فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

ثمّ إنّ التعارض على ما عرفت (٢٧٧٩)

______________________________________________________

٢٧٧٩. هذا إشارة إلى أحد الأمرين اللذين أشرنا سابقا إلى خروجهما من الحدّ. وتوضيح المقام أنّه قال في الضوابط : «والمراد بالدليلين في هذا المبحث أعمّ من الأمارتين ، فيشمل الدليل والأمارة». وقال في المنية المراد بالدليل هنا ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، بحيث يندرج فيه الأمارات». ويشكل ذلك بما صرّح به المصنّف رحمه‌الله من عدم إمكان وقوع التعارض بين القطعيّات ، فلا جدوى لتعميم الدليل من القطعيّ الذي اصطلحوا عليه الدليل ، كما يظهر من الكلام المحكيّ عن المنية ، ومن الظني الذي اصطلحوا عليه الأمارة ، كما يظهر من العضدي وغيره من أرباب الظنّ ، بل هو غير صحيح ، فالأولى تخصيصه بالأمارات الظنيّة. ثمّ إنّه لا إشكال فيما أشار إليه من خروج تعارض القطعيّين والظنّيين ـ بالظنّ الشخصي والقطعي ـ مع الظنّي مطلقا ـ نوعيّا كان أو شخصيّا ـ من محلّ الكلام.

وتوضيح المقام : أنّ اعتبار الدليل لا يخلو : إمّا أن يكون باعتبار إفادته القطع ، أو الظنّ شخصا ، أو نوعا مطلقا ، أو مقيّدا بعدم الظنّ بخلافه. ووجه الحصر في الأربعة أنّه ليس في الأدلّة ما نجزم باعتباره من باب التعبّد ، لأنّ الاصول العمليّة وإن كان قد يعبّر عنها بالأدلّة التعبّدية ، إلّا أنّه يحتمل فيها أيضا كون اعتبارها لأجل احتمال مطابقة مؤدّاها للواقع ، لا من باب التعبّد المحض ورفع اليد عن الواقع بالمرّة ، كما قرّرناه في أوائل الكتاب فيما علّقناه على حجّية القطع. وبضرب الأربعة في الأربعة ترتقي صورة التعارض إلى ستّ عشرة صورة : تعارض القطعي على مثله ، ومع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي شخصا مع مثله ، ومع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا كذلك ، ومقيّدا كذلك. والمتكرّرة منها ستّ ، وهي تعارض الظنّي شخصا مع القطعي من المرتبة الثانية ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا مع الظنّي شخصا من المرتبة الثالثة ، وتعارض الظنّي نوعا مقيّدا مع الظنّي نوعا مطلقا ، ومع الظنّي شخصا ، ومع القطعي من المرتبة الرابعة. فتبقى

٢٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

عشر صور ، أربع منها تعارض المتجانسين ، أعني : تعارض القطعيّين ، والظنيّين ، شخصا ونوعا ، مطلقا ومقيّدا. وستّ منها : تعارض المتخالفين ، أعني : تعارض القطعي مع الثلاثة الباقية ، وتعارض الظنّي شخصا معه نوعا مطلقا ومقيّدا ، وتعارض الظنّي نوعا مطلقا مع النوعيّ المقيّد. فهذه عشر صور ، وستّ منها ليست بمحلّ تعارض ، وهي تعارض القطعي مع مثله ، ومع الظنّي شخصا أو نوعا مطلقا أو مقيّدا ، وتعارض الشخصي مع مثله ، ومع النوعي المقيّد.

وأمّا عدم إمكان تعارض القطعيّين فواضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ، لأنّ المدار في الدليل القطعي على صفة القطع ، وحصوله من كلا المتعارضين محال ، ومع حصوله من أحدهما خرج الآخر من صفة الحجّية ، لانتفاء مناط اعتباره ، فيخرج الدليلان من مورد التعارض ، لأنّه فرع إفادة كلّ منهما القطع ، لصيرورة الدليل القطعي مع قطع النظر عن إفادته القطع لغوا محضا.

نعم ، لو فرض اندراج القطعي مع قطع النظر عن إفادته للقطع في عنوان آخر يعارض سائر الأدلّة بهذا العنوان ، مثل أنّ الخبر المتواتر إنّما يعتبر من حيث إفادته للقطع وإذا قطع النظر عن إفادته لذلك اندرج تحت عنوان خبر الواحد ، فيعتبر بهذا العنوان ، إلّا أنّه خلاف الفرض في المقام.

وممّا ذكرناه يظهر الوجه في عدم إمكان تعارض الظنّيين شخصا ، لأنّ الظنّي شخصا كالقطعي في كون مناط اعتباره صفة الظنّ ، وإن كان بينهما فرق من جهة كون القطعي طريقا منجعلا والظنّي مجعولا ، بل الظنّي المعتبر بدليل الانسداد أيضا من قبيل الطريق المنجعل على ما قرّرناه في محلّه.

ومن هنا يظهر أنّه على مذهب المحقّق القمّي قدس‌سره من كون اعتبار الأدلّة سندا ودلالة بدليل الانسداد ، يلزم إهمال ما قرّروه في باب التعارض من أحكام التعادل والترجيح ، إذ مقتضى دليل الانسداد اعتبار الأدلّة من باب إفادتها صفة الظنّ

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الشخصي التي قد عرفت عدم إمكان تعارض الأدلّة معها ، والحال أنّ ملاحظة المرجّحات وإعمال قواعد الترجيح في الجملة إجماعيّ ، فيكون القول بدليل الانسداد مطلقا مخالفا للإجماع.

وممّا ذكرناه يظهر الوجه أيضا في عدم إمكان تعارض القطعي مع الظنّي شخصا أيضا ، لعدم إمكان اجتماعهما كالقطعيّين والظنّيين ، بل هنا أولى. وأمّا عدم إمكان تعارض القطعيّ مع الظنّي نوعا مطلقا فلعدم الاعتداد بالظنّي مع القطع بخلافه ، وكذا مع الظنّي نوعا مقيّدا. مضافا إلى ما ستعرفه من عدم إمكان تعارض الظنّي شخصا مع الظنّي نوعا مقيّدا ، فهنا أولى. وأمّا عدم تعارض الظنّي شخصا معه نوعا مقيّدا فلانتفاء موضوع المقيّد بانتفاء قيده. فتنحصر صور إمكان تعارض الدليلين في الصور الأربع الباقية ، وهي صور تعارض الظنّيين نوعا مطلقا ومقيّدا ، والظنّ الشخصي مع الظن النوعي مطلقا ، والظنّ النوعي مطلقا مع الظن النوعي المقيّد (*).

ومن تحرير المقام تعرف مواقع النظر فيما ذكره في الضوابط ، قال : «إنّهم قالوا : إنّ التعارض لا يكون إلّا بين الظنّيين ، وأمّا القطعيّان أو المختلفان فلا يمكن حصول التعارض بينهما». ثمّ أورد عليه بأنّ المراد من القطعي والظنّي إن كان القطعيّة والظنّية في الصدور ، فلا ريب في جواز التعارض في كلّ الصور الثلاث ، أي : القطعيّين والظنّيين والمختلفين. وإن كان القطعيّة والظنّية في اللبّ والدلالة ، فإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنيّتهما نوعا ، بمعنى أنّه لو لا أحدهما لأفاد الآخر القطع أو الظنّ ، وإن لم يكن بعد ملاحظة التعارض قطع ولا ظنّ ، فلا ريب في جواز التعارض بهذا المعنى بين الكلّ أيضا. وإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنّيتهما شخصا ـ أي : فعلا ـ فلا ريب في عدم جواز التعارض حينئذ في الكلّ. ففي الفرضين الأوّلين لا وجه لقولهم بعدم الإمكان في القطعيّين وفي المختلفين ، و

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «بعدم حصول الظنّ الفعلي على خلافه. منه».

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

في الفرض الأخير لا معنى لقولهم بالإمكان في الظنّيين. وإن كان المراد في القطعيّين والمختلفين الشخصي ، وفي الظنّيين أحد الفرضين الأوّلين ، فهو تفكيك خال عن الوجه. لكنّ الظاهر منهم الأخير ، لزعمهم أنّ ما سوى الشخصي لا يمكن في القطع ، لأنّ العلّة في القطع بعد حصولها في دليل لا يمكن التخلّف فيه بالتعارض».

إلى أن قال : «ثمّ اعلم أنّهم قالوا بجواز الظنّيين ، ولا يجوز تعارض ما عداهما. ولا ريب أنّ التعارض له فردان ، أحدهما التعارض والآخر الترجيح ، فإن كان مرادهم من جواز تعارض الظنّيين جوازه بكلا قسميه ، ومن عدم جواز القطعيّين ولا المختلفين عدم جوازه كذلك ، ففيه : أنّ التعارض على وجه الترجيح يمكن في المختلفين ، فإنّ القطع يرجّح على الظنّي عند التعارض» إلى آخر ما ذكره.

قوله : «إن كان القطعيّة والظنّية في الصدور» فيه : أنّ قطعيّة الصدور مع ظنّية الدلالة كما هو الفرض لا يجعل الدليل قطعيّا ، لأنّ المراد بالدليل القطعي في مصطلح القوم ما يفيد القطع بالمدلول الواقعي لا ما كان صدوره قطعيّا.

وقوله : «فإن كان المراد قطعيّة الدليلين أو ظنّيتهما نوعا» فيه : منع وجود دليل معتبر من باب القطع النوعي ، بمعنى اعتبار إفادته للقطع مع قطع النظر عن وجود معارضه ، فحمل كلماتهم عليه فاسد جدّا.

قوله : «تفكيك خال عن الوجه» فيه : أنّ التفكيك لا بدّ من التزامه في المقام ، لما عرفت من عدم وجود دليل معتبر من باب القطع النوعي ، فلا بدّ أن يكون مرادهم من القطعيّين والمختلفين قطعيّة الدليل فعلا لا نوعا. وأمّا كون مرادهم من الظنّين كون ظنّيتهما نوعا لا فعلا ، فلعدم وجود دليل عندهم يكون معتبرا من باب الظنّ الشخصي ، لكون اعتبار الأدلّة عندهم معتبرا من باب الظنّ النوعي دون الشخصي. نعم ، قد حدث القول بالظنون المطلقة الذي مقتضاه اعتبارها من باب الظنّ الشخصي في زمان الوحيد البهبهاني ، كما هو غير خفيّ على الخبير المطّلع

٢٢٤

من تعريفه لا يكون في الأدلّة القطعيّة ؛ لأنّ حجّيتها إنّما هي من حيث صفة القطع ، والقطع بالمتنافيين أو بأحدهما مع الظنّ بالآخر غير ممكن.

ومنه يعلم عدم وقوع التعارض بين دليلين يكون حجّيتهما باعتبار صفة الظنّ الفعلي ؛ لأنّ اجتماع الظنّين بالمتنافيين محال ، فإذا تعارض سببان للظنّ الفعلي ، فإن بقي الظن في أحدهما فهو المعتبر ، وإلّا تساقطا.

وقولهم : " إنّ التعارض لا يكون إلّا في الظنّين" ، يريدون به الدليلين المعتبرين من حيث إفادة نوعهما الظنّ. وإنّما أطلقوا القول في ذلك ؛ لأنّ أغلب الأمارات بل جميعها عند جلّ العلماء بل ما عدا جمع ممّن قارب عصرنا (١) ، معتبرة من هذه الحيثيّة ، لا لإفادة الظنّ الفعلي بحيث يناط الاعتبار به. ومثل هذا في القطعيّات غير موجود ؛ إذ ليس هنا ما يكون اعتباره من باب إفادة نوعه القطع ؛ لأنّ هذا يحتاج إلى جعل الشارع ، فيدخل حينئذ في الأدلّة الغير القطعيّة ؛ لأنّ الاعتبار في الأدلّة القطعيّة من حيث صفة القطع فهي في المقام منتفية ، فيدخل في الأدلّة الغير القطعية ، أنّ المراد من الدليل هو ما يكون اعتباره بجعل الشارع واعتباره.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع في مقامين ؛ لأنّ المتعارضين إمّا أن يكون لأحدهما مرجّح على الآخر ، وإمّا أن لا يكون ، بل يكونان متعادلين متكافئين.

______________________________________________________

على طريقتهم في الفقه والاصول ، فلا بدّ أن يكون مرادهم بالظنّيين هو النوعيّين خاصّة.

قوله : «إنّ التعارض على وجه الترجيح يمكن في المختلفين» فيه : أنّه إن أراد بترجّح القطعي على الظنّي ترجّحه عليه مع فرض حصول القطع من القطعي والظنّ من الظنّي ولكنّ القطع مرجّح على الظنّ ، ففيه : أنّ التعارض فرع تمانع الدليلين ، وقد عرفت عدم إمكان حصول الظنّ الشخصي على خلاف القطع ، وعدم وجود المقتضي للتعارض في الظنّ النوعي مطلقا ولا مقيّدا في مقابل القطع. وإن أراد بترجّحه عليه مجرّد تقدّمه عليه ولو لأجل عدم وجود المقتضي للتعارض في الظنّي للقطعي ، ففيه : أنّ هذا ليس ترجيحا مصطلحا في هذا الباب ولا لغة أيضا كما لا يخفى.

٢٢٥

وقبل الشروع في بيان حكمهما لا بدّ من الكلام في القضيّة المشهورة (٢٧٨٠) ، وهي أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح (٢٧٨١). والمراد بالطرح على الظاهر المصرّح به في كلام بعضهم وفي معقد إجماع بعض آخر ، أعمّ من طرح أحدهما لمرجّح في الآخر ، فيكون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ، ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح.

______________________________________________________

وقد يستند في إثبات جواز تعارض القطعيّين إلى أنّه يمكن أن يكون مدلول أحد الدليلين حكما واقعيّا والآخر ظاهريّا ، كالأحكام المجعولة في مقام التقيّة. وفيه ما لا يخفى ، لعدم تحقّق التعارض على هذا الفرض ، لاختلاف موضوع الدليلين حينئذ ، وهو واضح.

٢٧٨٠. هذه القضيّة مشهورة بين الفقهاء والاصوليّين ، لا سيّما المتقدّمون منهم ، وقد نسبها المحقّق القمّي رحمه‌الله إلى العلماء من دون نقل خلاف فيها ، مؤذنا بدعوى الاتّفاق عليها. قال : قالوا : إنّ العمل بهما من وجه أولى من إسقاط أحدهما بالكلّية. وأرسل القول بأولويّة الجمع من دون تعرّض للخلاف أيضا العلّامة في التهذيب ، والسيّد عميد الدين في المنية ، والشهيد الثاني في تمهيد القواعد ، بحيث يشعر بكونها من المسلّمات فيما بينهم ، بل قد ادّعى الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي عليه الإجماع ، كما نقله عنه المصنّف رحمه‌الله.

٢٧٨١. المراد بالأولويّة معنى اللزوم والتعيّن ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) لا معنى التفضيل ، ولذا قال في التهذيب : وإن أمكن العمل بكلّ واحد منهما من وجه دون وجه تعيّن. وبالجمع هو الجمع بحسب الدلالة بعد الأخذ بسندهما ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وحكمهم بأولويّة الجمع أعمّ ممّا كان الجمع محتاجا إلى التصرّف في ظاهر كلّ واحد منهما ، أو أحدهما غير المعيّن ، أو أحدهما المعيّن. وبعبارة اخرى : أنّه أعمّ ممّا كان محتاجا إلى شاهدين في الجمع كما في المتباينين ، أو إلى شاهد واحد كالعامّين

٢٢٦

قال الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي على ما حكي عنه : إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك اوّلا البحث عن معناهما وكيفية دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات ، فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ؛ فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء. فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه ، فارجع إلى العمل بهذا الحديث ـ وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة (٢) ـ انتهى.

واستدلّ عليه تارة (٢٧٨٢):

______________________________________________________

من وجه ، أو لم يحتج إليه أصلا كالعامّ والخاصّ مطلقا. وحاصل المقصود : أنّ الجمع في هذه الموارد أولى من الطرح بالمعنى الذي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. فهنا مقامات ثلاثة يشملها إطلاق كلماتهم في بيان القاعدة ، منها ما هو مقطوع بكونه من مواردها ، ومنها ما هو مقطوع بعدم كونه منها ، ومنها ما هو مشكوك الحال. وسنشير إلى تحقيق الحال في ذلك.

٢٧٨٢. قال في تمهيد القواعد في مقام التعليل لأولويّة الجمع : «لأنّ الأصل في كلّ واحد منهما هو الإعمال ، فيجمع بينهما بما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح».

وأنت خبير بما فيه ، إذ بعد تسليم كون مقتضى الأصل في كلّ واحد من الدليلين هو الإعمال ـ الذي مقتضاه الجمع بينهما بما أمكن ـ لا معنى لتعليل الجمع بعده باستحالة الترجيح من غير مرجّح. فالأولى أن يقتصر على الفقرة الاولى من كلامه ، أعني : قوله : «لأنّ الأصل في كلّ واحد من الدليلين هو الإعمال» لأنّه حيث لا يمكن العمل بهما بمدلولهما المطابقي يعمل بهما بحسب الإمكان ، وهو يحصل بالجمع بينهما بما أمكن ، لأنّه مقتضى الأصل المذكور. ولذا قال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد نقل كلامه : «ولم أتحقّق معنى قوله : لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، إذ المفروض عدم ملاحظة المرجّح ، وإلّا فقد يوجد المرجّح لأحدهما».

٢٢٧

بأنّ الأصل في الدليلين الإعمال ، فيجب الجمع بينهما بما أمكن ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح. واخرى :

______________________________________________________

ثمّ قال : «وتوجيهه أن يقال : إنّ مراده إذا أمكن العمل بكلّ منهما ولو كان بإرجاع التوجيه إلى كليهما ، فمع ذلك لو عمل بأحدهما وترك الآخر فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، إذ المفروض أنّ موضوع الحكمين متغاير في الدليلين ، فلا معنى لملاحظة المرجّح بينهما ، لأنّ كلّ واحد من الدليلين حينئذ دليل على حكم شيء آخر ، فضعف أحدهما بالنسبة إلى الآخر لا يصير منشأ لترك مدلوله. وذلك كما لو فرضنا أنّ واحدة من المسائل الفقهيّة ثبتت بنصّ الكتاب ، واخرى مباينة لها بخبر واحد ، فبعد ملاحظة القرائن المخرجة للفظ عن الظاهر يصير موضوع الدليلين مختلفا ، فالعمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، إذ كلّ منهما قام دليل على طبقه ، وتكليف المكلّف في كلّ مسألة العمل بمقتضى ما يدلّ عليه دليلها ، فالعمل بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح» انتهى.

وأنت خبير بما فيه ، إذ ظاهر كلامه بمقتضى التعليل بقوله : «إذ المفروض أنّ موضوع ...» ، حمل كلام الشهيد على بيان أنّه بعد الجمع بين الدليلين بحمل أحدهما على بيان حكم موضوع والآخر على بيان حكم موضوع آخر ، لو أخذ بأحدهما وترك العمل بالآخر لزم الترجيح بلا مرجّح ، وهو كما ترى غير مجد في دفع الإشكال الذي أشرنا إليه ، إذ الإشكال كما عرفت وارد على هذا التقدير ، كما هو واضح.

ويمكن توجيهه بأخذ كلامه إشارة إلى ما ذكره العلّامة في النهاية في مقام تعليل أولويّة الجمع ، قال : «فإن أمكن العمل بكلّ منهما من وجه دون وجه كان أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر بالكلّية ، لأنّ دلالة اللفظ على جزء المفهوم تابعة للدلالة على مفهومه التي هي الدلالة الأصليّة ، فإذا عمل بكلّ منهما من وجه دون آخر فقد تركنا العمل بالدلالة التبعيّة ، وإذا عملنا بأحدهما دون الثاني فقد

٢٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تركنا (*) بالدلالة الأصليّة ، والأوّل أولى. فالعمل بكلّ منهما من وجه دون وجه أولى من العمل بأحدهما من كلّ وجه دون الثاني» انتهى.

وحاصل ما ذكره الشهيد على وجه ينطبق على ما ذكره العلّامة : أنّه مع تعارض الدليلين إمّا أن يجب العمل بكلّ منهما بمدلولهما المطابقة ، وهو غير ممكن بالفرض ، أو يجب طرحهما معا ، وهو خلاف الإجماع ، وخلاف ما دلّ على اعتبار الأمارتين المتعارضتين ، أو يؤخذ بأحدهما المعيّن دون الآخر ، وهو ترجيح بلا مرجّح ، وبعد ثبوت عدم إمكان العمل بهما معا بمدلولهما المطابقة ، وكذا طرحهما رأسا أو أحدهما المعيّن ، تتساقط دلالتهما المطابقة ، لأجل التعارض وعدم إمكان الترجيح ، فيتعيّن الأخذ بدلالتهما التبعيّة ، إذ الأصل في كلّ من الدليلين الإعمال بحسب الإمكان ، فلا يجوز طرحهما بالكلّية كما أشرنا إليه.

وقد ظهر بما قدّمناه أنّ ما علّلوا به أولويّة الجمع وجهان ، كما أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله ، وأنّ أوّلهما راجع إلى الثاني. وأمّا الجواب عنه فبأنّ الدلالة التضمّنية والالتزاميّة تابعتان للمطابقة ، ولذا تسمّى أصليّة وهما تبعيّة ، فحيثما انتفت الأصليّة تتبعها التبعيّة لا محالة في الانتفاء ، لفرض كون دلالة اللفظ على الجزء واللازم بتبعيّة دلالته على الكلّ والملزوم.

نعم ، يتمّ الأخذ ببعض المدلول دون بعض إذا كانت دلالة اللفظ على البعض مأخوذة بالاستقلال والأصالة دون التبعيّة للكلّ ، كالعمومات بناء على كون دلالتها على أفرادها بالأصالة والدلالة التامّة لا بالتبع ، فتأمّل. ولعلّه لوضوح ما ذكرناه لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله لبيان ضعف الوجه الثاني. وما أورده على الأوّل مبنيّ على ظاهر كلام الشهيد لا على إرجاعه إلى الثاني كما فعلناه.

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، وفي العبارة سقط كثير ، والظاهر أنّ الصحيح هكذا : وإذا عملن بأحدهما من كلّ وجه دون الثاني فقد تركنا العمل بالدلالة الأصليّة. ولم يتيسّر لنا مراجعة مخطوط نهاية الاصول لتطبيق العبارة عليها.

٢٢٩

بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال دلالة تبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال دلالة أصلية. ولا يخفى أنّ العمل بهذه القضيّة على ظاهرها يوجب سدّ باب الترجيح والهرج في الفقه ، كما لا يخفى. ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه من الإجماع والنصّ.

أمّا عدم الدليل عليه (٢٧٨٣) ؛

______________________________________________________

٢٧٨٣. توضيح المقام أنّا قد أشرنا قبل الحاشية السابقة أنّ هنا ثلاثة مقامات يشملها إطلاق كلماتهم في بيان قاعدة أولويّة الجمع ، بعضها مقطوع بعدم كونه من موارد القاعدة ، وهو ما كان بين ظاهر الدليلين تباين كلّي بحيث يحتاج الجمع بينهما إلى شاهدين ، وبعض آخر مقطوع بكونه منها ، وهو ما كان بين الدليلين فيه عموم وخصوص مطلق وما في حكمه ، وبعبارة اخرى : ما كان الدليلان فيه من قبيل النصّ والظاهر أو الظاهر والأظهر ، بحيث لا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد سوى العرف ، وثالث مشكوك فيه ، وهو ما كان بين الدليلين فيه عموم من وجه ، وما في حكمه ممّا يحتاج الجمع بينهما إلى شاهد واحد. فأراد المصنّف رحمه‌الله بيان هذه المقامات ، إلّا أنّه قدّم الكلام في الأوّل ، للقطع بعدم كونه من موارد القاعدة. واستدلّ عليه أوّلا بعدم الدليل على الجمع فيه. وثانيا : بالإجماع. وثالثا : بالنصّ. ومقصودنا في المقام إنّما هو توضيح الكلام في بيان عدم الدليل ، وستقف على تتمّة الكلام في الدليلين الأخيرين ، وكذا في المقامين الأخيرين.

ولا بدّ هنا من بيان أمر ، وهو أنّهم قد اختلفوا في بعض صغريات هذا المقام ، لأنّه قد يمثّل له بمثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء. وربّما يتراءى من جماعة ـ كصاحب مطالع الأنوار والنراقي وغيرهما ـ كونه من قبيل النصّ والظاهر ، حيث جمعوا بين الفقرتين بحمل الأمر على مطلق الجواز والنهي على الكراهة ، بتقريب : أنّ كلّ واحد منهما نصّ في شيء وظاهر في شيء آخر ، فيصرف ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ، لكون النصّ قرينة عليه. وذلك لأنّ الأمر نصّ في الجواز

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المطلق ، لغاية بعد استعماله في مقام التحديد ونحوه ، إذ الغالب الشائع استعماله في الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة ، وظاهر في الرجحان المانع من النقيض. والنهي نصّ في المرجوحيّة المطلقة المجامعة للحرمة والكراهة ، وظاهر في المرجوحيّة المانعة من النقيض. ولا تمانع بينهما من جهتي النصوصيّة ، إذ التمانع والتزاحم إنّما هو بين جهة نصوصيّة أحدهما وظهور الآخر وبالعكس ، فتكون جهة نصوصيّة كلّ منهما قرينة على رفع اليد عن جهة ظهور الآخر ، فيبقى الجواز المطلق المستفاد من الأمر والمرجوحيّة المطلقة المستفادة من النهي ، فيحكم بكراهة الفعل لكونها مجمعا للعنوانين. وعليك بإعمال هذه القاعدة في كلّ مورد اجتمع فيه الأمر والنهي ، ولا تقتصر على المثال المذكور. ولعلّه لذلك عدل المصنّف رحمه‌الله أيضا إلى مثال العذرة.

وأقول في تحقيق المقام : إنّه إن لوحظ التعارض بين قولنا : أكرم العلماء وقولنا : ولا تكرم العلماء بحسب مجموع دلالتهما المطابقة من حيث هي ، فلا نصوصيّة في مدلول كلّ من الأمر والنهي ، لكون الأوّل ظاهرا في وجوب الفعل ، والثاني ظاهرا في حرمته ، والتعارض بينهما على وجه التباين ، لكون أحدهما نافيا لما أثبته الآخر. وإن لوحظ التعارض بينهما بحسب بعض مدلولهما ، كتعارض جنس الوجوب مع فصل الحرمة ، وجنس الحرمة مع فصل الوجوب ، كما هو مبنى الاستدلال ، ففيه : أنّ التعارض بين الدليلين إنّما يلاحظ بين تمام مدلولهما ، وإن كان التعارض ناشئا من بعض مدلولهما ، وقد عرفت ظهور الأمر والنهي في تمام الجنس والفصل للوجوب والحرمة ، فلا نصوصيّة حينئذ كما عرفت. مع أنّ الأمر نصّ في الجواز الذي في ضمن الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة لا في الجواز المطلق وبعبارة اخرى : أنّ الأمر نصّ في الجواز القائم بالمنع من الترك منعا لازما أو راجحا أو مساويا لجواز الترك ، لا الجواز المطلق ، وكذلك النهي نصّ في المرجوحيّة التي هي في ضمن الحرمة أو الكراهة ، لا في المرجوحيّة المطلقة ، لكون المراد باللفظ أمرا

٢٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

واحدا لا متعدّدا.

هذا ، ولكنّه مناقشة في المثال ، مع أنّ المثال لا ينحصر فيما ذكر. وإن شئت مثّل بمثل قوله عليه‌السلام : «لا بأس ببيع العذرة» وقوله عليه‌السلام : «ثمن العذرة سحت» كما مثّل به المصنّف رحمه‌الله.

نعم ، يتمّ ما ذكروه فيما لو كان الأمر والنهي قطعيّين ، كما إذا كانا من الكتاب ، أو متواترين أو ملفّقين منهما ، لأنّ القطع بصدورهما عن الشارع قرينة عرفيّة على صرف كلّ منهما عن ظاهره ، وهو يحصل بحمل الأمر على مطلق الجواز ، والنهي على مطلق المرجوحيّة ، لأنّه بعد القطع بصدورهما لا يمكن طرح أحدهما ، فلا بدّ من التصرّف في ظاهرهما والجمع بينهما بحسب الدلالة ، ولا إشكال بل لا خلاف فيه ، وسيجيء زيادة توضيح لذلك. فيكون مثال الأمر والنهي خارجا من صورة التباين ، وداخلا في جملة موارد قاعدة الجمع بحسب نظر أهل العرف ، بخلاف ما لو كانا ظنّيين على ما عرفت. ولعلّ من جمع بينهما بحسب الدلالة جعلهما كالقطعيّين ، لأجل ما دلّ على اعتبارهما من الأدلّة ، فيكون اعتبار سندهما في نظر أهل العرف قرينة على التصرّف في ظاهرهما كالقطعيّين وستقف على الكلام في ذلك.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا دليل على جواز الجمع بما أمكن بين المتعارضات من الأخبار على وجه التباين فضلا عن وجوبه. وذلك لأنّ هنا قواعد متعدّدة متلقّاة من الشارع إنشاء أو إمضاء لطريقة العرف والعادة ، إحداها : وجوب العمل بأخبار الآحاد على الوجه المقرّر في محلّه ، بمعنى وجوب تصديق المخبرين فيما أخبروا به ، والبناء على صدوره عن الشارع. الثانية : وجوب العمل بظواهرها وتنزيل مقتضاها بمنزلة الواقع ، بإلغاء احتمال مخالفة مؤدّياتها للواقع. الثالثة : وجوب البناء على صدورها لبيان الواقع لا للتقيّة أو مصلحة اخرى.

فإذا تعارض ظاهر خبرين على وجه التباين ، فمقتضى إعمال هذه القواعد

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إجرائها في كلّ واحد من المتعارضين ، بأن يصدّقا من حيث الصدور ، ومن حيث وجه الصدور ، ومن حيث الدلالة. ولكن تصديقهما من هذه الحيثيّات جميعا موجب للتعارض والتمانع بينهما ، فلا بدّ في رفع التعارض بينهما من رفع اليد عن مقتضى إحدى هذه القواعد في أحد المتعارضين أو كليهما ، بأن يؤخذ بأحدهما سندا ويطرح الآخر كذلك ، وحينئذ يخرج المطروح من مورد القاعدتين الأخيرتين أيضا ، لتوقّف إعمال مقتضاهما على اعتبار موردهما ، أو يؤوّل ظاهرهما بما يرفع التنافي بينهما ، إذ الكلام في تعارض المتباينين اللذين لا يجتمعان إلّا بصرف كلّ منهما عن ظاهره ، فلا يكفي التأويل في أحدهما ، أو يحمل أحدهما على التقيّة.

والشكّ في جريان إحدى هذه القواعد ليس مسبّبا عن الشكّ في جريان الاخرى حتّى يقدّم الشكّ السببى على الشكّ المسبّب منهما ، بل الشكّ في جريان كلّ واحدة منها مسبّب عن ثالث ، وهو العلم الإجمالي بانتفاء مقتضي إحداها في مورد التعارض. فحينئذ لا وجه لتقديم التصرّف في ظاهر المتعارضين على رفع اليد عن سند أحدهما المخيّر أو المعيّن مع وجود مرجّح ، أو حمل أحدهما على التقيّة ، لأنّا إن سلّمنا عدم الدليل على تقديم الثّاني لا دليل على تقديم الأوّل أيضا. وذلك لأنّه لمّا لم يمكن إعمال كلّ منهما بحسب السند والدلالة ، لتمانعهما وتزاحمهما ، ولا طرح كلّ منهما لأجل ما دلّ على اعتبارهما سندا ودلالة ، فما هو ممكن إمّا هو الأخذ بأحدهما وطرح الآخر بالكلّية كما هو المشهور ، وإمّا هو الأخذ بسندهما وطرح ظاهرهما ، كما هو مقتضى قاعدة الجمع ، والثاني ليس بأولى من الأوّل ، لأنّ التعبّد بسند أحدهما يقينيّ ، للزومه على صورتي الإمكان ، وكذا طرح ظاهر أحدهما ، وهو ظاهر الآخر غير المتيقّن التعبّد بسنده ، ففي كلّ من صورتي الإمكان لا بدّ من الأخذ بسند أحدهما وطرح ظاهر الآخر ولو بواسطة طرح سنده. ففي ترجيح إحدى الصورتين وتعيينها لا بدّ من ارتكاب خلاف أصل ، إمّا في الاولى فهو ارتكاب طرح سند أحدهما ، وهو مخالف لما دلّ على اعتباره سندا ، وإمّا

٢٣٣

فلأنّ ما ذكر ـ من أنّ الأصل في الدليلين الإعمال ـ مسلّم ، لكنّ المفروض عدم إمكانه في المقام ؛ فإنّ العمل بقوله عليه‌السلام : " ثمن العذرة سحت" ، وقوله عليه‌السلام : " لا بأس ببيع العذرة" على ظاهرهما غير ممكن ، وإلّا لم يكونا متعارضين. وإخراجهما عن ظاهرهما ـ بحمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم ، والثاني على عذرة مأكول اللحم ـ ليس عملا بهما ؛ إذ كما يجب مراعاة السند في الرواية والتعبّد بصدورها إذا اجتمعت شرائط الحجّية ، كذلك يجب التعبّد بإرادة المتكلّم ظاهر الكلام

______________________________________________________

في الثانية فهو ارتكاب التأويل في ظاهر ما هو متيقّن التعبّد بصدوره ، ولا أولويّة لهذه الصورة.

بل ربّما يتخيّل أولويّة الاولى ، نظرا إلى أنّ في الجمع بينهما بتأويل كلّ منهما مخالفة أصلين ، لمخالفته لما دلّ على اعتبار ظاهر كلّ منهما ، بخلاف الاولى. ولكنّه فاسد ، لأنّ مخالفة التأويل للأصل إنّما هو فرع اعتبار السند ، والفرض في المقام ثبوت اعتبار سند أحد المتعارضين خاصّة ، وهو أحدهما المخيّر أو المعيّن إن كان هنا مرجّح ، فمع عدم ثبوت سند الآخر لا يكون طرح ظاهره مخالفا للأصل ، بل لا يكون له ظاهر حينئذ حتّى يكون طرحه مخالفا للأصل. هذا ، ولكن ستقف على تتمّة الكلام في المقام بما يمكن معه المناقشة ـ بل المنع ـ فيما قدّمناه ، فانتظره.

ثمّ إنّ ما قدّمناه من كون أحد المتعارضين متيقّن الثبوت بحسب السند ، لا ينافي ما سيجيء من المصنّف رحمه‌الله من أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين المعتبرتين من باب الطريقيّة هو التساقط وخروج كلّ منهما من الحجّية ، لأنّ هذا مبنيّ على اعتبار الأخبار لأجل آية النبأ ونحوها ، وما ذكرناه مبنيّ على اعتبارها لأجل أخبار التراجيح والتخيير ، لأنّ مقتضاها اعتبار أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا ، وعدم إلغائهما رأسا وفرضهما كالعدم ، وهو واضح. وإليه أشار المصنّف رحمه‌الله أيضا بقوله : «ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح ، والمخيّر إذا لم يكن ، ثابت على تقدير الجمع وعدمه».

٢٣٤

المفروض وجوب التعبّد بصدوره إذا لم يكن هناك قرينة صارفة ، ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح والمخيّر إذا لم يكن ، ثابت على تقدير الجمع وعدمه ، فالتعبّد بظاهره واجب ، كما أنّ التعبّد بصدور الآخر أيضا واجب.

فيدور الأمر بين عدم التعبّد بصدور ما عدا الواحد المتّفق على التعبّد به ، وبين عدم التعبّد بظاهر الواحد المتّفق على التعبّد به ، ولا أولويّة للثاني. بل قد يتخيّل العكس فيه من حيث أنّ في الجمع ترك التعبّد بظاهرين ، وفي طرح أحدهما ترك التعبّد بسند واحد.

لكنّه فاسد من حيث أنّ ترك التعبّد بظاهر ما لم يثبت التعبّد بصدوره ولم يحرز كونه صادرا عن المتكلّم ـ وهو ما عدا الواحد المتيقّن العمل به ـ ليس مخالفا للأصل ، بل التعبّد غير معقول ؛ إذ لا ظاهر حتّى يتعبّد به ، فليس مخالفا للأصل وتركا للتعبّد بما يجب التعبّد به.

وممّا ذكرنا يظهر فساد توهّم (٢٧٨٤):

______________________________________________________

٢٧٨٤. هذا شروع في بيان فساد جملة من الاعتراضات التي أوردوها على منع الأولويّة الذي أشار إليه ، وأوضحناه في الحاشية السابقة. وحاصلها : مخالفة ذلك لعمل الأصحاب ، بل وإجماعهم في جملة من الموارد ، منها تعارض ظاهرين قطعيّي الصدور ، لاتّفاقهم على الجمع بينهما بارتكاب التأويل فيهما. وعليه يقاس ما نحن فيه من تعارض ظاهرين ظنّيي الصدور ، بجامع كون الظنّ بالصدور كالقطع به بدليل اعتباره ، لأنّ مقتضى دليل اعتباره تنزيله بمنزلة الواقع ، وأن لا يرتّب عليه ما كان يترتّب عليه على تقدير القطع بصدورهما ، فكما أنّ القطع بصدورهما قرينة عرفيّة على ارتكاب التأويل فيهما ، كذلك القطع باعتبارهما شرعا.

وحاصل ما ذكره في فساد المقايسة : أنّ دليل اعتبار الظاهرين لا يزاحم القطع بصدورهما ، إذ مع القطع بصدورهما لا مناص من تأويلهما ، لأنّ القطع به ملازم للقطع بإرادة خلاف الظاهر منهما لا محالة ، بخلاف ظنّيي الصدور ، لأنّ دليل اعتبار ظاهرهما صالح لمعارضة دليل اعتبار سندهما ، لإمكان رفع اليد عن أحد الدليلين.

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فحينئذ يدور الأمر بين صور أربع ، صورتان منها ممتنعتان ، وهما طرح الظاهرين مطلقا ، وطرحهما سندا خاصّة ، إذ الأوّل مخالف لأخبار الترجيح والتخيير ، لصراحتها في وجوب الأخذ بأحدهما المرجّح أو المخيّر ، والثاني غير معقول ، لوضوح كون الأخذ بالظاهرين فرع اعتبار سندهما. وصورتان ممكنتان ، وهما :

الأخذ بسندهما وارتكاب التأويل في ظاهرهما ، والأخذ بأحدهما سندا ودلالة وطرح الآخر كذلك ، فيدور الأمر بينهما. بل قد عرفت في الحاشية السابقة أنّ الدوران في الحقيقة بين ظاهر أحدهما ، وهو ظاهر متيقّن الأخذ بسنده ، وسند الآخر وهو ما لم يتعيّن الأخذ بسنده ، فيدور الأمر بين مخالفة أصلين ، أعني : مخالفة دليل اعتبار ظاهر الأوّل ، ومخالفة دليل اعتبار سند الثاني ، وقد تقدّم توضيحه في الحاشية السابقة. ولا ترجيح للاولى ، لعدم كون الشكّ فيها مسبّبا عن الشكّ في الثانية حتّى يكون دليل اعتبار السند حاكما على دليل اعتبار الظاهر ، لكون الشكّ فيهما مسبّبا عن ثالث ، وهو العلم الإجمالي بعدم اعتبار أحد الأصلين في المقام ، فيتعارضان ، فلا يبقى مجال لقاعدة أولويّة الجمع من طرح أحدهما ، بخلاف قطعيّي الصدور على ما عرفت.

واعترض عليه بمنع عدم الترجيح ، إذ لا ملازمة بين القطع بصدورهما وإرادة خلاف ظاهرهما ، لأنّ الملازم لها نفس صدورهما في الواقع ، وعدم انفكاك القطع به عنها إنّما هو لأجل كون القطع به طريقا إلى ما هو ملزوم لها وكاشفا عن ثبوته في الواقع ، فمع انكشاف ثبوت الملزوم في الواقع يترتّب عليه ثبوت لازمه ، ولا ريب أنّه لا فرق في الكاشف بين كونه عقليّا كالقطع ، أو شرعيّا كأدلّة اعتبار السند. ومن هنا يظهر كون اعتبار السند حاكما على دليل اعتبار الظاهر.

نعم ، لو كان تأويلهما من آثار القطع بصدورهما لا يلزم من ترتّبه عليه ترتّبه على القطع الشرعيّ أيضا ، لعدم الملازمة ، بخلاف ما لو كان من آثار المقطوع به ، إذ لا بدّ من ترتّبه حينئذ أيضا على ما هو بمنزلة القطع كما في سائر التنزيلات

٢٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الشرعيّة ، نظير ارتكاب التأويل في الظاهر القطعيّ الصدور بسبب دليل اعتبار النصّ ظنّي الصدور ، كعموم الكتاب في مقابل خصوص الخبر ، كما أشار إليه في دفع الاعتراض الثاني ، لأنّ التعارض كما أنّه هنا بين ظاهر القطعيّ وسند النصّ الظنّي ، كذلك التعارض فيما نحن فيه بين ظاهر متيقّن الأخذ بسنده وسند الآخر على ما أشرنا إليه ، فكما أنّ دليل اعتبار سند النصّ هنا حاكم على دليل اعتبار ظاهر القطعيّ ، فليفرض فيما نحن فيه أيضا كذلك. ومن هنا يظهر ضعف ما وقع به المقايسة الثانية.

وممّا يؤكّد ما ذكرناه اعترافه عند بيان حكومة الأدلّة على الاصول اللفظيّة بكون النصّ الظنّي السند واردا أو حاكما على ظهور العامّ القطعيّ السند ، إذ مقتضاه كون الشكّ في جواز تأويل كلّ واحد من الظاهرين مسبّبا عن الشكّ في اعتبار سند الآخر ، لوضوح عدم الفرق بين الظواهر وكذا أسناد الأدلّة ، ويلزمه سقوط كلّ من الظاهرين المتعارضين بمزاحمة مقابله ، فيتعيّن حملهما على ما يجتمعان عليه ، لا الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا.

ومن هنا يظهر أنّ مقتضى الأصل والقاعدة في المتعارضين مطلقا ـ سواء كان تعارضهما بالتباين ، أو العموم والخصوص مطلقا ، أو من وجه ـ هو الجمع لا الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا. فالأولى في المقام هو التمسّك بذيل الدليل المخرج من النصّ والإجماع ، لا التمسّك بعدم الدليل كما صنعه المصنّف رحمه‌الله.

ويمكن دفع الاعتراض ، ولكنّه موقوف على بيان أقسام المتعارضين ، فنقول : إنّهما إمّا قطعيّان ، أو ظنّيان ، أو مختلفان. وعلى التقادير : إمّا أن يكون تعارضهما بالتباين ، أو العموم والخصوص من وجه ، أو مطلقا. فهذه أقسام تسعة.

ثمّ لا يخفى أنّ تعارضهما ليس باعتبار سندهما مع قطع النظر عن مدلولهما ، ولا باعتبار مدلولهما مع قطع النظر عن سندهما ، بل باعتبار مدلولهما بملاحظة اعتبار سندهما.

٢٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وحينئذ إن كان المتعارضان قطعيّين ، فالقطع بصدورهما مستلزم للقطع بتأويل كلّ منهما إن كان تعارضهما على وجه التباين ، أو تأويل أحدهما لا بعينه إن كان على وجه العموم والخصوص من وجه ، وتأويل أحدهما المعيّن إن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا.

وإن كانا ظنّيين ، فإن كان تعارضهما على وجه التباين ، فشمول دليل اعتبار السند لهما يزاحمه شمول دليل اعتبار الظواهر لهما ، ولا أولويّة للأوّل ، بأن يجب الأخذ بسند غير المتيقّن الأخذ بسنده ، وطرح ظهور ما يجب الأخذ بسنده. وما تقدّم من كون تأويلهما من آثار صدورهما ، فإذا دلّ الدليل الشرعيّ على صدورهما تترتّب عليهما آثار صدورهما ، ففيه : أنّ تأويلهما ليس من الآثار غير الشرعيّة أيضا ، بل من مقارناته الاتّفاقية ، وحكم الشارع بتصديق المخبر بهما لا يثبت ما يقارنه اتّفاقا ، لا من جهة أنّ اعتبار الأدلّة الاجتهاديّة سندا أو دلالة لا يثبت سوى اللوازم الشرعيّة حتّى يمنع ، بل من جهة سكوت دليل اعتبار المتعارضين عن إثبات مثل هذه المقارنة ، لأنّ دليل اعتبارهما إمّا آيتا النبأ والنفر ونحوهما من الأدلّة المستدلّ بها على اعتبار أخبار الآحاد ، وهذه الأدلّة وإن قلنا بورودها في مقام إثبات اعتبار أخبار الآحاد على النحو الجاري بين الناس من قبولهم لخبر الواحد مع ما يتبعه من لوازم المخبر به ، إلّا أنّه لم يظهر جريان العادة في قبول خبر الواحد على نحو يشمل المقام ، كيف لا وهم يتخيّرون في مثله ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء» فكيف يجعل دليل اعتبار سندهما دليلا على تأويلهما.

وأمّا أخبار علاج المتعارضين ، من حيث دلالتها على وجوب الأخذ بأحدهما المرجّح أو المخيّر ، فهي أولى بعدم الدلالة كما لا يخفى. وأمّا مقايسة ما نحن فيه على النصّ ظنّي السند والعامّ قطعيّ الصدور فستعرف ضعفها.

٢٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان على وجه العموم والخصوص من وجه فهو أيضا كسابقه ، إذ لا أولويّة لدليل اعتبار سندهما بالنسبة إلى دليل اعتبار ظهورهما ، بأن يجب الأخذ بسند غير المتيقّن الأخذ بسنده ، وطرح ظهور ما يجب الأخذ بسنده ، لما عرفت من عدم صلاحيّة دليل اعتبار سندهما دليلا على ارتكاب التأويل في أحدهما. ومن هنا تقع الحيرة والتردّد في كونه أيضا موردا لقاعدة الجمع أو الترجيح والتخيير. نعم ، اندراج هذا تحت قاعدة الجمع أسهل من المتباينين ، لأنّهما وإن اشتركا في عدم الدليل على أولويّة الجمع ، إلّا أنّ تحقّق الإجماع على وجوب الترجيح بالمرجّحات السنديّة في الأوّل ، وكذا شمول أخبار الترجيح والتخيير له ، محلّ إشكال كما ستقف عليه ، بخلاف الثاني.

وإن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا ، فإن كان الخاصّ نصّا فدليل اعتبار سنده حاكم على ظهور العام إن كان العامّ معتبرا من باب التعبّد المطلق أو الظنّ النوعي كذلك ، لكون الشكّ في تخصيصه ناشئا من الشكّ في اعتبار الخاصّ ، ووارد عليه إن كان العامّ معتبرا من باب التعبّد المقيّد بعدم ورود دليل معتبر على خلافه ، أو من باب الظنّ النوعي كذلك. وإن كان ظاهرا فدليل اعتبار الخاصّ سندا ودلالة يعارض دليل اعتبار العامّ ، إلّا أنّ الخاصّ يقدّم عليه لأجل قوّة ظهوره ، فتقديمه عليه من باب تقديم أقوى المتعارضين بحكم العقل ، كما أوضحناه عند بيان حكومة الأدلّة على الاصول اللفظيّة مع تأمّل فيه ، كما قدّمناه هناك.

وإن كانا مختلفين ، فإن كان تعارضهما على وجه التباين فهو كالظنّيين ، إلّا أنّه يتعيّن هنا إمّا الجمع أو طرح ظنّي السند خاصّة. وليس هنا للترجيح بالمرجّحات السنديّة والتخيير سبيل ، إذ كلّ ما فرض في الظنّي من المرجّحات لا يزيد على القطع بالسند. وكذا إن كان على وجه العموم والخصوص من وجه ، لأنّه أيضا كالظنّيين ، إلّا أنّه يتعيّن هنا أيضا إمّا الجمع والحكم بإجمالهما في مادّة التعارض ، أو طرح الظنّي خاصّة.

٢٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان على وجه العموم والخصوص مطلقا ، فإن كان الخاصّ قطعيّا سندا ، فحينئذ إن كان مع ذلك نصّا أيضا فهو وارد على أصالة العموم. وإن كان ظنّيا فتقديمه على العامّ من باب تقديم أقوى المتعارضين على صاحبه إن كان اعتبار ظاهر العامّ من باب التعبّد مطلقا أو الظنّ النوعي كذلك ، ووارد عليه إن كان اعتبار ظاهره من باب التعبّد المقيّد أو الظنّ النوعي كذلك على ما عرفت. وإن كان العامّ قطعيّا فالخاصّ وارد أو حاكم عليه إن كان نصّا ، ووارد عليه أو راجح بالنسبة إليه ـ من باب رجحان أحد المتعارضين ـ إن كان ظنّيا كما يظهر ممّا تقدّم.

ومن هنا يظهر أنّ تقديم النصّ الظنّي الصدور على العامّ قطعيّ الصدور من باب الحكومة أو الورود. ولا تصحّ مقايسة ما نحن فيه عليه ، لأنّ الأمر فيما نحن فيه أيضا وإن دار بين طرح ظاهر متيقّن الأخذ به وطرح سند مقابله ، إلّا أنّ وجه الفرق وبطلان المقايسة أنّ النصّ الظنّي إذا لوحظ مع العامّ قطعيّ الصدور لا تبقى شبهة في تخصيص العامّ ورفع اليد عن عمومه.

نعم ، يبقى الإشكال من أجل عدم القطع بصدور الخاصّ ، فإذا فرض كونه كالقطعيّ بدليل اعتباره ترتفع الشبهة عن تخصيص العامّ به. ولا تصحّ صورة العكس ، بأن يطرح الخاصّ بالمرّة بسبب أصالة الحقيقة في العامّ ، لعدم كون الشكّ في اعتبار الخاصّ مسبّبا عن الشكّ في جريان أصالة الحقيقة في العامّ ، بل من حيث ملاحظته في نفسه مع قطع النظر عن أدلّة اعتبار العامّ. ومجرّد إمكان فرض صورة العكس ، بأن أجريت أصالة الحقيقة في العامّ ، وخصّصت بسببها أدلّة اعتبار الخاصّ ، لا يقدح في قضيّة الحكومة ، لإمكان فرض مثله في حكومة الأدلّة على الاصول أيضا ، لأنّه إذا شكّ في حكم بعض أفراد العامّ بسبب فتوى فقيه أو ورود خبر ضعيف فيه ، يمكن أن يخصّص عموم العامّ بأصالة البراءة ، لعدم كون عموم العامّ مزيلا للشبهة عن هذا الفرد حقيقة. نعم ، العامّ بدليل اعتباره مزيل لهذه الشبهة

٢٤٠