فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إحراز ما ذكر قبل التلبّس بالصلاة إنّما هو من باب المقدّمة ، لعدم حصولها غالبا حينه. فما اشتهر في الكتب من أنّ الشرط ما تقدّم على المشروط وجودا ليس بجيّد. اللهمّ إلّا أن يحمل على المسامحة ، وإرادة تحصيله من باب المقدّمة ، وإن كان اتّصافه بوصف الشرطيّة حين التلبّس.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ محلّ الشرط ومرتبته هو حين التلبّس بالمشروط ، فإذا فرغ المكلّف من المشروط فقد خرج من محلّه وتجاوزه. ولا ريب أنّ ما ذكرناه من الشروط شرائط لجميع أجزاء الصلاة ، لاعتبار وجودها عند التلبّس بكلّ جزء جزء منها. فإذا شكّ بعد الشروع في السورة في وقوع الفاتحة في حال الطهارة والاستقبال ونحوهما ، يصدق عليه التجاوز عن محلّ الشرط والدخول في غيره بالنسبة إلى الفاتحة ، فيجب تحصيل الشرط المشكوك فيه بالنسبة إلى الأجزاء الباقية إن أمكن. وكذا الكلام في الآية ، بل الكلمة ، فإذا شكّ في استجماع آية أو كلمة للشرائط بعد الدخول في اخرى صدق التجاوز عن محلّ شرائطهما.

ومن هنا يمكن التفرقة بين محلّ أفعال الصلاة ومحلّ شرائطها على مذهب المشهور ، من كون محلّ كلّ فعل هو ما قبل الدخول في آخر من الأفعال التي لها عنوان مستقلّ في كلماتهم ، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود والقيام والتشهد ونحوها كما تقدّم سابقا. فإذا شكّ في الإتيان بآية بعد الدخول في اخرى يجب الالتفات إلى شكّه ، لعدم تجاوز محلّ المشكوك فيه. وإذا شكّ في الاستقبال في آية بعد الدخول في اخرى لا يلتفت إلى شكّه ، لما عرفت من تجاوز محلّ الشرط حينئذ. وهذا لازم مذهبهم وإن لم يلتزموا به.

ثمّ إنّ المراد بالشروط التي هي مجرى القاعدة هي الشروط الواقعيّة دون العلميّة ، لأنّه إذا قلنا بكون الطهارة عن الخبث شرطا علميّا للصلاة ، فمع الشكّ في طهارة بدنه أو ثوبه يحكم بصحّة صلاته في الواقع ، فلا يصلح مثل هذا الشرط أن يكون موردا للقاعدة ، وهو واضح.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّه يدلّ على الشقّ الأوّل من المدّعى ـ وهو عدم الالتفات إلى الشكّ في الشرط بعد الفراغ من مشروطه بالنسبة إلى أجزاء الصلاة وغيرها ـ ما أشار المصنّف رحمه‌الله من العمومات الواردة في الباب ، ولكن ليعلم أنّ العمدة منها موثّقة ابن أبي يعفور «إنّما الشكّ في شيء لم تجزه» وتقريب الاستدلال بها على وجهين :

أحدهما : أن يفرض الشكّ والفراغ بالنسبة إلى نفس المشكوك فيه ، بأن يقال فيما حصل الشكّ في بعض الشروط عند قراءة آية بعد الدخول في اخرى : إنّ محلّ الشرط المشكوك فيه كان حين قراءة الآية السابقة ، وقد تجاوزه ودخل في غيره.

وثانيهما : أن يفرض الشكّ والفراغ بالنسبة إلى الجزء المشكوك في شرطه ، بأن يقال : إنّ الشكّ قد وقع في الآية السابقة بحسب وجودها الشرعيّ بعد تجاوز محلّها والدخول في غيرها فلا يلتفت إليه ، لأنّ ما هو فاسد كالعدم في نظر الشارع.

هذا بناء على شمول أخبار الباب لكلّ من الشكّ في الوجود والصحّة. ومن هنا يظهر وجه الاستدلال بصحيحة زرارة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء».

وإنّما قلنا إنّ العمدة في المقام هي الموثّقة ، لأنّ الظاهر إطباق القائلين بجريان القاعدة في الشروط على عدم اعتبار الدخول في فعل آخر عند الشكّ في بعض شروط فعل سابق عليه ، وكفاية مجرّد الفراغ من الفعل المشكوك في شرطه في الحكم بعدم الالتفات إليه. وحينئذ يشكل الاستدلال بالصحيحة المعتبرة للدخول في الغير ، على الوجهين في تقريب الاستدلال بها ، بخلاف الموثّقة ، لأنّ ظاهرها بحسب مفهوم العلّة كفاية مجرّد الفراغ ، وتجاوز محلّ المشكوك فيه في عدم الالتفات إلى الشكّ. ولا ينافيه صدرها المعتبرة للدخول في الغير ـ يعني : غير الوضوء ـ عند الشكّ في شيء من الوضوء ، إذ يكفي في الدخول في غير الوضوء مجرّد الفراغ منه ،

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في الموضع الثالث. مضافا إلى الأخبار الخاصّة الدالّة على كفاية مجرّد الانصراف عن الوضوء في عدم الالتفات إلى الشكّ الواقع فيه.

وبالجملة ، إنّ الصحيحة لأجل مخالفتها لما هو ظاهرهم الإطباق عليه يشكل التمسّك بها في المقام. اللهمّ إلّا أن يوجّه بأنّ الشروط وإن قارنت مشروطها وجودا ، إلّا أنّها مقدّمة عليه طبعا ، فيكتفي في صدق الدخول في غيره الشروع في مشروطه ، لتأخّره عن شرطه طبعا وإن قارنه وجودا. نعم ، لمّا كان الشرط مستمرّا مع مشروطه وجودا ، فما لم يحصل الفراغ من مشروطه لم يصدق التجاوز عن محلّه ، فيعتبر الفراغ عن المشروط أيضا ليصدق كلّ من التجاوز والدخول في الغير المتأخّر عن المشكوك فيه ولو طبعا.

هذا كلّه [مضافا](*) إلى إمكان منع شمول الصحيحة للشكّ في الشروط ، إمّا لأنّ خصوصيّة المورد ـ أعني : الشكّ في الأذان والتكبير والقراءة والركوع ـ قرينة على كون المراد في قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» هو الشكّ في وجود الشيء ، لا في صحّته بعد إحراز وجوده. ولكن يدفعه ما تقرّر في محلّه من أنّ خصوصيّة السبب لا تخصّص عموم الجواب. وإمّا لأنّ الظاهر من الشكّ في الشيء لغة وعرفا ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في الموضع الأوّل والسادس ـ هو الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته ، ومرجع الشكّ في وجود الشرط إلى الشكّ في صحّة المشروط.

ومن هنا يظهر إمكان المناقشة في سائر أخبار الباب أيضا. فينحصر الدليل في موثّقة ابن أبي يعفور ، مع إمكان المناقشة فيها بأنّ غايتها الإطلاق من حيث اعتبار الدخول في الغير وعدمه ، وهو مقيّد بما دلّ على اعتبار الدخول في الغير في عدم الالتفات إلى الشكّ ، كما أوضحناه عند شرح ما يتعلّق بكلامه في الموضع الثالث ، فراجع. فلا بدّ حينئذ إمّا من التزام اعتبار الدخول في الغير في الشروط أيضا ، وإمّا

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أثبتناه ليستقيم المعنى.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

من التزام قاعدتين في المقام ، إحداهما جارية في الشكّ في الوجود ، والاخرى في الشكّ في الصحّة ، مع اعتبار الدخول في الغير في الاولى دون الثانية.

والحاصل : أنّ الجمع بين مطلقات الأخبار ومقيّداتها كما يمكن بتقييد مطلقاتها كذلك يمكن بحمل مقيّداتها على صورة الشكّ في الوجود ، ومطلقاتها على صورة الشكّ في الصحّة. ولكن يدفع الأوّل مخالفته لما عرفته من إطباقهم على عدم اعتبار الدخول في الغير في الشروط. والثاني أنّه مخالف لظاهر الأخبار ، لأنّ ظاهرها إعطاء قاعدة واحدة مطّردة في مواردها. مضافا إلى ظهور ما عدا موثّقة ابن أبي ـ يعفور ـ سواء كانت مطلقة أم مقيّدة ـ في الشكّ في الوجود كما تقدّم.

والأولى أن يقال : إنّ قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» في الموثّقة المذكورة أعمّ من الشكّ في الوجود والصحّة ، وغاية ما ثبت من تقييدها ـ من حيث ظهور المقيّد من الأخبار في الشكّ في الوجود كما تقدّم ـ هو تقييدها بالدخول في الغير بالنسبة إلى الشكّ في الوجود دون الصحّة ، إذ لا بدّ في التقييد من الاقتصار على ما اقتضاه دليله. ومن هنا يظهر عدم المنافاة بين اعتبار الدخول في الغير عند الشكّ في الوجود ، وعدم اعتباره والاكتفاء بمجرّد الفراغ عند الشكّ في الصحّة.

ويدلّ على الشقّ الثاني من المدّعى ـ وهو أنّ عدم الالتفات إلى الشكّ في الشرط بالنسبة إلى مشروطه لا يستلزم عدم الالتفات إلى مشروط آخر يريد الإتيان به بعده ـ ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله أيضا من عدم تحقّق التجاوز عن محلّ الشرط المشكوك فيه بالنسبة إلى المشروط الآخر ، فلا بدّ من إحرازه بالنسبة إليه وذلك لأنّ هذه القاعدة ليست من الأدلّة الاجتهاديّة حتّى يثبت بها لوازمها مطلقا ، شرعيّة كانت أو عقليّة أو عاديّة ، لأنّ عدم الالتفات إلى الشكّ بعد تجاوز محلّ المشكوك فيه إنّما ثبت تعبّدا من باب الأخبار ، وثبوت التعبّد بعدم الالتفات إلى الشكّ في تحقّق بعض شرائط المأتيّ به لأجل تجاوز محلّه ، لا يستلزم التعبّد بذلك بالنسبة إلى

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مشروط آخر يريد الإتيان به بعده ، وهو واضح.

نعم ، لو ثبت اعتبار القاعدة من باب الظنّ النوعي ، بأن استند فيه إلى ظهور حال المكلّف المريد للفعل الصحيح أو الغلبة أو بناء العقلاء ، لاتّجه ما ذكر ، لكونها حينئذ من الأمارات الاجتهاديّة ، إلّا أنّه خلاف التحقيق ، إذ العمدة في المقام هي الأخبار العامّة. فلا بدّ حينئذ من التفصيل بين الشروط ، فإن كان الشرط المشكوك فيه ممّا أمكن تحصيله في أثناء العمل بنى على وقوعه بالنسبة إلى الأجزاء السابقة ، وأحرزه بتحصيله في الأثناء بالنسبة إلى اللاحقة ، إن لم يكن حاصلا حين الشكّ. وإن لم يمكن تحصيله في الأثناء ، لاستلزامه للفعل الكثير في أثناء الصلاة ، أو الانصراف عن القبلة ، أو للإجماع على اعتبار استمرار الشرط من ابتداء العمل إلى انتهائه ، كالطهارة من الحدث بالنسبة إلى الصلاة ، لإجماعهم على اعتبار وقوعها بطهارة واحدة في صحّتها أو نحو ذلك ، استأنف العمل فلا بدّ من مراعاة هذا التفصيل في الشروط.

وأمّا أدلّة باقي الأقوال ، فإنّهم وإن لم يذكروا على جملة منها دليلا ، إلّا أنّه يمكن أن يحتج للأوّل ـ وهو الذي اختاره العلّامة في كتبه الثلاثة ، على ما تقدّم عند نقل القول الثاني ـ بوجهين.

وليعلم أوّلا أنّه لم تظهر مخالفته لما اخترناه على سبيل الجزم ، لأنّ تفصيله بين الشكّ في الشرط في أثناء العمل والشكّ فيه بعد الفراغ منه ، بالقول بالالتفات إلى الشكّ في الأوّل دون الثاني ، إنّما استفدناه من تفصيله في كتبه الثلاثة بين الشكّ في الطهارة عن الحدث في أثناء الطواف ، وبين الشكّ فيها بعد الفراغ منه. فإن كان هذا التفصيل بالنسبة إلى خصوص الطهارة من حيث عدم إمكان تداركها في الأثناء انطبق على ما اخترناه. وإن كان ذكر الطهارة من باب المثال ، والمقصود هو التفصيل بين وقوع الشكّ في الأثناء وبعد الفراغ بالنسبة إلى مطلق الشروط ، غاير ما اخترناه.

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدهما : أن يحمل الشيء في الصحيحة «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» على إرادة العناوين الكلّية ، كالصلاة والصوم والإحرام والطواف والسعي ونحوها ، والخروج منها إنّما يتحقّق بالفراغ منها ، فإذا شكّ في الأثناء في بعض شرائطها التفت إليه ، بخلاف ما لو حصل بعد الفراغ منه فلا يلتفت إليه.

وثانيهما : أنّ القاعدة لو عمّت الشكّ في الشرائط في أثناء العمل لزم التعارض بين منطوق الروايات ومفهومها ، لأنّه إذا شكّ بعد الفراغ من الفاتحة في حصولها حال الاستقبال أو الطهارة أو نحوهما ، فكما يحصل الشكّ في صحّة الفاتحة كذلك يحصل الشكّ في صحّة الصلاة ، وكما أنّ الصحيحة تدلّ منطوقا على عدم الاعتناء بالشكّ الأوّل ، كذلك تدلّ مفهوما على الاعتناء بالشكّ الثاني.

والجواب عن الأوّل : بأنّ الشيء عامّ ، فلا دليل على تخصيصه بما ذكر ، فهو يشمل الخروج من القراءة ، بل الفاتحة ، بل الآية منها ، بل الكلمة منها.

وعن الثاني : بأنّ الشكّ في المجموع مسبّب عن الشكّ في الجزء ، فإذا زال الشكّ عن الجزء بحكم القاعدة زال عن الكلّ أيضا ، كما قرّر في مسألة المزيل والمزال بل ليس هنا إلّا شكّ واحد ، لأنّ الشكّ في الكلّ عين الشكّ في الجزء ، وليس مغايرا له ، بل هما متّحدان بالذات متغايران بالإضافة والاعتبار ، نظير حركة جالس السفينة بحركتها التي تنسب إليها بالأصالة وإليه بالاعتبار ، فيكون الشكّ في الجزء هو مورد القاعدة خاصّة ، ولا يكون من مسألة المزيل والمزال في شيء.

وللقول الثاني بدعوى ظهور أخبار الباب ـ ما عدا موثّقة ابن أبي يعفور ـ في الشكّ في وجود الشيء لا في صحّته ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله في الموضع الأوّل والسادس.

وأمّا الموثّقة فلا يقول صاحب المدارك باعتبارها. ولعلّ الفاضل الهندي أيضا يوافقه في ذلك. مع أنّ دلالتها لا يخلو من إجمال ، لأنّ ظاهرها ـ وهو عدم

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الالتفات إلى الشكّ فيما لو شكّ في بعض أجزاء الوضوء بعد الدخول في جزء آخر منه ـ غير مراد بالإجماع ، فلا بدّ أن يرجع ضمير «غيره» في قوله : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» إلى الوضوء دون الشيء. وحينئذ يقع الإشكال فيما علّله بقوله : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» لأنّ مقتضاه أنّ الشكّ الذي يجب الالتفات إليه هو ما وقع في أثناء العمل ، وهو غير معقول. اللهمّ إلّا أن يفرض المشكوك في أثنائه مركّبا ذي أجزاء وقع الشكّ في أثنائه باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا.

فيكون محصّل العلّة بضميمة موردها : أنّ الشكّ الذي يجب الالتفات إليه هو الشكّ الذي وقع في أثناء المركّب باعتبار الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، وأنّ الشكّ الذي لا يلتفت إليه هو الشكّ الذي وقع في بعض ما يعتبر في المركّب بعد الفراغ منه. وهذا وإن صحّ في الوضوء ، إلّا أنّه لا ينطبق على شيء من المذاهب في مثل الصلاة ، إذ لا ريب في عدم الاعتداد بالشكّ في القراءة إذا حصل عند التسليم ، سواء قلنا بمذهب الشيخ والعلّامة أو المشهور أو الأردبيلي قدّس الله أسرارهم. والالتزام بظاهر العلّة والبناء على خروج ما أخرجه الدليل ، بأن يقال : إنّ كلّ مركّب وقع الإجماع على عدم الالتفات فيه إلى الشكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا قبل الفراغ منه فهو ، وإلّا فمقتضاها الالتفات إلى مثل هذا الشكّ ، يحتاج إلى جرأة عظيمة على مخالفة العلماء إن لم ينعقد الإجماع على خلافه.

والجواب : أمّا عن عدم حجّية الأخبار الموثّقة ، فبأنّه خلاف التحقيق كما قرّر في محلّه. وأمّا عن إجمال صدرها ، فبأنّ الإجماع المذكور قرينة على إرجاع ضمير «غيره» إلى الوضوء. وأمّا عن إجمال العلّة وعدم وجود القول بمقتضاها ، فبمنع إجمالها ، لأنّ المتبادر من الشكّ في الشيء حين الكون فيه هو الشكّ فيه قبل تجاوز محلّه ، وهو منطبق على الشكّ في الجزء والشرط ونفس المركّب والمشروط ،

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على الوجه الذي تقدّم تحقيقه في بيان ما اخترناه. ويؤيّده سائر أخبار الباب ، لأنّ قوله عليه‌السلام في صحيحتي زرارة والحلبي : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» ظاهر في الخروج من محلّ الشّيء ، لأنّ الخروج من الشيء ظاهر في القطع بوجوده والشكّ في بعض أوصافه ، وهو محمول على إرادة الخروج من محلّه ، لينطبق على موردهما من الشكّ في أصل وجود الشيء.

وللقول الثالث بحمل العمومات على إمضاء طريقة العقلاء ، وما هو الظاهر من حال العاقل المريد للفعل المكلّف به من إبراء ذمّته عمّا تعلّق بها ، لأنّ العاقل لا يقدم على الفعل فيما يريد إبراء ذمّته به إلّا بعد إحراز جميع ما يعتبر فيه. وكذلك طريقة العقلاء مستقرّة على عدم الالتفات إلى الشكّ بعد التّهيؤ ، فضلا عن الدخول في المشروط والفراغ منه.

والجواب : منع ظهور ذلك من الأخبار ، لبعده عن مساقها. وبنائهم أيضا لم يثبت بحيث ينهض دليلا بنفسه.

وأمّا ما احتملناه في تضاعيف الأقوال من التفصيل ، فيمكن الاحتجاج له بأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو البناء على المضيّ في المشروط الذي شكّ في شرطه في حال التّهيؤ له أو بعد الدخول فيه ، دون سائر الغايات الأخر التي يريد الإتيان بها بعده. والجواب عنه يظهر بعد ضعف القول السابق الذي هو مبناه.

وللقول الرابع بأنّ محلّ الشروط التي لا يمكن تحصيلها في أثناء مشروطها هو ما قبل المشروط ، لعدم قابليّة أثنائه لذلك ، فبمجرّد الدخول في المشروط يتحقّق التجاوز عن محلّ هذه الشروط ، فلا يلتفت إلى الشكّ فيها بعد الدخول فيه بمقتضى العمومات ، بخلاف الشروط التي يمكن تحصيلها في الأثناء ، لأنّها حيث كانت شروطا لجميع أجزاء الصلاة مثلا ، فمحلّها بالنسبة إلى كلّ جزء هو محلّ الإتيان بهذا الجزء. فإذا شكّ في تحقّق شرط الجزء السابق بعد الدخول في آخر ، فقد تحقّق التجاوز عن محلّ الشرط بالنسبة إلى الجزء السابق ، ولم يتحقّق التجاوز عن محلّه

٤٨

بالنسبة إلى الفراغ عن المشروط ـ بل الدخول فيه ، بل الكون على هيئة الداخل ـ حكم الأجزاء في عدم الالتفات ، فلا اعتبار بالشكّ في الوقت والقبلة واللباس والطهارة بأقسامها والاستقرار ونحوها بعد الدخول في الغاية. ولا فرق بين الوضوء وغيره ، انتهى. وتبعه بعض من تأخّر عنه. واستقرب (٢٦٣٩) في مقام آخر إلغاء الشكّ في الشرط بالنسبة إلى غير ما دخل فيه من الغايات. وما أبعد ما بينه وبين ما ذكره بعض الأصحاب من اعتبار الشكّ في الشرط حتّى بعد الفراغ عن المشروط ، فأوجب إعادة المشروط.

______________________________________________________

بالنسبة إلى الجزء الذي دخل فيه ، وكذا غيره من الأجزاء اللاحقة ، فيجب إحرازه بالنسبة إليها إن لم يستلزم فساد الصلاة من جهة اخرى ، كإزالة النجاسة المستلزمة للفعل الكثير في أثنائها في بعض الصور ، بخلاف الطهارة عن الحدث ، فإنّ عدم جواز تجديدها في أثنائها ليس لذلك ، بل للإجماع على عدم صحّة الصلاة إلّا بطهارة واحدة ، وإن فرض عدم استلزام تجديدها في الأثناء للفعل الكثير.

والجواب : أنّ ما ذكره فيما يمكن تحصيله في أثناء العمل من الشروط موافق للتحقيق وأمّا بالنسبة إلى ما لا يمكن تحصيله في الأثناء ، فيرد عليه ما قدّمناه عند بيان ما اخترناه من كون محلّ الشروط مطلقا مقارنا لمحلّ مشروطها ، لمقارنتها له في الوجود ، فراجع. فإذا شكّ في وقوع الفاتحة مع الطهارة بعد الدخول في السورة ، فالتجاوز عن محلّ الطهارة وإن تحقّق بالنسبة إلى الفاتحة ، إلّا أنّه باق بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة. وعدم جواز تجديدها بالنسبة إليها ـ وإن فرض عدم استلزامه للفعل الكثير ـ إنّما هو للإجماع على وقوع جميع أجزاء الصلاة بطهارة واحدة ، وإلّا كان مقتضى القاعدة هو الحكم بالصحّة مع تجديدها في الأثناء إن لم يلزم البطلان من جهة اخرى ، كسائر الشروط التي لم يمنع الإجماع من تجديدها في الأثناء على ما أسلفناه ، والله العالم بحقيقة الحال.

٢٦٣٩. يعني : بعض الأساطين.

٤٩

والأقوى : التفصيل بين الفراغ عن المشروط فيلغو الشكّ في الشرط بالنسبة إليه ، لعموم لغويّة الشكّ في الشيء بعد التجاوز عنه ، وأمّا بالنسبة إلى مشروط آخر لم يدخل فيه فلا ينبغي الإشكال في اعتبار الشكّ فيه ، لأنّ الشرط المذكور من حيث كونه شرطا لهذا المشروط لم يتجاوز عنه ، بل محلّه باق ، فالشكّ في تحقّق شرط هذا المشروط شكّ في الشيء قبل تجاوز محلّه.

وربّما بنى بعضهم ذلك (٢٦٤٠) على أنّ معنى عدم العبرة بالشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ ، هو البناء على الحصول مطلقا (٢٦٤١) ولو لمشروط آخر ، أو يختصّ بالمدخول. أقول : لا إشكال في أنّ معناه البناء على حصول المشكوك فيه ، لكن بعنوانه الذي يتحقّق معه تجاوز المحلّ ، لا مطلقا. فلو شكّ في أثناء العصر في فعل الظهر بنى على تحقّق الظهر بعنوان أنّه شرط للعصر (٢٦٤٢) ولعدم وجوب العدول إليه ، لا على تحقّقه مطلقا حتى لا يحتاج إلى إعادتها بعد فعل العصر. فالوضوء المشكوك فيما نحن فيه إنّما فات محلّه من حيث كونه شرطا للمشروط المتحقّق ، لا من حيث كونه شرطا للمشروط المستقبل.

ومن هنا يظهر أنّ الدخول في المشروط أيضا لا يكفي في إلغاء الشكّ في الشرط ، بل لا بدّ من الفراغ عنه ، لأنّ نسبة الشرط إلى جميع أجزاء المشروط نسبة واحدة ، وتجاوز محلّه (٢٦٤٣) باعتبار كونه شرطا للأجزاء الماضية ، فلا بدّ من إحرازه للأجزاء المستقبلة. نعم ، ربّما يدّعى في مثل الوضوء أنّ محلّ إحرازه لجميع أجزاء الصلاة قبل الصلاة (٢٦٤٤) لا عند كلّ جزء.

______________________________________________________

٢٦٤٠. أي : الشكّ في الشرط بالنسبة إلى الغايات الأخر.

٢٦٤١. فيعمّ جميع الغايات المدخول فيها وغيره.

٢٦٤٢. فإنّ محلّ الظهر باعتبار أنّها شرط للعصر إنّما هو قبلها ، وأمّا باعتبار أنّها واجب في نفسها فمحلّها باق ما لم يخرج الوقت ، ولذا يجب الإتيان بها بعد العصر لو نسيها قبلها.

٢٦٤٣. مبتدأ وخبره قوله «باعتبار».

٢٦٤٤. فبالدخول فيها يتحقّق التجاوز عن محلّه.

٥٠

ومن هنا قد يفصّل بين ما كان من قبيل الوضوء ممّا يكون محلّ إحرازه قبل الدخول في العبادة ، وبين غيره ممّا ليس كذلك ، كالاستقبال والستر ، فإنّ إحرازهما ممكن في كلّ جزء ، وليس المحلّ الموظّف لإحرازهما قبل الصلاة بالخصوص ، بخلاف الوضوء. وحينئذ فلو شكّ في أثناء الصلاة في الستر أو الساتر وجب عليه إحرازه في أثناء الصلاة للأجزاء المستقبلة.

والمسألة لا تخلو عن إشكال ، إلّا أنّه ربّما يشهد لما ذكرنا ـ من التفصيل بين الشكّ في الوضوء في أثناء الصلاة ، وفيه بعده ـ صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليهما‌السلام ، قال : " سألته عن الرجل يكون على وضوء ثمّ يشكّ ، على وضوء هو أم لا؟ قال : إذا ذكرها (٢٦٤٥) وهو في صلاته انصرف وأعادها ، وإن ذكر وقد فرغ من صلاته أجزأه ذلك" (٨) ، بناء على أنّ مورد السؤال (٢٦٤٦) الكون على الوضوء باعتقاده ثمّ شكّ في ذلك.

الموضع السادس : أنّ الشكّ في صحّة الشيء المأتي به حكمه حكم الشكّ في الإتيان ، بل هو هو ، لأنّ مرجعه إلى الشكّ في وجود الشيء الصحيح. ومحلّ الكلام ما لا يرجع (٢٦٤٧) فيه الشكّ إلى الشكّ في ترك بعض ما يعتبر في الصحّة ، كما لو شكّ في تحقّق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكنّ الإنصاف أنّ الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأنّ الظاهر من أخبار الشكّ في الشيء اختصاصها بغير هذه الصورة ، إلّا أن يدّعى تنقيح المناط أو يستند فيه إلى بعض ما يستفاد منه

______________________________________________________

٢٦٤٥. يعني : حالة شكّه.

٢٦٤٦. بأن كان مورد السؤال من قبيل الشكّ الساري لا الشكّ المعتبر في مورد الاستصحاب ، أعني : الشكّ في البقاء ، إذ لو كان من قبيل الثاني لم يكن له دخل فيما نحن فيه ، مضافا إلى مخالفته للإجماع في الجملة.

٢٦٤٧. حاصله : أنّ محلّ الكلام في الموضع الخامس (*) هو الشكّ في الشروط

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة. وهو سهو من قلمه الشريف قدس‌سره ، لأنّ الكلام في الموضع السادس كما تراه في المتن.

٥١

العموم مثل موثّقة ابن أبي يعفور ، أو يجعل أصالة الصحّة في فعل الفاعل المريد للصحيح أصلا برأسه ، ومدركه ظهور حال المسلم.

قال فخر الدين في الإيضاح في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطهارة : إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح ، وهو يعلم الكيفية والكميّة ، الصحّة (٩) ، انتهى. ويمكن استفادة اعتباره من عموم التعليل المتقدّم في قوله : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" ، فإنّه بمنزلة صغرى لقوله : " فإذا كان أذكر

______________________________________________________

التي لها وجود مستقلّ مع قطع النظر عن وجود مشروطها ، كالطهارة والاستقبال والستر ونحوها ، حتّى تكون بنفسها موردا للشكّ في الوجود ، لتجري فيها القاعدة بنفسها ، وإن قلنا بعدم شمولها للشكّ في الصحّة ، وفي هذا الموضع [ما](*) لم يكن كذلك ، بل يعدّ المشكوك فيه من كيفيّات المشروط وموجودا بوجوده ، كأداء الحروف من المخارج ، وعلى الإعراب المقرّر في النحو ، وعلى الترتيب المقرّر في اللغة ، وكالموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية أو نحو ذلك.

ولكنّك خبير بأنّ لكلّ ممّا ذكر أيضا وجودا مغايرا للمشروط. اللهمّ إلّا أن يقال ذلك بحسب الدقّة ، وإلّا فما ذكر لا يعدّ مغايرا للمشروط بحسب الوجود في نظر أهل العرف ، وهو المعتبر في صدق الأدلّة اللفظيّة.

ثمّ إنّه على تقدير جريان القاعدة في الشكّ في الصحّة ، فالكلام في اعتبار الدخول في الغير وعدمه في عدم الالتفات إلى الشكّ والالتفات إليه ، نظير ما تقدّم في سائر الشروط عند بيان ما اخترناه ، فراجع إلى ما ذكرناه عند شرح كلامه في الموضع السادس (**). وكذا الكلام في محلّ هذه الشروط نظير ما تقدّم هناك.

__________________

(*) كلمة «ما» مثبتة في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّها من زيادة النسّاخ ومخلّة بالمعنى.

(**) هذا أيضا سهو من قلمه الشريف قدس‌سره ، والصحيح : الخامس ، لأنّ الكلام في سائر الشروط مضى مشروحا في الموضع الخامس.

٥٢

فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد به إبراء ذمّته" ، لأنّ الترك سهوا خلاف فرض الذكر ، وعمدا خلاف إرادة الإبراء.

الموضع السابع : الظاهر أنّ المراد بالشكّ في موضوع هذا الأصل ، هو الشكّ الطارئ بسبب الغفلة عن صورة العمل. فلو علم كيفيّة غسل اليد وأنّه كان بارتماسها في الماء ، لكن شكّ في أنّ ما تحت خاتمه ينغسل بالارتماس أم لا ، ففي الحكم بعدم الالتفات ، وجهان : من إطلاق بعض الأخبار ، ومن التعليل بقوله : " هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ" ، فإنّ التعليل يدلّ على تخصيص الحكم بمورده (٢٦٤٨) مع عموم السؤال ، فيدلّ على نفيه عن غير مورد العلّة.

نعم ، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسيانا أو تركه تعمّدا ، والتعليل المذكور بضميمة (٢٦٤٩) الكبرى المتقدّمة يدلّ على نفي الاحتمالين.

ولو كان الشكّ من جهة احتمال وجود الحائل على البدن ، ففي شمول الأخبار له ، الوجهان. نعم ، قد يجري هنا أصالة عدم الحائل فيحكم بعدمه حتّى لو لم يفرغ عن الوضوء ، بل لم يشرع في غسل موضع احتمال الحائل ، لكنّه من الاصول المثبتة. وقد ذكرنا بعض الكلام في ذلك في بعض الامور المتقدّمة.

______________________________________________________

٢٦٤٨. يعني : بمورد التعليل ، وهو ما يتحقّق فيه الأذكريّة. والسؤال في الرواية وإن كان عامّا ، إلّا أنّ خصوصيّة العلّة من حيث أظهريّتها مقدّمة على عموم السؤال ، كما أنّ السؤال لو كان خاصّا والعلّة عامّة يؤخذ بعموم العلّة. وقد أشار إليه المصنّف رحمه‌الله عند الاستدلال بآية النبأ على حجّية خبر الواحد ، فراجع.

٢٦٤٩. توضيحه : أنّ قوله : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» وارد في مقام بيان ظاهر حال المسلم المريد لإبراء ذمّته عمّا اشتغلت به ، وظاهر حاله عدم تركه ما يوجب فساد عمله عمدا ، كذا عدم تركه ما يوجب ذلك سهوا ، لأنّ الأوّل خلاف إرادة الإبراء ، والثاني خلاف الذكر. وتخصيص الأذكريّة في العلّة بالذكر إنّما هو لأجل وضوح عدم إقدام المريد للإبراء إلى الترك العمدي. واحتمال النسيان أيضا مندفع بأكثريّة الذكر وغلبته حين العمل وحاصل التعليل

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

حينئذ أنّ المريد للفعل لا يقدم إلى تركه عمدا ، لأنّه خلاف الإرادة ، ولا سهوا ، لأنّه أكثر تذكّرا للفعل حين العمل من غير هذه الحالة ، لندرة النسيان حين العمل.

ومن هنا يظهر الوجه في ضمّ المصنّف رحمه‌الله للكبرى إلى التعليل في نفي الاحتمالين ، وعدم استناده في ذلك إلى مجرّد العلّة. وحاصله : أنّ العلّة بملاحظة موردها تنفي الاحتمالين.

ثمّ اعلم أنّ للقاعدة فروعا مهمّة أخر قد أهملها المصنّف رحمه‌الله في المقام ، ولا بأس بالإشارة إليها على ما تقتضيه الحال ويسعه المجال.

الأوّل : أنّ المراد بالشكّ في مورد أخبار الباب هو المعنى المراد به في باب الاستصحاب ، أعني : الأعمّ من متساوي الطرفين ومن الظنّ غير المعتبر ، لكون الشكّ لغة أعمّ منهما. بل يظهر من الفيّومي اتّفاق أهل اللغة عليه ، قال : «قال أئمّة اللغة : الشكّ خلاف اليقين ، فقولهم : خلاف اليقين هو التردّد بين شيئين ، سواء استوى طرفاه أو رجح أحدهما على الآخر» انتهى. فلو شكّ في وقوع الفعل أو صحّته بنى عليهما وإن كان عدمهما مظنونا.

نعم ، قد استثنيت من ذلك الشكوك الواقعة في أثناء الصلاة ، فلو شكّ في القراءة أو الركوع أو غيرهما بعد الفراغ منها ، أو بعد الدخول في غيرها مع الظنّ بعدم الإتيان بها ، بنى على عدم وقوعها ، وإن اقتضت القاعدة خلافه. والدليل عليه هو النصّ ، لأنّه وإن ورد في عدد الركعات إلّا أنّه يثبت حكم الأفعال به أيضا بالأولويّة ، كما تمسّك به في المدارك ، لأنّ الركعة عبارة عن الأفعال المجتمعة ، فإذا اعتبر الظنّ في المجموع ففي الأجزاء بطريق أولى. ووجه تقدّم الظنّ على القاعدة حكومة أدلّته على أدلّتها.

الثاني : أنّ أخبار الباب قد وردت في الصلاة والطهارات ، وظاهر المعتنين بالفقه ـ كالشيخ والفاضلين والشهيد وغيرهم ـ عدم تعدّيهم عن مواردها ، ولعلّهم فهموا منها اختصاص القاعدة بها ، ولذا لم يتمسّكوا بها في غيرها من أبواب

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادات والمعاملات والسياسات مع كثرة مواردها فيها. نعم ، تمسّك بها فيها غير واحد من أواخر المتأخّرين ، أوّلهم فيما أعلم فقيه عصره صاحب كشف الغطاء ، وإطلاق الأخبار جوابا وتعليلا يساعدهم. واختصاص مواردها بالصلاة والطهارات لا يضرّ في المقام ، لما تقرّر في محلّه من أنّ خصوصيّة السبب لا تخصّص عموم الجواب ، سيّما مع تعاضده بعموم العلّة في بعضها. نعم ، قوله عليه‌السلام : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فتذكّرته تذكّرا فامضه كما هو» لا دلالة فيه على العموم بالنسبة إلى غير ما ذكر فيها ، لكنّه لا ينافي عموم غيرها ، لعدم إفادته حصر الحكم فيما ذكر فيه. فالتعميم لا يخلو من قوّة.

الثالث : أنّه إذا شكّ في بعض أفعال الصلاة أو غيرها بعد الدخول في فعل آخر محكوم شرعا بهدمه ، كما إذا شكّ في السجود بعد القيام في الركعة الثانية مع نسيان التشهّد ، فإنّه محكوم بهدم القيام والجلوس للتشهّد ، ففي عدم الالتفات إلى الشكّ في السجود ، بأن كان مكلّفا بالجلوس للتشهّد من دون سجود ، أو وجوب الالتفات إليه ، بأن كان مكلّفا بالجلوس لكلّ من السجود والتشهّد ، وجهان ، من كون الفعل المحكوم بهدمه شرعا بمنزلة عدمه ، فلا يصدق معه الدخول في الغير ولو شرعا ، ومن صدق الدخول في الغير حقيقة ، وأنّ الأمر بهدمه لأجل التشهّد لا يستلزم ذلك بالنسبة إلى السجود أيضا.

ويحتمل التفصيل في المقام ، بأنّ الشكّ في السجود بعد الدخول في القيام إن كان قبل تذكّر نسيان التشهّد يجلس للتشهّد من دون سجود ، لأنّه بمجرّد الشكّ قبل التذكّر كان محكوما بالمضيّ في صلاته وعدم العود للسجود ، فإذا تذكّر نسيان التشهّد بعده وكان محكوما بالجلوس له فهو لا يستلزم زوال الأمر الأوّل ، لعدم كشفه عن خلافه بحسب الواقع.

نعم ، لو كان تذكّره لنسيان التشهّد مستلزما لعلمه بترك السجود ، كان المتّجه حينئذ وجوب العود لكلّ منهما ، وإذ ليس فليس. مضافا إلى إمكان استصحاب

٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر الأوّل ، لأنّ موضوعه الشكّ في السجود ، وهو باق بعد ، فتأمّل ، وإن كان بعد تذكّره يجلس لكلّ منهما ، لأنّه بمجرّد تذكّره كان محكوما بهدم القيام ، فهو بمنزلة الشكّ قبل القيام ، لعدم الاعتداد شرعا بالقيام الذي حصل الشكّ في حالته ، لسبق الأمر بهدمه بالفرض ، بخلاف الصورة الاولى.

وأوجه الوجوه أوّلها ، للشكّ في انصراف أخبار الباب إلى مثل المقام. ومجرّد الشكّ في شمولها له كاف في وجوب العود للسجود ، لاستصحاب عدمه ، إذ المانع من العمل به ليس إلّا عموم القاعدة ، وقد فرضنا عدم شموله للمقام.

الرابع : أنّ الأمر بالمضيّ وعدم الالتفات إلى الشكّ بعد الدخول في فعل آخر هل هو للعزيمة أو الرخصة؟ والأوّل هو المشهور. والثاني ممّا احتمله الشهيد في الذكرى. والأوّل هو الأقوى ، لا لظهور الأوامر فيه كي يمنع لأجل وقوعها في مقام الحظر ، لأنّ مقتضى استصحاب العدم عدم جواز المضيّ ، بل لأنّ الأمر الواقع في مقام الحظر أو توهّمه وإن لم يفد سوى ارتفاع المنع الثابت أو المتوهّم ، إلّا أنّ ذلك لا يفيد الرخصة ، بمعنى جواز الفعل والترك مطلقا ، بل يكون حكم مورد الأمر تابعا لموارده ، فإن كان المحلّ قابلا للإباحة فهو ، وإلّا فالعود في مثل المقام ـ أعني : أفعال الصلاة ونحوها من العبادات ـ والإتيان بالمشكوك فيه يحتاج إلى العلم بوجود الأمر به ، لأنّ الفرض كونه عبادة متوقّفة على قصد القربة ، وهو غير حاصل من دون العلم بالأمر ، فيكون الإتيان به تشريعا محرّما. والمشهور إن أرادوا بكون الأمر للعزيمة هذا المعنى فنعم الوفاق ، وإن أرادوا به ظهور الأوامر فيها فقد عرفت ضعفه.

ثمّ إنّ هذا إنّما هو فيما كان العود مخالفا للاحتياط ، وإلّا فلا إشكال في جواز العود والإتيان بالمشكوك فيه بقصد القربة المطلقة ، وذلك لأنّ الشكّ إن كان في بعض أفعال الصلاة بعد الدخول في آخر ، كالقراءة والركوع والسجود والقيام ونحوها ممّا لا يلتفت إلى الشكّ في بعضها بعد الدخول في آخر عند المشهور

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

على ما تقدّم سابقا ، فالعود مخالف للاحتياط ، لاحتمال تكرّر الفعل المشكوك فيه حينئذ عن عمد ، وهو مبطل للصلاة. وإن كان في بعض الأذكار الواجبة في الأفعال بعد الدخول في ذكر آخر ، كالشكّ في آية بعد الدخول في اخرى ، أو في إحدى تسبيحات الركوع أو السجود أو إحدى الركعتين الأخيرتين بعد الدخول في تسبيح آخر ، وكذا في أجزاء التشهّد والتسليم ، فالعود حينئذ والإتيان بالمشكوك فيه بقصد القربة المطلقة موافق للاحتياط ، لجمعه بين قول المشهور والقول بعموم القاعدة لجميع أفعال الصلاة وأذكارها ، لأنّ العود على القول الثاني وإن كان ممنوعا لأجل استلزامه التشريع المحرّم كما تقدّم ، إلّا أنّه إنّما يتأتّى في صورة الإتيان بالمشكوك فيه بقصد الجزئيّة والأمر بالخصوص ، كما هو مقتضى استصحاب العلم به. وهو لا ينافي جواز الإتيان به بقصد القربة المطلقة ، لأنّه على تقدير الإخلال به في نفس الأمر محرز للواقع ، وعلى تقدير عدمه من قبيل الذكر غير المخلّ بصحّة الصلاة ، فهو ينوي به القربة المطلقة وإن كان في الواقع مردّدا بين كونه جزءا أو ذكرا ، فالقول بوجوب المضيّ بالمعنى المتقدّم لا ينافي مثل هذا الاحتياط.

نعم ، لو كان العود مخلّا بالموالاة أمكن المنع منه على القول بالعموم أيضا من هذه الجهة ، كما لو قرأ بعد الفاتحة من السور الطوال وشكّ في آخرها في أوّل آية منها ، بحيث لو أعاد أخلّ بالموالاة المعتبرة بين السورة والركوع.

وكيف كان ، فحيثما أمكن الاحتياط في أثناء الصلاة وتركه وبنى على وقوع المشكوك فيه ، فهل يجوز له إعادتها بعد إتمامها احتياطا ، لاحتمال ترك المشكوك فيه ، أو لا يشرع له هذا الاحتياط؟ الظاهر هو الأوّل ، لأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال. ومجرّد إمكانه في الأثناء وتركه اختيارا لا يمنع ذلك ، وهو واضح وأولى منه بذلك ما لا يمكن فيه الاحتياط في الأثناء على ما عرفت.

٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا كلّه فيما تبيّن كون الأمر بالمضيّ للعزيمة أو الرخصة ، وكذا تبيّن محلّ المشكوك فيه بأنّه ما قبل الدخول في فعل آخر مطلقا كما هو المختار ، أو فعل آخر من الأفعال المعنونة في كلمات العلماء كما هو المشهور على ما تقدّم ، وعدم تبيّن محلّ الشكّ مبنيّ على القول بعدم اعتبار الاستصحاب ، أو بناء على عدم جريانه في المقام ، لأجل العلم الإجمالي على ما سيجيء ، وإلّا فمقتضى استصحاب العدم وجوب العود والإتيان بالمشكوك فيه ما لم يدخل في فعل آخر من الأفعال المعنونة في كلمات الأصحاب ، لأنّ هذا هو المتيقّن حينئذ من عدم جريان الاستصحاب لأجل القاعدة.

فإذا لم يتبيّن شيء من الأمرين ، فإذا حصل الشكّ في فعل بعد الدخول في آخر مع احتمال بقاء محلّ المشكوك فيه ، كما إذا شكّ في آية بعد الدخول في اخرى ، لاحتمال بقاء محلّها إلى الركوع كما هو المشهور ، فالأوفق بالاحتياط لمثل هذا المكلّف المتردّد إبطال عمله واستئنافه من رأس. وحكي عن جماعة ـ كالوحيد البهبهاني وصاحب الرياض والجواهر ـ تكرار العمل بالبناء على وقوع المشكوك فيه والمضيّ على عمله بقصد القربة المطلقة ، ثمّ إعادته ثانيا مع المشكوك فيه كذلك. وما ذكرناه أحوط ، لاستلزام ما ذكروه لإلغاء قصد الوجه المعتبر عند المشهور ، بخلافه على ما ذكرناه من الإبطال والاستئناف ، فتدبّر.

الخامس : أنّه لا إشكال في جريان القاعدة فيما لو حصل الشكّ في فعل بعد الدخول في فعل آخر. وأمّا لو حصل قبله فذهل فدخل في غيره ثمّ التفت إلى شكّه ، ففي الالتفات إلى شكّه وعدمه وجهان ، من صدق قوله عليه‌السلام في الصحيحة : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» لعدم اعتباره لحصول الشكّ بعد الدخول في غيره ، ومن اعتبار ذلك في أكثر روايات الباب حتّى الصحيحة بحسب مفهومها ، لدلالتها بحسبه على وجوب العود مع حصول الشكّ قبل الدخول في غيره. ولا أقلّ من الشكّ في شمول الأخبار للمقام ، فيستصحب

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم المشكوك فيه حينئذ ، إذ لا مانع منه سوى شمول القاعدة للمقام ، وقد فرضنا عدمه. وهذا هو الأقوى.

نعم ، لو شكّ بعد الدخول في غيره في محلّ الفرض في الإتيان بالمشكوك فيه ، حين الشكّ فيه بأن شكّ في فعل قبل الدخول في غيره ، ثمّ ذهل فدخل في غيره والتفت إلى شكّه ، ولكن شكّ حينئذ في العمل بمقتضى شكّه قبل الدخول في الغير ، فالظاهر جريان القاعدة فيه ، لأنّ الشكّ في الإتيان بالمشكوك فيه قبل الدخول في الغير شكّ طار مغاير للشكّ قبل الدخول في الغير ، لأنّ الشكّ الأوّل متعلّق بالعمل بمقتضى الثاني ، فلا يعتدّ به للقاعدة.

السادس : أنّه إذا شكّ في بعض أجزاء الصلاة أو غيرها بعد الدخول في غيره ، فهو على وجوه :

أحدها : أن يكون ملتفتا وبانيا من أوّل الأمر على الإتيان بالمأمور به بجميع أجزائه وشرائطه وخاليا من جميع موانعه ، فذهل بعد الدخول فيه فشكّ في الإتيان ببعض ما يعتبر فيه بعد الفراغ من محلّه أو بعد الدخول في غيره. ولا إشكال في شمول أدلّة القاعدة لهذه الصورة من الأخبار ، وما اشتملت عليه من التعليل من قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» وقوله عليه‌السلام : «وأنّه حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» وكذا الأدلّة الاعتباريّة من بناء العقلاء ، وظهور حال العاقل المريد لإبراء ذمّته عمّا اشتغلت به ، والغلبة كما أشرنا إليه سابقا. ولا فرق فيه بين كون المحتمل ترك ما يعتبر في العمل عن عمد أو عن سهو.

وثانيها : أن لا يكون من ابتداء العمل بانيا على ذلك ، لا بمعنى البناء على عدم الإتيان بما يعتبر في العمل ، بل بمعنى الدخول في الفعل من دون التفات إلى ذلك. وهذا يتمّ في غير العبادات المفتقرة إلى قصد القربة ، إذ يعتبر فيها القصد إلى العمل بجميع أجزائه ، فيكون الشكّ في بعض أجزائها من قبيل الصورة الاولى. نعم ، يتمّ

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك فيها بالنسبة إلى شرائطها وموانعها ، لعدم اعتبار القصد إليها فيها من أوّل الأمر.

وكيف كان ، فظاهر الأصحاب جريان القاعدة في هذه الصورة أيضا ، لعدم مصرّح بالفرق بين الصورتين ، ولذا صرّح جماعة بصحّة الأعمال السابقة مطلقا ، كالعبادات التي يحتمل وقوعها بدون تقليد ، أو مع فقد شرط آخر ، أو وجود مانع ، أو الإخلال ببعض أجزائها. ويدلّ عليه إطلاق صحيحتي زرارة والحلبي.

نعم ، ربّما يشكل بالتعليل بالأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ حين العمل منه حين يشكّ ، لعدم تحقّق الأفضليّة مع عدم البناء من أوّل الأمر على الإتيان بالعمل بجميع ما يعتبر فيه بالمعنى الذي عرفته. ولعلّهم لم يطّلعوا على الأخبار المعلّلة ، أو رموها بالضعف على زعمهم ، أو حملوها على بيان الحكمة دون العلّة حتّى يلزم اطّرادها.

وأنت خبير بأنّ إعراضهم عن هذه الأخبار كاف في الإعراض عنها ، إذ لم يراع أحد منهم تحقّق الأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ في جريان القاعدة ولو بحسب النوع ، لعدم تحقّق ذلك في هذه الصورة ولو نوعا ، فلا يبعد حملها على بيان الحكمة.

هذا كلّه فيما حصل الشكّ في بعض الأجزاء أو الشروط ، وإن حصل الشكّ في المانع بعد الفراغ من العمل فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشكّ في مانعيّة الموجود ، كالخاتم في الإصبع إذا حصل الشكّ في وصول الماء إلى ما تحته بعد الفراغ من الغسل. وهو أيضا على قسمين :

أحدهما : أن يحتمل بعد الفراغ إدخاله الماء تحت الخاتم حين العمل. وظاهرهم إجراء القاعدة في هذه الصورة ، ولذا صرّح جماعة بصحّة الأعمال السابقة مع احتمال خلل فيها على ما تقدّم. ويدلّ عليه أيضا صحيحتا زرارة والحلبي. ويشكل بالتعليلين المتقدّمين ، بناء على اختصاصهما بصورة تذكّر المكلّف للبناء على إيقاع العمل من أوّل الأمر بجميع ما يعتبر فيه ، على نحو ما عرفت.

٦٠