فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

أنّه إذا عملنا بدليل حجّية الأمارة فيهما وقلنا بأنّ الخبرين معتبران سندا ، فيصيران كمقطوعي الصدور ، ولا إشكال ولا خلاف في أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهري مقطوعي الصدور ـ كآيتين أو متواترين ـ وجب تأويلهما والعمل بخلاف ظاهرهما ، فيكون القطع بصدورهما عن المعصوم عليه‌السلام قرينة صارفة لتأويل كلّ من الظاهرين.

وتوضيح الفرق وفساد القياس : أنّ وجوب التعبّد بالظواهر لا يزاحم القطع بالصدور ، بل القطع بالصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر ، وفيما نحن فيه يكون وجوب التعبّد بالظاهر مزاحما لوجوب التعبّد بالسند. وبعبارة اخرى ، العمل بمقتضى أدلّة اعتبار السند والظاهر ـ بمعنى الحكم بصدورهما وإرادة ظاهرهما ـ غير ممكن ، والممكن من هذه الامور الأربعة اثنان لا غير : إمّا الأخذ بالسندين ، وإمّا الأخذ بظاهر وسند من أحدهما ، فالسند الواحد منهما متيقّن الأخذ به.

وطرح أحد الظاهرين ـ وهو ظاهر الآخر الغير المتيقّن الأخذ بسنده ـ ليس مخالفا للأصل ؛ لأنّ المخالف للأصل ارتكاب التأويل في الكلام بعد الفراغ عن التعبّد بصدوره ، فيدور الأمر بين مخالفة أحد أصلين : إمّا مخالفة دليل التعبّد بالصدور في غير المتيقّن التعبّد ، وإمّا مخالفة الظاهر في متيقّن التعبّد ، وأحدهما ليس حاكما على الآخر ؛ لأنّ الشكّ فيهما مسبّب عن ثالث ، فيتعارضان.

ومنه يظهر فساد قياس ذلك بالنصّ الظنّيّ السند مع الظاهر ، حيث يجب (*) (٢٧٨٥) الجمع بينهما بطرح ظهور الظاهر ، لا سند النصّ. توضيحه : أنّ سند الظاهر لا يزاحم

______________________________________________________

بحسب حكم الشرع ، فيكون حاكما على أصالة البراءة. هذا بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الشكّ في اعتبار ظاهر متيقّن الأخذ بسنده من المتعارضين ليس مسبّبا عن اعتبار سند مقابله ، بل عن العلم الإجمالي بعدم اعتبار أحدهما ، وهو واضح.

٢٧٨٥. سواء كان سند الظاهر قطعيّا أم ظنّيا ، كعمومات الكتاب وأخبار الآحاد مع النصّ الخبري. ويظهر توضيح ما يتعلّق بالمقام من الحاشية السابقة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «يجب» ، «يوجب».

٢٤١

دلالته ـ بديهة ـ ولا سند النصّ ولا دلالته ، أمّا دلالته فواضح ؛ إذ لا يبقي مع طرح السند مراعاة للظاهر. وأمّا سند النصّ ودلالته ، فإنّما يزاحمان ظاهره لا سنده ، وهما حاكمان على ظهوره ؛ لأنّ من آثار التعبّد به رفع اليد عن ذلك الظهور ؛ لأنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشك في التعبّد بالنصّ.

وأضعف ممّا ذكر (٢٧٨٦) توهّم قياس ذلك بما إذا كان خبر بلا معارض ، لكن ظاهره مخالف للإجماع ، فإنّه يحكم بمقتضى اعتبار سنده بإرادة خلاف الظاهر من مدلوله ، لكن لا دوران هناك بين طرح السند والعمل بالظاهر وبين العكس ؛ إذ لو طرحنا سند ذلك الخبر لم يبق مورد للعمل بظاهره ، بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنّا إذا طرحنا سند أحد الخبرين أمكننا العمل بظاهر الآخر ، ولا مرجّح لعكس ذلك ، بل الظاهر هو الطرح (٢٧٨٧) ؛ لأنّ المرجع (*) والمحكّم في الإمكان الذي قيّد به وجوب العمل بالخبرين

______________________________________________________

٢٧٨٦. هذا هو الاعتراض الثالث. ووجه الأضعفيّة : أنّه إذا كان النصّ الظنّي السند حاكما على الظاهر في المقايسة السابقة ، فحكومة الإجماع في هذه المقايسة ـ بل وروده على ظهور الخبر المخالف ـ له أولى. وهذا هو المراد بعدم تحقّق الدوران هنا ، إذ لا يمكن فرض الدوران هنا بين الخبر سندا أو دلالة وبين الإجماع ، لكونه قطعيّا مطلقا ، ولا بين سند الخبر ودلالته ، إذ لا معنى لطرح سنده والأخذ بظاهره ، كما هو قضيّة الدوران. فقوله : «لكن لا دوران هناك ...» إشارة إلى وجه أضعفيّة المقايسة وفسادها.

٢٧٨٧. هذا شروع في بيان مخالفة القضيّة المشهورة ـ أعني : أولويّة الجمع من الطرح ـ للنصّ ـ وهو أخبار علاج المتعارضين ـ وإجماع العلماء ، حيث ادّعى آنفا مخالفتها لهما.

أمّا الأوّل فهو كما ذكره ، إذ لو وجب الجمع بين المتعارضين بما أمكن عقلا لزم حمل أخبار العلاج على الموارد النادرة بل غير الواقعة ، إذ لا يكاد يوجد مورد

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «المرجع» ، المرجّح.

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من الأخبار المتعارضة المرويّة عن أئمّتنا المعصومين عليهم‌السلام لا يمكن الجمع بينها بإخراج محمل صحيح لها.

وبالجملة ، إنّ المتعارضين بالعموم والخصوص مطلقا ليس من موارد الترجيح أصلا لا عقلا ولا عرفا. أمّا الأوّل فلإمكان حمل العامّ على الخاصّ. وأمّا الثاني فلعدم انفهام التنافي بينهما عرفا. وإذا لم يكن الخبران المتعارضان بظاهرهما على وجه التباين موردين للترجيح ، لم يكن المتعارضان بالعموم من وجه موردا له بطريق أولى ، فتبقى أخبار الترجيح بلا مورد.

فإن قلت : كيف تنكر جواز الجمع بما أمكن وقد ورد في بعض الأخبار تفسير بعض آخر منها بما لا يحتمله اللفظ إلّا من باب مجرّد الاحتمال؟ مثل ما ورد عن بعضهم عليهم‌السلام لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : «كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون ، ولم يعد السائل (*) ، فقال عليه‌السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك! فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك؟ وما هذه الآيات؟ فقال عليه‌السلام : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشر آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات». وما ورد من أنّ الوتر واجب ، فلمّا فرغ السائل واستقرّ فقال عليه‌السلام : «إنّما عنيت وجوبها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله». إلى غير ذلك ممّا سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله من الأخبار.

قلت : لا إشكال في عدم الاعتماد على أمثال هذه التفاسير من دون نصّ وبيان من الشارع ، سيّما في غير مقام التعارض كما هو ظاهر الأخبار المذكورة ، لأنّها أسرار خفيّة لا نهتدي إليها بعقولنا القاصرة. ولم يثبت الدليل على كوننا مكلّفين بإبداء أمثال هذه الاحتمالات البعيدة عن مقتضيات الأخبار ، إن لم يثبت

__________________

(*) هذه الرواية نقلها المحشّي قدس‌سره باختصار مع اختلاف في الألفاظ ، وفي الوسائل (٤ : ٧٥٠ ب «١٣» من أبواب القراءة في الصلاة ح ٣) بعد قوله عليه‌السلام : ثمانون آية هكذا : «فخرج الرجل ، فقال عليه‌السلام : يا أبا هارون هل رأيت شيخا أعجب من هذا الذي يزعم أهل العراق أنّه عاقلهم ، يا أبا هارون إنّ المحمد سبع آيات ، وقل هو الله أحد ثلاث آيات ، فهذه عشر آيات ، والزوال ثمان ركعات ، فهذه ثمانون آية».

٢٤٣

هو العرف ، ولا شكّ في حكم العرف وأهل اللسان بعدم إمكان العمل بقوله : " أكرم العلماء" و" لا تكرم العلماء" نعم ، لو فرض علمهم بصدور كليهما حملوا أمر الآمر بالعمل بهما على إرادة ما يعمّ العمل بخلاف ما يقتضيانه بحسب اللغة والعرف.

ولأجل ما ذكرنا وقع من جماعة من أجلاء الرواة السؤال عن حكم الخبرين المتعارضين ، مع ما هو مركوز في ذهن كلّ أحد من أنّ كلّ دليل شرعيّ يجب العمل به مهما أمكن ؛ فلو لم يفهموا عدم الإمكان في المتعارضين لم يبق وجه للتحيّر الموجب للسؤال. مع أنّه لم يقع الجواب في شىء من تلك الأخبار العلاجيّة بوجوب الجمع بتأويلهما معا. وحمل مورد السؤال على صورة تعذّر تأويلهما ولو بعيدا تقييد بفرد غير واقع في الأخبار المتعارضة. وهذا دليل آخر على عدم كلّية هذه القاعدة.

هذا كلّه ، مضافا إلى مخالفتها للإجماع ؛ فإنّ علماء الإسلام من زمن الصحابة إلى يومنا هذا لم يزالوا يستعملون المرجّحات في الأخبار المتعارضة بظواهرها ، ثم اختيار أحدهما وطرح الآخر من دون تأويلهما معا لأجل الجمع.

وأمّا ما تقدّم من عوالي اللآلي ، فليس نصّا ، بل ولا ظاهرا في دعوى تقديم الجمع بهذا النحو على التخيير والترجيح ؛ فإنّ الظاهر من الإمكان في قوله : " فإن أمكنك التوفيق بينهما" ، هو الإمكان العرفي في مقابل الامتناع العرفي بحكم أهل اللسان ، فإنّ حمل اللفظ على خلاف ظاهره بلا قرينة غير ممكن عند أهل اللسان ، بخلاف حمل العام والمطلق على الخاص والمقيّد. ويؤيّده قوله أخيرا : " فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه فارجع إلى العمل بهذا الحديث" ؛ فإنّ مورد عدم التمكّن ولو بعيدا نادر جدّا. وبالجملة : فلا يظنّ بصاحب العوالي ولا بمن هو دونه أن يقتصر في الترجيح على موارد لا يمكن تأويل كليهما ، فضلا عن دعواه الإجماع على ذلك.

والتحقيق الذي عليه أهله : أنّ الجمع بين الخبرين المتنافيين بظاهرهما على أقسام ثلاثة : أحدها : ما يكون متوقّفا على تأويلهما معا. والثاني : ما يتوقّف على تأويل أحدهما المعيّن. والثالث : ما يتوقّف على تأويل أحدهما لا بعينه.

٢٤٤

أمّا الأوّل ، فهو الذي تقدّم أنّه مخالف للدليل والنصّ والإجماع (٢٧٨٨). وأمّا الثاني ، فهو تعارض النصّ والظاهر (٢٧٨٩) الذي تقدّم أنّه ليس بتعارض في الحقيقة.

______________________________________________________

الدليل على خلافه ، وإلّا فمن التزم به في أبواب الفقه فليأت بفقه جديد مخالف لطريقة صاحب الشرع.

وأمّا الثاني فهو أيضا كما ذكره ، لأنّ من تتّبع الفقه وسيرة تبعتها وجد طريقتهم مستقرّة على استعمال المرجّحات في متعارضات الأخبار على وجه التباين بظاهرها ، والحكم بالتخيير مع عدم وجود المرجّح.

وأمّا ما أسلفناه سابقا من إطلاق العلّامة والسيّد عميد الدين والشهيد الثاني قضيّة أولويّة الجمع بحيث يشمل المتعارضين بظاهرهما على وجه التباين ، فلا ينافي ما ذكرناه ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في كلام ابن أبي جمهور من حمل الإمكان في كلامه على الإمكان العرفي دون العقلي ، إذ لولاه لزم حمل أخبار الترجيح على الموارد النادرة بل غير الموجودة ، وهو لا يناسب هذا الاهتمام الوارد في تلك الأخبار ، فهو لا يناسب مثلهم بل من دونهم.

٢٧٨٨. إذ يلزم على تقدير الجمع حمل أخبار العلاج على الموارد النادرة بل غير الواقعة ، وهو مخالف لإجماعهم على استعمال المرجّحات كما تقدّم.

٢٧٨٩. لا خلاف حتّى من الأخباريّين في حمل الظاهر على النصّ والظاهر على الأظهر من دون ملاحظة مرجّحات السند ، والحكم بالتخيير مع عدمها. ويدلّ عليه بعد الإجماع عدم انفهام التنافي بينهما عرفا ، فلا يكونان موردين لأخبار الترجيح والتخيير.

ومنه يظهر ضعف ما يظهر من صاحب الرياض من تقديم بعض العمومات على الخاصّ المخالف له ، لمخالفته للعامّة ، وموافقة الخاصّ لهم ، لأنّه حيث حكم بكون زيادة الركعة مبطلة للصلاة مطلقا ، نظرا إلى العمومات المقتضية له ، مثل الصحيح : «إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها ، واستقبل الصلاة

٢٤٥

وأمّا الثالث ، فمن أمثلته : العامّ والخاصّ من وجه ، حيث يحصل الجمع بتخصيص أحدهما مع بقاء الآخر على ظاهره. ومثل قوله : " اغتسل يوم الجمعة" ، بناء على أنّ ظاهر الصيغة الوجوب. وقوله : " ينبغي غسل الجمعة" ، بناء على ظهور

______________________________________________________

استقبالا». وحكاه عن المشهور ، قال : «خلافا للإسكافي ، فلا إعادة في الرابعة إن جلس بعدها بقدر التشهّد ، واختاره الفاضلان في المعتبر والتحرير والمختلف للصحيحين». ثمّ أجاب عنهما بعد كلام له في البين بحملهما على التقيّة ، قال : «كما صرّح به جماعة حاكين القول بمضمونهما عن أبي حنيفة ، المشهور رأيه في جميع الأزمنة ، وعليه أكثر العامّة» انتهى.

وأنت خبير بأنّ الصحيحين خاصّان بالنسبة إلى العمومات المذكورة ، فلا وجه لملاحظة المرجّحات بينهما. فالأولى في وجه تقديم العمومات عليهما أن يقال بأنّ إعراض المشهور عن العمل بالخبر ـ ولو كان صحيح السند ـ يسقطه عن مرتبة الاعتبار ، وقد عرفت عدم عملهم بهما ، فلا يبقى مقتض للعمل حتّى يجمع بينهما وبين العمومات.

فإن قلت : قد صرّح جماعة من الأصحاب أنّ العامّ قد يقدّم على الخاصّ ، فلا بدّ أن يكون ذلك بعد اعتبار سندهما لأجل بعض المرجّحات ، فكيف تنكر ذلك؟

قلت : إنّما نسلّم تقديم العامّ على الخاصّ في مقامين :

أحدهما : أن يبلغ حكم العامّ في الوضوح والاشتهار إلى أن يقرب من ضروريّات المذهب وإن لم يصر ضروريّا ، فلا يجوز تخصيص مثل هذا العامّ بخبر أو خبرين ، إلّا إذا اكتسى المخصّص بسبب القرائن الخارجة من القوّة مرتبة يصلح لتخصيصه.

وثانيهما : أن يكون الخاصّ موهونا ببعض الامور الخارجة ، مثل إعراض المشهور ونحوه ، فلا يصلح للتخصيص. ولا دليل على تقديم العمومات في غير هذين المقامين ، وإن اقترنت ببعض مرجّحات السند أيضا.

٢٤٦

هذه المادّة في الاستحباب ، فإنّ الجمع يحصل برفع اليد عن ظاهر أحدهما. وحينئذ ، فإن كان لأحد الظاهرين مزيّة وقوّة (٢٧٩٠) على الآخر ـ بحيث لو اجتمعا في كلام واحد ، نحو رأيت أسدا يرمي ، أو اتّصلا في كلامين لمتكلّم واحد ، تعيّن العمل (٢٧٩١) بالأظهر وصرف الظاهر إلى ما لا يخالفه ـ كان حكم هذا حكم القسم الثاني في أنّه إذا تعبّدنا بصدور الأظهر يصير قرينة صارفة للظاهر من دون عكس.

نعم ، الفرق بينه وبين القسم الثاني أنّ التعبّد بصدور النص لا يمكن إلّا بكونه صارفا عن الظاهر ، ولا معنى له غير ذلك ؛ ولذا ذكرنا دوران الأمر فيه بين طرح دلالة الظاهر وطرح سند النص ، وفيما نحن فيه يمكن التعبّد بصدور الأظهر وإبقاء الظاهر على حاله وصرف الأظهر ؛ لأنّ كلا من الظهورين مستند إلى أصالة الحقيقة ، إلّا أنّ العرف يرجّحون أحد الظهورين على الآخر ، فالتعارض موجود والترجيح بالعرف (٢٧٩٢) بخلاف النص والظاهر.

وأمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزيّة على الآخر ، فالظاهر أنّ الدليل المتقدّم في الجمع وهو ترجيح التعبّد بالصدور على أصالة الظهور غير جار هنا ؛ إذ لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما وبأنّ أحدهما لا بعينه مؤوّل لم يترتّب على ذلك أزيد من الأخذ بظاهر أحدهما ، إمّا من باب عروض (٢٧٩٣)

______________________________________________________

٢٧٩٠. يعني : بحسب الدلالة ، لأنّ الجمع العرفي مقدّم على الترجيح بمرجّحات السند.

٢٧٩١. جواب «لو» وقوله «كان» جزاء «إن» الشرطيّة.

٢٧٩٢. قال في الحاشية : «بعد إحراز الترجيح العرفي للأظهر يصير كالنصّ ، ويعامل معه معاملة الحاكم ، لأنّه يمكن أن يصير قرينة للظاهر ، ولا يصلح أن يكون الظاهر قرينة له ، بل لو اريد التصرف فيه احتاج إلى قرينة من الخارج ، فالأصل عدمها ، فافهم» انتهى.

٢٧٩٣. سيجيء تحقيق أنّا إن قلنا باعتبار الظواهر من باب الطريقيّة فمقتضى الأصل تساقط المتعارضين منها ، لخروج الطريق من كونه طريقا بمزاحمة

٢٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مثله ، فيرجع في موردهما إلى الأصل الموافق لأحدهما إن كان أحدهما موافقا له وإلّا فالتخيير. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة فمقتضى الأصل العقلي هو الأخذ بأحدهما تخييرا. وسيجيء أنّ أقواهما هو الأوّل ، لكون اعتبار أصالة الحقيقة من باب الطريقيّة دون السببيّة والموضوعيّة.

وكيف كان ، فمآل الوجهين إلى العمل بمقتضى أحد المتعارضين ، وكذا مقتضى التخيير الشرعي مع فقد المرجّح ، بل وكذا الأخذ بالراجح مع وجود المرجّح ، لأنّ مرجع الجميع إلى الأخذ بأحد المتعارضين لا بهما معا ، فيسقط القول بأولويّة الجمع من الطرح حينئذ ، نظرا إلى كونه عملا بالدليلين ، لما عرفت من مساواتهما في مقام العمل.

نعم ، يثمر القول بأولويّة الطرح من الجمع هنا في إعمال المرجّحات مع وجودها ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. لكن في دعوى انحصار الثمرة فيما ذكره نظر ، لأنّه على التخيير الشرعيّ يجوز تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمخيّر ، بخلاف ما لو قلنا بالتساقط والرجوع إلى الأصل الموافق.

وبالجملة ، إنّ القول بكون المتعارضين بالعموم من وجه موردا لقاعدة الجمع أو موردا لأخبار الترجيح والتخيير ، كما يثمر في صورة وجود المرجّح على ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله ، كذلك يثمر في صورة فقده أيضا على ما ذكرناه.

وتحقيق المقام على ما تقتضيه الحال عاجلا : أنّ في كون المتعارضين بالعموم من وجه موردا لقاعدة الجمع أو لأخبار الترجيح والتخيير وجهان بل قولان. وذكر العامّ والخاصّ من وجه من باب المثال وذكر أظهر الأفراد وأغلبها ، وإلّا فالعبارة الأشمل أن يقال : كلّ خبرين كان لكلّ منهما جهة ظهور وأظهريّة بحيث يتعارضان في جهة الأظهريّة.

وكيف كان ، فالقولان ينشآن من حصول التحيّر في كيفيّة العمل بهما عرفا ، فيدخل في موضوع أخبار الترجيح والتخيير ، ومن كون منشأ التحيّر هنا إجمال

٢٤٨

الإجمال لهما بتساقط أصالتي الحقيقة في كلّ منهما ؛ لأجل التعارض ، فيعمل بالأصل الموافق لأحدهما ، وإمّا من باب التخيير في الأخذ بواحد من أصالتي الحقيقة ، على أضعف الوجهين في حكم تعارض الأحوال إذا تكافأت. وعلى كلّ تقدير يجب طرح أحدهما.

______________________________________________________

الدلالتين ، للعلم إجمالا بكون أحدهما مخصّصا بالآخر ، فيخرج من موضوع أخبار الترجيح ، لأنّ الترجيح فرع ظهور كلّ من المتعارضين في معنى مناف للآخر ولو مع ملاحظة تعارضهما.

ويؤيّده وجهان : أحدهما : تعيّن الأخذ بسندهما في محلّ الافتراق ، إذ لو كانا موردين لأخبار الترجيح لزم التبعيض في السند ، وهو بعيد وإن كان ممكنا عقلا ، لجواز أن يتعبّدنا الشارع بسند خبر بالنسبة إلى بعض مدلوله دون بعض ، بل قد ارتكبه بعضهم ، نظرا إلى أنّ الشهرة ـ مثلا ـ الجابرة لبعض مدلول الخبر الضعيف تكشف عن حقيّة هذا البعض ، وعدم وقوع خلل فيه من جهة الزيادة والنقيصة والتحريف والتغيير عمدا أو سهوا من الراوي ، بخلاف البعض الآخر. ولكن التزامه بعيد ، بل غير تامّ بالنسبة إلى بعض المرجّحات ، ككون الراوي أعدل ونحوه ، فتدبّر. وثانيهما : ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ولكن يوهنه ...».

ثمّ إنّه إذا فرض حصول الشكّ في كون التحيّر من جهة تعارض الدلالتين وإجمالهما أو من جهة تعارض نفس الخبرين ، فمقتضى القاعدة عدم إعمال المرجّحات أيضا ، لاختصاص أخبار الترجيح بمورد تعارض نفس الخبرين ، وهو غير محرز في المقام بالفرض. اللهمّ إلّا أن يقال ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ : إنّ مورد أخبار الترجيح كلّ خبرين وقع التحيّر في كيفيّة العمل بهما لأجل تمانعهما وتزاحمهما ، سواء كانت الحيرة ناشئة من إجمال دلالتهما الناشئ من تعارضهما أم من تعارض نفس الخبرين. فكلّ خبرين متعارضين في بادئ النظر يعرضان على العرف ، فإن حصل بينهما بحسب فهم العرف نوع جمع والتيام ـ كالعامّين مطلقا فهو مورد لقاعدة الجمع ، وإن لم يحصل ذلك ـ كالعامّين من وجه والمتباينين ـ فهو مورد لأخبار الترجيح.

٢٤٩

نعم ، يظهر الثمرة في إعمال المرجّحات السنديّة في هذا القسم ؛ إذ على العمل بقاعدة" الجمع" يجب أن يحكم بصدورهما وإجمالهما ، كمقطوعي الصدور ، بخلاف ما إذا أدرجناه فيما لا يمكن الجمع ، فإنّه يرجع فيه إلى المرجّحات ، وقد عرفت : أنّ هذا هو الأقوى ، وأنّه لا محصّل للعمل بهما على أن يكونا مجملين ويرجع إلى الأصل الموافق لأحدهما.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه : أنّ الظاهر من العرف دخول هذا القسم في الأخبار العلاجيّة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات. لكن يوهنه أنّ اللازم حينئذ بعد فقد المرجّحات التخيير بينهما ، كما هو صريح تلك الأخبار ، مع أنّ الظاهر من سيرة العلماء عدا ما سيجيء من الشيخ رحمه‌الله في العدّة والاستبصار في مقام الاستنباط ، التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما. إلّا أن يقال : إنّ هذا من باب الترجيح بالأصل ، فيعملون بمطابق الأصل منهما ، لا بالأصل المطابق لأحدهما ، ومع مخالفتهما للأصل فاللازم التخيير على كلّ تقدير (٢٧٩٤) ، غاية الأمر أنّ التخيير شرعيّ إن قلنا بدخولهما في عموم الأخبار ، وعقليّ علي القول به في مخالفي الأصل إن لم نقل.

وقد يفصّل بين ما إذا كان لكلّ من الظاهرين مورد سليم عن المعارض كالعامّين من وجه ؛ حيث إنّ مادّة الافتراق في كلّ منهما سليمة عن المعارض ، وبين غيره ، كقوله : " اغتسل للجمعة" و" ينبغي غسل الجمعة" ، فيرجّح الجمع على الطرح في الأوّل ؛ لوجوب العمل بكلّ منهما في الجملة ، فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع بخلاف الثاني. وسيجيء تتمّة الكلام إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

٢٧٩٤. أي : على تقدير اندراج ما نحن فيه في الأخبار العلاجيّة ، وعلى تقدير القول بأولويّة الجمع. أمّا على الثاني فواضح. وأمّا على الأوّل ، فإنّه مع عدم وجود المرجّحات ـ التي منها الأصل المطابق لأحدهما بالفرض ـ يتعيّن التخيير الشرعيّ لا محالة.

٢٥٠

بقي في المقام أنّ شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله فرّع في تمهيده على قضيّة (٢٧٩٥) أولويّة الجمع ، الحكم بتنصيف دار تداعياها وهي في يدهما ، أو لا يد لأحدهما ، وأقاما بيّنة (٣) ، انتهى المحكيّ عنه. ولو خصّ المثال بالصورة الثانية لم يرد عليه ما ذكره المحقّق القمّي رحمه‌الله (٤) (٢٧٩٦) ، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن مناقشة يظهر بالتأمّل. وكيف كان ، فالأولى التمثيل بها وبما أشبهها ، مثل حكمهم بوجوب العمل بالبيّنات في تقويم المعيب والصحيح.

______________________________________________________

٢٧٩٥. ذكر أيضا من فروع ذلك ما لو أوصى بعين لزيد ثمّ أوصى بها لعمرو ، فقيل : يشرك بينهما ، لاحتمال إرادته ذلك ، عملا بالقاعدة. وفيه : أنّ مثله يعدّ عدولا عن الوصيّة الأولى ، فلا وجه للجمع بينهما ، ولذا قال الشهيد أيضا : الأصحّ كون ذلك رجوعا.

٢٧٩٦. توضيحه : أنّ المحقّق القمي قد أورد على ما ذكره الشهيد «بإمكان استناد التنصيف إلى ترجيح بيّنة الداخل فيعطى كلّ منهما ما في يده ، أو بيّنة الخارج فيعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ، إذ دخول اليد وخروجها أعمّ من الحقيقي والاعتباري كما حقّق في محلّه» انتهى.

وتوضيح ما ذكره أنّ اليد الخالية من معارضة يد اخرى وإن كانت ظاهرة في استيعاب ذلك الشيء الذي ثبتت عليه ، وفي أنّه بتمامه ملك لذي اليد ، إلّا أنّها عند المعارضة مع الاخرى ـ كما إذا ثبتت يد كلّ من زيد وعمرو لدار مثلا ـ لا يبقى ليد كلّ منهما ظهور في استيعاب الجميع ، بل يدهما معا حينئذ بمنزلة يد واحدة عند العرف في استيعاب الجميع ، ولذا لو غصبا معا دارا لثالث ، وأثبتا يديهما عليها دفعة واحدة ، حكم بضمان كلّ منهما لنصف الدار لا تمامها ، خلافا لمن حكم بالكلّ للكلّ استنادا إلى استقلال يد كلّ منهما عليها. وحيث ثبت كون يدهما بمنزلة يد واحدة كانت يد كلّ منهما ثابتة على النصف لا محالة ، وكانت بيّنة كلّ منهما بيّنة داخل بالنسبة إلى النصف الذي في يده وبيّنة خارج بالنسبة إلى

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

النصف الآخر ، وإن كان كلّ من الخروج والدخول حينئذ اعتباريّا. فحينئذ إن رجّحنا الأخبار الدالّة على تقديم بيّنة الداخل يعطى كلّ منهما ما في يده من النصف ، وإن رجّحنا بيّنة الخارج يعطى كلّ منهما ما في يد الآخر ، فالحكم بالتنصيف حينئذ مبنيّ على ذلك لا على قضيّة الجمع بين البيّنتين.

وأورد عليه المصنف رحمه‌الله بأنّ هذا الإشكال إنّما يرد على تقدير ثبوت يد كلّ منهما على العين المتنازع فيها ، لا على تقدير عدم ثبوت يد عليها أصلا.

وأمّا وجه المناقشة في صورة عدم اليد على العين المتنازع فيها ، فإنّ دعوى مدّعي الملكيّة عند عدم وجود معارض لها من أمارات الملكيّة ، ولذا لو وجد شيء وادّعاه شخص يعطى ذلك من دون بيّنة. وأمّا مع معارضة دعواه مع دعوى شخص آخر ، فالحكم بالعين لأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، فيشرك بينهما بالسويّة لرفع التحكّم ، وبقاء احتمال كون العين لهذا المدّعي أو ذاك ، ومجرّد الاحتمال من أمارات الملك في مثل المقام. وكأنّه إجماعيّ فيما بينهم ، وله نظير في الشرع ، مثل ما ورد فيما لو كان لأحد درهم وللآخر درهمان ، فتلف أحد الدراهم عند الودعيّ ، من الحكم بأنّ لصاحب الدرهمين درهما ونصفا وللآخر نصفا ، ولأجل ما ذكرنا حكموا بكون التشريك في أمثال المقام مصالحة قهريّة.

وقد ظهر لك ممّا قرّرناه أنّ الحكم بالتشريك في محلّ الكلام إنّما هو لدعوى المتداعيين ، واحتمال كون العين المتنازع فيها لأحدهما بعد سقوط البيّنتين لأجل التعارض ، لا لأجل الجمع بينهما. ومع التسليم فالجمع على النحو المعتبر في تعارض البيّنات غير جار في تعارض أدلّة الأحكام ، كما يظهر من كلام المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى توضيحه ، فلا وجه لجعل الجمع على الوجه الأوّل من فروع الجمع على الوجه الثاني. ويحتمل أيضا أن يكون وجه المناقشة ما سيشير إليه من كون الأصل في تعارض البيّنات هي القرعة لا الحكم بالتنصيف ، فتأمّل.

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ الشهيد الثاني بعد أن ذكر الفرعين المتقدّمين ـ اللذين نقل أحدهما المصنّف رحمه‌الله ونقلنا الآخر قبل الحاشية السابقة ـ لأولويّة الجمع فيما كان التعارض على وجه التباين ، قال : «ولو كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه طلب الترجيح بينهما ، لأنّه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر بأولى من العكس». وذكر من جملة فروعه تفضيل فعل النافلة في البيت على المسجد الحرام ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما عداه إلّا المسجد الحرام» يقتضي تفضيل فعلها فيه على البيت ، لعموم قوله «فيما عداه» وقوله عليه‌السلام : «أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة» يقتضي تفضيل فعلها فيه على المسجد الحرام ومسجد المدينة.

ثمّ قال : «ويترجّح الثاني ـ يعني : تفضيل فعل النافلة في البيت ـ بأنّ حكمة اختيار البيت على المسجد هو البعد عن الرياء المؤدّي إلى إحباط الأجر بالكلّية ، وهو حاصل مع المسجدين وأمّا حكمة المسجدين. فهي الشرف المقتضي لزيادة الفضيلة على ما عداهما ، مع اشتراك الكلّ في الصحّة وحصول الثواب ، ومحصّل الصحّة أولى من محصّل الزيادة».

ويمكن ردّ هذا إلى الأوّل ، يعني : صورة التعارض التي يجمع فيها بين الدليلين مهما أمكن ، فيعمل بكلّ منهما من وجه ، بأن يحمل عموم فضيلة المسجد على الفريضة ، وعموم فضيلة البيت على النافلة ، لأنّ النافلة أقرب إلى مظنّة الرياء من الفريضة. وهذا هو الأصحّ ، وفيه مع ذلك إعمال الدليلين ، وهو أولى من طرح أحدهما.

وأقول : كأنّ نظره في الحكم بكون النسبة بين الروايتين العموم من وجه إلى عموم الرواية الأولى من حيث إثبات الأفضليّة لمطلق الصلاة ـ سواء كانت فريضة أم نافلة ـ في مسجد المدينة بالنسبة إلى سائر الأمكنة ما عدا مسجد الحرام ، وعموم الثانية من حيث إثبات أفضليّة النافلة في البيت بالنسبة إلى سائر الأمكنة حتّى

٢٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فمادّة الاجتماع هي النافلة ، حيث إنّ الرواية الأولى تقتضي أفضليّتها في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والرواية الثانية تقتضي أفضليّتها في البيت. ومادّة الافتراق من جانب الأولى أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من سائر المساجد والأمكنة ما عدا مسجد الحرام ، ومن جانب الثانية أفضليّة النافلة في البيت بالنسبة إلى سائر الأمكنة والمساجد ما عدا المسجدين الأعظمين ، فإنّها لا تعارضها الرواية الاولى في هذه المادّة.

هذا ، ولكن يرد عليه أوّلا أنّ حكمة الحكم لا تصلح للترجيح بين المتعارضين ، لعدم اشتراط الاطّراد فيها كما يشترط ذلك في العلّة.

وثانيا : أنّ الجمع بينهما بحمل الرواية الاولى على أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. والثانية على أفضليّة النافلة في البيت ، كما ذكره ضعيف جدّا ، إذ الجمع بين المتعارضين لا بدّ أن يكون في محلّ التعارض دون غيره ، وقد عرفت عدم معارضة الرواية الثانية للاولى في إثبات أفضليّة الفريضة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتخصيص الرواية الثانية بأفضليّة النافلة في البيت عين الترجيح بها على صاحبها في محلّ التعارض ، وليس ذلك من الجمع في شيء.

ثمّ إنّ المحقّق القمّي بعد أن استشكل في كون حكمة الحكم سببا لترجيح أحد العامّين على الآخر في مقام الجمع ، بأن كانت الحكمة في أفضليّة النافلة في البيت سببا لتخصيص العامّ الآخر ، قال : «إلّا أنّ عمل الأصحاب والشهرة بينهم صار قرينة مرجّحة لهذا الحمل ، وإن وردت روايات معتبرة في استحباب النافلة في المسجد أيضا ، وعمل بها الشهيد الثاني في بعض تأليفاته» انتهى.

وأنت خبير بأنّ الجمع بين العامّين بتخصيص أحدهما المعيّن بالآخر بأمر خارجي لا بدّ أن يكون لأجل أظهريّة أحد العامّين من الآخر بسبب ما اقترنه من الأمر الخارجي ، ولا ريب أنّ عمل الأصحاب لا يوجب أظهريّة أحدهما ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ حتّى يجمع بينهما بالتخصيص ، بل يوجب قوّة في السند ، فيرجّح

٢٥٤

وكيف كان ، فالكلام في مستند أولويّة الجمع (٢٧٩٧) بهذا النحو ، أعني العمل بكلّ من الدليلين في بعض مدلولهما المستلزم للمخالفة القطعيّة لمقتضى الدليلين ؛ لأنّ الدليل الواحد لا يتبعّض في الصدق والكذب. ومثل هذا غير جار في أدلّة الأحكام الشرعيّة.

______________________________________________________

المعمول به منهما في محلّ التعارض ، وهذا ليس من الجمع في شيء كما هو واضح.

٢٧٩٧. قوله «فالكلام» مبتدأ ، و «في مستند» خبره. وحاصله : أنّ كيفيّة الجمع في تعارض البيّنات غير جارية في متعارضات أدلّة الأحكام ، لأنّ الجمع في الثانية بتأويل ظاهر المتعارضين ، وهذا غير جار في تعارض البيّنتين ، لنصوصيّة شهادة البيّنة لأجل تصريحها بالمراد ، فلا يتأتّى التأويل في كلامهما. فالجمع فيها منحصر في تصديقها في بعض مدلول كلامها ، وهذا أيضا غير جار في تعارض أدلّة الأحكام ، لأنّ مضمون خبر العادل ـ أعني : صدور هذا القول الخاصّ عن الإمام عليه‌السلام ـ غير قابل للتبعيض ، نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة والنسب مثلا.

نعم ربّما يتاتى التبعيض من حيث التصديق والتكذيب بحسب ترتيب الآثار لانّ مقتضى تصديق العادل هو ترتيب الحكم المخبر به فى جميع افراد موضوعة فيما اذا كان ذا افراد مثل ما لو ورد اكرم العلماء واهن العلماء فيوخذ بقول احدهما في وجوب اكرام بعض العلماء والآخر في وجوب اهانة بعض آخر ، إلّا أنّ هذا النحو من الجمع غير صحيح في تعارض أدلّة الأحكام ، لاستلزامه المخالفة القطعيّة مقدّمة للعلم بالإطاعة ، وهو قبيح عقلا في باب الإطاعة والمعصية ، لأنّ الحقّ فيه لواحد وهو الله تعالى ، وهو لا يرضى بذلك ، بخلاف تعارض البيّنات ، لأنّ الحقّ فيه لمتعدّد ، وفي الجمع المذكور جمع بين الحقّين. وهذا محصّل ما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

وتحقيق المقام في تعارض البيّنات : أنّا إن قلنا باعتبار البيّنة من باب الطريقيّة والمرآتيّة إلى الواقع ، فعند تعارضها لا بدّ من التوقّف والرجوع إلى مقتضى الاصول في مورد التعارض مطلقا ، لخروجهما من وصف الطريقيّة لأجل التمانع والتزاحم ، نظير تعارض الأخبار على القول باعتبارها من باب الطريقيّة ، على ما سيوضحه المصنّف رحمه‌الله.

٢٥٥

والتحقيق : أنّ العمل بالدليلين بمعنى الحركة والسكون على طبق مدلولهما ، غير ممكن مطلقا (٢٧٩٨) ، فلا بدّ على القول بعموم القضية المشهورة من العمل

______________________________________________________

وإن قلنا باعتبارها من باب التعبّد والسببيّة المحضة ، بأن كان اعتبار شهادة العدل لأجل مراعاة حال العادل ، بأن لا يكذب في شهادته مع قطع النظر عن كشفها عن الواقع ونظرها إليه ، فحينئذ يجب الجمع بالتبعيض في مدلول شهادتهما ، لأنّ العمل على طبق شهادة البيّنتين ممتنع بالفرض ، ولا مرجّح لإحداهما بحكم الفرض ، مع أنّ اعتبار المرجّحات في تعارض البيّنات ثابت في موارد خاصّة على خلاف الأصل ، وقد عرفت أيضا عدم إمكان الجمع بينهما بصرف التأويل إلى ظاهر كلماتهما ، ولا دليل على التخيير في حقوق الناس عقلا ولا نقلا ، فتعيّن الجمع بينهما بالتبعيض بين مدلول كلامهما. وحيث كان اعتبار البيّنة من باب الطريقيّة يتعيّن في مورد تعارضها الرجوع إلى القرعة ، لأنّها لكلّ أمر مشكل ، ولعلّه لذا اختار المصنّف رحمه‌الله ذلك في آخر كلامه.

هذا كلّه بالنظر إلى الأصل والقاعدة. وأمّا بالنظر إلى خصوصيّات الموارد ففيه تفصيل ، فمنها ما لا يمكن التشريك فيه ، ولا يمكن الجمع بينهما أصلا ، كتعارض البيّنات في الأنساب ، وفي وقوع عقد النكاح ، وما يضاهيهما ممّا لا يحتمل فيه التشريك ، فلا بدّ حينئذ من التوقّف والرجوع إلى الاصول حتّى على القول باعتبارها من باب الموضوعيّة أيضا ، ولم يعملوا فيها بالقرعة.

ومنها ما يمكن فيه التشريك والتعارض ، وحينئذ إن وقع في خصوص الأملاك ـ كما هو محلّ الكلام في المقام ـ يحكم بالتشريك في المتنازع فيه ، وكأنّه إجماعيّ. وإن وقع في مثل التقويمات ، بأن قامت بيّنة بأنّ قيمة هذا الشيء عشرة ، وقامت اخرى بأنّها خمسة ، فيتأتّى فيه الاحتمالان ، من الحكم بالتشريك ، بأن يصدّق كلّ منهما في نصف القيمة ، ومن الحكم بالقرعة.

٢٧٩٨. سواء كان ذلك في الموضوعات التي هي موارد البيّنة ، أو الأحكام الكلّية التي هي موارد الأدلّة الشرعيّة.

٢٥٦

على وجه يكون فيه جمع بينهما من جهة وإن كان طرحا من جهة اخرى ، في مقابل طرح أحدهما رأسا. والجمع في أدلّة الأحكام عندهم ، بالعمل بهما من حيث الحكم بصدقهما وإن كان فيه طرح لهما من حيث ظاهرهما.

وفي مثل تعارض البيّنات ، لمّا لم يمكن ذلك ؛ لعدم تأتّي التأويل في ظاهر كلمات الشهود ، فهي بمنزلة النصّين المتعارضين ، انحصر وجه الجمع في التبعيض فيهما من حيث التصديق ، بأن يصدّق كلّ من المتعارضين في بعض ما يخبر به. فمن أخبر بأنّ هذه الدار كلّها لزيد نصدّقه في نصف الدار. وكذا من شهد بأنّ قيمة هذا الشيء صحيحا كذا ومعيبا كذا نصدّقه في أنّ قيمة كلّ نصف منه (٢٧٩٩) منضمّا إلى نصفه الآخر (٢٨٠٠) نصف القيمة. وهذا النحو غير ممكن في الأخبار ؛ لأنّ مضمون خبر العادل أعني صدور هذا القول الخاص من الإمام عليه‌السلام ، غير قابل للتبعيض ، بل هو نظير تعارض البيّنات في الزوجيّة أو النسب.

نعم قد يتصوّر التبعيض في ترتيب الآثار على تصديق العادل إذا كان كلّ من الدليلين عامّا ذا أفراد ، فيؤخذ بقوله في بعضها وبقول الآخر في بعضها ، فيكرم بعض العلماء ويهين بعضهم فيما إذا ورد : " أكرم العلماء" ، وورد أيضا : " أهن العلماء" ، سواء كانا نصّين بحيث لا يمكن التجوّز في أحدهما ، أو ظاهرين فيمكن الجمع بينهما على وجه التجوّز وعلى طريق التبعيض ، إلّا أنّ المخالفة القطعيّة (٢٨٠١) في

______________________________________________________

٢٧٩٩. يعني : من الشيء صحيحا ومعيبا.

٢٨٠٠. يعني : في حال اتّصاله بالنصف الآخر. وكذا تصدّق البيّنة الاخرى في النصف الآخر من الصحيح والمعيب. فإذا قال إحداهما بأنّ قيمته صحيحا عشرة ومعيبا ثمانية ، وقالت الاخرى بأنّ قيمته صحيحا اثنا عشر ومعيبا عشرة ، فإذا صدّقنا كلّا منهما في نصف القيمة صحيحا ومعيبا ، تكون قيمته صحيحا أحد عشر ومعيبا تسعة ، وما به التفاوت بين القيمتين صحيحا ومعيبا هو الأرش.

٢٨٠١. المراد بالمخالفة القطعيّة هنا أعمّ من حصول القطع بمخالفة الواقع ومن حصوله بمخالفة ظاهر الدليل المتعبّد به شرعا ، فتدبّر.

٢٥٧

الأحكام الشرعيّة لا ترتكب في واقعة واحدة ؛ لأنّ الحقّ فيها للشارع ولا يرضى بالمعصية القطعيّة مقدّمة للعلم بالإطاعة ، فيجب اختيار أحدهما وطرح الآخر ، بخلاف حقوق الناس ، فإنّ الحق فيها لمتعدّد ، فالعمل بالبعض في كلّ منهما جمع بين الحقّين من غير ترجيح لأحدهما على الآخر بالدواعي النفسانيّة ، فهو أولى من الإهمال الكلّي لأحدهما وتفويض تعيين ذلك إلى اختيار الحاكم ودواعيه النفسانية الغير المنضبطة في الموارد. ولأجل هذا يعدّ الجمع بهذا النحو مصالحة بين الخصمين عند العرف ، وقد وقع التعبّد به في بعض النصوص أيضا. فظهر ممّا ذكرنا أنّ الجمع في أدلّة الأحكام بالنحو المتقدّم من تأويل كليهما لا أولويّة له أصلا على طرح أحدهما والأخذ بالآخر ، بل الأمر بالعكس.

وأمّا الجمع بين البيّنات في حقوق الناس ، فهو وإن كان لا أولويّة فيه على طرح أحدهما بحسب أدلّة حجّية البيّنة ؛ لأنّها تدلّ على وجوب الأخذ بكلّ منهما في تمام مضمونه ، فلا فرق في مخالفتها (*) بين الأخذ لا بكلّ منهما بل بأحدهما ، أو بكلّ منهما لا في تمام مضمونه بل في بعضه ، إلّا أنّ ما ذكرناه من الاعتبار لعلّه يكون مرجّحا للثاني على الأوّل.

ويؤيده : ورود الأمر بالجمع بين الحقّين بهذا النحو في رواية السكوني المعمول بها فيمن أودعه رجل درهمين وآخر درهما ، فامتزجا بغير تفريط وتلف أحدها. هذا ، ولكنّ الإنصاف : أنّ الأصل في موارد تعارض البيّنات وشبهها هي القرعة. نعم ، يبقى الكلام في كون القرعة مرجّحة للبيّنة المطابقة لها أو مرجعا بعد تساقط البيّنتين.

وكذا الكلام في عموم موارد القرعة أو اختصاصها بما لا يكون هناك أصل عملي ـ كأصالة الطهارة ـ مع إحدى البيّنتين. وللكلام مورد آخر (٢٨٠٢).

______________________________________________________

٢٨٠٢. قد تقدّم بعض الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب عند بيان ما يتعلّق بتعارضها مع الاستصحاب ، فراجع.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مخالفتها» ، مخالفتهما.

٢٥٨

فلنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : حيث تبيّن عدم تقدّم الجمع على الترجيح ولا على التخيير ، فلا بدّ من الكلام في المقامين اللذين ذكرنا أنّ الكلام في أحكام التعارض يقع فيهما ، فنقول : إنّ المتعارضين ، إمّا أن لا يكون مع أحدهما مرجّح فيكونان متكافئين متعادلين ، وإمّا أن يكون مع أحدهما مرجّح.

المقام الأوّل في المتكافئين (٢٨٠٣) والكلام فيه اوّلا : في أنّ الأصل في المتكافئين التساقط وفرضهما كأن لم يكونا (٢٨٠٤) أو لا؟ ثمّ اللازم بعد عدم التساقط : الاحتياط (٢٨٠٥) أو التخيير (٢٨٠٦)

______________________________________________________

٢٨٠٣. لا خلاف ولا إشكال في جواز تكافؤ الأمارتين الشرعيّتين. والحقّ وقوعه أيضا في الشرعيّات ، لشهادة العيان بذلك ، لأنّا وإن سلّمنا عدم وقوعه في أخبارنا الموجودة في كتبنا المدوّنة ، إلّا أنّه ربّما يقع التكافؤ بين فتوى مجتهدين مع تساويهما من جميع الجهات ، وكذا بين البيّنات ، فإنكار المنكر ـ كما عزي إلى العامّة ـ مكابرة للوجدان ومخالفة للعيان ، وما استند إليه ضعيف جدّا ، ولا يزاحم ما يشاهد بالعيان ، فلا جدوى للتعرّض لما فيه.

٢٨٠٤. هذا مذهب فقهاء العامّة كما في النهاية ، بل ربّما عزي إلى العلّامة فيها ، وفيه نظر.

٢٨٠٥. يعني : في مقام العمل مع إمكانه ، وإلّا فالتخيير ، وهو مذهب الأخباريّين.

٢٨٠٦. هذا هو المشهور. ثمّ التخيير يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون شرعيّا ، بأن كان كلّ من الخبرين معتبرا شرعا مخيّرا بينهما في نظر الشارع ، نظير التخيير في خصال الكفّارة.

وثانيهما : أن يكون عقليّا بأن كان أحد الخبرين حقّا في الواقع والآخر باطلا ، واشتبه الحقّ بالباطل في نظر المجتهد ، ولم يمكن التمييز والترجيح ، فيحكم العقل حينئذ بالتخيير بينهما من باب الإلجاء والاضطرار.

٢٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

والفرق بين الوجهين أنّ العقل في الثاني إنّما يحكم بالتخيير مع عدم موافقة شيء من الخبرين للأصل ، وإلّا فيرجّح الجانب الموافق للأصل ، سواء قلنا بكون الأصل مرجّحا أم مرجعا على ما سيأتي ، بخلاف الأوّل ، لأنّ التخيير الشرعيّ مقدّم على الأصل ، لثبوته بحكم الشارع ، فيكون حاكما على الأصل ، بخلاف التخيير العقلي ، إذ الأصل حاكم على حكم العقل كما هو واضح.

فإن قلت : كيف يرجع إلى الأصل ولا مجرى له في مورد الأدلّة الاجتهاديّة ، وافقته أو خالفته؟ لورودها أو حكومتها عليه ، إذ ما هو حقّ في الواقع من الخبرين المفروض حقيّة أحدهما وبطلان الآخر رافع لموضوع الأصل ، سواء كان موافقا له أم مخالفا له ، لأنّ الكلام على فرض عدم تساقطهما.

قلت : إنّ الدليل إنّما يحكم على الأصل مع تلبّسه بلباس البيانيّة فعلا. وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الأصل إنّما يرتفع بالدليل الاجتهادي حقيقة أو حكما إذا كان الدليل مبيّنا لحكم المشكوك فيه بحيث يجب الأخذ بمقتضاه ، والخبران المتعارضان لأجل تمانعهما وتزاحمهما قد خرج كلّ منهما من وصف البيانيّة الفعليّة ، فلا يصلح شيء منهما لرفع موضوع الأصل.

فإن قلت : سلّمنا لكنّ العمل بهذا الأصل مخالف للواقع يقينا ، لأنّ المجعول في الواقع مدلول أحد الخبرين ، لفرض كون أحدهما حقّا في الواقع فمقتضاه هو الحكم الواقعي ولو بتنزيل الشارع ، ومقتضى الأصل يخالف مقتضى كلا الخبرين ، لأنّ مقتضى كلّ منهما إذا لوحظ في نفسه هو الحكم الواقعي ولو بتنزيل الشارع ، من دون مدخليّة للعلم والجهل في موضوع حكمهما ، بخلاف الأصل ، لأنّ مقتضاه ثبوت الحكم في الموضوع المشتبه من حيث كونه مشتبها ، فما كان هو الحقّ من الخبرين يخالف مقتضاه مقتضى الأصل.

قلت : إنّ العلم الإجمالي إنّما يمنع جريان الاصول مع استلزامه للمخالفة العمليّة لا مطلقا ، ومقتضى الأصل ليس بمخالف لمؤدّى كلا الخبرين في مقام العمل ،

٢٦٠