رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

[تطمئن](١) وتسكن.

قال السدي : تقشعر من وعيده وتلين عند وعده (٢).

قال قتادة : هذا نعت أولياء الله تعالى تقشعر جلودهم وتلين قلوبهم ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان (٣).

قال عبد الله بن عروة بن الزبير : قلت لجدّتي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله سبحانه وتعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قال : فقلت لها : إن ناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن يخرّ أحدهم مغشيا عليه ، قالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (٤).

ومرّ ابن عمر رضي الله عنهما برجل من أهل العراق ساقط فقال : ما بال هذا؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآن أو سمع ذكر الله تعالى سقط ، فقال ابن عمر : إنا لنخشى الله ولا نسقط ، ثم قال : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ، ما كان

__________________

(١) في الأصل : تضمين. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه.

(٢) ذكره الماوردي (٥ / ١٢٣) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٧٦).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٧٨ ـ ٥٧٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٧٦) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٢٢١) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه البيهقي في الشعب (٢ / ٣٦٥ ح ٢٠٦٢) ، وسعيد بن منصور في السنن (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٤٩). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٢) وعزاه لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر.

٥٤١

هكذا يصنع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال : بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره ، فإن رمى بنفسه فهو صادق (٢).

قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ) إشارة إلى الكتاب.

وقيل : إشارة إلى ما ينزل [بالخاشعين](٣) عند تلاوة الكتاب من اقشعرار الجلود عند الوعيد ولينها عند الوعد.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٢٦)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) جوابه محذوف ، تقديره : كمن آمن العذاب ، أو كمن يدخل الجنة.

ويروى : أن الكافر يلقى في النار مغلولا فلا يتهيّأ له أن يتّق النار إلا بوجهه.

قال مجاهد : يخرّ في النار على وجهه (٤).

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٧٧) ، والقرطبي (١٥ / ٢٤٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٧٦).

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٧٧) ، والقرطبي (١٥ / ٢٤٩).

(٣) في الأصل : بالخاسيين.

(٤) أخرجه مجاهد (ص : ٥٥٧) وفيه : «يجر» بدل «يخر» ، والطبري (٢٣ / ٢١١). وذكره السيوطي في ـ

٥٤٢

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(٣١)

قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) قال الزجاج (١) : «عربيا» نصب على الحال. المعنى : ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيّته وبيانه. وذكر «قرآنا» توكيدا ، كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا ، وجاءني عمرو إنسانا عاقلا ، [فذكر](٢) رجلا وإنسانا توكيدا.

وقال الزمخشري (٣) : يجوز أن ينتصب على المدح. ومعنى «غير ذي عوج» : مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف.

وقيل : المراد بالعوج : الشّكّ واللّبس. وأنشدوا :

وقد أتاك يقين غير ذي عوج

من الإله وقول غير مكذوب (٤)

وذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى «غير ذي عوج» : غير مخلوق.

__________________

ـ الدر (٧ / ٢٢٣) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(١) معاني الزجاج (٤ / ٣٥٢).

(٢) في الأصل : فتذكر.

(٣) الكشاف (٤ / ١٢٧ ـ ١٢٨).

(٤) انظر البيت في : البحر (٧ / ٤٠٧) ، والدر المصون (٦ / ١٤) ، والكشاف (٤ / ١٢٨) ، والقرطبي (١٥ / ٢٥٢) ، وروح المعاني (٢٣ / ٢٦٢).

٥٤٣

أخبرنا الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي رحمه‌الله ، أخبرنا أبو العلاء وجيه بن هبة الله بن المبارك بن السقطي ، أخبرنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن العلاف المقرئ (١) ، حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ الحماميّ ، حدثنا أبو عبد الله جعفر بن إدريس القزويني (٢) ، حدثنا حموية بن يونس ـ إمام مسجد قزوين ـ ، حدثنا جعفر بن محمد بن فضيل الرسعني ـ برأس عين ـ قال : حدثنا عبد الله بن صالح ـ كاتب الليث ـ.

قال الحماميّ : وحدثنا أبو بكر (٣) أحمد بن جعفر الختلي ، حدثنا عمر بن محمد الجوهري المعروف بالشذاني ، حدثنا علي بن داود القنطري (٤) ، حدثنا عبد الله بن صالح (٥) ، حدثنا معاوية بن صالح (٦) ، عن علي بن أبي

__________________

(١) علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن يعقوب البغدادي ، أبو الحسن ابن العلاف الحاجب ، من بيت الرواية والعلم ومن حجاب الخلافة. توفي سنة خمس وخمسمائة وقد استكمل تسعا وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣).

(٢) جعفر بن إدريس القزويني ، أبو عبد الله. خرج إلى مكة وجاور بها ، ويقال : إنه كان إمام الحرمين ثلاثين سنة ، توفي سنة بضع عشر وثلاثمائة (التدوين في أخبار قزوين ٢ / ٣٧٦).

(٣) في الأصل زيادة لفظة : «بن». وهو خطأ. انظر : الإكمال لابن ماكولا (٣ / ٢٢١).

(٤) علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري ، أبو الحسن بن أبي سليمان البغدادي الأدمي ، ثقة صدوق ، توفي سنة اثنتين وستين ومائتين ، وقيل : اثنتين وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب ٧ / ٢٧٩ ، والتقريب ص : ٤٠١).

(٥) عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهني مولاهم ، أبو صالح المصري ، كاتب الليث ، صدوق كثير الغلط ، ثبت في كتابه ، وكانت فيه غفلة ، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ٥ / ٢٢٥ ـ ٢٢٨ ، والتقريب ص : ٣٠٨).

(٦) معاوية بن صالح بن حدير بن سعد بن سعد بن فهر الحضرمي ، أبو عمرو ، وقيل : أبو عبد الرحمن ـ

٥٤٤

طلحة (١) ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) قال : غير مخلوق (٢).

قال حموية بن يونس : بلغ أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه هذا الحديث ، فكتب إلى جعفر بن محمد بن فضيل يكتب إليه بإجازته ، فكتب إليه بإجازته ، فسرّ أحمد بهذا الحديث وقال : كيف فاتني عن عبد الله بن صالح هذا الحديث.

وبهذا الإسناد قال أبو الحسن الحمامي : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد العطار ، حدثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا حسين (٣) بن الصباح ، حدثنا [معبد أبو](٤) عبد الرحمن ـ ثقة ـ ، عن معاوية [بن](٥) عمار قال : سألت جعفر بن محمد رضي الله عنهما عن القرآن ،

__________________

ـ الحمصي ، أحد الأعلام وقاضي الأندلس ، كان ثقة كثير الحديث ، توفي سنة ثمان وخمسين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ١٨٩ ـ ١٩٠ ، والتقريب ص : ٥٣٨).

(١) علي بن أبي طلحة واسمه سالم بن المخارق الهاشمي ، مولى بني العباس ، أصله من الجزيرة ، وانتقل إلى حمص ، أرسل عن ابن عباس ولم يره ، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩٨ ، والتقريب ص : ٤٠٢).

(٢) أخرجه الآجري في الشريعة (ص : ٨٤) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص : ٣١١). وذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٥٨٠) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٧٩) ، والسيوطي في الدر المنثور (٧ / ٢٢٣) وعزاه للآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٣) في الشريعة : الحسن.

(٤) في الأصل : سعيد بن. وهو خطأ. وهو معبد بن راشد ، أبو عبد الرحمن الكوفي ، انظر ترجمته في : التهذيب (١٠ / ٢٠١) ، والتقريب (ص : ٥٣٩).

(٥) في الأصل : عن. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في : لسان الميزان (٧ / ٣٩٢) ، والتقريب (ص : ٥٣٨).

٥٤٥

قال : ليس بخالق ولا مخلوق ، ولكنه كلام الله عزوجل (١).

وبالإسناد قال الحمامي : حدثنا أبو بكر محمد بن هارون العسكري الفقيه ، حدثنا محمد بن يوسف بن [الطباع](٢) قال : سمعت رجلا سأل أحمد بن حنبل فقال : يا أبا عبد الله ، أصلّي خلف من يشرب المسكر؟ قال : لا. قال : وأصلي خلف من يقول : القرآن مخلوق؟ قال : فقال : سبحان الله ، أنهاك عن مسلم وتسألني عن كافر (٣).

وأخبرنا أبو بكر عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي إذنا قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن مرزوق ، أخبرنا جعفر بن أحمد بن عبد الواحد الثقفي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان ، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ، حدثنا موسى بن عبد الله الطرسوسي قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو [جهميّ](٤) ، ومن زعم أن هذه الآية مخلوقة : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) فقد كفر (٥) ، والقرآن من علم الله ، فمن زعم أن من علم الله شيئا مخلوقا فقد كفر (٦).

أخبرنا أبو علي الحسين بن الحسن بن علي الكوسج الأصبهاني إجازة ،

__________________

(١) أخرجه الآجري في الشريعة (ص : ٨٤) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (٢ / ٢٤٢ ح ٣٩٩) ، والبيهقي في الاعتقاد (ص : ١٠٧) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (١ / ١٥١ ـ ١٥٢).

(٢) في الأصل : الصباغ. والتصويب من مصادر التخريج.

(٣) أخرجه الآجري في الشريعة (ص : ٨٤). وذكره ابن مفلح في : المقصد الأرشد (٢ / ٥٣٣).

(٤) في الأصل : جمي. وقد ذكره عبد الله بن أحمد في السنة (١ / ١٦٥).

(٥) ذكره اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (٢ / ٢٥٦) عن النضر بن محمد.

(٦) ذكره اللالكائي في اعتقاد أهل السنة (٢ / ٣٥٤).

٥٤٦

وأخبرني عنه سماعا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن [الأزهر](١) الصريفيني قال : أخبرنا الحافظ أبو سعد محمد بن عبد الواحد بن عبد الوهاب الصائغ ، حدثنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الدقاق ، أخبرني أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمد المقرئ بقراءتي عليه ، حدثنا أحمد بن موسى ، حدثنا محمد ابن الحسن النقاش ، حدثنا أبو صالح القاسم بن الليث الرسعني ، حدثنا محمد بن بشار (٢) بندار رحمه‌الله قال : كان لنا جار ، وكان يقرأ القرآن ، وكان حسن الصوت ، رأيته عند يعقوب الجرمي فجاور رجلا فقال : إن لم يكن القرآن مخلوقا فنزع الله كل آية في كتابه من صدري ، فأصبح وما يقرأ من كتاب الله تعالى حرفا واحدا. قال : فكان إذا سمع قارئا في المسجد تكلم به قال : لا أستطيع ، ويقول كلاما معروفا. قال : ومات على هذه الحال.

قال بندار : كتب إليّ إسحاق بن راهويه يسألني عن هذا الحديث ، فكتبت إليه.

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) أي : ضرب الله لعبّاد الأصنام مثلا مثل رجل ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ف «رجلا» بدل من قوله : «مثلا فيه شركاء» (٣).

«متشاكسون» : مختلفون كل واحد منهم يدعي أنه عبده ، فهم يتجاذبون عنان التصرف فيه على حسب أهوائهم واختلاف أغراضهم وآرائهم ، فأصبح متشعّب

__________________

(١) في الأصل : الأهر. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في : سير أعلام النبلاء (٢٣ / ٨٩) ، وذيل التقييد (١ / ٤٣٩).

(٢) في الأصل زيادة قوله : بن. وهو خطأ. وقوله : «بندار» لقب لمحمد بن بشار. وقد تقدمت ترجمته.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ٢١٥).

٥٤٧

الهموم ، متقسم الفكر.

«ورجلا» عطف على الأول ، أي : ومثل رجل ، «سالم لرجل» : خالص لرجل واحد ، فهو مجتمع الهمّ ، سليم مما يوجب توزع فكره ، مقتصر على خدمة سيد واحد.

(هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : صفة ، أي : هل يستوي صفتاهما وحالاهما.

قال ثعلب : إنما قال : «هل يستويان مثلا» ولم يقل : «مثلين» ؛ لأنهما جميعا ضربا مثلا واحدا ، ومثله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(١) [المؤمنون : ٥٠].

وقال الزمخشري (٢) : إنما اقتصر في التمييز على الواحد ؛ لبيان الجنس. وقرئ : «مثلين» ؛ كقوله تعالى : (وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [التوبة : ٦٩] مع قوله تعالى : (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ، وهذا مثل العبد المؤمن والعبد الكافر في عبادة هذا إلها واحدا ، وفي عبادة هذا آلهة شتى.

قرأ ابن كثير وأبو عمرو : «ورجلا سالما لرجل» بألف مع كسر اللام ، وقرأ الباقون : «سلما» بفتح اللام من غير ألف (٣).

وقرأت لعبد الوارث عن أبي عمرو : «ورجل سالم» بالرفع على الابتداء (٤) ، على معنى : وهناك رجل سالم لرجل.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٧ / ١٨٠ ـ ١٨١).

(٢) الكشاف (٤ / ١٢٩).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٣٤٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٢١ ـ ٦٢٢) ، والكشف (٢ / ٢٣٨) ، والنشر (٢ / ٣٦٢) ، والإتحاف (ص : ٣٧٥) ، والسبعة (ص : ٥٦٢).

(٤) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٧ / ١٨٠) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٦ / ١٥).

٥٤٨

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال الماوردي (١) : يحتمل وجهين :

أحدهما : على احتجاجه بالمثل الذي خصم به المشركين.

الثاني : على هدايته التي أعان بها المؤمنين.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيشركون به غيره ، أو لا يعلمون المثل المضروب.

قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) إن قيل : ما الحكمة في إخباره بموته وهو يعلمه حقيقة؟

قلت : هو فيه حكم :

أحدها : الحث على العمل.

الثانية : تقصير الأمل.

الثالثة : الإيذان بقرب الأجل ، حيث أتى به في صيغة الحال.

الرابعة : أن المشركين كانوا يتربصون به صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموت ، فأخبرهم أن الموت وصف شامل له ولهم ، فلا معنى لانتظاره له دونهم.

الخامسة : توطئة نفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت.

السادسة : إعلام المؤمنين أن هذا الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه لم يوجب له اختصاص بوصف الامتياز على العالمين فضلا عليهم في الخلود والبقاء الدائم.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ) أنتم وإياهم ـ غلب المخاطب ـ (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) الذي لا يخفى عليه خافية (تَخْتَصِمُونَ) فيحتج عليهم بالبلاغ ، ويحتجون هم بما لا حجة فيه من الاقتداء بالآباء والكبراء.

__________________

(١) تفسير الماوردي (٥ / ١٢٤).

٥٤٩

وقال ابن عباس : يتخاصم الصادق والكاذب ، والمظلوم والظالم ، والمهتدي والضال ، والضعيف والمتكبر (١).

وقال إبراهيم النخعي : لما نزلت هذه الآية قالت الصحابة : ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا (٢).

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٥)

قوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قال علي عليه‌السلام وأبو العالية وابن السائب : «الذي جاء بالصدق» : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وصدّق به» : أبو بكر رضي الله عنه (٣).

وقال ابن عباس : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٤ / ١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٧) وعزاه لابن جرير.

(٢) أخرجه الطبري (٢٤ / ٢). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٦) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر.

(٣) أخرجه الطبري (٢٤ / ٣). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٨) وعزاه لابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان عن علي بن أبي طالب.

(٤) أخرجه الطبري (٢٤ / ٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٥١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٨) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

٥٥٠

وقال مجاهد في رواية الليث عنه : «الذي جاء بالصدق» : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وصدّق به» : علي بن أبي طالب رضي الله عنه (١).

وقال قتادة : «الذي جاء بالصدق» : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، «وصدّق به» : المؤمنون (٢).

وقال عطاء : «الذي جاء بالصدق» : الأنبياء ، «وصدّق به» : الأتباع (٣).

ويدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي العالية : «والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به» (٤).

وقال السدي : «الذي جاء بالصدق» : جبريل جاء بالقرآن ، «وصدّق به» : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

وقرأ أبو صالح الكوفي السمان ومحمد بن جحادة : «وصدق به» بالتخفيف (٦) ، على معنى : وصدق به الناس ولم يكذبهم به ، يعني : أدّاه إليهم كما نزل إليه من غير تحريف.

قوله تعالى : (الَّذِي) هاهنا اسم جنس ، يدل عليه قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) ، ومثله :

__________________

(١) ذكره الماوردي (٥ / ١٢٦).

(٢) أخرجه الطبري (٢٤ / ٣).

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٤ / ٧٩).

(٤) ذكر هذه القراءة أبو حيان في : البحر المحيط (٧ / ٤١١) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٦ / ١٥).

(٥) أخرجه الطبري (٢٤ / ٣) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣٢٥١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٢٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٦) ذكره هذه القراءة أبو حيان في : البحر (٧ / ٤١٢) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٦ / ١٦).

٥٥١

إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (١)

قوله تعالى : (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) اللام من صلة قوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). وقيل : هو لام القسم ، التقدير : والله ليكفرن الله عنهم ، فكسرت اللام وحذفت النون. والمعنى : أسوأ الذي عملوا قبل الإيمان والتوبة.

وقيل : أسوأ الذي عملوا من الصغائر ؛ لأنهم يتقون الكبائر. ذكر هذين الوجهين الماوردي (٢).

ولا معنى للأول ؛ لأن مدلوله أن المصدق لا يعمل عملا يوصف بالاستواء ، ولا للثاني لأنه مشعر أن المصدّق لا يقع في كبيرة.

والمعنى : أن الله تعالى يكفر عنهم أسوأ أعمالهم ، فما ظنك بغير الأسوأ.

وقيل : الذي فرط منهم هو عندهم الأسوأ ؛ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن ؛ لحسن إخلاصهم فيه ؛ فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ وحسنهم بالأحسن.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ

__________________

(١) تقدم.

(٢) تفسير الماوردي (٥ / ١٢٧).

٥٥٢

أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٣٨)

قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ حمزة والكسائي : «عباده» (١) ، يريد : الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام.

وقرأ سعد بن أبي وقاص وأبو عمران : «بكافي» بياء من غير تنوين ، «عبده» بالجر على الإضافة (٢) ، ومثلهما قرأ أبيّ بن كعب وأبو العالية وأبو الجوزاء والشعبي ، إلا أنهم قرؤوا «عباده» على الجمع (٣).

وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء : «يكافي» بياء مضمومة قبل الكاف وياء ساكنة بعد الفاء ، «عباده» : بالنصب مع الجمع (٤).

(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) وذلك أن كفار قريش قالوا : يا محمد ما تزال تذكر آلهتنا وتعيبها ، فاتق أن تصيبك بسوء ، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) وقرأ أبو عمرو : «كاشفات وممسكات» بالتنوين فيهما ، «ضرّه ورحمته» بالنصب فيهما ؛ لأنه أمر منتظر ، وما لم يقع من أسماء

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٢٢) ، والكشف (٢ / ٢٣٩) ، والنشر (٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣) ، والإتحاف (ص : ٣٧٥) ، والسبعة (ص : ٥٦٢).

(٢) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير (٧ / ١٨٤) ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٦ / ١٦).

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير ، الموضع السابق.

(٤) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في : زاد المسير ، الموضع السابق ، والسمين الحلبي في : الدر المصون (٦ / ١٦).

٥٥٣

الفاعلين أو كان في الحال فالوجه فيه التنوين والنصب ؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال يعمل عمل الفعل.

وقرأ الباقون بغير تنوين وبالجر في الجملتين على الإضافة (١) ؛ طلبا للخفة والتنوين مراد ، ولذلك لا يتعرّف اسم الفاعل وإن أضيف إلى معرفة.

قال صاحب الكشاف (٢) : إن قلت : لم قيل : «كاشفات» و «ممسكات» على التأنيث بعد قوله تعالى : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)؟

قلت : أنثهن وكنّ إناثا ، وهنّ اللات والعزى ومناة ، [قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ])(٣) (الثَّالِثَةَ الْأُخْرى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ١٩ ـ ٢١] [ليضعفها](٤) ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة ؛ لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة ، كما أن الذكورة من باب الشدة والصلابة ، كأنه قال : الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تدّعون [لهن](٥) وأعجز. وفيه [تهكم](٦) أيضا.

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣٩) مَنْ

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٣٤١ ـ ٣٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٢٣) ، والكشف (٢ / ٢٣٩) ، والنشر (٢ / ٣٦٣) ، والإتحاف (ص : ٣٧٦) ، والسبعة (ص : ٥٦٢).

(٢) الكشاف (٤ / ١٣٢).

(٣) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : لضعفها. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : لهم. والمثبت من الكشاف ، الموضع السابق.

(٦) في الأصل : تهكيم.

٥٥٤

يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٤٢)

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) مفسر في الأنعام (١).

وما بعده مفسر إلى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي : يقبضها عند فناء أجلها ، (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ) أي : ويتوفى التي لم تمت (فِي مَنامِها) وسماه وفاة على وجه التشبيه للنائمين بالموتى ، ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦].

قال الزجاج (٢) : المتوفى وفاة الموت هو الذي قد فارقته النفس التي تكون بها الحياة والحركة ، والنفس التي تميز بها ، والتي تتوفى في النوم نفس [التمييز](٣) وحدها لا نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النّفس ، والنائم يتنفّس.

وقال ابن عباس : في ابن آدم نفس وروح ، فالنفس العقل والتمييز ، وبالروح النفس والتحريك ، فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه (٤).

__________________

(١) عند الآية رقم : ١٣٥.

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٣٥٦).

(٣) في الأصل : التميز. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) ذكره الماوردي (٥ / ١٢٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٨٦).

٥٥٥

وقال ابن جريج : في ابن آدم نفس وروح بينهما حاجز ، والله تعالى يقبض النّفس عند النوم ثم يردّها إلى الجسد عند الانتباه ، فإذا أراد إماتة العبد في نومه لم [يردّ](١) النّفس وقبض الروح (٢).

وقال سعيد بن جبير : إن الله تعالى يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فيتعارف ما شاء الله أن يتعارف ، (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فلا يعيدها ، (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) فيعيدها (٣).

وذهب بعض العلماء إلى أن التوفي المذكور في حق النائم هو نومه ، وهو اختيار الفراء (٤) وابن الأنباري.

فعلى هذا ؛ معنى توفي النائم : قبض نفسه عن التصرف ، وإرسالها : إطلاقها باليقظة في التصرف.

قرأ حمزة والكسائي : «قضي» بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء على ما لم يسمّ فاعله ، «الموت» بالرفع. وقرأ الباقون «قضى» بفتح القاف والضاد ، «الموت» بالنصب (٥) ، حملا على قوله : (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى)(٦) في بناء الفعل للفاعل.

__________________

(١) في الأصل : يردد. والتصويب من زاد المسير (٧ / ١٨٦).

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٧ / ١٨٦).

(٣) أخرجه الطبري (٢٤ / ٩). وذكره الماوردي (٥ / ١٢٨ ـ ١٢٩).

(٤) معاني الفراء (٢ / ٤٢٠).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٣٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٦٢٤) ، والكشف (٢ / ٢٣٩) ، والنشر (٢ / ٣٦٣) ، والإتحاف (ص : ٣٧٦) ، والسبعة (ص : ٥٦٢ ـ ٥٦٣).

(٦) في الأصل زيادة قوله : ليسجد.

٥٥٦

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(٤٥)

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا) «أم» هاهنا منقطعة ، (مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) يعني : الأصنام ، فإنهم كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) [وجواب هذا الاستفهام](١) محذوف ، تقديره : [أتتخذونهم](٢) شفعاء.

قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي : أفرد بالذّكر دون آلهتهم (اشْمَأَزَّتْ). قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : انقبضت (٣) ، (قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ).

وقال ابن عباس أيضا : نفرت عن التوحيد (٤).

(وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) وهم آلهتهم ، ذكر الله تعالى معهم أو لم يذكر (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

__________________

(١) في الأصل : وحرا. والتصويب والزيادة من الوسيط (٣ / ٥٨٤) ، وزاد المسير (٧ / ١٨٧).

(٢) في الأصل : أنتخذومهم.

(٣) أخرجه مجاهد (ص : ٥٥٩) ، والطبري (٢٤ / ١٠). وذكره مقاتل في تفسيره (٣ / ١٣٥) ، والسيوطي في الدر (٧ / ٢٣٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد.

(٤) ذكره الطبري (٢٤ / ١٠) ، والماوردي (٥ / ١٢٩) كلاهما بلا نسبة.

٥٥٧

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٤٨)

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يا فاطر. وقد سبق تفسيرها.

كان الربيع بن خثيم قليل الكلام ، فلما قتل الحسين عليه‌السلام قالوا : اليوم يتكلم ، فلما أخبروه بقتله لم يزد على قراءة هذه الآية (١).

قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي : ظهر لهم من سخطه وعذابه ما لم يكن في حسابهم.

وقيل : عملوا أعمالا حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات.

جزع محمد بن المنكدر عند موته ، فقيل له : [لم تجزع](٢)؟ فقال : أخشى آية من كتاب الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(٣).

سمعت شيخنا أبا محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رضي الله عنه يقول : أخبرنا الحافظ أبو موسى محمد بن أبي بكر الأصفهاني في كتابه ، أخبرنا عبد الرزاق بن محمد بن الشرابي ، [أنا سعيد بن محمد بن سعيد الولي ، أنا علي بن أحمد بن علي

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في طبقاته (٦ / ١٩٠).

(٢) زيادة من المصادر التالية.

(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٣ / ١٤٦). وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (٢ / ١٤٤).

٥٥٨

الواقدي](١) ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال : سمعت أبي يقول : سمعت محمد بن إسحاق السراج يقول : سمعت محمد بن خلف يقول : حدثني يعقوب بن يوسف قال : كان الفضيل بن عياض إذا علم أن ابنه عليا خلفه ـ يعني : في الصلاة ـ مرّ ولم يقف ولم يخوّف ، وإذا علم أنه ليس خلفه تنوّق (٢) في القرآن وحزن وخوّف ، فظنّ يوما أنه ليس خلفه ، فأتى على ذكر هذه الآية : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) [المؤمنون : ١٠٦] قال : فخرّ عليّ مغشيا عليه ، فلما علم أنه خلفه وأنه قد سقط ، تجوّز في القراءة ، فذهبوا إلى أمه فقالوا : أدركيه ، فجاءت فرشّت عليه ماء فأفاق ، فقالت لفضيل : أنت قاتل هذا الغلام عليّ ، فمكث ما شاء الله فظنّ أنه ليس خلفه ، فقرأ : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فخرّ ميتا ، وتجوّز [أبوه](٣) في القراءة ، وأتيت أمه فقيل لها : أدركيه ، فجاءت فرشّت عليه ماء فإذا هو ميت رحمه‌الله تعالى (٤).

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ

__________________

(١) زيادة من كتاب التوابين (ص : ٢٠٩).

(٢) تنوّق في الأمر : تأنّق فيه وتجوّد (اللسان ، مادة : نوق).

(٣) زيادة من كتاب التوابين (ص : ٢٠٩).

(٤) أخرجه ابن قدامة في كتاب التوابين (ص : ٢٠٩).

٥٥٩

ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٥٢)

قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا) قال مقاتل (١) : هو أبو حذيفة بن المغيرة. وقد سبق في هذه السورة نظيره.

(ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) مفسّر في أوائل هذه السورة أيضا.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) أي : أتيت الإنعام أو شيئا من النعمة.

وقيل : «إنما» موصولة لا كافة ، فرجع الضمير إليها ، على معنى : الذي أوتيته على علم.

وقد سبق تفسيره في قصة فرعون في سورة القصص (٢).

(بَلْ هِيَ) يريد : النعمة (فِتْنَةٌ) ابتلاء وامتحان ، أيشكر أم يكفر؟.

وقرئ : «بل هو فتنة» (٣) حملا على «إنما أوتيته».

وقيل : «بل هي» يريد : الكلمة أو المقالة التي قالها فتنة.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم مستدرجون أو مفتونون.

قال صاحب الكشاف (٤) : إن قلت : ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ١٣٦).

(٢) عند الآية رقم : ٧٨.

(٣) ذكر هذه القراءة الزمخشري في : الكشاف (٤ / ١٣٦).

(٤) الكشاف (٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧).

٥٦٠