رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

قال مجاهد : يوم القيامة (١).

وقال قتادة : حين يرون بأس الله في الدنيا (٢).

قال السدي : هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم ، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب ولا رجوعا إلى التوبة (٣).

وقال الحسن : هو فزعهم في القبور من الصيحة (٤).

«فلا فوت» : قال ابن عباس : فلا نجاة (٥).

وقال مجاهد : فلا مهرب (٦).

(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) وهو من الموقف إلى النار ، أو من القبور إلى الموقف ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا.

وروي عن ابن عباس قال : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.

فعلى هذا يكون المعنى : وأخذوا من مكان قريب ، أي : من تحت أقدامهم.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١١) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٥٨) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٧١١) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٨) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٨). وذكره الماوردي (٤ / ٤٥٨).

(٦) ذكره الماوردي (٤ / ٤٥٨).

٢٦١

وعن ربعي بن حراش (١) قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب : «فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين ، جيشا إلى المشرق وجيشا إلى المدينة ، حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ، [ويفتضون](٢) بها أكثر من مائة امرأة ، ويقتلون بها أكثر من ثلاثمائة كبش من بني العباس ، ثم ينحدرون إلى الكوفة [فيخربون](٣) ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام ، فتخرج راية هدى من الكوفة ، [فتلحق](٤) ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة ، حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله تعالى جبريل فيقول : يا جبريل! اذهب فأبدهم ، فيضربها برجله ضربة فيخسف الله تعالى بهم ، فذلك قوله تعالى في سورة سبأ : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، فلا [ينفلت](٥) منهم إلا رجلان ، أحدهما بشير والآخر نذير ،

__________________

(١) ربعي بن حراش بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن بجاد العبسي ، أبو مريم الكوفي ، قدم الشام وسمع خطبة عمر بالجابية ، قال العجلي : تابعي ثقة من خيار الناس ، لم يكذب كذبة قط. مات سنة مائة (تهذيب التهذيب ٣ / ٢٠٥ ، والتقريب ص : ٢٠٥).

(٢) في الأصل : ويقتضون. والصواب ما أثبتناه.

(٣) في الأصل : فيخرجون. والتصويب من الطبري (٢٢ / ١٠٧).

(٤) في الأصل : فتحلق. والتصويب من الطبري ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : يلتفت. والتصويب من الطبري ، الموضع السابق.

٢٦٢

وهما من جهينة» (١).

وجواب : «ولو ترى» محذوف ، تقديره : لرأيت أمرا عظيما.

قوله تعالى : (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) قال مجاهد : بالله (٢).

وقال الحسن : بالبعث (٣).

وقال قتادة : بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

وقد سبق ذكره في قوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ، وهذا يكون منهم في الآخرة ، أو عند معاينة نزول بأس الله تعالى بهم.

(وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي : «التناؤش» بالمد والهمز ، وقرأ الباقون بغير همز (٥).

قال صاحب كشف المشكلات (٦) : الأصل الهمزة ، من قوله :

تمنّى نئيشا أن يكون أطاعني

وقد حدثت بعد الأمور أمور (٧)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٧) ، ومن طريقه الثعلبي في تفسيره (١١ / ٢٢٩).

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٩) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨) ، ومجاهد (ص : ٥٢٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١٤) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٦٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٦٩).

(٤) مثل السابق.

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٢٩٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٠ ـ ٥٩١) ، والكشف (٢ / ٢٠٨) ، والنشر (٢ / ٣٥١) ، والإتحاف (ص : ٣٦٠) ، والسبعة (ص : ٥٣٠).

(٦) كشف المشكلات (٢ / ٢٤١).

(٧) البيت لنهشل بن حرّي. وهو في : اللسان (مادة : نأش) ، والبحر (٧ / ٢٤٦) ، والدر المصون (٥ / ٤٥٥) ، والطبري (٢٢ / ١٠٩) ، وروح المعاني (٢٢ / ١٥٨) ، ومعاني الفراء (٢ / ٣٦٥).

٢٦٣

فنصب «نئيشا» على الظرف ، أي : تمنى مدة مديدة ؛ لأن النئيش : التأخير.

ومن قال : «التناوش» : فإنه يكون على تليين الهمزة وإبدالها واوا.

ويجوز أن يكون الأصل : «التناوش» بالواو ، من قوله :

فهي تنوش الحوض نوشا من علا

 ................ (١)

فتكون الهمزة مثلها في «[أجوه](٢)» و «أقتت».

وقال غيره : التناوش : التناول ، تفاعل من النوش الذي هو التناول ، ومن همز فلأنّ واو «التناوش» مضمومة ، وكل واو ضمها لازمة جاز إبدال الهمزة منها ، نحو : أجوه وأدور.

وقال مكي (٣) : من همز جعله مشتقا من نأش ؛ إذا طلب. والمعنى : وكيف لهم طلب الإيمان في الآخرة ، وهو المكان البعيد.

ويجوز أن يكون من ناش ينوش ؛ إذا تناول ، لكن لما انضمت الواو [أبدلوا](٤) منها همزة ، فالمعنى : وكيف [يكون](٥) لهم تناول الإيمان.

__________________

(١) صدر بيت لغيلان بن حريث يصف إبلا وردت حوضا وتناولت ما فيه تناولا من فوق ، مستغنية عن المبالغة فيه. وعجزه : (نوشا به تقطع أجواز الفلا). انظر : الكتاب (٣ / ٤٥٣) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٤ / ٧٣) ، ومجاز القرآن (٢ / ١٥٠) ، واللسان (مادة : نوش ، علا) ، والبحر (٧ / ٢٤٦) ، والدر المصون (٥ / ٤٥٤) ، والماوردي (٤ / ٤٥٩) ، والقرطبي (١٤ / ٣١٦) ، والطبري (٢٢ / ١١٠) ، وروح المعاني (٢٢ / ١٥٨).

(٢) في الأصل : أوجوه. وفي الكشف : وجوه ووقتت. ولعل الصواب ما أثبتناه.

(٣) الكشف (٢ / ٢٠٨).

(٤) في الأصل : بدلوا. والمثبت من الكشف (٢ / ٢٠٨).

(٥) زيادة من الكشف ، الموضع السابق.

٢٦٤

(مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وهو الآخرة. وعليه معنى القراءة الثانية.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) أي : بالله أو بالبعث ، أو بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (مِنْ قَبْلُ) يعني : في الدنيا ، (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

وقال الحسن : يرجمون بالظن فيقولون : لا جنة ولا نار (١).

وقال مجاهد : هو طعنهم في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه شاعر أو ساحر (٢).

قوله تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي : حيل بينهم وما يشتهون في الآخرة من الرجعة إلى الدنيا ، في قول ابن عباس (٣).

أو من الإيمان ، على قول الحسن (٤).

أو ما يشتهون من قبول التوبة منهم ، [على قول مقاتل](٥).

(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) بنظرائهم من الكفار الذين لم تقبل منهم توبة وإنابة عند معاينة العذاب من قبل هؤلاء.

فإن قيل : «ولو ترى إذ فزعوا» ، «وأخذوا» ، «وقالوا» ، «وحيل بينهم» جميعها

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١١٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٩) كلاهما عن قتادة. وذكره الماوردي (٤ / ٤٦٠) عن الحسن ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٠) عن الحسن وقتادة ، والسيوطي في الدر (٦ / ٧١٥) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري (٢٢ / ١١٢) ، ومجاهد (ص : ٥٢٩). وذكره الماوردي (٤ / ٤٦٠).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٠).

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ١١٢) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٩) ، وابن أبي شيبة (٧ / ١٩٨ ح ٣٥٣٠٤). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١٥) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) زيادة من الوسيط (٣ / ٤٩٩). وانظر : تفسير مقاتل (٣ / ٧٠).

٢٦٥

متمحضة للاستقبال على ما ذكر في التفسير ، وما تقدم من التقرير ، فلم جاءت بصيغة الماضي؟

قلت : لأنها في تحقق وجودها والقطع بكونها حيث أخبر الله الصادق في خبره بأنها كائنة ، كالشيء الذي وجد ومضى.

(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) من البعث.

وقال مقاتل (١) : من نبيهم.

«مريب» : موقع لهم في الريبة والتهمة.

قال الزجاج (٢) : قد أعلمنا الله تعالى أنه يعذّب على الشك ، وقد قال قوم من الضّلال : إن الشاكّين لا شيء عليهم ، وهذا كفر ونقض للقرآن ؛ لأن الله تعالى قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧]. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٤ / ٤٦٠) وعزاه لمقاتل. وفي تفسير مقاتل : (٣ / ٧٠): «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ» من العذاب بأنه غير نازل بهم في الدنيا. ولم يذكر المعنى الذي ذكره المصنف. والله أعلم.

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٩).

٢٦٦

سورة فاطر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وتسمى سورة الملائكة ، وهي ست وأربعون آية في العدد المدني ، وخمس في الكوفي (١) ، وهي مكية بإجماعهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : مبتدئها ومبتدعها على غير مثال سابق.

قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : ابتدأتها (٢).

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) رسلا يرسلهم إلى النبيين وإلى ما شاء من الأمور.

وقرأت على الشيخين أبي البقاء اللغوي وأبي عمرو الياسري من رواية الحلبي والقزاز ، عن عبد الوارث عن أبي عمرو : «جاعل» بالرفع والتنوين ، «الملائكة» بالنصب (٣).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢١٠).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٧٠) ، والبيهقي في الشعب (٢ / ٢٥٨ ح ١٦٨٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٣) وعزاه لأبي عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان.

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣) ، وأبو حيان في البحر (٧ / ٢٨٤).

٢٦٧

(أُولِي أَجْنِحَةٍ) : أصحاب أجنحة.

قال الزمخشري (١) : و «أولوا» : اسم جمع ل «ذو» ، كما أن «أولاء» اسم جمع ل «ذا» ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض والخلفة.

يريد : أن الخلفة وهي الحامل من النوق واحد ، والمخاض : اسم جمع للخلفة ، وهي الحوامل.

(مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات للأجنحة. وقد ذكر في سورة النساء (٢).

قال قتادة (٣) : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة أجنحة ، وبعضهم له أربعة أجنحة (٤).

(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي : في خلق الأجنحة وغيرها ما تقتضيه مشيئته وحكمته. والأصل : الجناحان ؛ لأنهما بمنزلة اليدين.

قال ابن عباس : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج جبريل عليه‌السلام وله ستمائة جناح (٥). وهذا المعنى قول عامة المفسرين واختيار الفراء (٦) والزجاج.

وقال الزهري وابن جريج : هو الصوت الحسن (٧).

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٦٠٤).

(٢) عند الآية رقم : ٣.

(٣) في الأصل زيادة قوله : بن يزيد ، وهو وهم.

(٤) أخرجه الطبري (٢٢ / ١١٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٧٠). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٠).

(٦) معاني الفراء (٢ / ٣٦٦).

(٧) أخرجه البيهقي في الكبرى (١٠ / ٢٣١) ، والشعب (١ / ١٣٥ ح ١١٥) ، وابن أبي حاتم ـ

٢٦٨

وقال قتادة : الملاحة في العينين (١).

وقيل : تجعد الشعر وحسنه (٢).

وقيل : الخط الحسن (٣).

والصحيح : أن الآية مطلقة تشمل كل زيادة في الخلق : من صباحة في الوجه ، وملاحة في العين ، وفصاحة في اللسان ، وسماحة في النفس ، وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجرأة في القلب ، إلى غير ذلك من أنواع الزيادة مما لا يعلمه إلا الله تعالى.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا

__________________

ـ (١٠ / ٣١٧٠) كلهم عن الزهري. وذكره الماوردي (٤ / ٤٦٢) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٠) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري.

(١) أخرجه البيهقي في الشعب (١ / ١٣٥ ح ١١٦). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٣) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٤) وعزاه للبيهقي.

(٢) ذكره الماوردي في تفسيره (٤ / ٤٦٢) حكاية عن النقاش.

(٣) ذكره القرطبي (١٤ / ٣٢٠).

٢٦٩

يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٦)

قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) أي : ما يطلق الله تعالى من نعمة مطر أو رزق أو صحة أو [أمن](١) أو غير ذلك ، أي : لما يمسكه.

وقرئ شاذا : «فلا مرسل لها» (٢) ، رجوعا إلى الرحمة من بعده من النعم التي لا يحاط بعددها.

(فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ) من ذلك (فَلا مُرْسِلَ لَهُ [مِنْ بَعْدِهِ])(٣) أي : من بعد إمساكه ؛ كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] أي : من بعد هدايته (٤) ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر على الفتح والإمساك ، (الْحَكِيمُ) في فتحه وإمساكه على من يريد.

قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي : اشكروها بمعرفة حقها وطاعة موليها.

والظاهر : أنه خطاب لجميع الناس لانغمارهم في نعم الله تعالى.

وقال ابن عباس وغيره : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم حيث

__________________

(١) في الأصل : من. والتصويب من الكشاف (٣ / ٦٠٦).

(٢) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ٢٨٦).

(٣) زيادة على الأصل.

(٤) هو قول الزمخشري في الكشاف (٣ / ٦٠٦).

قال أبو حيان في البحر (٧ / ٢٨٦) : وهو تقدير فاسد لا يناسب الآية ، جرى فيه على طريقة الاعتزال.

٢٧٠

أسكنكم حرمه وأمنكم ، [ومنعكم](١) من الغارات والناس يتخطفون من حولكم (٢).

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) وقرأ حمزة والكسائي : «غير الله» بالجر (٣).

وقرئ شاذا : «غير الله» بالنصب (٤).

فالرفع والجر على الصفة لفظا ومحلا ، والنصب على الاستثناء ، وقد سبق تعليل ذلك في الأعراف (٥).

(يَرْزُقُكُمْ) صفة ل «خالق». والمعنى : هل من خالق غير الله يرزقكم (مِنَ السَّماءِ) المطر ، (وَ) من (الْأَرْضِ) النبات ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

قال الزجاج (٦) : من أين يقع الإفك والتكذيب بتوحيد الله وإنكار البعث وأنتم تقرؤون بأن الله خلقكم ورزقكم.

ثم عزى نبيه بقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ، ثم أوعد ووعد بقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

قال صاحب الكشاف (٧) : إن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق

__________________

(١) في الأصل : ومعنكم. والتصويب من الكشاف (٣ / ٦٠٧).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٦٠٧).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٠٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٢) ، والكشف (٢ / ٢١٠) ، والنشر (٢ / ٣٥١) ، والإتحاف (ص : ٣٦١) ، والسبعة (ص : ٥٣٤).

(٤) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ٢٨٧) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٤٥٩).

(٥) عند الآية رقم : ٥٩.

(٦) معاني الزجاج (٤ / ٢٦٣).

(٧) الكشاف (٣ / ٦٠٨).

٢٧١

الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له؟

قلت : معناه : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل من قبلك ، فوضع : «فقد كذبت رسل من قبلك» موضع : فتأسّ ، استغناء بالسبب عن المسبب ، أعني : بالتكذيب عن التأسي.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ومشركي مكة (١).

وقال سعيد بن جبير : نزلت في أصحاب الأهواء والملل التي خالفت الهدى (٢).

والمعنى : أفمن زين سوء عمله ففارق النهي ووافق الهوى وأطلق عنان نفسه في ميادين شهواتها ، حتى رأى القبيح حسنا ، والحسن قبيحا ، كما قال أبو نواس لأبي العتاهية حين وعظه وزجره عما كان مساكنا له من اللذات التي استهوته وسلبته لباس التقوى :

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٥).

(٢) مثل السابق.

٢٧٢

أتراني يا عتاهي

تاركا تلك الملاهي

أتراني مفسدا بالنّسك

عند القوم جاهي (١)

كمن لم يزين ، أو كمن هداه الله لقوله.

قال الله تعالى : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

وقرأت لأبي جعفر : «فلا تذهب» بضم التاء وكسر الهاء ، و «نفسك» بالنصب (٢).

قال الزمخشري (٣) : «حسرات» : مفعول له ، معناه : فلا تهلك نفسك للحسرات.

و «عليهم» صلة «تذهب» ، كما تقول : هلك عليه حبّا ، ومات عليه حزنا. [أو هو](٤) بيان للمتحسّر عليه. ولا يجوز أن يتعلق ب «حسرات» ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ

__________________

(١) البيتان في : الأغاني (٤ / ١٠٦) ، وتاريخ دمشق (١٣ / ٤٤٢).

(٢) النشر (٢ / ٣٥١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦١).

(٣) الكشاف (٣ / ٦٠٩ ـ ٦١٠).

(٤) في الأصل : وهو. والتصويب من الكشاف (٣ / ٦٠٩).

٢٧٣

السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (١٢)

فإن قلت : ما يريد بقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) ، لم جاء «فتثير» على المضارعة دون ما قبله وبعده؟

قلت : ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح [السحاب](١) ، ويستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع [تمييز](٢) وخصوصية ، بحال تستغرب ، أو تهمّ المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبّط شرا (٣) :

بأنّي قد لقيت الغول تهوي

بشهب كالصحيفة صحصحان (٤)

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران (٥)

__________________

(١) في الأصل : والسحاب. والتصويب من الكشاف (٣ / ٦١٠).

(٢) في الأصل : تميز. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) هو من فحول الشعراء في الجاهلية وفرسانها المشهورين ، كنيته أبو زهير ، وبتلقيبه بتأبّط شرا أقوال ؛ المشهور منها : أنه تأبّط سيفا وخرج ، فقيل لأمه : أين هو؟ فقالت : تأبّط شرا وخرج (بلوغ الأرب ٢ / ٣٤٥).

(٤) الصحصحان : المكان المستوي (اللسان ، مادة : صحح).

(٥) البيتان لثابت بن جابر الفهمي ، الملقب بتأبط شرا ، من أبيات قالها يزعم ضربه الغول ، انظر : بلوغ الأرب (٢ / ٣٤٢) ، والدر المصون (٥ / ٤٦٠) ، والبحر (٧ / ٢٨٩).

٢٧٤

قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، كأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجب من جراءته على كل هول ، وثباته عند كل شدة. وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ؛ لما [كانا](١) من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا ؛ [معدولا](٢) بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه.

والكاف في قوله تعالى : (كَذلِكَ) في محل الرفع ، أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات.

أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه من حديث أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال : «قلت : يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ قال : أما مررت بوادي قومك محلا ثم مررت به خضرا؟ قلت : بلى. قال : كذلك يحيي الله الموتى ، أو قال : (كَذلِكَ النُّشُورُ)(٣).

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) قال المفسرون : كان المشركون يعتزون بالأصنام ، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] ، وكان المنافقون يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩] ، فبيّن الله تعالى أن لا عزّة إلا له جلّت عظمته ولأوليائه ، فقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

__________________

(١) في الأصل : كنا. والتصويب من الكشاف (٣ / ٦١٠).

(٢) في الأصل : معدلا. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ١١ ح ١٦٢٣٧).

٢٧٥

ومعنى الآية : من كان يبتغي العزة فليطلبها عند الله ، فوضع قوله : «فلله العزة» موضعه ، استغناء به عنه لدلالته عليه ؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه.

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز فمن أراد عز الدنيا [فليطع](١) العزيز» (٢).

ثم إن الله تعالى أعلم عباده أن الذي يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح ، فقال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والنخعي : «الكلام الطيب» ، وبها قرأت للشيزري عن الكسائي (٣).

والكلم الطيّب : التوحيد والثناء على الله تعالى.

قال علي ابن المديني : «الكلم الطيب» : لا إله إلا الله ، «والعمل الصالح» : أداء الفرائض واجتناب المحارم (٤).

وفي هاء «يرفعه» ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها ترجع إلى الكلم الطيب ، والعمل الصالح هو الرافع. قاله ابن

__________________

(١) في الأصل : فليطلع. والتصويب من مصادر التخريج.

(٢) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (٦ / ٦٠ ، ٨ / ١٧١). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٢) ، والديلمي في الفردوس (٥ / ٢٥٣) ، والسيوطي في الدر (٢ / ٧١٧) وعزاه للحاكم في التاريخ والديلمي وابن عساكر عن أنس.

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٧ ـ ٤٧٨).

(٤) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٨).

٢٧٦

عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير (١).

المعنى : أن هذه الكلمة الطيبة التي هي «لا إله إلا الله» لا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المتقبلة ، كما قال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] إلا إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها.

وكان الحسن يقول : يعرض القول على الفعل ، فإن وافق القول الفعل قبل ، وإن خالفه ردّ (٢).

القول الثاني : أنها تعود إلى العمل الصالح ، والكلام الطيب هو الرافع ؛ لأنه لا يتقبل عمل إلا من موحّد ، كما قال تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] يريد : الذين يتّقون الشرك. وهذا عكس القول الأول.

القول الثالث : أنها تعود إلى الله تعالى ، على معنى : يرفعه الله تعالى لصاحبه. قاله قتادة والسدي (٣).

ويؤيد القولين الثاني والثالث قراءة من قرأ : «والعمل الصالح» بالنصب (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٢١) ، ومجاهد (ص : ٥٣١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٩) وعزاه لآدم بن أبي إياس والبغوي والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد. ومن طريق آخر عن سعيد بن جبير وعزاه للفريابي. ومن طريق آخر عن الحسن ، وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه ابن المبارك في الزهد (١ / ٣٠ ح ٩١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٨) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٩) وعزاه لابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد (١ / ٣٠) عن قتادة. وذكره الماوردي (٤ / ٤٦٤) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ١٠) وعزاه لابن المبارك عن قتادة.

(٤) ذكر هذه القراءة أبو حيان في البحر (٧ / ٢٩٠) ، والسمين الحلبي في الدر المصون (٥ / ٤٦١).

٢٧٧

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) قال الزمخشري (١) : إن قلت : «مكر» فعل غير متعدّ ، لا يقال : مكر فلان عمله ، فبم نصب «السيئات»؟

قلت : هذه صفة للمصدر ، أو لما في حكمه ، كقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] أصله : والذين مكروا المكرات السيئات ، أو أصناف المكرات السيئات.

يريد الزمخشري بقوله : «أو لما في حكمه» : [ما](٢) أضيف إلى المصدر.

قال أبو العالية : هم الذين مكروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة (٣).

وقال قتادة : هم الذين يعملون السيئات (٤).

(وَمَكْرُ أُولئِكَ) الذين مكروا بك ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، (هُوَ يَبُورُ) أي : يفسد ويهلك.

وقيل : يكسد ويفسد دون مكر الله حين زين لهم أسبابا استدرجهم بها ، فجمع لهم المكرات الثلاث اللاتي رامواكيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فأخرجهم من مكة ، وقتلهم يوم بدر ، وأثبت جيف القتلى منهم في القليب ، والأسرى في وثاق. اللهم أعذنا من وبال مكرك ، وأعنّا على ذكرك وشكرك.

قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي : أصنافا.

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٦١٢).

(٢) زيادة على الأصل.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٠٢) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٧٩).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٧٤). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ١٠) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٧٨

وقيل : ذكرانا وإناثا.

وقال قتادة : زوّج بعضكم بعضا (١).

قوله تعالى : (إِلَّا بِعِلْمِهِ) في محل الحال ، تقديره : إلا معلومة له (٢).

قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : ما يعمر من أحد ، وسماه معمّرا باعتبار ما يؤول إليه.

(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قال الفراء (٣) : يريد : آخر غير الأول ، فكنّي عنه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد.

قال الزمخشري (٤) : هذا من الكلام المتسامح فيه ، ثقة في تأويله بإفهام السامعين ، واتكالا على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول [والقصر](٥) في عمر واحد. وعليه كلام الناس المستفيض : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلا بحق.

قال (٦) : [وفيه تأويل](٧) آخر : وهو أنه لا يطول عمر إنسان ولا ينقص إلا في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة ، فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمّر. وإذا أفرد

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٢٢). وذكره الماوردي (٤ / ٤٦٥).

(٢) انظر : الدر المصون (٥ / ٤٦٢).

(٣) معاني الفراء (٢ / ٣٦٨).

(٤) الكشاف (٣ / ٦١٣).

(٥) في الأصل : والعرض. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) أي : الزمخشري في الكشاف (٣ / ٦١٣).

(٧) في الأصل : وفي تأيل. والمثبت من الكشاف ، الموضع السابق.

٢٧٩

أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون ، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون. وإليه أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «إن الصدقة والصلة يعمران الديار وتزيدان في الأعمار» (١).

وقيل : المعنى : وما يعمر من معمر قدّر الله تعالى مدة أجله إلا كان ما نقص منه في كتاب.

قال سعيد بن جبير : مكتوب في أمّ الكتاب : عمر فلان كذا وكذا ، ثم يكتب في أسفل من ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، ذهب ثلاثة ، حتى يأتي على آخر عمره (٢).

(إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى كتابة الآجال. وقيل : التعمير والنقصان (عَلَى اللهِ) تعالى (يَسِيرٌ) هيّن.

وقال الكلبي : المعنى : أن حفظ ذلك بغير كتاب على الله يسير (٣).

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي

__________________

(١) أخرج نحوه أحمد في المسند (٦ / ١٥٩ ح ٢٥٢٩٨) من حديث عائشة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار.

(٢) أخرجه أبو الشيخ في العظمة (٣ / ٩١٨ ـ ٩١٩ ح ٤٥٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ١١ ـ ١٢) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة.

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ٤٦٦).

٢٨٠