رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٦

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٥

وقعت «حتى» غاية؟

قلت : بما فهم من هذا الكلام أن ثم انتظارا للإذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان ، وطول من التربص ، كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليا [فزعين](١) وهلين ، (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك ، وسأل بعضهم بعضا : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ).

وقرأ ابن عامر : «فزّع» بفتح الفاء والزاي (٢) ، على معنى : خلّى الله الفزع عن قلوبهم.

وقرأ الحسن : «فزّع» بالراء المهملة والغين المعجمة (٣) ، وهو يرجع إلى معنى قراءة العامة ؛ لأن المعنى : فرغت من الفزع.

(قالُوا الْحَقَ) أي : وقال الحق.

قال الواحدي (٤) : ثم أخبر الله تعالى عن خوف الملائكة قال : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، قال : وهذا دليل على أنه [قد](٥) يصيبهم فزع شديد من شيء يحدث

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٣ / ٥٨٩).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٩٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٨٩) ، والكشف (٢ / ٢٠٥) ، والنشر (٢ / ٣٥١) ، والإتحاف (ص : ٣٥٩ ـ ٣٦٠) ، والسبعة (ص : ٥٣٠).

(٣) وهي قراءة قتادة وابن يعمر أيضا. انظر هذه القراءة في : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٠) ، وزاد المسير (٦ / ٤٥٢).

(٤) الوسيط (٣ / ٤٩٤).

(٥) زيادة من الوسيط ، الموضع السابق.

٢٤١

من أقدار الله تعالى ، ولم يذكر ذلك الشيء ؛ لأن إخراج الفزع يدل على حصوله ، فكأنه قد ذكر.

قال (١) : والمفسرون ذكروا ذلك الشيء.

قال مقاتل (٢) وقتادة والكلبي : لما كانت الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم ، وبعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنزل جبريل بالوحي ، فلما نزل ظنت الملائكة أنه نزل [بشيء](٣) من أمر الساعة ، فصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمرّ بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ، وقال بعضهم [لبعض](٤) : «ماذا قال ربكم قالوا الحق» (٥).

وقال الماوردي (٦) : فزعوا عند سماع الوحي من الله تعالى ؛ لانقطاعه ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسّلام ، وكان لصوته صلصلة كوقع الحديد على الصفا ، فخرّوا عنده سجّدا مخافة القيامة.

قال (٧) : وهذا معنى قول كعب.

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن ابن [روزبة](٨) البغداديان

__________________

(١) أي : الواحدي.

(٢) تفسير مقاتل (٣ / ٦٤).

(٣) في الأصل : لشيء. والتصويب من الوسيط (٣ / ٤٩٤) ، وزاد المسير (٦ / ٤٥٣).

(٤) زيادة من الوسيط (٣ / ٤٩٤).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٩٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٥٣).

(٦) تفسير الماوردي (٤ / ٤٤٨).

(٧) أي : الماوردي.

(٨) في الأصل : رزبة. وهو خطأ. انظر ترجمته في : السير (٢٢ / ٣٨٧ ـ ٣٨٩) ، والتقييد (ص : ٤١٩).

٢٤٢

قالا : أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن (١) ، أخبرنا عبد الله (٢) ، أخبرنا محمد (٣) ، حدثنا محمد (٤) ، حدثنا الحميدي (٥) ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة [يقول](٦) : أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان (٧) ، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير» (٨). انفرد بإخراجه البخاري.

وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود قال : «إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء [للسماء](٩) صلصلة كجرّ السلسلة على الصّفا (١٠) ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، فإذا فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ما قال [ربك](١١)؟ فيقول : الحق ، فيقولون : الحق الحق» (١٢).

__________________

(١) هو عبد الرحمن بن محمد الداودي. تقدمت ترجمته.

(٢) هو عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي. تقدمت ترجمته.

(٣) هو محمد بن يوسف الفربري. تقدمت ترجمته.

(٤) هو محمد بن إسماعيل البخاري.

(٥) هو عبد الله بن الزبير الحميدي.

(٦) زيادة من الصحيح (٤ / ١٨٠٤).

(٧) الصّفوان : العريض من الحجارة الأملس ، ومثله : الصّفا (اللسان ، مادة : صفا).

(٨) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٠٤ ح ٤٥٢٢).

(٩) زيادة من سنن أبي داود (٤ / ٢٣٥).

(١٠) الصّفا : هو كالصفوان بمعنى واحد.

(١١) في الأصل : ربكم. والتصويب من سنن أبي داود (٤ / ٢٣٥).

(١٢) أخرجه أبو داود (٤ / ٢٣٥ ح ٤٧٣٨).

٢٤٣

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

قوله تعالى : (قُلْ)(١) أي : قل لكفار مكة محتجا عليهم : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) المطر (وَالْأَرْضِ) النبات والثمر ، (قُلِ اللهُ) فإنهم لا جواب لهم سواه ، فلا حاجة لك إلى استنطاقهم به.

قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) كلام وارد مورد الإنصاف كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [العنكبوت : ٥٢] ، وكقول حسان :

 ..........

فشرّكما لخيركما الفداء (٢)

وقال الزجاج (٣) : روي في التفسير : «وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين» ، وهذا في اللغة غير جائز ، ولكنه في التفسير يؤول إلى هذا المعنى. والمعنى : إنا لعلى

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله تعالى : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) وستأتي بعد قليل.

(٢) عجز بيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه ، وصدره : (أتهجوه ولست له بكفء) ، انظر : ديوانه (ص : ٧٦) ، واللسان (مادة : ندد) ، والبحر (٧ / ٢٦٧) ، والدر المصون (٥ / ٤٤٥) ، والطبري (١٨ / ٨٨).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٣).

٢٤٤

هدى أو في ضلال مبين ، أو إنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وهذا كما يقول القائل : إذا كانت الحال تدل على صدقه ، [أحدنا صادق وأحدنا كاذب ، والمعنى](١) : أحدنا [صادق](٢) أو كاذب.

وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله تعالى : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ). قال الزجاج (٣) : معناه : [ألحقتموهم](٤) به ، ولكنه حذف ؛ لأنه في صلة «الذين» (٥).

قال الزمخشري (٦) : فإن قيل : ما معنى قوله : «أروني» وكان يراهم ويعرفهم؟

قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به.

ويحتمل عندي : أن يكون هذا على مذهب العرب في الازدراء بالرأي ، كقول الشاعر :

ولو أني بليت بهاشمي

خؤولته بنو عبد المدان

لهان عليّ ما ألقى ولكن

تعالي فانظري بمن ابتلاني (٧)

__________________

(١) زيادة من معاني الزجاج (٤ / ٢٥٣).

(٢) في الأصل : صادقا. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٤).

(٤) في الأصل : ألحقتوهم. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٥) حذف العائد بعد فعل متعد.

(٦) الكشاف (٣ / ٥٩٢).

(٧) البيتان في : سير أعلام النبلاء (١٣ / ١٠٠) ، وتاريخ بغداد (٨ / ٣٧٣) مع اختلاف في بعض اللفظات ، والمستطرف (١ / ٤٥٤).

٢٤٥

(كَلَّا) ردع وزجر لهم عن مذهبهم الذي لا يثبت على محك النظر ، ولا عند حاكم العقل.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) قال الزجاج (١) : معنى «كافة» في اللغة : الإحاطة (٢). والمعنى : أرسلناك جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ ، وأرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى العرب والعجم.

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٤).

(٢) انظر : اللسان (مادة : كفف).

٢٤٦

قوله تعالى : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يريدون : التوراة وغيرها من الكتب ، حملهم على هذا القول ما سمعوه من علماء أهل الكتاب من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَوْ تَرى) أيها الرسول أو أيها السامع (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) محبوسون للحساب يوم القيامة وهم يتجادلون. وجواب «لو» محذوف ، أي : [لرأيت](١) عجبا.

قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) قال المبرد والزجاج والزمخشري (٢) وعامة اللغويين : المعنى : بل مكركم في الليل والنهار ، اتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه.

وقيل : جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي.

وقرأ قتادة : «بل مكر» بالتنوين ، (اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بنصب الظرفين (٣).

قال الزمخشري (٤) : وقرئ : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالرفع والنصب ، أي : تكرّون الإغواء مكرّا دائما لا تفترون عنه.

فإن قلت : ما وجه الرفع والنصب؟

قلت : هو مبتدأ أو خبر ، على معنى : بل سبب ذلك مكركم ، أو مكركم سبب ذلك ، والنصب على معنى : بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار.

__________________

(١) في الأصل : لو رأيت.

(٢) المقتضب (٤ / ٣٣١) ، ومعاني الزجاج (٤ / ٢٥٤) ، والكشاف (٣ / ٥٩٤).

(٣) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٥٨) ، والسمين الحلبي في الدر المصون (٥ / ٤٤٨).

(٤) الكشاف (٣ / ٥٩٤).

٢٤٧

قوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) مفسر في يونس (١).

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ) هذه الآية تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) افتخروا وظنوا أن الله خوّلهم ذلك كرامتهم عليه ، وقاسوا على تقدير كونها وصحة وجودها على أمر الدنيا ، فذلك قولهم : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

وفي قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إبطال لما توهموه من أن كثرة أموالهم وأولادهم يقتضي كرامتهم على الله ، فإن بسط الرزق وقدره ابتلاء وامتحان من الله حسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية ، وكم من فاسق موسّع عليه ، وطائع مضيّق في رزقه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك.

__________________

(١) عند الآية رقم : ٥٤.

٢٤٨

ثم صرّح بإبطال ما قالوه وأكذبهم فيه ، فقال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) قال الفراء (١) : يصلح أن تقع «التي» على الأموال والأولاد جميعا ؛ لأن الأموال جمع ، والأولاد جمع.

وإن شئت وجهت «التي» إلى الأموال ، واكتفيت بها من ذكر الأولاد ؛ كقوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف (٢)

وقال الزجاج (٣) : المعنى : وما أموالكم بالتي تقربكم ولا أولادكم بالذين يقربونكم ، [فحذف](٤) اختصارا.

وقال الزمخشري (٥) : أراد : وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث.

وقرأ الحسن : «باللاتي» ؛ لأنها جماعات (٦).

قال الأخفش (٧) : «زلفى» اسم المصدر ، كأنه أراد بالتي تقربكم عندنا [إزلافا](٨).

(إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء منقطع.

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٣٦٣).

(٢) تقدم.

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٥).

(٤) في الأصل : فحذ.

(٥) الكشاف (٣ / ٥٩٥).

(٦) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٦٠) ، وأبو حيان في البحر المحيط (٧ / ٢٧٢).

(٧) معاني الأخفش (ص : ٢٧٠).

(٨) في الأصل : تقريبا. والمثبت من معاني الأخفش ، الموضع السابق.

٢٤٩

وقال الزمخشري (١) : من «كم» في «تقرّبكم». والمعنى : أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير ، وفقّههم في الدين ، ورشّحهم للصلاح والطاعة.

(فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) قرأت على شيخنا أبي البقاء لرويس عن يعقوب : «جزاء» بالنصب والتنوين ، «الضعف» بالرفع (٢).

وقرأت للقراء السبعة من جميع طرقهم الثلاثة الذين ألحقوا بهم : «جزاء الضّعف» برفع «جزاء» والإضافة.

وتقدير القراءة الأولى : فأولئك لهم الضعف جزاؤهم في الغرفات.

وقرأ حمزة : «في الغرفة» على التوحيد (٣) ، يريد : الجنس ؛ كقوله تعالى : (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) [الفرقان : ٧٥].

والمعنى في القراءتين واحد.

والمراد : وهم في غرفات الجنة آمنون من الموت والغير والخروج وكل مخوف.

وما بعده سبق تفسيره إلى قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) قال سعيد بن جبير : وما أنفقتم من شيء من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه (٤).

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٥٩٥).

(٢) النشر (٢ / ٣٥١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٦٠).

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٩٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٠) ، والكشف (٢ / ٢٠٨) ، والنشر (٢ / ٣٥١) ، والإتحاف (ص : ٣٦٠) ، والسبعة (ص : ٥٣٠).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٥ / ٣٣١ ح ٢٦٥٩٨) ، والطبري (٢٢ / ١٠١). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧٠٦) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير.

٢٥٠

[وقال الكلبي : وما أنفقتم في الخير والبر فهو يخلفه](١) إما أن يعجله في الدنيا أو يدخره [لكم](٢) في الآخرة (٣).

وأخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن الصوفي ، أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد ، حدثنا محمد البخاري (٤) ، حدثنا إسماعيل (٥) ، حدثني أخي (٦) ، عن سليمان هو ابن بلال (٧) ، عن معاوية بن أبي [مزرد](٨) ، عن أبي الحباب (٩) ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من

__________________

(١) زيادة من الوسيط (٣ / ٤٩٧) ، وزاد المسير (٦ / ٤٦١).

(٢) مثل السابق.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٤٩٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٦١).

(٤) تقدم هذا الإسناد آنفا.

(٥) هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، أبو عبد الله بن أبي أويس ، ابن أخت مالك ونسيبه ، صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه ، مات في رجب سنة ست أو سبع وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ٢٧١ ـ ٢٧٢ ، والتقريب ص : ١٠٨).

(٦) هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، أبو بكر بن أبي أويس المدني الأعشى ، ثقة ، مات ببغداد سنة اثنتين ومائتين (تهذيب التهذيب ٦ / ١٠٧ ، والتقريب ص : ٣٣٣).

(٧) سليمان بن بلال التيمي القرشي مولاهم ، أبو محمد ، ويقال : أبو أيوب المدني ، ثقة ، مات سنة سبع وسبعين (تهذيب التهذيب ٤ / ١٥٤ ، والتقريب ص : ٢٥٠).

(٨) في الأصل : مرزد. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في : التهذيب (١٠ / ١٩٦) ، والتقريب (ص : ٥٣٨).

(٩) هو سعيد بن يسار ، أبو الحباب المدني ، مولى ميمونة ، وقيل : مولى شقران أو مولى الحسن بن علي ، وقيل : مولى بني النجار ، وقيل أن اسمه : سعيد بن مرجانة ، وهو ثقة متقن ، مات سنة سبع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب ٤ / ٩٠ ، والتقريب ص : ٢٤٣).

٢٥١

يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» (١).

وأخرجه مسلم عن القاسم بن زكريا ، عن خالد بن مخلد (٢) ، عن سليمان بن بلال.

قرأت على محمد بن أبي عبد الله الصوفي ، أخبركم محمد بن أسعد ، حدثنا الحسين بن مسعود الفراء (٣) ، أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي (٤) ، أخبرنا أبو طاهر الزيادي ، أخبرنا محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى قال : أنفق ينفق عليك ، قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لا ينقص ما في يمينه ، قال : وعرشه على الماء ، وبيده الأخرى الفيض ، يرفع ويخفض» (٥). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه محمد البخاري عن علي بن عبد الله. وأخرجه مسلم عن محمد بن رافع ، كلاهما عن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٥٢٢ ح ١٣٧٤) ، ومسلم (٢ / ٧٠٠ ح ١٠١٠).

(٢) خالد بن مخلد القطواني ، أبو الهيثم البجلي مولاهم الكوفي ، ثقة صدوق كثير الحديث ، وفيه تشيع ، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين ، وقيل بعدها (تهذيب التهذيب ٣ / ١٠١ ، والتقريب ص : ١٩٠).

(٣) انظر : تفسير البغوي (١ / ٢٥٦).

(٤) حسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي الخالدي ، أبو علي المنيعي المروروذي ، كان ذا تهجد وصيام واجتهاد ، مات في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٦٦ ـ ٢٦٧).

(٥) أخرجه البخاري (٦ / ٢٦٩٩ ح ٦٩٨٣) ، ومسلم (٢ / ٦٩١ ح ٩٩٣).

٢٥٢

عبد الرزاق.

(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أكرمهم وأعلاهم وآمنهم ؛ لأن كل ما رزق من سلطان يرزق جنوده ، أو سيد يرزق عبيده ، أو رجل يرزق عياله ، فهو من رزق الله ، أجراه على أيدي هؤلاء.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(٤٢)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعني : المشركين.

وقال مقاتل (١) : الملائكة ومن [عبدها](٢).

(ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) وقرئ : «يحشرهم» ، «ثم يقول» بالياء فيهما (٣) ، حملا على (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ).

(أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) استفهام في معنى التقريع والتوبيخ للعابدين ، ونحوه : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، وقد علم الله سبحانه وتعالى أن الملائكة وعيسى مبرؤون مما وجه عليهم من السؤال ،

__________________

(١) تفسير مقاتل (٣ / ٦٨).

(٢) في الأصل : بعدها. والتصويب من تفسير مقاتل ، الموضع السابق.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٢٩٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٩٠) ، والنشر (٢ / ٢٥٧) ، والإتحاف (ص : ٢٠٦) ، والسبعة (ص : ٥٣٠).

٢٥٣

وهو وارد على المثل السائر : «إيّاك أعني واسمعي يا جارة».

(قالُوا) يعني : الملائكة إظهارا لبراءتهم من الرضى بعبادتهم (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) الذي نواليك من دونهم ، (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) يريدون : الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله تعالى ، (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي : أكثر المشركين بالجن الشياطين مصدقون ، أي : يصدقونهم فيما يخبرونهم به من الباطل.

(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) يعني : العابدين والمعبودين (نَفْعاً وَلا ضَرًّا) ؛ لأن الأمر في الثواب يوم القيامة لله وحده ، لم يفوض إلى أحد من خلقه فيه أمرا ، ولم يجعل له سلطانا كحال الدنيا.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٤٥)

قوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) هذا إيذان بفرط جهل العرب وإشعار أن ردهم وتكذيبهم لم يصدر عن تثبت وفكر وعلم ، على ما هو المتعامل من عادة ذوي البصائر المضيئة بنور العلم ، فإنهم إن صدر منهم تكذيب فلشبهة تقوم في نظرهم يضعف قوى علمهم عن دفعها.

٢٥٤

وقال الفراء (١) : من أين كذبوك ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه.

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ) أي : وما بلغ هؤلاء معشار ما آتينا أولئك ، والمعشار والعشر والعشير بمعنى.

وقيل : المعشار : عشر العشر ، وقيل : عشر العشير ، والعشير : عشر العشر.

قال الماوردي (٢) : وهو الأظهر ؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل.

والمعنى : وما بلغوا معشار ما آتيناهم من طول الأعمار واشتداد القوى وكثرة الأموال. هذا معنى قول ابن عباس (٣).

وقال الحسن : ما عملوا معشار ما أمروا به (٤).

(فَكَذَّبُوا رُسُلِي) المعنى : فأخذناهم ولم يغن عنهم ما كانوا فيه ، فكيف بهؤلاء؟

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) النكير : اسم بمعنى الإنكار.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)(٤٦)

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي : إنما آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة ، ثم فسّرها بقوله تعالى : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) وليس المراد به المثول على الأقدام ،

__________________

(١) معاني الفراء (٢ / ٣٦٤).

(٢) تفسير الماوردي (٤ / ٤٥٥).

(٣) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨) بمعناه. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧٠٩) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، بمعناه.

(٤) ذكره الماوردي (٤ / ٤٥٥).

٢٥٥

وإنما المراد به : الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمم.

والمعنى : أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين.

(مَثْنى وَفُرادى) اثنين اثنين وواحدا واحدا ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به ، ويعرض كل واحد منكم محصول ما أداه فكره إليه على شريطة المناصعة وعزل الهوى ، أو يراجع رشده إذا خلا بنفسه وأمعن النظر ، فإنكم إن فعلتم ذلك هجم بكم الفكر الصالح على النظر الصحيح وأصبتم طريق الحق.

فإن قيل : لم أمرهم بالقيام مثنى وفرادى فقط؟

قلت : لغرض صحيح نعرفه عن استعداء العادات ، وهو أن الجموع الوافرة والعصب المتكاثرة يوجب اضطراب آرائها واختلاف أهوائها اختلاط القول وتوقد ثائرة التعصب ، وهذا أمر لا يجامعه الإنصاف غالبا وظاهرا.

وفي قوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إشعار بأن هذا الأمر العظيم الذي ينتظم في سلك المبعوث به سياسة الملك ورئاسة الدين ، لا يتصدى لادعاء مثله إلا أحد رجلين ؛ مجنون لا يبالي عند ظهور عجزه عن إثبات صحة ما ادعاه بالافتضاح ، أو عاقل مؤيد بالعجز [مصطفى](١) للنبوة ، وإلا فما يحمل العاقل على مثل هذه الدعوى التي يبقى صاحبها بعرضة السخرية والاستهزاء إذا لم يثبت ، وقد علمتم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما به من جنّة ، بل علمتموه أرزن قريش حلما ، وأغزرهم مروءة ، وآصلهم رأيا ، وأصدقهم لسانا ، وأجمعهم لمكارم الأخلاق.

(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ) أي : ما هو إلا مخوف لكم (بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ)

__________________

(١) في الأصل : مطفى.

٢٥٦

يشير إلى قرب الساعة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى» (١).

قال صاحب الكشاف (٢) : إن قلت : (ما بِصاحِبِكُمْ) بم يتعلق؟

قلت : يجوز أن يكون كلاما مستأنفا تنبيها من الله عزوجل على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة. وقد جوّز بعضهم أن تكون «ما» استفهامية.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)

قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) هذا كقول القائل : ما لي في هذا فقد وهبتكه ، يريد : ليس لي فيه شيء.

فالمعنى هاهنا : ما سألتكم عليّ بتبليغ الرسالة من أجر.

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) قال مقاتل (٣) : يتكلم بالحق ، وهو القرآن والوحي.

يريد : أنه يلقيه وينزله على أنبيائه ، أو يرمي به الباطل فيدمغه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٠٣١ ح ٤٩٩٥) ، ومسلم (٢ / ٥٩٢ ح ٨٦٧).

(٢) الكشاف (٣ / ٥٩٩).

(٣) تفسير مقاتل (٣ / ٦٩).

٢٥٧

(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) قال الزجاج (١) : الرفع في «علّام» صفة على موضع «إن ربي» ؛ لأن تأويله : قل ربي علام الغيوب يقذف بالحق ، و «إنّ» مؤكدة. ويجوز الرفع على البدل مما في «يقذف» (٢).

المعنى : قل إن ربي يقذف هو بالحق علام الغيوب.

وقال غيره : يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف (٣).

وقرأ أبو رجاء : «علّام» بالنصب (٤) ، صفة ل «ربي».

وقرئ : «الغيوب» بالحركات الثلاث على الغين ، وقد ذكرنا هذا الأصل في سورة البقرة ، وأن الضم هو الأجود ، والكسر لا بأس به من أجل الياء ، فإن الكسر أشد موافقة للياء من الضمة. وأما فتح الغين فشاذّ ، وهو الأمر الذي خفي وغاب جدا.

(قُلْ جاءَ الْحَقُ) القرآن ودين الإسلام ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ).

قال الزجاج (٥) : «ما» في موضع نصب ، على معنى : وأيّ شيء يبدئ الباطل وأيّ شيء يعيد. والأجود أن يكون «ما» نفيا [على معنى : ما يبدئ الباطل وما يعيد](٦) ، و «الباطل» هاهنا : إبليس. والمعنى : وما يبدئ إبليس وما يعيد ، أي : وما

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٧ ـ ٢٥٨).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١٩٨) ، والدر المصون (٥ / ٤٥٣).

(٣) مثل السابق.

(٤) ذكر هذه القراءة ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٦٦) ، والسمين الحلبي في الدر المصون (٥ / ٤٥٣).

(٥) معاني الزجاج (٤ / ٢٥٨).

(٦) زيادة من الزجاج (٤ / ٢٥٨).

٢٥٨

يبعث ولا يخلق.

قلت : وهذا معنى قول قتادة (١).

وقال الضحاك : الباطل هاهنا : الأصنام لا تبدئ خلقا ولا تحيي (٢).

وقيل : الباطل هو الذي يضاد الحق. فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحق ولم يبق منه بقية يبدي بها أو يعيد.

قال الزمخشري (٣) : الحي إما أن يبدئ فعلا أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فجعلوا قولهم : لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك ، ومنه قول عبيد :

أقفر من أهله عبيد

[فاليوم](٤) لا يبدي ولا يعيد (٥)

والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ؛ كقوله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١].

أخبرنا أبو القاسم السلمي وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان ، أخبرنا عبد الأول ، أخبرنا عبد الرحمن ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا صدقة بن الفضل (٦) ، أخبرنا ابن عيينة ، عن ابن أبي

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٢ / ١٠٦) ، وابن أبي حاتم (١٠ / ٣١٦٨). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٧١١) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ٤٦٦).

(٣) الكشاف (٣ / ٦٠٠).

(٤) في الأصل : فالقوم. والتصويب من مصادر تخريج البيت.

(٥) البيت لعبيد بن الأبرص ، انظر : ديوانه (ص : ٤٥) ، واللسان (مادة : قفر) ، والبحر المحيط (٧ / ٢٧٨) ، والدر المصون (٥ / ٤٥٣) ، وروح المعاني (٢٢ / ١٥٦) ، والكشاف (٣ / ٦٠٠).

(٦) صدقة بن الفضل ، أبو الفضل الحافظ المروزي ، وثقه النسائي وغيره ، مات سنة ثلاث أو ست ـ

٢٥٩

نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله رضي الله عنه قال : «دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» (١). هذا حديث متفق على صحته. وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة.

والنّصب : الصنم المنصوب للعبادة ، ومنه قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣].

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) كما تزعمون يا كفار قريش ، فإنهم كانوا يقولون له : ضللت بترك دين آبائك.

(فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من الحكمة والبيان ، (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) ما تقولون وأقول.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) أي : لو ترى إذ فزعوا يا محمد.

__________________

ـ وعشرين ومائتين (تهذيب التهذيب ٤ / ٣٦٦ ، والتقريب ص : ٢٧٥).

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٨٧٦ ح ٢٣٤٦) ، ومسلم (٣ / ١٤٠٨ ح ١٧٨١).

٢٦٠