رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

ذلك ، وباشره على ما ذكرناه في قصته في سورة الأنبياء ، فتطلبه مع ما لم أذكره هاهنا من حديثه في سورة الأنبياء.

فإن قيل : فما الحكمة في إضافته إلى سببه دون مسببه؟

قلت : استعمال حسن الأدب مع الله سبحانه وتعالى لئلا يكون كالشاكي منه يذكر ما ابتلاه به.

وقيل : أراد بقوله : (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) : ما كان يوسوس إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، وما كان يغريه على الكراهة والجزع.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) أي : قلنا له اضرب الأرض برجلك ، فركض فنبعت عين ماء فاغتسل منها ، ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ، ثم ركض برجله فأنبعت عين فشرب منها ، فهو قوله تعالى : (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ).

قال قتادة : هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها : الجابية (١).

قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي : وقلنا له خذ بيدك حزمة من حشيش أو ريحان أو عيدان ونحو ذلك ، فاضرب به ولا تحنث ، وكان عليه‌السلام حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة جلدة إن عافاه الله تعالى.

واختلفوا في سبب يمينه على أربعة أقوال :

أحدها : ما ذكرناه في سورة الأنبياء من حديث ابن عباس : أن إبليس جلس في

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٦٦). وذكره الماوردي (٥ / ١٠٢).

والجابية : قرية من أعمال دمشق ، ثم من عمل الجيدور ، من ناحية الجولان ، قرب مرج الصفر في شمالي حوران ، وفي هذا الموضع خطب سيدنا عمر رضي الله عنه خطبته المشهورة (معجم البلدان ٢ / ٩١).

٥٠١

طريقها في صورة طبيب فقالت له : يا عبد الله إن هاهنا إنسانا مبتلى ، فهل لك أن تداويه؟ فقال : إن شاء فعلت على أن يقول لي إذا برأ : أنت شفيتني ، فذكرت ذلك لأيوب فقال : ويحك ذاك الشيطان وحلف ليجلدنها إن شفاه الله تعالى مائة جلدة (١).

الثاني : ما حكيناه أيضا في الأنبياء عن الحسن : أن إبليس أتى زوجته بسخلة فقال : ليذبح هذه لي وقد برأ ، فأخبرته الخبر ، فحلف (٢).

الثالث : أنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز فخاف خيانتها ، فحلف ليضربنها. قاله سعيد بن المسيب (٣).

الرابع : أن إبليس لقيها فقال لها : أنا الذي فعلت بأيوب ما به ، وأنا إله الأرض ، وما أخذته منه فهو بيدي فانطلقي أريك ، فمشى بها غير بعيد ، ثم سحر بصرها وأراها واديا عميقا فيه أهلها وولدها ومالها ، فأتت أيوب فأخبرته بذلك فقال : ذاك الشيطان ، ويحك كيف وعى قوله سمعك ، والله لئن شفاني الله تعالى لأجلدنك مائة جلدة. [قاله](٤) وهب بن منبه (٥).

قال المفسرون : جبر الله تعالى زوجته بحسن صبرها أن أفتاه في ضربها ، فسهل

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٤٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٧ / ١٩٢ ـ ١٩٣) وعزاه لأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٥ / ٣٧٧).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ١٠٣) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٥٨).

(٤) في الأصل : قال. والتصويب من زاد المسير (٧ / ١٤٤).

(٥) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٤٤) ، والسيوطي في الدر (٧ / ١٩٥) وعزاه لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

٥٠٢

الأمر ، فجمع لها مائة عود ، وقيل : مائة سنبلة ، وقيل : أخذ عثكالا (١) فيه مائة شمراخ فضربها ضربة واحدة فبرّ في يمينه (٢).

قال مجاهد : هذا خاص لأيوب (٣) ، يريد : أن شريعتنا ليست كذلك.

والأمر على ما ذكر عندنا وعند مالك والليث بن سعد فيما إذا حلف ليضربنه مائة سوط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لا يبرّ في يمينه.

وقال أبو حنيفة والشافعي : يبرّ إذا أصابه في الضربة الواحدة كل واحد منها ؛ احتجاجا بقصة أيوب (٤).

وفي قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) دليل على أن الشكاية إلى الله تعالى لا تبطل الصبر ولا تذهب بالأجر.

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)(٤٨)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ عِبادَنا) وقرأ ابن كثير : «عبدنا» على التوحيد (٥).

__________________

(١) العثكال : الشّمراخ ، وهو ما عليه البسر من عيدان الكباسة ، وهو في النخل بمنزلة العنقود من الكرم (اللسان ، مادة : عثكل).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٤٤).

(٣) ذكره الماوردي (٥ / ١٠٤).

(٤) انظر : المغني (١٠ / ٦١) ، والأم (٧ / ٨٠).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٣٢٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٣) ، والكشف (٢ / ٢٣١) ، والنشر (٢ / ٣٦١) ، والإتحاف (ص : ٣٧٢) ، والسبعة (ص : ٥٥٤).

٥٠٣

فعلى قراءة الأكثرين : (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بدل من «عبادنا». وعلى قراءة ابن كثير وحده : بدل ، ثم عطف عليه (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ)(١).

فإن قيل : ما بال إسماعيل لم يذكر معهم وهو منهم؟

قلت : إنما لم يذكر معهم ؛ لأن المعنى : واذكر هؤلاء الذين ابتلوا فصبروا ، ولذلك عطف ذكرهم على ما تقدم من قصة داود وسليمان وأيوب ذوي البلوى ، وإسماعيل عليه‌السلام لم يبتل كبلواهم ، إلا إذا قلنا هو الذبيح فلا يستقيم هذا الجواب.

(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الأيدي : جمع يد التي هي بمعنى القدرة والقوة.

قال ابن عباس : أولي [القوة](٢) في طاعة الله تعالى ، والأبصار في المعرفة بالله تعالى (٣).

وقرأت لأبي عمرو من رواية عبد الوارث عنه : «الأيد» بغير ياء في الحالين (٤) ، وهي قراءة ابن مسعود والأعمش ؛ اكتفاء بالكسرة.

قال الفراء (٥) : هو صواب ، مثل الجوار والمناد (٦).

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ٢١١) ، والدر المصون (٥ / ٥٣٧).

(٢) زيادة من الوسيط (٣ / ٥٦٠).

(٣) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٧٠) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٤٦) كلاهما بلفظ : أولي القوة والعبادة ، والأبصار : الفقه في الدين. وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٠ ـ ٥٦٢) ، والسيوطي في الدر (٧ / ١٩٧) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٧٢).

(٥) معاني الفراء (٢ / ٤٠٧).

(٦) " الجوار" في سورة الشورى من الآية رقم : ٣٢ ، و" المناد" في سورة ق من الآية رقم : ٤١.

٥٠٤

قوله تعالى : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي : جعلناهم لنا خالصين (بِخالِصَةٍ) أي : بخصلة خالصة ، ثم فسّرها بقوله تعالى : (ذِكْرَى الدَّارِ) أي : أنهم يذكرون الدار الآخرة فيتأهبون لها ويزهدون في ضرتها.

قال أبو علي (١) : على هذه القراءة «ذكرى» بدل من «خالصة» ، تقديره : أخلصناهم بذكرى الدار.

وقرأ نافع والحلواني عن هشام : «بخالصة ذكرى» بغير تنوين على الإضافة (٢) ؛ لأن الخالصة تكون للذّكر وغير الذّكر ، فإذا أضيفت إلى «ذكرى» اختصت الخالصة بهذه الإضافة ، فتكون الإضافة إلى المفعول به ، كأنه بإخلاصهم ذكرى الدار ، أي : أخلصوا ذكرها والخوف منها [لله](٣) ، ويجوز أن تكون على إضافة المصدر الذي هو «خالصة» إلى الفاعل ، تقديره : بأن [أخلصت](٤) لهم ذكرى الدار. هذا كلام أبي علي.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) يريد : من الذين اتخذهم صفوة ، فصفّاهم من كل دنس ، والأخيار : جمع خير أو خيّر على التحقيق ؛ كأموات في جمع ميت أو ميّت.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي : اذكر فضلهم وصبرهم

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٣) ، والكشف (٢ / ٢٣١) ، والنشر (٢ / ٣٦١) ، والإتحاف (ص : ٣٧٣) ، والسبعة (ص : ٥٥٤).

(٣) زيادة من الحجة (٣ / ٣٢٨).

(٤) في الأصل : خلصت. والتصويب من الحجة ، الموضع السابق.

٥٠٥

وتأسّ بهم واقتد بأخلاقهم.

وقد ذكرنا اليسع في سورة الأنعام (١) ، وذا الكفل في الأنبياء (٢).

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)(٥٤)

قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) أي : هذا شرف وثناء جميل تذكرون به أبدا ، وكيف لا يكون شرفا والمثني عليهم رب العالمين.

(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) أي : وإن للأنبياء المذكورين ومن شاركهم في وصف التقوى مع هذا الثناء الجميل والشرف العظيم (لَحُسْنَ مَآبٍ) أي : لحسن مرجع يؤوبون إليه يوم القيامة.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من «حسن مآب» أو عطف بيان (٣).

(مُفَتَّحَةً) قيل : النصب صفة ل «جنات».

وقال الزمخشري (٤) : «مفتّحة» حال ، والعامل فيها ما في «للمتقين» من معنى الفعل. وفي «مفتحة» ضمير الجنات ، و «الأبواب» بدل من الضمير ، تقديره : مفتّحة

__________________

(١) آية رقم : ٨٦.

(٢) آية رقم : ٨٥.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢١١) ، والدر المصون (٥ / ٥٣٨).

(٤) الكشاف (٤ / ١٠٢).

٥٠٦

هي الأبواب ، كقولهم : ضرب زيد اليد والرّجل ، وهو من بدل الاشتمال.

وقال الزجاج (١) : المعنى : مفتحة لهم الأبواب منها.

وقال الفراء (٢) : المعنى : مفتحة لهم أبوابها ، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة.

قال الزمخشري (٣) : وقرئ «جنات عدن مفتحة» بالرفع (٤) ، على أن «جنات عدن» مبتدأ ، و «مفتحة» خبره. أو كلاهما خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو جنات عدن هي مفتحة لهم (٥).

قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها) حال من الضمير المجرور باللام في قوله تعالى : (لَهُمُ)(٦).

قوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) قال الزجاج (٧) : الأتراب : اللواتي أسنانهن واحدة ، وهنّ في غاية الشباب والحسن.

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٣٣٧).

(٢) معاني الفراء (٢ / ٤٠٨).

(٣) الكشاف (٤ / ١٠٢).

(٤) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ٣٨٧) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٥٣٩).

(٥) قال ابن جرير في تفسيره (٢٣ / ١٧٤) : فإن قال لنا قائل : وما في قوله : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) من فائدة خبر حتى ذكر ذلك؟

قيل : الفائدة في ذلك : إخبار الله تعالى عنها أن أبوابها تفتح لهم بغير فتح سكانها إياها ، بمعاناة بيد ولا جارحة ، ولكن بالأمر.

(٦) انظر : التبيان (٢ / ٢١١) ، والدر المصون (٥ / ٥٣٩).

(٧) معاني الزجاج (٤ / ٣٣٨).

٥٠٧

قال غيره : وإنما جعلهن على سنّ واحدة ؛ لأن التحابّ بين الأقران أثبت.

وقيل : هنّ أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهم.

و «قاصرات الطرف» مفسر في الصافات (١).

قوله تعالى : (هذا ما تُوعَدُونَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «يوعدون» بالياء ، والباقون بالتاء (٢).

قال أبو علي (٣) : من قرأ بالتاء فعلى معنى : قل لهم هذا ما توعدون ، فيكون خطابا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. ومن قرأ «يوعدون» بالياء ؛ فلأن ذكر المتقين قد تقدم في قوله تعالى : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) ، هذا (ما يُوعَدُونَ) أي : ما يوعد المتقون ليوم الحساب ، أي : في يوم الحساب ، أو لأجل يوم الحساب.

قوله تعالى : (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي : انقطاع.

قال ابن عباس : ليس لشيء في الجنة نفاد ، ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله ، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه [حيا](٤).

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ

__________________

(١) عند الآية رقم : ٤٨.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٤) ، والكشف (٢ / ٢٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٦١) ، والإتحاف (ص : ٣٧٣) ، والسبعة (ص : ٥٥٥).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣٠).

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٣). وما بين المعكوفين في الأصل : جرما. والتصويب من الوسيط.

٥٠٨

مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(٦٤)

قوله تعالى : (هذا) قال الزجاج (١) : المعنى : الأمر هذا ، ف «هذا» رفع بخبر الابتداء المحذوف ، وإن شئت كان «هذا» رفعا بالابتداء ، والخبر محذوفا.

وقال غيره : يجوز أن يكون التقدير : إن هذا لرزقنا هذا ، فيكون توكيدا لما قبله.

ثم ذكر ما للكفار فقال تعالى : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ).

(جَهَنَّمَ) بدل من «شر مآب» ، أو عطف بيان (٢).

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) فيه تقديم وتأخير ، تقديره : هذا حميم فليذوقوه ، أو العذاب هذا فليذوقوه. ثم ابتدأ فقال : ([هذا])(٣) أي : هو (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ).

قرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر : «وغسّاق» بالتشديد ، هاهنا وفي عم يتساءلون (٤) ، والباقون بالتخفيف (٥).

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٣٣٨).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ٢١٢) ، والدر المصون (٥ / ٥٣٩).

(٣) في الأصل : جهنم. وهو خطأ.

(٤) عند الآية رقم : ٢٥.

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٥) ، والكشف (٢ / ٢٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٦١) ، والإتحاف (ص : ٣٧٣) ، والسبعة (ص : ٥٥٥).

٥٠٩

قال أبو علي (١) : من قرأ بالتخفيف ؛ فلأنه اسم مثل : عذاب ونكال وشراب وهو بارد ضد الحميم يحرق كما يحرق الحميم.

فأما من قرأ «وغسّاق» بالتشديد فلا يخلو من أن [يكون](٢) اسما أو صفة ، فيبعد أن يكون اسما ، [لأن](٣) الأسماء لم تجئ على هذا الوزن إلا قليلا ، وذلك الكلّاء (٤) [والقذّاف](٥) والجبّان (٦) ، وإن كان صفة من غسق يغسق : إذا سأل ، مثل : ضرّاب من ضرب يضرب ، فقد أقيم مقام الموصوف ، وأن لا تقام الصفة مقام الموصوف أحسن ، إلا [أن](٧) يكون صفة قد غلبت وأجري مجرى الأسماء ، نحو : العبد ، والأبطح.

والقراءة بالتخفيف أحسن ؛ لسلامته من الأمرين اللذين وصفناهما في المشدد ، وهما قلة البناء ، وإقامة الصفة مقام الموصوف.

__________________

(١) الحجة (٣ / ٣٣٠ ـ ٣٣١).

(٢) زيادة من الحجة (٣ / ٣٣٠).

(٣) في الأصل : فإن. والمثبت من الحجة ، الموضع السابق.

(٤) الكلّاء : مرفأ السفن ، وهو عند سيبويه فعّال ، مثل : جبّار ، لأنه يكلأ السفن من الريح ، وعند أحمد بن يحيى : فعلاء ، لأن الريح تكلّ فيه ، فلا ينخرق ، وقول سيبويه مرجّح ، ومما يرجحه أن أبا حاتم ذكر أن الكلّاء مذكر لا يؤنثه أحد من العرب (انظر : لسان العرب ، مادة : كلأ).

(٥) في الأصل : والقذا. والتصويب من الحجة (٣ / ٣٣٠). والقذّاف : جمع ، وهو الذي يرمى به الشيء فيبعد ، والقذّاف : المنجنيق وهو الميزان (لسان العرب ، مادة : قذف).

(٦) الجبّان : الصحراء ، وتسمى بها المقابر ؛ لأنها تكون في الصحراء تسمية للشيء بموضعه ، والجبّان : ما استوى من الأرض في ارتفاع ، ويكون كريم المنبت (لسان العرب ، مادة : جبن).

(٧) زيادة من الحجة (٣ / ٣٣١).

٥١٠

واختلف المفسرون في الغسّاق ؛ فقال ابن عباس : هو الزمهرير (١).

وقال أبو سعيد الخدري : المنتن (٢).

وقال عطية : القيح الذي يسيل من جلود أهل النار (٣).

وقال السدي : دموعهم التي تسيل من أعينهم (٤).

وقال كعب الأحبار : عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذي حمة (٥).

وأخبرنا أبو المجد القزويني قال : أخبرنا أبو منصور الطوسي قال : سمعت الحسين بن مسعود البغوي يقول : الغسّاق : ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقونه مع الحميم (٦).

قوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ) أي : من شكل هذا المذوق في الفظاعة والكراهة (أَزْواجٌ) أجناس وأصناف.

وقرئ : «من شكله» بكسر الشين (٧) ، وهي لغة في معنى المثل ، وأما

__________________

(١) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٣٩٥). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ١٩٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٧٠٦ ح ٢٥٨٤) ، والحاكم (٤ / ٦٤٤ ح ٨٧٧٩) ، وأحمد (٣ / ٢٨ ح ١١٢٤٧) كلهم رفعه. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ١٩٩ ـ ٢٠٠) وعزاه لأحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور.

(٣) أخرجه الطبري (٣٠ / ١٣) ، وهناد في الزهد (١ / ١٨٦). وذكره الماوردي (٥ / ١٠٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ١٩٩) وعزاه لهناد.

(٤) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٧٧).

(٥) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٧٧). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٠٠) وعزاه لابن جرير.

(٦) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٧٧) عن السدي.

(٧) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ٣٨٨) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٥ / ٥٤١).

٥١١

الغنج (١) فبالكسر لا غير.

قرأ أبو عمرو : «وأخر» بضم الهمزة من غير مد ، وقرأ الباقون بفتح الهمزة ومدّها (٢) ، على معنى : وعذاب آخر. وقوله تعالى : (مِنْ شَكْلِهِ) يؤيد هذه القراءة.

ويجوز أن يجمع الخبر الذي هو «أزواج» وإن كان المبتدأ واحدا ؛ لأن «آخر» يراد به العذاب ، والعذاب يشتمل على ضروب ، كما تقول : عذاب فلان ضروب شتى.

ومن قرأ «وأخر» على الجمع فمعناه : وضروب أخر وأنواع أخر ؛ لأن العذاب ذو ضروب وأنواع ، «وأخر» أيضا مرفوع بالابتداء ، و «أزواج» الخبر. هذا كلام أبي علي الفارسي (٣).

قوله تعالى : (هذا فَوْجٌ) أي : جمع كثيف ، (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) النار ، أي : داخلها بشدة.

قال ابن السائب : يضربون بالمقامع (٤) فيلقون أنفسهم في النار (٥).

وهو حكاية قول الزبانية ، أو كلام بعضهم لبعض.

قال ابن عباس : إذا دخل القادة النار ثم دخل بعدهم الأتباع ، قال الخزنة للقادة : هذا فوج مقتحم معكم ، فيقول القادة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) ، أي : لا صادفوا

__________________

(١) الغنج : الدّلّ ، من التدلل (انظر : اللسان ، مادة : غنج).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٥) ، والكشف (٢ / ٢٣٣) ، والنشر (٢ / ٣٦١) ، والإتحاف (ص : ٣٧٣) ، والسبعة (ص : ٥٥٥).

(٣) الحجة (٣ / ٣٣٢).

(٤) المقامع : جمع مقمعة ، وهي سياط تعمل من حديد رؤوسها معوجّة (اللسان ، مادة : قمع).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٥١).

٥١٢

مرحبا (١).

والمرحب والرّحب : السّعة (٢) ، أي : لا اتسعت بهم مساكنهم. وهذا إخبار أن مودتهم انقطعت وصارت عداوة.

(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) كما صليناها.

(قالُوا) يعني : الأتباع للقادة (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) يشيرون إلى أن قادتهم أولى بالدعاء عليهم وبما قالوه لهم ، وعللوا ذلك بقولهم : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي : قدمتموا العذاب لنا ، [يريدون](٣) : سببه ، وهو الكفر ، يريدون : أنتم ابتدأتم وشرعتم الكفر الذي هو سبب عذابنا.

ثم قالت الأتباع : (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) ... الآية وقد سبق الكلام على تفسيرها في سورة الأعراف (٤).

قوله تعالى : (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) قال مجاهد : يقول أبو جهل في النار : أين صهيب؟ أين عمّار؟ أين بلال؟ (٥).

وقال الكلبي : ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم معهم ، وهم المؤمنون ، فعند ذلك يقولون : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) في الدنيا (٦).

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (١٥ / ٢٢٣).

(٢) انظر : اللسان (مادة : رحب).

(٣) في الأصل : يريدن.

(٤) عند الآية رقم : ٣٨.

(٥) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٠١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن عساكر.

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٥).

٥١٣

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) إخبارا عن أنفسهم أنهم صنعوا ذلك ، على معنى : أنا اتخذناهم سخريا ، والجملة المعادلة لقوله : (أَمْ زاغَتْ) محذوفة ، المعنى : [أمفقودون](١) هم أم زاغت عنهم الأبصار. وهذه قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي ، وقرأ الباقون : «من الأشرار اتّخذناهم» بقطع الهمزة وفتحها على الاستفهام (٢) ، ولذلك عودل ب «أم» ، واستبعد البصراء بالعربية هذه القراءة ؛ لأن استفهامهم مع علمهم أنهم فعلوا بهم ذلك لا معنى له.

وقال الفراء (٣) : الاستفهام بمعنى التعجب والتوبيخ.

والمعنى : أنهم يوبخون أنفسهم على ما صنعوا بالمؤمنين.

و «سخريا» بضم السين وكسرها ، مذكور في (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)(٤).

قال قتادة ومقاتل (٥) : أم زاغت أبصارنا عنهم فهم معنا في النار ولا نراهم (٦).

قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) قال الزجاج (٧) : أي إن الذي وصفناه عنهم لحق ، ثم بين ما هو فقال تعالى : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ).

__________________

(١) في الأصل : أمفقودن.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٦ ـ ٦١٧) ، والكشف (٢ / ٢٣٣) ، والنشر (٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٢) ، والإتحاف (ص : ٣٧٣) ، والسبعة (ص : ٥٥٦).

(٣) معاني الفراء (٢ / ٤١١).

(٤) عند الآية رقم : ١١٠.

(٥) تفسير مقاتل (٣ / ١٢٣).

(٦) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٠١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٧) معاني الزجاج (٤ / ٣٤٠).

٥١٤

قال المفسرون : يعني : تخاصم القادة والأتباع (١).

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٧٠)

(قُلْ) يا محمد لأهل مكة : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أخوّفكم عقوبة الله.

(قُلْ هُوَ) يعني : القرآن ، في قول مجاهد والضحاك وعامة المفسرين (٢).

وقيل : المعنى : هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا ، وأن الله واحد قهار (نَبَأٌ عَظِيمٌ) لا يعرض عنه إلا غافل شديد الغفلة.

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) لا تتفكرون فيه.

والمقصود من ذلك : تنبههم على التفكر في القرآن ليستدلوا به على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ، ألا تراه يقول : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) يعني : الملائكة (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في آدم حين قال الله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ...) [البقرة : ٣٠] إلى آخر القصة. قاله ابن عباس وأكثر المفسرين (٣).

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٥).

(٢) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٠١ ـ ٢٠٢) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبي نصر السجزي في الإبانة عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨٣ ـ ١٨٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٤٧). وذكره السيوطي في الدر ـ

٥١٥

وقيل : اختصامهم ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت ربي عزوجل فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : أنت أعلم يا رب ، قال : في الكفارات والدرجات. فأما الكفارات فإسباغ الوضوء في السبرات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. وأما الدرجات فإفشاء السّلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام» (١).

قوله تعالى : (إِنْ يُوحى إِلَيَ) أي : ما يوحى إلي (إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

قال الفراء (٢) : المعنى : ما يوحى إليّ إلا أني نبي ونذير مبين أبيّن لكم ما تأتون من الفرائض والسنن ، وما تدعون من الحرام والمعصية.

وقرأت لأبي جعفر : «إلّا إنّما» بكسر الهمزة على الحكاية (٣) ، على معنى : إن يوحى إليّ إلا هذا القول وهو إذ أقول لكم إنما أنا نذير مبين.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ

__________________

ـ (٧ / ٢٠٢) وعزاه لأبن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ومن طريق آخر عن قتادة، وعزاه لعبد بن حميد ومحمد بن نصر وابن جرير.

(١) أخرجه الطبراني في الأوسط (٥ / ٣٤٢ ح ٥٤٩٦).

(٢) معاني الفراء (٢ / ٤١٢).

(٣) النشر (٢ / ٣٦٢) ، والإتحاف (ص : ٣٧٤).

٥١٦

مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) متصل بقوله : «يختصمون» ، وما بينهما اعتراض.

وما بعده مفسّر إلى قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي : لما توليت خلقه بنفسي (أَسْتَكْبَرْتَ) عن طاعتي والسجود لآدم (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) ممن علا واستكبر وارتفع عن السجود له.

والاستفهام بمعنى التوبيخ ، فأخبره أن امتناعه من السجود لآدم علوّه عليه فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ).

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) اتفق القرّاء على نصب «الحقّ» الثاني ، واختلفوا في الأول ، فقرأ عاصم وحمزة : «قال فالحقّ» بالرفع ، ونصبه الباقون (١). فمن رفع جعله خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : أنا الحقّ أو قولي ، أو هو مبتدأ ، خبره محذوف ، على معنى : قال فالحق مني ، كما قال تعالى :

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٣٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦١٨) ، والكشف (٢ / ٢٣٤) ، والنشر (٢ / ٣٦٢) ، والإتحاف (ص : ٣٧٤) ، والسبعة (ص : ٥٥٧).

٥١٧

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [البقرة : ١٤٧].

ومن نصب فعلى معنى : الزموا الحق ، أو على معنى : أحق الحق ، كقوله تعالى : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) [يونس : ٨٢].

وقيل : هو قسم ، فلما حذفت الباء انتصب ، كما تقول : الله لأفعلنّ ، أي : قال فبالحق لأملأن جهنم ، وما بينهما اعتراض.

والحق الثاني منصوب ب «أقول».

ويروى عن أبي عمرو من غير طرقه المشهورة : «والحقّ أقول» بالرفع (١).

ووجهه ظاهر.

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) أي : من جنسك ، (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ).

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) أو الوحي ، أي : على تبليغه من أجر (٢) فتتهموني.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله ، وقد عرفتموني بالبراءة من ذلك ، فكيف أنتحل النبوة وأتكلف ما لم أؤمر به وأتقوّل القرآن.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم وأبو الحسن البغداديان ، قالا : أخبرنا أبو الوقت عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن

__________________

(١) ذكر هذه القراءة البناء في : الإتحاف (ص : ٣٧٤) ، وابن الجوزي في : زاد المسير (٧ / ١٥٨).

(٢) في الأصل زيادة قوله : المعنى.

٥١٨

أبي الضحى ، عن مسروق قال : «دخلنا على عبد الله بن مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم : الله أعلم. قال الله تعالى لنبيه : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)(١). هذا حديث صحيح.

(إِنْ هُوَ) يعني : القرآن (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) موعظة للجن والإنس.

(وَلَتَعْلَمُنَ) يا كفار مكة (نَبَأَهُ) خبر صدقه (بَعْدَ حِينٍ).

قال ابن عباس وقتادة : بعد الموت (٢).

قال الحسن : يا ابن آدم! عند الموت يأتيك الحق (٣) اليقين (٤).

وقال عكرمة : يوم القيامة (٥).

وقال السدي : يوم بدر (٦).

وقال ابن السائب : من بقي علم ذلك لما ظهر أمره وعلا ، ومن مات [علمه](٧) بعد الموت (٨). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٠٩ ح ٤٥٣١).

(٢) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨٩) عن قتادة.

(٣) في جميع مصادر التخريج : الخبر.

(٤) ذكره الطبري (٢٣ / ١٨٩) في تفسيره ، والماوردي (٥ / ١١٢) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٨) ، والسيوطي في الدر المنثور (٧ / ٢٠٩).

(٥) ذكره الماوردي (٥ / ١١٢) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٨).

(٦) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٨٩). وذكره الماوردي (٥ / ١١٢).

(٧) زيادة من الوسيط (٣ / ٥٦٨).

(٨) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٦٨).

٥١٩

سورة الزمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وهي اثنتان وسبعون آية في المدني ، وخمس في الكوفي (١).

وهي مكية في قول ابن عباس وعليه المفسرين (٢) ، إلا آيتين نزلتا بالمدينة : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) و (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ)(٣).

وقيل : إلا سبع آيات من قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) إلى آخر السبع. واستثني أيضا : (يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ).

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٤)

قال الله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : مبتدأ ، خبره : (مِنَ اللهِ).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ٢١٦).

(٢) ذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢١٠) وعزاه لابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

(٣) انظر : الإتقان في علوم القرآن (١ / ٥٢) ، والماوردي (٥ / ١١٣) ، وزاد المسير (٧ / ١٦٠) ، والبيان (ص : ٢١٦) ، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص : ٦٤٣).

٥٢٠