فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

ليس في العقل ما يدلّ على خلاف ذلك ، ولا يستبعد وقوعه ـ كما لو تغيّر اجتهاده ـ إلّا أن يدلّ دليل شرعيّ خارج على عدم جوازه ، كما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢٨٣٠) قال لأبي بكر : " لا تقض في الشيء الواحد بحكمين مختلفين".

أقول : يشكل الجواز ؛ لعدم الدليل عليه (٢٨٣١) ؛

______________________________________________________

٢٨٣٠. يحتمل أن يريد به النهي عن القضاء في القضيّة الشخصيّة بحكمين مختلفين ، فلا يكون لهذه الرواية مدخل فيما نحن فيه.

٢٨٣١. ممّا ذكره يظهر الكلام في غير مقام الحكومة والقضاء أيضا ، إذ الخلاف في كون التخيير استمراريّا أو ابتدائيّا آت في مقام الإفتاء أيضا. وتوضيحه : أنّه قد يستدلّ على الأوّل بوجوه :

أحدها : إطلاق الأخبار الدالّة على ثبوت التخيير ، لأنّها بإطلاقها تشمل صورة الأخذ بأحدهما أيضا.

وثانيها : حكم العقل به ، إذ مناط حكمه بالتخيير ابتداء وقبل الأخذ بأحد المتعارضين إنّما هو تحيّره في مقام العمل لأجل تكافؤ الدليلين المتعارضين ، وهذا المناط موجود بعد الأخذ بأحدهما أيضا ، إذ مجرّد الأخذ أحدهما لا يصيّره حقّا وراجحا على الآخر ، فالعقل كما يحكم بالتخيير قبل الأخذ بأحدهما كذلك بعده ، لبقاء مناط حكمه بعده أيضا بالفرض.

وثالثها : استصحاب حكم التخيير.

وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف جميع هذه الوجوه.

أمّا الأوّل فبمنع الإطلاق ، لأنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وبعبارة اخرى : أنّها واردة لبيان أصل شرعيّة التخيير للمتحيّر ، فلا دلالة فيها على كونه ابتدائيّا أو استمراريّا. نعم ، الأوّل هو المتيقّن منها.

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثاني فبسكوت العقل عن حكم التخيير بعد الأخذ بأحد الدليلين ، لأنّ حكمه بذلك قبل الأخذ بأحدهما لأجل تحيّره وعدم الدليل على الترجيح لأحدهما ، وبعد الأخذ بأحدهما في واقعة لا يحكم بالتخيير في واقعة اخرى ، لاحتمال تعيّن ما أخذه في الواقعة الاولى في هذه الواقعة ، كما يدّعيه القائل بكون التخيير بدويّا ، فمع تأتّي هذا الاحتمال يسقط عن الحكومة التي كان عليها قبل الأخذ بأحدهما ، لانتفاء هذا الاحتمال في أوّل الأمر.

والسر فيه : أنّ الجاهل بطريق إلى مقصده إنّما يكون متحيّرا إذا كان قاصدا للتوصّل به إلى مقصوده ، ولا ريب أنّ مقصود المكلّف في موارد إجمال التكاليف هو التخلّص عن تبعة استحقاق العقاب عليها ، وهذا كما يحصل بتحصيل نفس الواقع كذلك مع تحصيل ما رضي الشارع به عن الواقع. والعقل عند تعارض دليلين متعادلين بعد ثبوت عدم جواز طرحهما معا ، يكشف بعدم إمكان الجمع بينهما وعدم جواز طرحهما عن رضا المعصوم عليه‌السلام بسلوك إحدى الطريقين. وأمّا بعد الأخذ بإحداهما في واقعة ، فلمّا كان إبراء الأمارة المأخوذة بالنسبة إلى سائر الوقائع يقينا وغيرها مشكوكا فيه ، فالعقل لا يعدل عن القطعيّ إلى المشكوك فيه.

وهذا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة وتزاحم الواجبين كان الأقوى استمرار التخيير ، لأنّ الوجه في حكم العقل بالتخيير في أوّل الأمر إنّما هو وجود مصلحة المأمور به في العمل بكلّ منهما ، وعدم رجحان إحدى المصلحتين على الاخرى ، وهذا المناط لا يختلف بالأخذ بأحدهما وعدمه.

هذا ، ويمكن منع الفرق بين القول بالطريقيّة والسببيّة ، بدعوى كون مقتضى القاعدة على الأوّل أيضا استمرار التخيير ، وذلك لأنّ الحكم بالتخيير العقلي ابتداء وقيل الأخذ بأحد الدليلين ـ بناء على القول بالطريقيّة ـ مبنيّ على عدم الإغماض عمّا حقّقه المصنّف رحمه‌الله سابقا ، من كون مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط و

٢٨٢

لأنّ دليل التخيير إن كان الأخبار الدالّة عليه ، فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما. وأمّا العقل الحاكم بعدم جواز طرح كليهما فهو ساكت من هذه الجهة أيضا ، والأصل عدم حجّية الآخر له بعد الالتزام بأحدهما ، كما تقرّر في دليل عدم جواز العدول عن فتوى مجتهد إلى مثله.

______________________________________________________

الرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، وأمّا مع الإغماض عنه ، بدعوى صحّة تزاحم الطريقين ، وعدم خروجهما بذلك من وصف الطريقيّة ، وتسليم حكم العقل بالتخيير حينئذ مع عدم رجحان أحد الدليلين على الآخر ، فلا ريب أنّ مناط هذا الحكم العقلي ـ وهو تزاحم الطريقين ، وعدم رجحان إحداهما على الاخرى ـ باق بعد الأخذ بإحداهما أيضا ، إذ مجرّد الأخذ بإحداهما لا يوجب قوّة في طريقيّة المأخوذ منهما عند العقل حتّى ترجّح بذلك على صاحبها ، ويسقط العقل عن الحكم بالتخيير في الوقائع المتأخّرة. ولعلّه إلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله بالتأمّل.

وأمّا الثالث فبمنع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ، لأنّ التحيّر الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير إن كان باقيا بعد الأخذ بأحد المتعارضين ، فالعقل يستقلّ بحكمه على نحو ما كان مستقلّا به قبله ، وإن لم يكن باقيا فلا معنى لاستصحاب الحكم بالتخيير ، لارتفاع موضوعه. مضافا إلى أنّ التخيير إنّما كان ثابتا للمتحيّر الذي كان عالما بعدم تعيّن أحد الدليلين عليه ، ولم يعلم بقاء هذا الموضوع إلى زمان الأخذ بأحدهما ، لاحتمال تعيّن المأخوذ عليه بعد الأخذ به. وإلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله بقوله : «لأنّ الثابت سابقا ...».

وإذا عرفت بطلان أدلّة القول باستمرار التخيير ثبت القول بكون التخيير بدويّا ، لأنّه المتيقّن ، مضافا إلى قاعدة الاشتغال فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، لما عرفت من احتمال تعيّن المأخوذ بعد الأخذ به.

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلت : إنّا نمنع كون المقام من موارد قاعدة الاشتغال ، لأنّ أصالة البراءة عن التكليف الزائد تنفي احتمال تعيّن المأخوذ ، لكونه تكليفا زائدا.

قلت : مع التسليم إنّ هذا إنّما يتمّ فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير في نفس المكلّف به دون طريقه ، والتردّد هنا في طريقه ، لأنّ مرجع الشبهة إلى الشكّ في كيفيّة امتثال المتعارضين بعد الأخذ بأحدهما وأنّها على وجه التعيين أو التخيير ، وقد قرّر في محلّه أنّ مرجع الشبهة إذا كان إلى الشكّ في بعض شرائط كيفيّة الامتثال فالمتعيّن في مثله الاشتغال دون البراءة ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أواخر مسألة البراءة.

ولكن ربّما يدفعه ما قدّمناه فيما أوردناه على الدليل الثاني للقول الأوّل ، من كون مقتضى القاعدة بعد ثبوت التخيير في الجملة هو الحكم باستمراره ، سواء قلنا باعتبار الأخبار من باب الطريقيّة أم السببيّة.

وقد يستدلّ على المقام أيضا باستصحاب الحكم المختار ، لأنّه بعد الالتزام بمقتضى أحد الدليلين والعمل به يتعلّق به ما تضمّنه من التكليف ، والأصل بقائه في الوقائع الأخر أيضا.

وفيه : ما عرفت من عدم الإجمال في حكم العقل أصلا. مضافا إلى حكومة استصحاب التخيير عليه ، لأنّ الشكّ في بقاء الحكم المختار مسبّب عن الشكّ في بقاء التخيير.

وبلزوم الهرج والمرج المنافي لنظم العالم ، إذ على القول باستمرار التخيير يكون الحكم تابعا لاختيار المكلّف ، لأنّه إنّما يختار في كلّ واقعة ما يوافق غرضه في تلك الواقعة.

وفيه : منع لزوم الهرج ، لندرة مورد تعارض فيه دليلان متكافئان بحيث لا يترجّح أحدهما على الآخر من وجه أصلا. وما يوجد من ذلك فاللازم منه ليس بأكثر ممّا يلزم من إيكال الشارع أمر الزوجة إلى زوجها ، فيتزوّج بها مرّة ويفارقها اخرى ، أو نحو ذلك ممّا يشابهه.

٢٨٤

نعم ، لو كان الحكم بالتخيير في المقام من باب تزاحم الواجبين كان الأقوى استمراره ؛ لأنّ المقتضي له في السابق موجود بعينه ، بخلاف التخيير الظاهريّ في تعارض الطريقين ، فإنّ احتمال تعيين ما التزمه قائم ، بخلاف التخيير الواقعي ، فتأمّل.

واستصحاب التخيير غير جار ؛ لأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخيّر ، فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل. وبعض المعاصرين رحمه‌الله استجود هنا كلام العلّامة رحمه‌الله ؛ مع أنّه منع من العدول عن أمارة إلى اخرى وعن مجتهد إلى آخر ، فتدبّر.

______________________________________________________

وتحقيق المقام بعد ما عرفت من ضعف أدلّة القولين : أنّا إن قلنا باعتبار الأخبار من باب السببيّة فلا مناص من القول باستمرار التخيير على ما عرفت. وإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة فمقتضى القاعدة وإن كان هو التساقط والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، إلّا أنّ الأخبار قد دلّت على ثبوت التخيير في مرحلة الظاهر ، وقد عرفت قصور هذه الأخبار من إفادة استمرار التخيير ، فالمتّجه على هذا القول هو كون التخيير بدويّا لا استمراريّا.

تنبيه : إنّه على المختار من كون التخيير بدويّا ، وأنّه بعد الأخذ بأحدهما يتعيّن عليه المأخوذ ، فهل الملزم هو مجرّد الأخذ والالتزام بمؤدّى أحد المتعارضين ولو قبل وقت العمل به ، بأن يأخذ به ليعمل به في وقته ، أو الالتزام به في زمان الابتلاء به ، أو هو مع العمل به؟ وجوه ثالثها أوجهها ، نظير اختلافهم في الملزم في مسألة التقليد. ويرشد إلى الأوّل الجمود على ظاهر الأخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «بأيّهما أخذت وسعك». وإلى الثاني أنّ الأمر بالأخذ والالتزام إنّما هو من باب المقدّمة للعمل والتوصّل به إليه ، ولا يتعلّق الأمر بالمقدّمة قبل وجوب ذيها ، لكونه عبثا وسفها ، فالأمر بالأخذ لا بدّ أن يكون في زمان وجوب العمل لا قبله. وإلى الثالث أنّ الأخذ بمؤدّى الدليل ولو في وقت وجوب العمل إنّما هو من باب المقدّمة للعمل ، ولا مطلوبيّة له في ذاته ، فالمطلوب بالأمر بأخذ في الحقيقة هو العمل ،

٢٨٥

ثمّ إنّ حكم التعادل (٢٨٣٢)

______________________________________________________

فلا بدّ أن يكون المراد بقوله عليه‌السلام : «بأيّهما أخذت وسعك» هو التوسعة في العمل بأيّهما أراد لا في مجرّد الالتزام. ولعلّ هذا هو الأقوى في المقام.

٢٨٣٢. توضيح المقام : أنّه كما قد تتعارض الأمارات الشرعيّة بعضها مع بعض ، فربّما يوجد هنا مرجّح لأحدهما ، فيرجّح الراجح منهما على الآخر ، وقد يتعادلان فيثبت التخيير ، كذلك مع تعارض أقوال أهل اللغة قد يوجد مرجّح لأحدها وقد لا يوجد.

ولكنّهم قد ذكروا هنا أنّه إن كان بين المتعارضين منها من النسب تباين كلّي ، كما إذا قال أحدهما : إنّ العين بمعنى الذهب ، وقال الآخر : بمعنى الفضّة ، أو عموم من وجه ، كما إذا قال أحدهما : الغناء هو الصوت المطرب ، والآخر : إنّه الصوت مع الترجيع ، يحكم بالاشتراك اللفظي حينئذ. وإن كان بينهما عموم وخصوص مطلقا يؤخذ بقول من ادّعى العموم. والوجه في المقامين كون المثبت مقدّما على النافي ، إذ المثبت ربّما يطّلع على ما لم يطّلع عليه النافي ، إذ مرجع تعارضهما إلى دعوى المثبت اطّلاعه على كون اللفظ موضوعا لهذا المعنى ، ودعوى النافي عدم اطّلاعه عليه ، فلا تعارض بينهما حقيقة. فحيث ادّعى كلّ منهما ما يباين الآخر أو يعمّه من وجه فيؤخذ بكلّ منهما ، لتصادقهما على الثاني في مادّة الاجتماع ، وأمّا في مادّة الافتراق فهما فيها كمدّعي المباين للآخر.

وأمّا إذا كان بينهما عموم مطلقا ، فإنّ مرجع دعوى مدّعي العموم أيضا إلى دعوى اطّلاعه على بعض الموارد التي لم يطّلع عليها الآخر ، فلا يتحقّق التنافي أيضا. وهذا هو الأصل في تعارض اللغات على ما ذكروه. وأوّل من تصدّى لذلك هو العلّامة الطباطبائي في شرحه على الوافية.

وأمّا لو قام بعض القرائن الموهنة للاشتراك اللفظي (*) أو حمله على العموم في الصورة الثالثة ، كما لو ادّعى أحدهما وضع اللفظ في لغة طائفة من العرب ، وادّعى

__________________

(*) في بعض النسخ : في الصورتان الأوليين.

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الآخر وضعه لما يباينه في هذه اللغة ، مع كونهما من أهل الخبرة والتّتبع ، بحيث يبعد عدم اطّلاع أحدهما على ما لم يطّلع عليه الآخر ، فيتوقّف ويرجع إلى مقتضى الاصول كما ذكره المصنّف رحمه‌الله.

ومن هنا يظهر أنّ تعارض أقوال أهل اللغة يفارق في الحكم تعارض الأمارات المنصوصة في أمرين : أحدهما : عدم حمل العامّ على الخاصّ إذا كانا مطلقين ، والآخر : الحكم بالتوقّف عند التعارض ، لأنّ كلّا منهما مخالف لحكم متعارضات الأخبار ، على ما هو التحقيق من حمل العامّ على الخاصّ منها ، والحكم بالتخيير في المتعارضين المتكافئين منها.

والوجه في ذلك واضح ممّا قرّرناه ، لأنّ الحكم بالاشتراك اللفظي في الصورتين الأوليين من تعارض أقوال أهل اللغة إنّما هو لعدم التعارض في الحقيقة على ما عرفت ، والتعارض فيها إنّما يأتي بسبب القرائن الخارجة على ما أشرنا إليه. وكذلك الأخذ بالعموم في الثالثة لأجل ما عرفت من رجوع قول مدّعي العموم إلى دعوى الاطّلاع على ما لم يطّلع عليه الآخر ، بخلاف متعارضات الأخبار ، لأنّ الخبرين المتعارضين بالتباين أو العموم والخصوص من وجه أو مطلقا صادران عن متكلّم واحد أو متكلّمين في حكم متكلّم واحد ، مع اتّحاد التكليف ، ولا ريب في تحقّق التعارض حينئذ على الأوّلين ، وصيرورة الخاصّ قرينة عرفيّة على إرادة الخاصّ من العامّ في الثالث ، بخلاف ما نحن فيه ، لأنّ الفرض فيه صدور كلّ من العامّ والخاصّ عن متكلّم من دون التفات منه حين استعماله إلى متكلّم آخر.

فإن قلت : إنّ المستعملين من أهل اللسان كلّهم بمنزلة متكلّم ومستعمل واحد ، لأنّ مرجع الاستعمالات جميعهم إلى استعمال مستعمل واحد ، وهو واضع الألفاظ ، أعني : يعرب بن قحطان على ما قيل ، لأنّ الجميع تابع له في الاستعمال.

قلت : هذا إنّما يتمّ لو كان استناد علماء اللغة في ضبط معاني الألفاظ وتدوينها إلى مجرّد النقل والرواية عن الواضع ، وليس كذلك ، لأنّ استنادهم و

٢٨٧

في الأمارات المنصوبة في غير الأحكام ـ كما في أقوال أهل اللغة وأهل الرجال ـ هو وجوب التوقّف ؛ لأنّ الظاهر اعتبارها من حيث الطريقية إلى الواقع ـ لا السببية المحضة ـ وإن لم يكن منوطا بالظنّ الفعلي ، وقد عرفت أنّ اللازم في تعادل ما هو من هذا القبيل التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الأصل في ذلك المقام. إلّا أنّه إن جعلنا الأصل من المرجّحات كما هو المشهور وسيجيء ، لم يتحقّق التعادل بين الأمارتين إلّا بعد عدم موافقة شىء منهما للأصل ، والمفروض عدم جواز الرجوع إلى الثالث ؛ لأنّه طرح للأمارتين ، فالأصل الذي يرجع إليه هو الأصل في المسألة المتفرّعة على مورد التعارض ، كما لو فرضنا تعادل أقوال أهل اللغة في معنى" الغناء" أو" الصعيد" أو" الجذع" من الشاة في الأضحية ، فإنّه يرجع إلى الأصل في المسألة الفرعيّة.

______________________________________________________

اعتمادهم في ضبط معاني الألفاظ إلى التتبّع والاجتهاد في موارد استعمالات أهل اللسان ، وهم ليسوا بمأمونين عن الخطأ في اجتهادهم من جهة استعمال علائم الحقيقة والمجاز. فمن ادّعى كون اللفظ موضوعا لمعنى خاصّ ، من جهة ملاحظة استعماله فيه أو تبادره منه عند أهل اللسان أو نحو ذلك ، فربّما يكون ذلك منه ناشئا عن غفلته عن استعمالهم له في فرد آخر أيضا اطّلع عليه صاحبه دونه ، أو كون التبادر ناشئا من قرينة خارجة مختفية عليه ، أو نحو ذلك.

وبالجملة ، إنّه مع كون استنادهم في ضبط معاني الألفاظ إلى اجتهادهم وتتبّعهم للموارد الجزئيّة من استعمالات أهل اللسان ، لا يبقى مقتض لحمل العموم في كلام بعض على الخاصّ في كلام بعض آخر.

وأمّا الحكم بالتوقّف في مورد تحقّق التعارض فلأنّ اعتبار قول أهل اللغة من باب الطريقيّة ، بمعنى أنّ اعتباره إمّا من باب الظنّ الشخصي أو النوعي المقيّد بعدم قيام ظنّ آخر بخلافه ، فإذا تعارض قولا أهل اللغة ، فعلى الأوّل إمّا أن يبقى مع أحدهما ظنّ فعلي بمقتضاه أو لا. فعلى الأوّل يجب الأخذ بما حصل الظنّ منه وطرح الآخر ، لانتفاء مناط اعتباره. وعلى الثاني يجب التوقّف والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لانتفاء مناط اعتبار كلّ منهما. وكذلك على الوجه الثاني ، لفرض

٢٨٨

بقي هنا ما يجب التنبيه عليه خاتمة للتخيير ومقدّمة للترجيح (٢٨٣٣) ، وهو : أنّ الرجوع إلى التخيير غير جائز إلّا بعد الفحص التامّ عن المرجّحات ؛ لأنّ مأخذ التخيير إن كان هو العقل الحاكم بأنّ عدم إمكان الجمع في العمل لا يوجب إلّا طرح البعض ، فهو لا يستقلّ بالتخيير في المأخوذ والمطروح إلّا بعد عدم مزيّة في أحدهما اعتبرها الشارع في العمل ، والحكم بعدمها لا يمكن إلّا بعد القطع بالعدم أو الظنّ المعتبر أو إجراء أصالة العدم التي لا تعتبر فيما له دخل في الأحكام الشرعيّة الكلّية إلّا بعد الفحص التام ، مع أنّ أصالة العدم لا تجدي (٢٨٣٤) في استقلال العقل بالتخيير ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

تقيّد اعتبار كلّ منهما بعدم الآخر ، بل وكذلك إن قلنا باعتباره من باب الظنّ النوعي المطلق ، لخروج كلّ من القولين ـ لأجل التعارض ـ من وصف إفادته للظنّ ، نظير تعارض الأخبار على هذا القول ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله سابقا.

وأمّا على القول بالتخيير في تعارض الأخبار ، فإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة فلا دخل له فيما نحن فيه. وإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة ، فهو من جهة التعبّد بأخبار التخيير لا من باب القاعدة والأصل.

٢٨٣٣. أمّا كونه خاتمة له فواضح ، لتضمّنه بيان كون مورد ثبوت التخيير هو صورة الفحص عن المرجّح وعدم وجدانه. ولكن كان عليه أن يبيّن مقدار الفحص أيضا ، ولعلّه قد اكتفي عنه بما ذكره في مسألة البراءة.

وأمّا كونه مقدّمة للترجيح فغير ظاهر الوجه ، لأنّ وجوب الفحص مبنيّ على وجوب الترجيح ، فالبحث عن وجوب الفحص عنه متأخّر عن البحث عن وجوب الترجيح لا مقدّم عليه. ولعلّه قد نظر إلى تقدّم نفس الفحص على الترجيح ، وإن تأخّر وجوبه عن وجوبه.

٢٨٣٤. لأنّها أصل قد ثبت التعبّد بمقتضاه شرعا في مورد الشكّ ، والعقل إنّما يستقلّ بحكم في مورد بعد إحراز جميع ما له دخل في حكمه وجودا وعدما على سبيل القطع أو الظنّ المعتبر ، وأصالة العدم لا ترفع الشكّ ، فلا يستقلّ معه العقل بالحكم بالتخيير.

٢٨٩

وإن كان مأخذه الأخبار ، فالمتراءى منها من حيث سكوت بعضها عن جميع المرجّحات وإن كان جواز الأخذ بالتخيير ابتداء ، إلّا أنّه يكفي في تقييدها دلالة بعضها الآخر على وجوب الترجيح ببعض المرجّحات المذكورة فيها ، المتوقّف على الفحص عنها ، المتمّمة فيما لم يذكر فيها من المرجّحات المعتبرة بعدم القول بالفصل بينها. هذا ، مضافا إلى لزوم الهرج والمرج ، نظير ما يلزم من العمل بالاصول العمليّة واللفظية قبل الفحص.

هذا ، مضافا إلى الإجماع القطعي بل الضرورة من كلّ من يرى وجوب العمل بالراجح من الأمارتين ؛ فإنّ الخلاف وإن وقع من جماعة في وجوب العمل بالراجح من الأمارتين وعدم وجوبه لعدم اعتبار الظنّ في أحد الطرفين ، إلّا أنّ من أوجب العمل بالراجح أوجب الفحص عنه ، ولم يجعله واجبا مشروطا بالاطّلاع عليه. وحينئذ ، فيجب على المجتهد الفحص التام عن وجود المرجّح لإحدى الأمارتين.

______________________________________________________

وفيه نظر ، إذ لم يظهر فرق في ذلك بين الاصول التعبّدية والطرق غير العلميّة وإن أفادت الظنّ ، لأنّ حكم العقل بالتخيير في مورد الظنّ بعدم المزيّة لأحد المتعارضين إن كان لأجل إدراكه لعدم المزيّة في الواقع ، فلا ريب أنّ الظنّ لا يثبت ذلك ، لبقاء احتمال الخلاف معه. نعم ، لو اعتبر حكم العقل ظنّا لأجل كون بعض مقدّماته ظنّيا صحّ ذلك ، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره حينئذ. وإن كان لأجل تعبّد الشارع بعدم احتمال الخلاف في مورد الظنّ حتّى يكون حكمه بالتخيير ظاهريّا ، فلا شكّ أنّ أصالة العدم أيضا كذلك ، لأنّ مقتضى اعتبارها شرعا عدم الاعتناء باحتمال خلاف مقتضاها.

وبالجملة ، إنّ الظنّ والشكّ متّحدان في الحكم ، فإن لم يقم على اعتبار الظنّ دليل شرعا فهو بمنزلة الشكّ في عدم جواز ترتيب أثر عليه ، وإلّا فهو والشكّ الذي رتّب الشارع عليه آثار المشكوك فيه بمنزلة العلم في الظاهر ، وإن فارقا العلم من بعض الجهات ، فتدبّر.

٢٩٠

المصادر

______________________________________________________

(١) الفوائد الحائرية : ص ١١٧ ـ ١٢٥ ؛ القوانين ج ١ : ص ٤٤٠ ، ج ٢ : ص ١٠٢.

(٢) عوالي اللآلي ج ٤ : ص ١٣٦.

(٣) تمهيد القواعد : ص ٢٨٤.

(٤) القوانين ج ٢ : ص ٢٧٩.

(٥) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٩٩.

٢٩١
٢٩٢

المقام الثاني في التراجيح

الترجيح : تقديم إحدى الأمارتين على الاخرى في العمل ؛ لمزيّة لها عليها بوجه من الوجوه. وفيه مقامات (٢٨٣٥):

______________________________________________________

٢٨٣٥. لا يذهب عليك أنّ هنا مقامات خامسا كان للمصنّف رحمه‌الله أن يشير إليه أيضا ، وإن كان أكثر ما سنذكره مستفادا من تضاعيف كلماته ، إلّا أن ذكره في عنوان أدخل في معرفة وجوه التراجيح ومجاريها.

فنقول : إنّ الترجيح لا بدّ أن يكون لأسباب ، ولا بدّ في معرفة مجاريها من معرفة أقسام الأدلّة ، فليعلم أنّ الدّليلين المتعارضين إمّا لبّيان ، كالإجماعين المنقولين والشّهرتين كذلك ونحوهما ، أو لفظيّان كتعارض الخبرين ، أو مختلفان كالملفّق من اللبّي واللفظي.

وجميع أسباب الترجيح أيضا لا يخلو من أقسام أربعة ، لأنّها إمّا أن ترجع إلى جهة الصدور ، وهي الامور التي لها دخل في قوّة السند ، ككون أحدهما عالي السند أو كثير الرواة ، أو كون الرواية مسندة لا مرسلة ومتّصلة لا مقطوعة ، وكذا الامور التي ترجع إلى صفات الراوي ، ككونه أوثق أو أورع أو أفقه أو فطنا أو نحو ذلك.

وإمّا أن ترجع إلى وجه الصدور ، كورود الرواية في مقام التقيّة. وأمّا ورودها لمصالح أخر ـ كما حكي عن صاحب الحدائق ، وربّما يومي إليه بعض عبارات المصنّف رحمه‌الله أيضا ـ فليس في أخبارنا ما يطمئنّ بكونه من هذا الباب إن

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يحصل الإجماع على خلافه.

ثمّ التقيّة تارة تكون في العمل ، كصلاة الإمام عليه‌السلام خلف المخالف وتوضّئه على طريقتهم عند الخوف منهم. وهذه ليست من أسباب الترجيح ، بمعنى كون الخبر المتضمّن لذلك مرجوحا بالنسبة إلى ما لم يكن كذلك ، إذ التكليف الذي تضمّنه الفعل الواقع في مقام التقيّة تكليف واقعي أوّلي ، بمعنى كون التكليف الواقعي للمكلّف عند الخوف من الكلاب الممطورة هو وجوب التوضّى مثلا على طريقتهم ، وليس حكما ظاهريّا كما توهّمه المحقّق القمّي رحمه‌الله. وقد بسطنا بعض الكلام في ذلك في تعليقنا على القوانين ، فراجع إليها. فإذا أورد خبر متضمّن لتوضّؤ الإمام عليه‌السلام على طريقتهم عند الخوف منهم ، وآخر متضمّن للتوضّى على مذهب الطائفة الناجية المحقّة ، لا يتحقّق التعارض بينهما أصلا.

واخرى في القول ، وهي على وجوه :

أحدها : أن لا يقصد الإمام عليه‌السلام بكلامه الصادر عنه في مقام التقيّة شيئا لا معناه الظاهري ولا غيره ، بل كان مقصوده مجرّد دفع الخوف عن نفسه بهذا الكلام.

وثانيها : أن يقصد بكلامه خلاف ظاهره من دون نصب قرينة عليه ، بأن كان لكلامه ظاهر وأراد خلافه دفعا للتقيّة ، ولذا قد يحمل على خلافه ، نظرا إلى اندفاع التقيّة بذلك ، فيكون خلافه مقصودا. وببالي أنّه يظهر ذلك من بعض كلمات المصنّف رحمه‌الله.

وفي إطلاقه نظر ، إذ على تقدير إرادة خلاف الظاهر فالتقيّة قرينة صارفة لا معيّنة ، فإذا كان خلاف ظاهره محتملا لوجهين لا يتعيّن المراد بذلك. اللهمّ إلّا أن يكون أحدهما أقرب المجازين ، فتدبّر.

وثالثها : أن يورد الكلام على وجه الإجمال حيثما تندفع التقيّة بذلك ، بأن كان الكلام ذا وجهين فصاعدا من دون ظهور له في أحدهما ، فأراد أحدهما من دون نصب قرينة عليه ، مثل ما سئل بعض العلماء عن عليّ عليه‌السلام وأبي بكر أيّهما

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : من بنته في بيته ، ومنه قول عقيل : أمرني معاوية أن ألعن عليّا ألا فالعنوه.

وإمّا أن ترجع إلى جهة الدلالة ، ككون دلالة أحدهما بالعموم والآخر بالخصوص ، أو بالإطلاق والتقييد ، أو أحدهما بالمنطوق والآخر بالمفهوم.

وإمّا أن ترجع إلى جهة المضمون ، بأن كان مضمون أحدهما أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، لأجل الموافقة للشهرة ونحوها. وجميع المرجّحات المذكورة في الباب لا يخرج من أحد الأقسام الأربعة المذكورة. وربّما يزاد عليها قسم خامس ، وهي مرجّحات المتن ، وقد أدرجناه في الأقسام المذكورة تقليلا للأقسام.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ الدليلين المتعارضين لا يخلوان : إمّا أن يكونا لفظيّين ، أو لبّيين ، أو مختلفين. وأمّا معرفة تأتّي وجوه التراجيح كلّا أو بعضا في أقسام الأدلّة المتعارضة فتتوقّف على توضيح للمقام ، فنقول : إنّ الدليل اللفظي إمّا هو الكتاب أو السنّة النبويّة أو الإماميّة ، أعني : الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

وأمّا الكتاب فلا تتأتّى فيه مرجّحات السند ، لقطعيّة سنده. اللهمّ إلّا أن يفرض بالنسبة إلى اختلاف القراءات ، كقراءة يطهرن بالتخفيف والتضعيف. وكذا مرجّحات وجه الصدور ، لعدم تأتّي احتمال التقيّة في كلامه سبحانه. وأمّا مرجّحات الدلالة أو المضمون فهي جارية فيه ، كتعارض منطوق آية مع مفهوم اخرى ، أو ظاهري آيتين مع موافقة أحدهما للشهرة.

وأمّا السنّة النبويّة فيجري فيها جميع المرجّحات ما عدا مرجّحات وجه الصدور ، لعدم تقيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان الأحكام ، لعدم خوفه من أحد في عصره في إبلاغها. وأمّا السنّة الإماميّة فيجري فيها المرجّحات بأقسامها ، وهو واضح.

وأمّا الدليل اللبّي ، وهو فعل الإمام عليه‌السلام ، وتقريره ، والإجماع محصّلا ومنقولا على ما ستعرفه ، أو الشهرة أو ما يضاهيها ، فلا تجري فيه مرجّحات الدلالة مطلقا ، لفرض عدم كونه من قبيل اللفظ حتّى تصلح دلالته للقوّة والضعف.

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا باقي المرجّحات ، فأمّا الفعل والتقرير فتجري فيهما المرجّحات الصدوريّة. وأمّا وجه الصدور فتجري في الثاني دون الأوّل ، لما عرفت من خروج التقيّة في العمل من موضوع البحث ، بخلاف التقيّة في تقرير شخص على عمله ، لجواز أن يأتي شخص في حضور إمام عليه‌السلام بفعل وقرّره عليه‌السلام على هذا الفعل خوفا منه أو من غيره. والتقيّة في التقرير كالتقيّة في القول في الاندراج في عنوان البحث ، كما يظهر ممّا قدمناه. وأمّا مرجّحات المضمون فتجري في كلّ منهما ، كموافقة كلّ منهما للكتاب أو الشهرة مثلا.

وأمّا الإجماع ، فليعلم أنّه لا يمكن فرض التعارض بين الإجماعين المحصّلين على طريقة المتأخّرين من الحدس ، لكشفه عن رضا المعصوم عليه‌السلام على سبيل القطع ، ولا يمكن رضاه بالمتنافيين. وأمّا على طريقة القدماء فيمكن فرض التعارض بينهما ، لكون اعتبار الإجماع عندهم باعتبار دخول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوال المجمعين ، ويمكن صدور أحد قولي الإمام عليه‌السلام عن تقيّة ، وعليه يمكن فرض انعقاد الإجماع على طرفي النقيض بالنسبة إلى شخص واحد.

وإذا تحقّق هذا فاعلم أنّ مرجّحات الصدور غير جارية في الإجماع مطلقا ، سواء كان محصّلا أم منقولا. أمّا المحصّل فواضح. وأمّا المنقول فلكون علمائنا رضوان الله عليهم مأمونين عن احتمال الكذب في حقّهم ، لعلمنا بصدقهم في كلّ باب. نعم ، ليسوا بمأمونين عن احتمال الخطأ والاشتباه ، فإذا ادّعى أحدهم الإجماع في مسألة فاحتمال كذبه في دعواه منتف وإن احتمل خطائه في تحصيل الإجماع ، ولذا لا نعتمد على كثير من الإجماعات ، كإجماعات القدماء ، لكثرة ما ظهر من خطائهم في دعواها بحيث لا يطمأنّ بها.

وأمّا مرجّحات وجه الصدور فقد عرفت الحال فيها بالنسبة إلى الإجماعات المحصّلة. وأمّا المنقولة فلا مسرح لها فيها ، لعدم خوف علمائنا في تحرير المسائل كي يدّعوا الإجماع على خلاف معتقدهم. وأمّا مرجّحات المضمون فتجري في

٢٩٦

الأوّل : في وجوب ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الداخليّة أو الخارجيّة الموجودة فيه. الثاني : في ذكر المزايا المنصوصة والأخبار الواردة. الثالث : في وجوب الاقتصار عليها أو التعدّي إلى غيرها. الرابع : في بيان المرجّحات من الداخليّة والخارجيّة.

أمّا المقام الأوّل فالمشهور فيه وجوب الترجيح (١). وحكي عن جماعة منهم الباقلاني (٢٨٣٦) والجبّائيان ، عدم الاعتبار بالمزيّة وجريان حكم التعادل.

ويدلّ على المشهور مضافا إلى الإجماع المحقّق والسيرة القطعيّة والمحكيّة عن الخلف والسلف وتواتر الأخبار بذلك : أنّ حكم المتعارضين من الأدلّة على ما عرفت بعد عدم جواز طرحهما معا ، إمّا التخيير لو كانت الحجّية من باب الموضوعيّة والسببيّة ، وإمّا التوقّف لو كانت الحجّية من باب الطريقية ، ومرجع التوقّف أيضا إلى التخيير (٢٨٣٧) إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات أو فرضنا الكلام في

______________________________________________________

المنقول مطلقا ، وفي المحصّل على طريقة القدماء دون المتأخّرين ، لما عرفت من عدم إمكان فرض التعارض على طريقتهم ، بخلافه على طريقة القدماء ، لكون الإجماع على طريقتهم كالنصّ القطعيّ الصدور. والله العالم والهادي إلى الصواب.

٢٨٣٦. ومنهم السيّد الصدر الشارح للوافية ، حيث ذهب إلى استحباب الترجيح ، كما سيأتي في كلام المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى ما يتعلّق بكلامه. وعليه فالأقوال في المسألة ثلاثة : وجوب الترجيح ، واستحبابه ، وعدم شيء منهما.

٢٨٣٧. حاصله : أنّا إن لم نجعل الأصل من المرجّحات ، فمرجع التوقّف إلى التخيير إمّا بالنقل أو العقل. أمّا الأوّل فواضح ، لأنّ الأخبار بإطلاقها تدلّ على ثبوت التخيير في المتكافئين مطلقا ، سواء كان أحدهما مطابقا بالأصل أم لا. وأمّا الثاني فهو مبنيّ على جواز تزاحم الطريقين وعدم تساقطهما عند التعارض ، نظير تزاحم السببين ، إذ على تقدير التساقط لا بدّ من الرجوع إلى الأصل الموافق لا محالة. ولكن شيء من الوجهين لا يجدي في نفي وجوب الترجيح عند وجود المرجّح كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، وإن جعلنا الأصل من المرجّحات ، فلا بدّ من فرض الكلام في صورة مخالفة كلّ من الخبرين للأصل ، إذ لا مناص من القول بالتخيير حينئذ عقلا.

٢٩٧

مخالفي الأصل ؛ إذ على تقدير الترجيح بالأصل يخرج صورة مطابقة أحدهما للأصل عن مورد التعادل. فالحكم بالتخيير ، على تقدير فقده (٢٨٣٨) أو كونه مرجعا ، بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا (٢٨٣٩) التخيير ، لا الرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما. والتخيير إمّا بالنقل وإمّا بالعقل ، أمّا النقل فقد قيّد فيه التخيير بفقد المرجّح ، وبه يقيّد ما اطلق فيه التخيير ، وأمّا العقل فلا يدلّ على التخيير بعد احتمال اعتبار الشارع للمزيّة وتعيين العمل بذيها.

ولا يندفع هذا الاحتمال بإطلاق أدلّة العمل بالأخبار ؛ لأنّها في مقام تعيين العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، لكن صورة التعارض ليست من صور إمكان العمل بكلّ منهما ، وإلّا لتعيّن العمل بكليهما. والعقل إنّما يستفيد من ذلك الحكم المعلّق بالإمكان عدم جواز طرح كليهما (*) ، لا التخيير بينهما ، وإنّما يحكم بالتخيير بضميمة أنّ تعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فإن استقلّ بعدم المرجّح حكم بالتخيير ؛ لأنّه نتيجة عدم إمكان الجمع وعدم جواز الطرح وعدم وجود المرجّح لأحدهما ، وإن لم يستقلّ بالمقدّمة الثالثة توقّف عن التخيير ، فيكون العمل بالراجح معلوم الجواز والعمل بالمرجوح مشكوكا.

______________________________________________________

وممّا ذكرناه قد ظهر أنّه لا بدّ أن يقيّد قوله : «إذا لم نجعل الأصل من المرجّحات» بعدم جواز الرجوع إلى الأصل الموافق أيضا ، كما أشار إليه بقوله الآتي : «بناء على أنّ الحكم في المتعادلين مطلقا ...» ، لأنّه في حكم الترجيح في وجوب العمل بأحدهما المعيّن ، فلا يجتمع مع القول بالتخيير ، كيف لا وهو والقول بالتساقط والرجوع إلى الأصل المطابق قولان مختلفان في المسألة ، كما تقدّم في عنوان المسألة.

٢٨٣٨. أي : فقد الأصل الموافق.

٢٨٣٩. أي : سواء كان الأصل الموجود موافقا لأحدهما أم مخالفا لهما.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : مع إمكان الأخذ بأحدهما.

٢٩٨

فإن قلت : اوّلا : إنّ كون الشيء مرجّحا ـ مثل كون الشيء دليلا ـ يحتاج إلى دليل ؛ لأنّ التعبّد بخصوص الراجح إذا لم يعلم من الشارع كان الأصل عدمه ، بل العمل به مع الشكّ يكون تشريعا ، كالتعبّد بما لم يعلم حجّيته. وثانيا : إذا دار الأمر بين وجوب أحدهما على التعيين وأحدهما على البدل ، فالأصل براءة الذمّة عن خصوص الواحد المعيّن ، كما هو مذهب جماعة في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

قلت : أمّا كون الترجيح كالحجّية أمرا يجب ورود التعبّد به من الشارع مسلّم ، إلّا أنّ الالتزام بالعمل بما علم جواز العمل به من الشارع من دون استناد الالتزام إلى إلزام الشارع ، احتياط لا يجري فيه ما تقرّر في وجه حرمة العمل بما وراء العلم ، فراجع. نظير الاحتياط بالتزام ما دلّ أمارة غير معتبرة على وجوبه مع احتمال الحرمة أو العكس.

وأمّا إدراج المسألة في مسألة دوران المكلّف به بين أحدهما المعيّن وأحدهما على البدل ، ففيه : أنّه لا ينفع بعد ما اخترنا في تلك المسألة وجوب الاحتياط وعدم جريان قاعدة البراءة. والأولى منع اندراجها (٢٨٤٠) في تلك المسألة ؛ لأنّ مرجع الشكّ في المقام إلى الشك في جواز العمل بالمرجوح ، ولا ريب أنّ مقتضى القاعدة المنع عمّا لم يعلم جواز العمل به من الأمارات ، وهي ليست مختصّة بما إذا شكّ في أصل الحجّية ابتداء ، بل تشمل ما إذا شكّ في الحجّية الفعليّة مع إحراز الحجّية الشأنيّة ، فإنّ المرجوح وإن كان حجّة في نفسه ، إلّا أنّ حجّيته فعلا مع معارضة الراجح ـ بمعنى جواز العمل به فعلا ـ غير معلوم ، فالأخذ به والفتوى بمؤدّاه تشريع محرّم بالأدلّة الأربعة.

______________________________________________________

٢٨٤٠. حاصله : أنّ النزاع في كون المرجع فيما دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير هي أصالة البراءة أو الاحتياط ، إنّما هو فيما كانت الشبهة ناشئة من الشكّ في بعض شرائط المأمور به ، كما لو دار الأمر بين وجوب عتق مطلق الرقبة وخصوص المؤمنة ، فلا يشمل ما كانت الشبهة فيه ناشئة من الشكّ في بعض شرائط الامتثال كما فيما نحن فيه ، وإلّا فالمتعيّن فيه الرجوع إلى قاعدة الاحتياط ، كما تقدّم في أواخر مسألة البراءة.

٢٩٩

هذا ، والتحقيق : أنّا إن قلنا بأنّ العمل بأحد المتعارضين في الجملة مستفاد من حكم الشارع به بدليل الإجماع والأخبار العلاجية ، كان اللازم الالتزام بالراجح وطرح المرجوح وإن قلنا بأصالة البراءة عند دوران الأمر في المكلّف به بين التعيين والتخيير ؛ لما عرفت : من أنّ الشكّ في جواز العمل بالمرجوح فعلا ، ولا ينفع وجوب العمل به عينا في نفسه مع قطع النظر عن المعارض ، فهو كأمارة لم يثبت حجّيتها أصلا.

وإن لم نقل بذلك ، بل قلنا باستفادة العمل بأحد المتعارضين من نفس أدلّة العمل بالأخبار : فإن قلنا بما اخترناه : من أنّ الأصل التوقّف ـ بناء على اعتبار الأخبار من باب الطريقية والكشف الغالبي عن الواقع ـ فلا دليل على وجوب الترجيح بمجرّد قوّة في أحد الخبرين ؛ لأنّ كلّا منهما جامع لشرائط الطريقيّة ، والتمانع يحصل بمجرد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الاصول الموجودة في تلك المسألة إذا لم تخالف كلا المتعارضين ، فرفع اليد عن مقتضى الأصل المحكّم في كلّ ما لم يكن طريق فعليّ على خلافه بمجرّد مزيّة لم يعلم اعتبارها ، لا وجه له ؛ لأنّ المعارض المخالف بمجرّده ليس طريقا فعليّا ؛ لابتلائه بالمعارض الموافق للأصل ، والمزيّة الموجودة لم يثبت تأثيرها في دفع المعارض.

وتوهّم : استقلال العقل بوجوب العمل بأقرب الطريقين إلى الواقع ، وهو الراجح. مدفوع بأنّ ذلك إنّما هو فيما كان بنفسه (٢٨٤١) طريقا كالأمارات المعتبرة لمجرّد إفادة الظنّ. وأمّا الطرق المعتبرة شرعا من حيث إفادة نوعها الظنّ وليس اعتبارها منوطا بالظنّ ، فالمتعارضان المفيدان منها بالنوع للظنّ في نظر الشارع سواء.

______________________________________________________

٢٨٤١. يعني : بحكم العقل وإن لحقه إمضاء الشارع ، لا بجعل الشارع ، كالظنّ المطلق عند انسداد باب العلم.

ثمّ إنّ دعوى عدم جواز الترجيح بالمزيّة الموجودة في أحد الخبرين إذا قلنا باعتبارهما من باب الظنّ النوعي لا يخلو من إشكال ، لأنّ عدم إناطة اعتبارهما بإفادة الظنّ الفعلي لا ينافى الترجيح بالمزيّة المذكورة المفيدة للظنّ نوعا أو شخصا ، لأنّ

٣٠٠