فيها ، لم نجعلها وحشية نافرة منهم.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ) يعني : الأنعام ، ولو لا تسخيره جلّت عظمته لامتنعت عن بني آدم كما امتنع ما هو أضعف منها من الحيوانات.

ولقد ذلّل الله تعالى أعظمها أجساما ، وأشدها قوة وأجراما ، حتى ضرب به المثل في الانقياد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن كالجمل الأنف ، إن [قيد](٣) انقاد ، وإن أنيخ استناخ» (٤).

ولقد أحسن القائل :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠١) عن السدي قال : من صنعتنا. وذكره الماوردي (٥ / ٣١) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٧٢) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ٣١).

(٣) زيادة من شعب الإيمان (٦ / ٢٧٢).

(٤) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٦ / ٢٧٢ ح ٨١٢٨).

٣٦١

يصرّفه الصبيّ بكل وجه

ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير (١)

ولهذا المعنى وهذا الإنعام أمر الله تعالى راكبه أن يشكر نعمته عليه ويسبحه إذا علا ذروته ، فقال تعالى : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٣].

رأيت بخط الإمام [أبي](٢) البقاء علي بن عقيل الحنبلي البغدادي رضي الله عنه في كتابه المعروف بالفنون ، وهو كتاب عظيم ، يدل على فخامة صاحبه وغزارة علمه وحكمته. قال لي الشيخ أبو البقاء اللغوي : سمعت أبا حكيم النهرواني يقول : وقفت على السّفر الرابع بعد الثلاثمائة من كتاب الفنون يقول : ركب يزيد بن نهشل بعيرا ، فلما استوى عليه قال : اللهم إنك قلت : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزخرف : ١٣] ، اللهم إني أشهدك أني له مقرن ، فنفر البعير وتعلقت رجله والبعير يجمر به حتى مات.

[معنى](٣) : «مقرنين» : مطيقين ، فادعى الطاقة لرد منّة الله منه تعالى في نعمته فهلك.

قوله تعالى : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي : ما يركب ، يريد : الإبل.

__________________

(١) البيتان في : المستطرف (٢ / ٦١) ، والمستقصى في أمثال العرب (١ / ١٠٣) ، وجمهرة الأمثال (١ / ٤٢٩) ، ومجمع الأمثال (١ / ٢٥٤).

(٢) في الأصل : أبو. وهو لحن.

(٣) في الأصل : يعني.

٣٦٢

وقرأ الحسن والأعمش : «ركوبهم» بضم الراء ، أي : ذو ركوبهم (١).

(وَمِنْها يَأْكُلُونَ* وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) من الأصواف والأوبار والأشعار والنسل ، (وَمَشارِبُ) من ألبانها ، جمع مشرب ، وهو موضع الشرب أو المشروب.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) الذي أنعم بهذه النعمة (آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي : رجاء أن يعضدهم ويدفع عنهم وينفعهم ويشفع لهم ، فانعكس [مقصودهم](٢) عليهم.

قوله تعالى : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي : المشركون لأصنامهم جند.

قال ابن جريج : شيعة.

وقال غيره : أعوان (٣).

«محضرون» : يحضرونهم للعبادة والخدمة والذّبّ عنهم والغضب لهم.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) هذا وقف التمام. ثم استأنف فقال : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ

__________________

(١) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٧).

(٢) في الأصل : مصودهم.

(٣) ذكر القولين الماوردي (٥ / ٣٢).

٣٦٣

لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(٨٠)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) سبب نزولها : أن رجلا من كفار قريش أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم نخر ففتّه بيده ، ثم قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتزعم أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال : نعم ، يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم (١).

واختلف في هذا الرجل ؛ فقيل : هو العاص بن وائل (٢).

وقيل : أبو جهل (٣). رويا عن ابن عباس.

وقال الحسن : أمية بن خلف (٤).

وقال مجاهد وقتادة وعامة المفسرين : هو أبيّ بن خلف (٥).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٦٦ ح ٣٦٠٦) ، والطبري (٢٣ / ٣٠ ـ ٣١) عن سعيد بن جبير مرسلا ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٢) ، والضياء المقدسي في المختارة (١٠ / ٨٧ ـ ٨٨) ، والإسماعيلي في معجمه (٣ / ٧٤٢). وذكره الواحدي في أسباب النزول (ص : ٣٧٩) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٧٤) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والإسماعيلي في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والضياء في المختارة ، كلهم عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل ... الحديث.

(٢) انظر : تخريج الحديث السابق.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٥) وعزاه لابن مردويه.

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤١).

(٥) أخرجه مجاهد (ص : ٥٣٧) ، والطبري (٢٣ / ٣٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٢). وذكره ـ

٣٦٤

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) في إنكار البعث بالعظم البالي يفتّه في يده وينكر قدرتنا على إعادته.

(وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي : وترك النظر في خلق نفسه وعنصره وكوني أوجدته من نطفة خسيسة مهينة خارجة من قناة البول ، ونقلته بقدرتي ونعمتي من حال إلى حال ، حتى جعلته سميعا بصيرا متكلما ، قادرا عالما فاهما ، ثم جحد حقّي وكفر نعمتي ، وأنكر وحدانيتي ، وعبد الأصنام من دوني ، وتصدى لنصرة حجر لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، يروم أن يجعله بزعمه شريكا لي ، وأنكر قدرتي على إحياء عظام أنا أنشأتها وفطرتها ابتداء ، وأخرجتها من العدم إلى الوجود.

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يقال : رمّ العظم يرمّ رمّا ؛ إذا بلي فهو رميم (١) ، والعظام رميم.

قال الزمخشري (٢) : الرّميم : اسم لما بلي من العظام غير صفة ، [كالرمة](٣) والرفات ، فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبر المؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول.

__________________

ـ السيوطي في الدر (٧ / ٧٥ ـ ٧٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر. ومن طريق آخر عن السدي ، وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن عكرمة ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(١) انظر : اللسان (مادة : رمم).

(٢) الكشاف (٤ / ٣٣).

(٣) في الأصل : كالرمية. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٣٦٥

فصل

احتج علماؤنا بهذه الآية على نجاسة عظام الميتة من حيث كونها قابلة للموت ضرورة قبولها للحياة.

قوله تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي : يعلم كيف يخلق ، لا يتعاظمه شيء من خلق المنشآت والمعادات.

ثم ذكر من بدائع خلقه ما يدلهم على قدرته على ما أحالته عقولهم الضعيفة ، فذلك قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) أي : الذي جعل النار المحرقة من الشجر الأخضر الرّطب ، وجمع بينهما مع مضادة النار الماء وإشعالها الحطب ، وأكثر ما تكون النار في المرخ والعفار ، وفي أمثالهم : (في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار) ، يقطع الرجل منهما عويدتين كالسواكين وهما خضراوان يقطران الماء ، فيسحق المرخ وهو ذكر ، على العفار وهي أنثى ، فتنقدح النار بإذن الله تعالى.

ويروى عن ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب. قالوا : ولذلك يتخذ منه كذينقات (١) القصارين (٢).

وقوله تعالى : (الْأَخْضَرِ) : على اللفظ. وقيل : الشجر ، جمع يؤنث ويذكر ، قال الله تعالى : (مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) [الواقعة : ٥٢ ـ ٥٣] ، وقال تعالى هاهنا : (مِنْهُ تُوقِدُونَ).

__________________

(١) الكذينق : مدقّ القصارين الذي يدقّ عليه الثوب (اللسان ، مادة : كذنق).

(٢) الكشاف (٤ / ٣٣).

٣٦٦

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

ثم ذكر لهم ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ).

وروى رويس وأبو حاتم عن يعقوب : «يقدر» بياء مفتوحة وسكون القاف من غير ألف (١) ، جعله فعلا مضارعا ، وهي قراءة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد [ذكرناه](٢) في بني إسرائيل.

(يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ) وقرأ أبي بن كعب والحسن : «الخالق العليم» (٣).

و «الخلّاق» : الكثير المخلوقات ، «العليم» : الكثير المعلومات.

والآية التي بعد هذه مفسرة في النحل (٤).

ثم نزّه نفسه سبحانه وتعالى عما يقولون فقال : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ) أي : ملك (كُلِّ شَيْءٍ) والقدرة على كل شيء (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الموت. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) النشر (٢ / ٣٥٥) ، والإتحاف (ص : ٣٦٧).

(٢) في الأصل : ذكرنا.

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٧).

(٤) عند الآية رقم : ٤٠.

٣٦٧

سورة الصافات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي مائة واثنتان وثمانون آية ، وهي مكية بإجماعهم.

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)(٥)

قال الله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قيل : يريد جماعة المؤمنين إذا صفوا في الصلاة أو القتال في سبيل الله تعالى.

وقيل : الطير ، من قوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١].

والصحيح : أنهم الملائكة. وهو قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك وعامة المفسرين (١).

أقسم الله تعالى بطوائف الملائكة [أو](٢) بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة ، أو أجنحتها في الهواء واقفة ترتقب أمر الله عزوجل.

قال ابن عباس : يريد : الملائكة صفوفا صفوفا ، لا يعرف كل ملك منهم من إلى جانبه ، لم يلتفت منذ خلقه الله تعالى عزوجل (٣).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٦٦ ح ٣٦٠٧) ، والطبراني في الكبير (٩ / ٢١٤ ح ٩٠٤١) ، وأبو الشيخ في العظمة ، والطبري (٢٣ / ٣٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٨) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة عن ابن عباس ، وعدة طرق أخرى.

(٢) في الأصل : أ. والمثبت من الكشاف (٤ / ٣٦).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٢١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٤).

٣٦٨

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) قال الربيع وقتادة : آيات القرآن (١).

والصحيح : أنها الملائكة ، وهو قول الذين تقدم ذكرهم وعامة المفسرين.

يريد : فالزاجرات السحاب ، أو فالزاجرات عن المعاصي زجرا.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) يريد : الملائكة.

وقال ابن عباس : الأنبياء (٢).

أي : القارئات لكلام الله عزوجل وكتبه المنزّلة.

قال قطرب : أقسم الله تعالى بثلاثة أصناف من الملائكة ، وجواب القسم : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).

قرأ أبو عمرو في إدغامه الكبير وحمزة : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) بالإدغام فيهن. وعلة الإدغام : مقاربة التاء هذه الحروف من حيث أنها وإياهن من طرف اللسان وأصول الثنايا ، ومن ترك الإدغام فلاختلاف المخارج (٣).

(رَبُّ السَّماواتِ) خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف (٤).

و (الْمَشارِقِ) ثلاثمائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب ، تشرق الشمس كل

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ٣٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٨) وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس. ومن طريق آخر عن قتادة ، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ٤٥).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣١٢) ، والكشف (١ / ١٥٠ ـ ١٥٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٧) ، والسبعة (ص : ٥٤٦).

(٤) التبيان (٢ / ٢٠٥) ، والدر المصون (٥ / ٤٩٥).

٣٦٩

يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب ، ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) يريد : السماء القربى إلى الأرض.

(بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) قرأ عاصم وحمزة : «بزينة» بالتنوين. وقرأ أبو بكر : «الكواكب» بالنصب ، وقرأ الباقون بإضافة «الزينة» إلى «الكواكب» (١).

فمن نوّن وخفض «الكواكب» جعل الكواكب بدلا من «الزينة» ؛ لأنها هي هي ، كما تقول : مررت بأبي عبد الله محمد. ومن نوّن ونصب «الكواكب» جعلها بدلا من محل «زينة».

وقال أبو علي (٢) : أعمل الزينة في الكواكب ، المعنى : بأن زينّا الكواكب فيها. والباقون أضافوا المصدر إلى المفعول به ، كقوله تعالى : (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [فصلت : ٤٩] ، وقوله تعالى : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) [ص : ٢٤] ، والمعنى : بأن زينا الكواكب فيها.

(وَحِفْظاً) محمول على المعنى ، تقديره : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣١٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٠٤) ، والكشف (٢ / ٢٢١) ، والنشر (٢ / ٣٥٦) ، والإتحاف (ص : ٣٦٧ ـ ٣٦٨) ، والسبعة (ص : ٥٤٦ ـ ٥٤٧).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣١٤).

٣٧٠

وقيل : المعنى : وحفظناها حفظا.

قال قتادة : خلقت النجوم لثلاث ؛ رجوما للشياطين ، ونورا يهتدى بها ، وزينة للسماء الدنيا (١).

قوله تعالى : (لا يَسَّمَّعُونَ) قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : «يسّمّعون» بتشديد السين وفتحها ، أصله : يتسمّعون ، أدغموا التاء في السين. وقرأ الباقون : «يسمعون» ، من سمع يسمع (٢).

قال ابن عباس : يتسمعون ولا يسمعون (٣).

قال الزمخشري (٤) : إن قلت : كيف اتصل «لا يسّمّعون» بما قبله؟

قلت : لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان ، أو استئنافا ، فلا تصح الصفة ؛ لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له ، وكذلك الاستئناف ؛ لأن سائلا لو سأل : كيف تحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون ؛ لم يستقم ، فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا ، لما عليه حال المسترقة للسمع ، وأنهم لا يقدرون أن يستمعوا إلى كلام الملائكة ، أو يستمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك ، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة ؛ فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٣٨).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣١٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٠٥) ، والكشف (٢ / ٢٢١) ، والنشر (٢ / ٣٥٦) ، والإتحاف (ص : ٣٦٨) ، والسبعة (ص : ٥٤٧).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٥). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٧٩) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٤) الكشاف (٤ / ٣٨ ـ ٣٩).

٣٧١

فإن قلت : هل يصح قول من زعم [أن أصله](١) : «لئلا يسمعوا» فحذفت اللام كما حذفت في قولك : جئتك أن تكرمني ، فبقي : أن لا يسمعوا ، فحذفت «أن» وأهدر عملها ، كما في قول القائل :

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 .................(٢)

قلت : كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده ، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات ، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب.

فإن قلت : أي فرق بين سمعت فلانا يتحدث ، وسمعت إليه يتحدث ، وسمعت حديثه ، وإلى حديثه؟

قلت : المعدّى بنفسه يفيد الإدراك ، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك.

والملأ الأعلى : الملائكة ؛ لأنهم يسكنون السماوات.

وقال ابن عباس : هم الكتبة من الملائكة (٣).

(وَيُقْذَفُونَ) أي : يرمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي : من جميع جوانب السماء أين صعدوا للاستراق.

(دُحُوراً) مفعول له ، أي : يقذفون للدّحور وهو الطّرد ، أو مدحورين ؛ على الحال ، أو هو مصدر على معنى : يدحرون دحورا (٤) ، أو لأن القذف والطرد

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٤ / ٣٩).

(٢) صدر بيت لطرفة ، وعجزه : (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي) ، انظر : ديوانه (ص : ٣٢) ، واللسان (مادة : أنن ، دنا) ، والبحر (٧ / ١٦٣) ، والدر المصون (١ / ٢٧٥ ، ٥ / ٣٧٥) ، والسبع الطوال (ص : ١٧٢) ، والمقتضب (٢ / ١٣٤) ، والهمع (١ / ٦) ، والخزانة (١ / ١١٩).

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف (٤ / ٣٩).

(٤) انظر : التبيان (٢ / ٢٠٥) ، والدر المصون (٥ / ٤٩٦).

٣٧٢

يتقاربان في المعنى ، فكأنه قيل : يدحرون دحورا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي : دائم ، يعني : أنهم يعذبون في الدنيا بإرسال النجوم عليهم ، ولهم في الآخرة نوع من العذاب متصل لا ينقطع وهو عذاب النار.

وقال مقاتل (١) : دائم إلى النفخة الأولى فهم يخرجون ويخبلون.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) «من» في محل الرفع بدل من الواو في (لا يَسَّمَّعُونَ)(٢) ، على معنى : لا يسمع من الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة ، أي : اختلس الكلمة من الملائكة مسارقة.

(فَأَتْبَعَهُ) لحقه (شِهابٌ ثاقِبٌ) نار مضيئة تحرقه ، وهذا مثل قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر : ١٨].

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (١٩)

قوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ) قال الزجاج (٣) : سلهم سؤال تقرير.

(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أحكم صنعة أو أقوى خلقا ، من قولهم : شديد الخلق

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٩٥).

(٢) انظر : الدر المصون (٥ / ٤٩٦).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٩٩).

٣٧٣

والخلق ، (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) يريد : ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب والشياطين المردة. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد وسعيد بن جبير (١).

والمعنى : فكيف ينكرون قدرتي على إعادة الأموات ، وقد شاهدوا عظائم مخلوقاتي ودلائل قدرتي.

قولهم : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) تسجيل عليهم بالضعف بالنسبة إلى هذه المخلوقات العظام ، وتنبيه لهم على عجائب قدرة من أنشاهم من تراب مجبول ، ليستدلوا بأحد المقدورين على الآخر.

وقيل : المعنى : أهم أشد خلقا أم من خلقنا من الأمم الماضية قبلهم ، وقد أهلكنا أولئك حين كذبوا وكفروا وكانوا أشدّ منهم قوة وأعظم بطشا ، فما ظن هؤلاء؟

والمفسرون يقولون : نزلت هذه الآية في ركانة بن زيد (٢) بن هاشم بن عبد مناف ، وأبي الأشدين كلدة (٣).

يقال : لزب يلزب لزوبا ؛ إذا لزق (٤).

__________________

(١) أخرجه مجاهد (ص : ٥٤٠) ، والطبري (٢٣ / ٤١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٨١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) في مصادر ترجمته : ركانة بن عبد يزيد. انظر ترجمته في : تهذيب التهذيب (٣ / ٢٤٨) ، والتقريب (ص : ٢١٠).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ٤١).

(٤) انظر : اللسان (مادة : لزب).

٣٧٤

قال ابن عباس : من طين لاصق (١).

وقال قتادة : لازق (٢).

قال الواحدي (٣) : المعنى : أن هؤلاء الكفار خلقوا مما خلق منه الأولون [فليسوا بأشد خلقا منهم ، وهذا إخبار عن التسوية بينهم وبين](٤) غيرهم من الأمم في الخلق.

وهذا عندي غير مستقيم ؛ لأن الأمم الماضية كانت أحكم بنية ، وأشدّ قوة ، وأعظم أجراما ، وقد نطق القرآن بأنهم كانوا أشد منهم قوة في مواضع ، وإنما أراد الله تعالى تقريرهم بضعفهم بالنسبة إلى الذين من قبلهم ؛ لتتضاءل أنفسهم عندهم ؛ حيث يعظموا شدّة قواهم. ثم بين ضعف الجميع بقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ).

قوله تعالى : (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أضرب عن الكلام الأول ثم أخذ في غيره ، فكأنه قيل : دع يا محمد ما مضى ، عجبت أنت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك ومن تعجبك.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٦). وذكره الماوردي (٥ / ٤٠) ، والسيوطي في الدر المنثور (٧ / ٨١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم كلهم ـ عدا الماوردي ـ بلفظ : ملتصق.

(٢) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٦). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٨٢) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) الوسيط (٣ / ٥٢٢).

(٤) زيادة من الوسيط ، الموضع السابق.

٣٧٥

وقرأ حمزة والكسائي : «عجبت» بضم التاء (١) ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال أبو وائل : قرأ عبد الله بن مسعود : «بل عجبت» ، فقال شريح : إن الله لا يعجب ، إنما يعجب من لا يعلم.

قال الأعمش : فذكرته لإبراهيم ، فقال : إن شريحا كان معجبا برأيه ، وإن عبد الله قرأ : «بل عجبت» ، وعبد الله أعلم من شريح (٢).

قال الزجاج رحمه‌الله (٣) : إنكار هذا غلط ؛ لأن القراءة به ، والرواية كثيرة ، والعجب من الله تعالى بخلاف العجب من الآدميين ، وأصل العجب في اللغة : أن الإنسان إذا رأى ما [ينكره](٤) ويقلّ مثله قال : قد عجبت من كذا وكذا ، فكذاك إذا فعل الآدميون ما ينكره الله تعالى جاز أن يقول فيه : عجبت ، والله تعالى قد علم الشيء قبل كونه ، ولكن الإنكار إنما يقع والتعجب الذي به يلزم الحجة عند وقوع الشيء.

وقال الواحدي (٥) : إضافة التعجب إلى الله تعالى ورد الخبر به ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣١٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٠٦) ، والكشف (٢ / ٢٢٣) ، والنشر (٢ / ٣٥٦) ، والإتحاف (ص : ٣٦٨) ، والسبعة (ص : ٥٤٧).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٦ ـ ٣٢٠٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٨٢) وعزاه لأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٣٠٠).

(٤) في الأصل : يكره. والتصويب من معاني الزجاج (٤ / ٣٠٠).

(٥) الوسيط (٣ / ٥٢٣).

٣٧٦

«عجب ربكم من إلّكم (١) وقنوطكم» (٢) ، و «عجب ربك من شاب ليست له صبوة» (٣) ، و «عجب الله البارحة من فلان وفلانة» (٤).

قوله تعالى : (يَسْتَسْخِرُونَ) أي : يسخرون ويستهزؤون ، أو يستدعي بعضهم من بعض السخرية.

قوله تعالى : (وَآباؤُنَا) معطوف على محل «إن» واسمها ، أو على الضمير في «لمبعوثون» ، والذي جوّز العطف عليه [الفصل](٥) بهمزة الاستفهام.

والمعنى : أيبعث أيضا آباؤنا ، على زيادة الاستبعاد (٦).

قال مكي (٧) : هذه واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام التي معناه الإنكار للبعث بعد الموت.

وقرأ ابن عامر وقالون : «أو آباؤنا» بإسكان الواو (٨) ، ومثله في

__________________

(١) الإلّ : الحلف والأيمان.

قال الخطابي في إصلاحه غلط المحدثين (ص : ١٥٢) : يرويه المحدثون بكسر الألف. والصواب : «ألّكم» بفتحها. يريد : رفع الصوت بالدعاء.

(٢) أخرج ابن ماجه (١ / ٦٤ ح ١٨١) ، وأحمد (٤ / ١١) هذا الخبر بلفظ : «ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ...».

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ١٥١) ، والطبراني في الكبير (١٧ / ٣٠٩).

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٤ ح ٤٦٠٧).

(٥) في الأصل : الفعل. والتصويب من الكشاف (٤ / ٤١).

(٦) هذا قول الزمخشري في الكشاف (٤ / ٤١).

(٧) الكشف (٢ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤).

(٨) الحجة لابن زنجلة (ص : ٦٠٨) ، والكشف (٢ / ٢٢٣) ، والنشر (٢ / ٣٥٧) ، والإتحاف (ص : ٣٦٨).

٣٧٧

الواقعة (١) ، جعلها «أو» التي للإباحة في الإنكار ، أي : أنكروا بعثهم [وبعث](٢) آبائهم بعد الموت. هكذا ذكر مكي.

وأنا قرأت لنافع من رواية ورش أيضا عنه كقالون.

(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) : صاغرون.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) هذا جواب شرط مقدّر ، تقديره : إذا كان ذلك فإنما هي زجرة ، وهي لا ترجع إلى شيء ، وإنما هي مبهمة يفسرها خبرها.

والمعنى : فإنما هي صيحة واحدة.

قال الحسن وعامة المفسرين : هي النفخة الثانية (٣).

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

(وَقالُوا) يعني : منكري البعث (يا وَيْلَنا) سبق الكلام عليه وما بعده.

ويجوز أن يكون من تمام كلامهم ، وقول بعضهم لبعض إلى قوله تعالى : (احْشُرُوا). ويجوز أن يكون من قول الملائكة لهم ، ويجوز أن يكون قول الكفار.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٤٨.

(٢) في الأصل : أو بعث. والتصويب من الكشف (٢ / ٢٢٤).

(٣) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٥) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٧) كلاهما عن السدي. وذكره الماوردي (٥ / ٤٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٨٣) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي.

٣٧٨

انتهى بتمام الآية ، ومن قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) من كلام الملائكة جوابا لهم.

وقوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) أضرابهم وأمثالهم في الكفر والمعاصي.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يحشر صاحب الربا مع صاحب الربا ، وصاحب الزنا مع صاحب الزنا ، وصاحب الخمر مع صاحب الخمر (١).

وقال الحسن : يريد : أزواجهم المشركات (٢).

(وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ) قال عكرمة وقتادة : يريد : الأصنام (٣).

وقال مقاتل (٤) : يعني : إبليس وجنده. واحتج بقوله تعالى : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠].

(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) عرّفهم طريق النار حتى يسلكوها.

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) قال الماوردي (٥) : فيه ستة أوجه :

أحدها : عن لا إله إلا الله. وهو قول يحيى بن سلام.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ٤٣) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٨٣) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٢٣).

(٣) أخرجه الطبري (٢٣ / ٤٧) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٨) كلاهما عن قتادة. وذكره الماوردي (٥ / ٤٣) عن قتادة وعكرمة ، والسيوطي في الدر (٧ / ٨٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) تفسير مقاتل (٣ / ٩٧).

(٥) تفسير الماوردي (٥ / ٤٤).

٣٧٩

الثاني : عما دعوا إليه من بدعة. رواه أنس بن مالك مرفوعا (١).

الثالث : عن ولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه. حكاه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري.

الرابع : عن جلسائهم. وهو قول عثمان بن زائدة (٢).

الخامس : محاسبون. وهو قول ابن عباس (٣).

السادس : مسؤولون.

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) على طريق التوبيخ والتقريع لهم. انتهى كلام الماوردي.

قلت : وهذا الوجه السادس هو التفسير الصحيح.

والمقصود من هذا السؤال : التهكم بهم ، والتوبيخ لهم بعجزهم عن تناصرهم ، وليس المقصود منه الحساب ، فإن هذا السؤال واقع بعد أن يقال للملائكة : «فاهدوهم إلى صراط الجحيم» ، وقد قضي الأمر فيهم وحق القول عليهم.

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون خاضعون ، أو قد أسلم بعضهم بعضا وخذله.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تاريخه (٢ / ٨٦ ح ١٧٧٨) ، والترمذي (٥ / ٣٦٤ ح ٣٢٢٨) وقال : هذا حديث غريب ، والطبري (٢٣ / ٤٨) ، والدارمي (١ / ١٤١) ، والحاكم (٢ / ٤٦٧). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧ / ٨٤) وعزاه للبخاري في تاريخه والترمذي والدارمي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٨٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٠٨). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٨٤) وعزاه لابن أبي حاتم.

٣٨٠