رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

في سلخ : صلخ ، وفي سقر : صقر ، وفي سالغ : صالغ.

واختلف القراء في «نعمه» ؛ فقرأ الأكثرون : «نعمة» على التوحيد. وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر : «نعمه» على الجمع (١).

قال أبو علي (٢) : من قرأ «نعمه» على الجمع ؛ فلأنّ نعم الله تعالى كثيرة. ومن قرأ «نعمة» على الإفراد ؛ فلأن المفرد أيضا يدل على الكثرة ، قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

وروى جويبر عن الضحاك قال : سألت ابن عباس عن قول الله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) فقال : هذا من مخزوني الذي سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، فقلت : يا رسول الله! ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال : أما الظاهرة : الإسلام وما حسن من خلقك ، وما أفضل عليك من الرزق ، وأما الباطنة : فما ستر عليك من سوء عملك يا ابن عباس (٣).

وقال الحارث المحاسبي : الظاهرة : نعيم الدنيا ، [والباطنة](٤) : نعيم العقبى (٥).

وقيل : الظاهرة : الرزق المكتسب ، والباطنة : الرزق من حيث لا يحتسب.

وقيل : الظاهرة : ألوان العطايا ، والباطنة : غفران الخطايا.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٦٥ ـ ٥٦٦) ، والكشف (٢ / ١٨٩) ، والنشر (٢ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥٠) ، والسبعة (ص : ٥١٣).

(٢) الحجة (٣ / ٢٧٤).

(٣) أخرجه البيهقي في شعبه (٤ / ١٢٠ ح ٤٥٠٥). وذكره الديلمي في الفردوس (٤ / ٤٠٢) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦) وعزاه لابن مردويه والديلمي وابن النجار.

(٤) في الأصل : والباطن.

(٥) ذكره القرطبي (١٤ / ٧٣).

٦١

ويروى : أن موسى عليه‌السلام قال : إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك؟ فقال : أخفى نعمتي عليهم : النّفس (١).

ويروى : أن أيسر ما يعذب به أهل النار : الأخذ بالأنفاس (٢).

قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي : إلى موجباته وأسبابه.

قال أبو عبيدة : جوابه محذوف ، تقديره : أتتبعونه.

وقال صاحب الكشاف (٣) : معناه : ولو كان الشيطان يدعوهم ، أي : في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

وقال الأخفش (٤) : لفظه لفظ استفهام ، ومعناه التقرير.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٢٢)

قوله تعالى : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية وقتادة : «ومن يسلّم» بالتشديد (٥). يقال : أسلم أمرك

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥٠٦).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥٠٦). قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف (ص : ١٣٠) : لم أجده.

(٣) الكشاف (٣ / ٥٠٦).

(٤) معاني الأخفش (ص : ٢٦٧).

(٥) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٢٥) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٠).

٦٢

وسلّم أمرك إلى الله تعالى ، والمراد : التوكل عليه والتفوض إليه.

(فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هو مفسر في البقرة (١).

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(٢٨)

وما بعده مفسر إلى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) سبب نزولها : ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت قول الله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥] إيانا يريد أم قومك؟ فقال : كلا ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء؟ فقال : إنها في علم الله تعالى قليل ، فنزلت هذه الآية (٢).

والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر ، وكتبت

__________________

(١) عند الآية رقم : ٢٥٦.

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ٨١) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٢٦) وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم ، والواحدي في أسباب نزول القرآن (ص : ٣٥٨) ، والماوردي (٤ / ٣٤٤).

٦٣

بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته.

قال ابن قتيبة (١) : «يمدّ» من المداد لا من الإمداد. يقال : مددت دواتي بالمداد ، وأمددته بالمال والرجال.

واختلف القراء في «البحر» : فرفعه الأكثرون ، ونصبه أبو عمرو (٢).

قال الزجاج (٣) : النصب عطف على «ما» ، والرفع حسن على وجهين :

أحدهما : والبحر هذه حاله. ويجوز أن يكون معطوفا على موضع «أن» مع ما بعدها.

وقال غيره : يجوز أن يكون النصب من باب قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩] ، (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] ، فيكون منصوبا بمضمر ، تقديره : يمدّه من بعده.

وقال أبو علي والزمخشري (٤) : الرفع على الابتداء ، والواو للحال ، على معنى : ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا. وهو الوجه الأول الذي ذكره الزجاج.

قال الزمخشري (٥) : فإن قلت : الكلمات جمع قلّة ، والموضع موضع التكثير ، فهلّا قيل : كلم الله؟

__________________

(١) انظر قول ابن قتيبة في : زاد المسير (٦ / ٣٢٦).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٦٦) ، والكشف (٢ / ١٨٩) ، والنشر (٢ / ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥٠) ، والسبعة (ص : ٥١٣).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٠).

(٤) الحجة (٣ / ٢٧٥) ، والكشاف (٣ / ٥٠٧).

(٥) الكشاف (٣ / ٥٠٨).

٦٤

قلت : معناه : أن كلماته لا تفي [بكتبتها](١) البحار ، فكيف بكلمه؟

وقرأ ابن مسعود : «وبحر يمدّه» على التكثير (٢).

وقرئ : «تمدّه» و «يمدّه» بالتاء والياء (٣) ، ونعتها يشير إلى استواء القليل والكثير في قدرته.

قوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) معناه : إلا كحق نفس واحدة.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣٢)

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ) وقرأ موسى بن الزبير : «الفلك» بضم اللام (٤).

__________________

(١) في الأصل : بكتبة. والتصويب من الكشاف (٣ / ٥٠٨).

(٢) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ١٨٦) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩١).

(٣) مثل السابق.

(٤) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ١٨٨) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩١).

٦٥

قال الزمخشري (١) : كل فعل : يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل ، على مذهب التعويض.

(لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) من عجائب مخلوقاته ودلائل قدرته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على الشدة والبلاء (شَكُورٍ) في العافية والرخاء.

وقال أهل المعاني : أراد : لآيات لكل مؤمن ؛ لأن الصبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين.

قوله تعالى : (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) يريد : الكفار. وقيل : هو على عمومه.

ولما كان الموج يرتفع ويتراكم شبّه بالظّلل ، وهو جمع ظلة ، والظّلّة : كل ظلل من شجر أو سحاب أو غيرهما.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) متوسط في الكفر والظلم.

قال مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر (٢).

وقال الكلبي : مقتصد في القول من الكفار ؛ لأن بعضهم أشد قولا وأغلا في الافتراء من بعض (٣).

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٥١٠).

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ٨٥) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٢٩) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٤٩٦).

٦٦

وقيل : «مقتصد» بمعنى : مؤمن. قاله الحسن (١).

وقال ابن زيد : «المقتصد» : الذي هو على صلاح من الأمر (٢).

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قال ابن قتيبة (٣) : الختر : أقبح الغدر وأشدّه.

وأنشدوا قول عمرو بن معدي كرب :

فإنك لو رأيت أبا عمير

ملأت يديك من غدر وختر (٤)

أخبرنا المؤيد بن محمد بن علي بن كنانة ، أخبرنا عبد الجبار بن محمد بن أحمد الخواري ، أخبرنا علي بن أحمد النيسابوري ، أخبرنا أبو نصر المهرجاني ، أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع الزهراني (٥) ، حدثنا حماد بن زيد (٦) ، عن أيوب ، [عن](٧) ابن أبي مليكة قال : «لما

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٣٤٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٢٨).

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ٨٥).

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٤٥).

(٤) البيت لعمرو بن معد يكرب. انظر : ديوانه (ص : ١٠٩) ، والدر المصون (٥ / ٣٩٢) ، والطبري (٢١ / ٨٥) ، والقرطبي (١٤ / ٨٠) ، وروح المعاني (٢١ / ١٠٦) ، والماوردي (٤ / ٣٤٨) ، والبحر (٧ / ١٧٧) ، ومجاز القرآن (٢ / ١٢٩).

(٥) هو سليمان بن داود العتكي ، أبو الربيع الزهراني البصري الحافظ ، ثقة صدوق ، سكن بغداد ، مات سنة أربع وثلاثين ومائتين (تهذيب التهذيب ٤ / ١٦٦ ، والتقريب ص : ٢٥١).

(٦) حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي ، أبو إسماعيل البصري الأزرق ، مولى آل جرير بن حازم ، كان ضريرا ، ثقة ثبتا ، كثير الحديث ، مات سنة تسع وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب ٣ / ٩ ـ ١٠ ، والتقريب ص : ١٧٨).

(٧) زيادة من مصادر التخريج.

٦٧

كان فتح مكة هرب عكرمة بن أبي جهل فركب البحر ، فخبّ بهم البحر ، فجعلت [الصّراري](١) ومن معه في السفينة يدعون الله تعالى ويستغيثون به ، فقال : ما هذا؟ قيل : هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله. فقال عكرمة : وهذا إله محمد الذي كان يدعونا إليه ، ارجعوا بنا ، فرجع فأسلم» (٢).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ)(٣٣)

قوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي : لا يقضي عنه شيئا من جنايته ومظالمه ، ومنه قول الراعي :

[وأجزأت](٣) أمر العالمين ولم يكن

[ليجزي](٤) إلا كامل وابن كامل (٥)

وقد سبق هذا المعنى ، والفرق بين جزى وأجزى في البقرة.

(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عن التزود لآخرتكم ، (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي : لا يغرنكم بحلم الله وإمهاله الغرور.

__________________

(١) في الأصل : البصاري. والمثبت من مجمع الزوائد (٥ / ٥).

والصّراري : الملّاح (اللسان ، مادة : صرر).

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (١٧ / ٣٧٢ ح ١٠١٩). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٥ / ٥) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٤٤٧).

(٣) في الأصل : وأجزاب. والتصويب من مصادر البيت.

(٤) في الأصل : لبحري. والتصويب من مصادر البيت.

(٥) البيت للراعي ، وهو في : الماوردي (٤ / ٣٤٩) ، والقرطبي (١ / ٣٧٨).

٦٨

وهو الشيطان ، في قول مجاهد (١).

والأمل بتمني المغفرة ، في قول سعيد بن جبير (٢).

وقرأ سماك بن حرب : «الغرور» بضم الغين (٣).

قال الكلبي : هو غرور الدنيا بخدعها الباطلة.

وقيل : غرور الدنيا بشهواتها الموبقة.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(٣٤)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) سبب نزولها : أن رجلا من أهل البادية يقال له : الوارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أخبرني عن الساعة متى قيامها ، وإني قد ألقيت [حباتي](٤) في الأرض وقد [أبطأت عنّا](٥) السماء فمتى تمطر ، وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها ذكرا أم أنثى ، وإني عملت ما عملت أمس فما أعمل غدا ، وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟ فنزلت

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٨٧) ، ومجاهد (ص : ٥٠٦) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠١) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٣٠) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٢١ / ٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٣٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.

(٣) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ١٨٩) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٢).

(٤) زيادة من الكشاف (٣ / ٥١١).

(٥) في الأصل : أنطأت عبا. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

٦٩

هذه الآية (١).

وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله ، ولا يعلم متى [تغيض](٢) الأرحام إلا الله ، ولا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله» (٣).

وقال ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب ، وإياكم والكهانة ، فإن الكهانة تدعو إلى الشرك ، والشرك وأهله في النار (٤).

وقال الزجاج (٥) : من ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن ؛ لأنه خالفه.

ومعنى قوله تعالى : (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : علم قيامها.

(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قال صاحب كشف المشكلات (٦) : هذه الآية تدل على أن الظرف يشبه الفعل ، ألا ترى أنه قال : «عنده علم الساعة» ، فجاء بالظرف وما

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٨٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٣٠) وعزاه لابن المنذر عن عكرمة.

وذكره الواحدي في : أسباب النزول (ص : ٣٥٩). وانظر لفظ المصنف في : الكشاف (٣ / ٥١١) واسم الرجل فيه : «الحارث» بدل : «الوارث» ، والبحر المحيط (٧ / ١٨٩) واسم الرجل فيه : الحارث بن عمارة المحاربي.

(٢) في الأصل : غيض. والتصويب من الصحيح (٢ / ١٧٣٣).

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٣٣ ح ٤٤٢٠).

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٥١١ ـ ٥١٢).

(٥) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٢).

(٦) كشف المشكلات (٢ / ٢١٨ ـ ٢١٩).

٧٠

ارتفع به ، ثم قال : «وينزل الغيث» ، فعطف الفعل والفاعل على الظرف وما ارتفع به ، ومثله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) [المؤمنون : ٢١] فصدّر بالفعل والفاعل ، ثم عطف بالظرف ، وأنشد :

نقاسمهم أسيافنا شرّ قسمة

ففينا غواشيها وفيهم صدورها (١)

فصدّر بالفعل والفاعل ، ثم أتى بالظرف وما ارتفع به.

ويجوز أن يكون التقدير : وأن ينزل الغيث ، أي : عنده علم الساعة وإنزال الغيث ، فحذف «أن» كقوله :

 ........... أحضر الوغى

 .................(٢)

والمعنى : وينزل الغيث في زمانه ومكانه.

(وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) من ذكر أو أنثى ، وتام وناقص ، ومؤمن وكافر ، وحسن وقبيح ، وأبيض وأسود ، إلى غير ذلك.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير أو شر ، وربما كانت عازمة على شيء فينقلب معكوسا ، و «ماذا» ينتصب بقوله : «تكسب» ، لا بقوله : «تدري» ؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

(وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) قال بعض العلماء : كم من نفس أقامت

__________________

(١) البيت لجعفر بن علبة الحارثي ، وهو في اللسان (مادة : غشا) ، وتاج العروس (مادة : غشا).

(٢) جزء من بيت لطرفة ، وهو :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

انظر : ديوانه (ص : ٣٢) ، واللسان (مادة : أنن ، دنا) ، والبحر (٧ / ١٦٣) ، والدر المصون (١ / ٢٧٥ ، ٥ / ٣٧٥) ، والسبع الطوال (ص : ١٧٢) ، والمقتضب (٢ / ١٣٤) ، والهمع (١ / ٦) ، والخزانة (١ / ١١٩).

٧١

بأرض وضربت أوتادها وقالت : لا أبرح أو أقبر فيها ، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ولا حدثتها بها ظنونها.

ويروى : أن ملك الموت عليه‌السلام مرّ على سليمان عليه‌السلام ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه ، فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت ، قال : [فكأنه](١) يريدني ، وسأل سليمان أن يحمله على الريح وتلقيه ببلاد الهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجبا فيه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك (٢).

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أراد الله عزوجل قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)(٣).

وقال هلال بن يساف : ما من مولود يولد إلا وفي سرته من تربة الأرض التي يدفن فيها (٤).

فإن قيل : الأرض مؤنثة فكيف قال : «بأي أرض»؟

قلت : أراد بالأرض : المكان.

__________________

(١) في الأصل : فكا. ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٧٠ ح ٣٤٢٦٨) ، وأحمد في الزهد (ص : ٥٣).

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط (٨ / ٢٠٦ ح ٨٤١٢) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٢). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ / ١٩٦) وعزاه للطبراني في الأوسط. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٥٣٢ ـ ٥٣٣) وعزاه للطيالسي وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٤) ذكره الماوردي (٤ / ٣٥٠) ، والمناوي في فيض القدير (٣ / ٥٣٣) وعزاه للدينوري في المجالس.

٧٢

وقال الفراء (١) : اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يظهر في أيّ تأنيث آخر.

وقال أبو عبيدة (٢) : يقال : بأي أرض [كنت](٣) ، وبأية أرض كنت ، لغتان.

وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب : «بأيّة أرض» بتاء مكسورة (٤).

قال الزمخشري (٥) : شبّه سيبويه (٦) تأنيث «أي» بتأنيث كل في قولهم : كلّتهن.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) قال الماوردي (٧) : يحتمل وجهين :

أحدهما : عليم بالغيب خبير بالنية.

والثاني : عليم بالأفعال خبير بالجزاء. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٣٣٠).

(٢) مجاز القرآن (٢ / ١٢٩).

(٣) في الأصل : كتب. والتصويب من مجاز القرآن ، الموضع السابق. وكذا وردت في الموضع التالي.

(٤) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٣١) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٢).

(٥) الكشاف (٣ / ٥١٢).

(٦) انظر : الكتاب (٣ / ٤٠٧).

(٧) تفسير الماوردي (٤ / ٣٥٠ ـ ٣٥١).

٧٣

سورة السجدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وتسمى سورة المضاجع. وهي ثلاثون آية في المدني والكوفي ، وهي مكية.

واستثنى الكلبي ثلاث آيات ، وهي قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ...) إلى آخرها (١).

وقال مقاتل (٢) : فيها آية مدنية : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ...) الآية.

وقال غيرهما : فيها آيات مدنيات من قوله تعالى : (تَتَجافى) إلى تمام خمس آيات.

قال الزجاج (٣) : روى أحمد بن حنبل بإسناد له : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في كل ليلة سورة السجدة «ألم تنزيل الكتاب» ، وسورة تبارك الملك».

قرأت على أبي المجد محمد بن الحسين القزويني ، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي فأقر به ، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، حدثنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ تبارك وألم تنزيل» (٤).

__________________

(١) انظر : تفسير الماوردي (٤ / ٣٥٢) ، وزاد المسير (٦ / ٣٣٢) ، والإتقان (١ / ٣٦ ـ ٣٧) ، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص : ٦٢٠).

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٢٦).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٣).

(٤) أخرجه أحمد (٣ / ٣٤٠ ح ١٤٧٠٠). وذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٥٠٤).

٧٤

وبالإسناد قال البغوي : حدثنا المطهر بن علي ، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الله بن محمد المعروف بأبي الشيخ ، حدثنا جعفر بن أحمد ، حدثنا ابن عرعرة ، حدثنا معتمر بن سليمان وفضيل بن عياض ، عن ليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ تنزيل السجدة وتبارك» (١) ، قال : هذا حديث رواه غير واحد عن ليث بن أبي سليم مثل هذا.

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : «من قرأ سورة السجدة كتبت له سبعون حسنة ، وحطّت عنه سبعون سيئة ، ورفعت له سبعون درجة» (٢).

قال : ورفع (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) على إضمار : الذي يتلو تنزيل الكتاب.

ويجوز أن يكون في المعنى خبرا عن (الم) ، أي : أن ألم هو تنزيل الكتاب.

ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء ، ويكون خبر الابتداء : «لا ريب فيه».

قال الزمخشري (٣) : الوجه أن يرتفع «تنزيل» بالابتداء ، وخبره : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراض لا محل له. والضمير في (فِيهِ) راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي : في كونه منزلا من رب العالمين ، ويشهد لوجاهته قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) ؛ لأن قولهم : هذا مفترى ، إنكار لأن يكون من رب العالمين ، وكذلك قوله تعالى : (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقدير أنه من الله.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ١٦٥ ح ٢٨٩٢).

(٢) أخرجه الدارمي (٢ / ٥٤٦ ح ٣٤٠٩).

(٣) الكشاف (٣ / ٥١٣).

٧٥

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(٤)

قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، فأضرب عن ذلك إلى قوله : «أم يقولون افتراه» إنكارا لقولهم.

ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وهم قريش ، فإن الله تعالى لم يبعث قبل محمد رسولا.

وما بعده سبق تفسيره.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦)

قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ...) الآية في معناها قولان :

أحدهما : يقضي القضاء من السماء فينزله مع الملائكة إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم من أيام الدنيا فيكون الملك قد قطع في يوم واحد من أيام الدنيا في نزوله وصعوده مسافة ألف سنة من سير الآدمي.

الثاني : يدبر أمر الدنيا مدة أيام الدنيا فينزل القضاء والقدر من السماء إلى

٧٦

الأرض.

(ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي : يعود إليه الأمر والتدبير حين ينقطع أمر الأمراء وأحكام الحكام وينفرد الله تعالى بالأمر ، (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) وذلك في القيامة ؛ لأن كل يوم من أيام الآخرة كألف سنة.

وقال مجاهد : يقضي أمر ألف سنة في يوم واحد ، ثم يلقيه إلى الملائكة ، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى ، ثم كذلك أبدا (١).

فعلى هذه الأقوال : المراد : تدبير أمر الدنيا.

قال الزجاج (٢) : ومعنى : «ثم يعرج» : يصعد ، يقال : عرجت في السّلّم أعرج ، ويقال : عرج الرجل يعرج ؛ إذا صار أعرج (٣).

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١١)

قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٩٢ ـ ٩٣).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٤).

(٣) انظر : اللسان (مادة : عرج).

٧٧

عامر : «خلقه» بسكون اللام. وقرأ الباقون بفتحها (١).

قال الزجاج وأبو علي (٢) : من أسكن اللام جاز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مصدرا دلّ عليه ما تقدم من قوله تعالى : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، فالمعنى : الذي خلق كل شيء خلقه.

الثاني : أن يكون بدلا من «كل» ، فيصير التقدير : الذي أحسن خلق كل شيء.

ومن فتح اللام فقال أبو علي (٣) : جعله فعلا ماضيا وصفا للنكرة المتقدمة ، أي : كل شيء مخلوق.

قال الزجاج (٤) : فتأويل الإحسان في هذا أنه خلقه على إرادته ، فخلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق القرد على ما أحب.

قال صاحب النظم : بيان ذلك : أنه لما طوّل رجل البهيمة والطائر طوّل عنقه ؛ لئلا يتعذر عليه ما لا بد له من قوته ، ولو تفاوت ذلك لم يكن له معاش ، وكذلك كل شيء من أعضاء الحيوان مقدّر لما يصلح به معاشه (٥).

قال قتادة في قوله تعالى : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) : جعله حسنا (٦).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٧٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٦٨ ـ ٥٦٩) ، والكشف (٢ / ١٩١) ، والنشر (٢ / ٣٤٧) ، والإتحاف (ص : ٣٥١) ، والسبعة (ص : ٥١٦).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٤) ، والحجة (٣ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧).

(٣) الحجة (٣ / ٢٧٧).

(٤) معاني الزجاج (٤ / ٢٠٤).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٠).

(٦) أخرجه الطبري (٢١ / ٩٤).

٧٨

وقال مجاهد : أحكمه وأتقنه (١).

والقولان متقاربان في المعنى ، وهما مرويان عن ابن عباس (٢).

وقال السدي : أحسنه لم يتعلمه من أحد ، كما يقال : فلان يحسن كذا ؛ إذا [علمه](٣).

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (وَقالُوا) يعني : منكري البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ). وقرأ ابن محيصن : «ضللنا» بكسر اللام ، وهما لغتان ضلّ يضلّ ويضلّ.

وقرأ أبو المتوكل وأبو الجوزاء بضم الضاد [وتشديد اللام](٤) وكسرها (٥).

وقرأ علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد عليهم‌السلام : «صللنا» بصاد مهملة وكسر اللام الأولى (٦) ، ومثلهم قرأ الحسن إلا أنه فتح اللام (٧).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢١ / ٩٤) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٤) ، وتفسير مجاهد (ص : ٥٠٩).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٣١٠٤) ، وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٣٤).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٥٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٣٤). وما بين المعكوفين في الأصل : عمله. والتصويب من المصدرين السابقين.

(٤) في الأصل : وتشد. والتصويب والزيادة من زاد المسير (٦ / ٣٣٦).

(٥) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٣٦) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٦).

(٦) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ٣٣٥) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٣٩٦).

(٧) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٥١).

٧٩

فمن قرأ بالضاد المعجمة ؛ فقال قطرب (١) وغيره : معناه : غيّبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة :

وآب مضلّوه بعين جليّة

 ................ (٢)

وقال أكثر المفسرين : المعنى : صرنا ترابا وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه (٣) ، من قولهم : ضلّ الماء في اللبن.

ومن قرأهما بالصاد المهملة ؛ فقال ابن جني (٤) : صلّ اللحم يصلّ ؛ إذا أنتن (٥) ، وصلّ يصلّ أيضا ـ بفتح الصاد ـ ، والكسر في المضارع أقوى اللغتين.

وقيل : المعنى : صرنا من جنس الصّلّة ، وهي الأرض اليابسة.

(أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) استفهام في معنى الإنكار.

وقد سبق القول في اختلاف القرّاء فيه ، وأشرنا إلى العلة في ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي : وكّل بقبض أرواحكم.

قال مجاهد : حويت الأرض لملك الموت وجعلت له مثل الطشت يتناول منها

__________________

(١) انظر قول قطرب في : تفسير الماوردي (٤ / ٣٥٦).

(٢) صدر بيت للنابغة الذبياني ، وعجزه :

" وغودر بالجولان حزم ونائل". انظر : ديوانه (ص : ٩٠) ، واللسان (مادة : ضلل ، جلا) ، والبحر (٧ / ١٩٥) ، والدر المصون (٥ / ٣٩٦) ، والماوردي (٤ / ٣٥٦) ، والقرطبي (١٤ / ٩١) ، والطبري (٣ / ٣٠٩) ، وروح المعاني (٢١ / ١٢٤).

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٣٥٦) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٣٣٥).

(٤) المحتسب (٢ / ١٧٤).

(٥) انظر : اللسان (مادة : صلل).

٨٠