فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

غيره ، وهي هنا المقبولة. ولا دليل على الترجيح بالشهرة العمليّة ، مع أنّا نمنع أنّ عمل (٢٨٦٣) المشهور على تقديم الخبر المشهور رواية على غيره إذا كان الغير أصحّ منه من حيث صفات الراوي ، خصوصا صفة الأفقهيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ السؤال لما كان عن الحكمين كان الترجيح فيهما من حيث الصفات ، فقال عليه‌السلام : " الحكم ما حكم به أعدلهما ..." مع أنّ السائل ذكر : " أنّهما اختلفا (٢٨٦٤) في حديثكم" ؛ ومن هنا اتّفق الفقهاء على عدم الترجيح بين الحكّام إلّا بالفقاهة والورع ، فالمقبولة نظير رواية داود بن الحصين الواردة في اختلاف الحكمين من دون تعرّض الراوي ، لكون منشأ اختلافهما الاختلاف في الروايات ، حيث قال عليه‌السلام : " ينظر إلى أفقههما وأعلمهما وأورعهما فينفذ حكمه" ، وحينئذ فيكون الصفات من مرجّحات الحكمين.

______________________________________________________

غير موضع من الكتاب ، إلّا أنّ ضعفها منجبر بموافقتها سيرة العلماء رضوان الله عليهم في باب الترجيح.

وأمّا الثانية فإنّها وإن كانت موهونة بإعراض الأصحاب عنها من حيث تقديم الترجيح بصفات الراوي فيها على الترجيح بالشهرة ، إلّا أنّ وهنها منجبر بتلقّي الأصحاب لها بالقبول حتّى سمّيت مقبولة ، بل السند أيضا إمّا صحيح أو موثّق كما تقدّم ، فإذن لا ترجيح لشيء منهما على الآخر حتّى يؤخذ به ويطرح الآخر.

٢٨٦٣. بذلك تخرج المقبولة من المخالفة لعمل الأصحاب.

٢٨٦٤. يعني : أنّ جواب الإمام عليه‌السلام عن السؤال عن اختلاف الحكمين ـ مع أنّ السائل ذكر أنّهما اختلفا في حديثكم ـ بالرجوع إلى الصفات التي هي من المرجّحات بين الحكّام ، يرشد إلى إعراض الإمام عليه‌السلام عن الجواب عن حيثيّة اختلافهما في مستند حكمهما. نعم ، لمّا فرض الراوي تساويهما فيها أرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة مرجّحات مستندهما ، فأوّل مرجّحات الرواية في المقبولة هي الشهرة ، فتوافق المقبولة حينئذ.

٣٢١

نعم ، لما فرض الراوي تساويهما ، أرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة الترجيح في مستنديهما وأمره بالاجتهاد والعمل في الواقعة على طبق الراجح من الخبرين مع إلغاء حكومة الحكمين كليهما ، فأوّل المرجّحات الخبريّة هي الشهرة بين الأصحاب فينطبق على المرفوعة.

نعم قد يورد على هذا الوجه : أنّ اللازم على قواعد الفقهاء الرجوع مع تساوي الحاكمين إلى اختيار المدّعي. ويمكن التفصّي عنه : بمنع جريان هذا الحكم في قاضي التحكيم. وكيف كان فهذا التوجيه غير بعيد.

الثاني : أنّ الحديث الثامن وهي رواية الاحتجاج عن سماعة ، يدلّ على وجوب التوقّف اوّلا ، ثمّ مع عدم إمكانه يرجع إلى الترجيح بموافقة العامّة ومخالفتهم ، وأخبار التوقّف (٢٨٦٥) ـ على ما عرفت وستعرف ـ محمولة على صورة التمكّن من العلم ، فتدلّ الرواية على أنّ الترجيح بمخالفة العامّة بل غيرها من المرجّحات إنّما يرجع إليها بعد العجز عن تحصيل العلم في الواقعة بالرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، كما ذهب إليه بعض.

وهذا خلاف ظاهر الأخبار الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ابتداء بقول مطلق ، بل بعضها صريح في ذلك حتّى مع التمكّن من العلم ، كالمقبولة الآمرة بالرجوع إلى المرجّحات ثمّ بالإرجاء حتّى يلقى الإمام عليه‌السلام ، فيكون وجوب الرجوع إلى الإمام بعد فقد المرجّحات. والظاهر لزوم طرحها ؛ لمعارضتها بالمقبولة الراجحة عليها ، فيبقى إطلاقات الترجيح سليمة.

الثالث : أنّ مقتضى القاعدة تقييد إطلاق ما اقتصر فيها على بعض المرجّحات بالمقبولة ، إلّا أنّه قد يستبعد ذلك ؛ لورود تلك المطلقات في مقام الحاجة ، فلا بدّ من جعل المقبولة كاشفة عن قرينة متّصلة فهم منها الإمام عليه‌السلام : أنّ مراد الراوي تساوي الروايتين من سائر الجهات ، كما يحمل إطلاق أخبار التخيير على ذلك.

______________________________________________________

٢٨٦٥. الواردة في الشبهات الحكميّة ، فتحمل رواية الاحتجاج أيضا على صورة التمكّن من العلم ، بل هي صريحة فيها.

٣٢٢

الرابع : أنّ الحديث الثاني عشر الدالّ على نسخ الحديث بالحديث ، على تقدير شموله للروايات الإماميّة ـ بناء على القول بكشفهم عليهم‌السلام عن الناسخ الذي أودعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندهم ـ هل هو مقدّم على باقي الترجيحات أو مؤخّر؟ وجهان : من أنّ النسخ من جهات التصرّف في الظاهر ؛ لأنّه من تخصيص الأزمان ؛ ولذا ذكروه في تعارض الأحوال ، وقد مرّ وسيجيء تقديم الجمع بهذا النحو على الترجيحات الأخر.

ومن أنّ النسخ على فرض ثبوته في غاية القلّة ، فلا يعتنى به في مقام الجمع ، ولا يحكم به العرف ، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الأخر ، كما إذا امتنع الجمع. وسيجيء بعض الكلام في ذلك.

الخامس : أنّ الروايتين الأخيرتين ظاهرتان في وجوب الجمع بين الأقوال الصادرة عن الأئمّة صلوات الله عليهم ، بردّ المتشابه إلى المحكم. والمراد بالمتشابه ـ بقرينة قوله : " ولا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا" ـ هو الظاهر الذي اريد منه خلافه ؛ إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل ، ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل ، فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر.

وهذا المعنى لما كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقات التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ، فالمراد أنّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ولو كان الآخر أرجح منه ، إذا أمكن ردّ المتشابه منهما إلى المحكم ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها لمعارضتها بما هو أرجح منها.

والغرض من الروايتين الحثّ على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه.

المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة. فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد (٢٨٦٦) من مجموع الأخبار ـ بعد الفراغ عن تقديم الجمع

______________________________________________________

٢٨٦٦. لم يذكر الترجيح بالأحدثيّة ، مع كونها من المرجّحات المنصوصة ، لإعراض الأصحاب عن الترجيح بها.

٣٢٣

المقبول على الطرح ، وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ـ : هو أنّ الترجيح اوّلا بالشهرة والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقيّة ، ثمّ بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام. وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعيّ الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به وكذا الترجيح بموافقة الأصل.

ولأجل ما ذكر لم يذكر (٢٨٦٧) ثقة الإسلام رضوان الله عليه في مقام الترجيح في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال : اعلم يا أخي أرشدك الله ، أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلف الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام برأيه ، إلّا على ما أطلقه العالم عليه‌السلام بقوله : " اعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فردّوه" ، وقوله عليه‌السلام : " دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم" ، وقوله عليه‌السلام : " خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه". ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ، ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : " بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم" (١٧) ، انتهى.

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ؛ لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس ، غير محتاج إلى التوقيف. وحكي عن بعض الأخباريين أنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلّها صحيحة (٢٨٦٨).

______________________________________________________

٢٨٦٧. أي : لأجل ما ذكرنا من أنّ المستفاد من مجموع الأخبار هو الترجيح بالمرجّحات المنصوصة من الشهرة وما بعدها.

٢٨٦٨. إن أراد بالصحّة الصحّة بالمعنى المصطلح عند القدماء فلا وجه لإهمال المرجّح المذكور. وإن أراد بها كون أخبار الكافي قطعيّة الصدور ، كما هو المناسب لطريقة الأخباريّ ، فلا وجه حينئذ للترجيح بالشهرة. اللهمّ إلّا أن يريد الأوّل وادّعى تساوي رواة أخبار الكافي في العدالة ، وفيه ما لا يخفى.

٣٢٤

وقوله : " ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه" ، إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعا عليها قليل ، والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل. وقوله : " لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ..." ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجه كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقّف والاحتياط في العمل ، فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي لم يثبت الترجيح بها ، والإفتاء بكون مضمونها هو حكم الله لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد ، ولذا طعن غير واحد من الأخباريين على رؤساء المذهب مثل المحقّق والعلّامة بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات الحدائق : إنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات (١٨) ، انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ الأصل ـ بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين ـ هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ؛ لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ.

نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ هو التوقّف والاحتياط ، كان الأصل عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا ، لكن عرفت أنّ المختار (٢٨٦٩) مع التكافؤ هو

______________________________________________________

٢٨٦٩. حاصله : أنّك قد عرفت في المقام الأوّل أنّ المختار في المتكافئين هو التخيير الثابت بالأخبار ، وقد تقدّم أيضا في المقام الثاني أنّ القدر المتيقّن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين وعدم اشتمال أحدهما على مزيّة أصلا ، فيكون الأصل في صورة اشتمال أحدهما على مزيّة غير منصوصة هو الترجيح بها ، نظرا إلى الدليل الذي ذكره في المقام الثاني ، وهنا أيضا بقوله «لأنّ وجوب العمل بالمرجوح ...».

٣٢٥

التخيير ، فالأصل هو العمل بالراجح. إلّا أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين : إمّا أن يستنبط من النصوص ـ ولو بمعونة الفتاوى ـ وجوب العمل بكلّ مزيّة توجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير (٢٨٧٠) الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

______________________________________________________

وأمّا على القول في المتكافئين بالتوقّف والرجوع إلى الاحتياط إمّا مطلقا أو الاحتياط المطابق لأحدهما ، فقد تقدّم في المقام الأوّل أيضا أنّه للأخبار الدالّة عليه ، ولا شكّ أنّ المتيقّن من تلك الأخبار هو التوقّف والاحتياط وعدم الترجيح بغير المرجّحات المنصوصة. ومن هنا يظهر وجه جعل أصالة عدم الترجيح بالمزايا من لوازم القول بالاحتياط في المتكافئين ، وأصالة الترجيح بها من لوازم القول بالتخيير فيهما.

٢٨٧٠. لا أرى وجها لهذا الاستظهار ، لأنّ الوجه فيه إن كان ظهور الأسئلة ، نظرا إلى أنّ قول السائل : يأتي عنكم خبران أحدهما يأمرنا والآخر ينهانا كيف نصنع؟ [ظاهر](*) في اختصاص مورد السؤال بصورة التحيّر ، ولا تحيّر مع وجود المزايا ، يرد عليه : أنّ مجرّد وجود المزيّة في أحد الخبرين لا يرفع التحيّر ، لأنّ الرافع له هو العلم باعتبار الشارع لها لا مجرّد وجودها ، ولذا وقع السؤال عن المتعارضين في مورد أخبار الترجيح مع ظهوره في صورة التحيّر ، وأرجعه الإمام عليه‌السلام إلى ملاحظة المرجّحات. مع أنّ اختصاص مورد أخبار التخيير بصورة عدم المزيّة أصلا لا يجدي في إثبات اعتبار المزيّة مطلقا ، لأنّ ثبوت التخيير حينئذ أعمّ من المدّعى. وإن كان قرينة اخرى مستفادة من الأخبار فهي مفقودة كما لا يخفى.

__________________

(*) سقط ما بين المعقوفتين من الطبعة الحجريّة ، وإنّما أثبتناه ليستقيم المعنى ، إذ بدونه تبقى «أنّ» بلا خبر.

٣٢٦

والحقّ : أنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل ، كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ؛ ولذا ذهب جمهور المجتهدين (٢٨٧١)

______________________________________________________

٢٨٧١. وهو المختار. ويمكن أن يستدلّ عليه بوجوه :

أحدها : أنّ ظاهر من اقتصر على المرجّحات المنصوصة كالأخباريّين هو اعتبارها من باب التعبّد المحض ، لا من باب إفادتها لأقربيّة ذيها إلى الواقع من الآخر كما ستعرفه ، وهو خلاف ظاهر أخبار الترجيح كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فالاقتصار على المرجّحات المنصوصة لأخبار الترجيح مخالف لظاهرها ، فالقول به مستلزم لعدمه ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال.

الثاني : دليل الانسداد ، وهو يقرّر بوجهين :

أحدهما : أنّ أخبار الترجيح قد اشتملت على الترجيح بأعدليّة راوي أحد الخبرين بعد اشتراك راويهما في صفة العدالة ، ولا شكّ أنّ المراد بالعدالة هي العدالة الواقعيّة الثابتة بالعلم الوجداني أو الشرعيّ كالبيّنة ، وإثباتها في أمثال زماننا غير ممكن ، لانحصار طريق إثباتها في أمثال زماننا في الرجوع إلى كتب الرجال كالنجاشي والكشّي وأمثالهما ، والظاهر أنّ تعديلهم للرواة إنّما هو بالظنون والاجتهاد لا بالعلم الوجداني ، لعدم إدراكهم لأغلبهم يقينا ، وفقدان الأمارات المفيدة لذلك ، ولا بالعلم الشرعيّ كالحاصل بالبيّنة ، لكون تعديل من سبقهم أيضا مستندا إلى الظنون والاجتهاد ، وهذا أمر لا خفاء فيه. مع أنّ شهادة مثل الشيخ تصير شهادة فرع بالنسبة إلينا ، ولا اعتبار بها شرعا. سلّمنا ولكن تعديلهم إنّما هو بلفظ التوثيق ، وهو غير مفيد للتعديل. اللهمّ إلّا أن يدّعى كون ذلك تعديلا في اصطلاحهم ، كما ادّعاه المحقّق الشيخ محمّد في كلام النجاشي. وهو أيضا لا يخلو من تأمّل وإشكال ، مع أنّه لا يثبت الكلّية المدّعاة. مضافا إلى أنّ الترجيح إنّما هو بالأعدليّة لا بمجرّد العدالة ، وطريق معرفة أعدليّة أحد الراويين إنّما هو بذكر فضائل في حقّه دون آخر ، وأنت خبير بأنّ ذكر فضيلة في رجل دون آخر لا يدلّ

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

على انتفائها في الآخر ، ولعلّها لم تصل إليهم ، وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود ، وغايته حصول الظنّ بذلك ، ولا دليل على اعتباره بالخصوص في المقام. ومن هنا يظهر الكلام في الأصدقيّة والأورعيّة.

فإن قلت : إنّ غاية ما ذكرت هو جواز إعمال الظنّ في تشخيص ما جعله الشارع مرجّحا ، لأنّه بعد انسداد باب العلم بموارد تحقّق المرجّحات يقوم الظنّ مقامه ، لكن ذلك لا يوجب جواز الترجيح بكلّ مزيّة موجودة في أحدهما مفقودة في الآخر.

قلت هذا بعينه دليل من قال بالظنّ الطريقي بعد انسداد باب العلم بالأحكام ، وما هو الجواب هناك هو الجواب هنا حذوا بحذو ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام هنا.

وثانيهما : ـ وهو ما سلكه بعض المتأخّرين على ما حكي عنه ـ أنّه مع تعارض الخبرين مع رجحان أحدهما وعدم إمكان العمل بهما معا ، لا يخلو : إمّا أن يلقى الخبران ويرجع إلى مقتضى الاصول ، أو يؤخذ بالراجح منهما ، أو بالمرجوح ، أو يتخيّر بينهما. أمّا الأوّل ففيه : أنّ العلم الإجمالي بصدور بعض الأخبار المتعارضة ـ بل أغلبها ـ مع تكليفنا بالعمل بمقتضاها مانع من العمل بمقتضى الاصول. وأمّا الثاني فهو المطلوب. وأمّا الثالث فهو يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح. وأمّا الرابع فهو يستلزم التسوية بين الراجح والمرجوح ، وهو كسابقه قبيح على الشارع.

فإن قلت : إنّ هذا الدليل لو تمّ لجرى في نفس الأحكام الكلّية أيضا ، وهو ينافي القول بالظنون الخاصّة فيها ، ولذا استبعد المحقّق القمّي رحمه‌الله اعتبار الظنون المطلقة في باب التراجيح دون الأحكام الكلّية.

قلت : إنّ دليل الانسداد إنّما يثبت اعتبار الظنون المطلقة على حسب ما حصل العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ، فإن حصل العلم الإجمالي بالتكاليف في الواقع مطلقا يدلّ على اعتبار مطلق الظنّ بها من أيّ سبب حصل ، وإن حصل العلم بها بشرط تأدية طرق مخصوصة وهي مجهولة عندنا ، يدلّ على اعتبار الظنّ

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بالحكم الواقعي الحاصل من الطريق التي حصل الظنّ باعتبارها عند الشارع ، وأنّها هي الطريق المجعولة في الواقع كخبر الواحد ، فإذا انحصرت أطراف العلم الإجمالي في الأخبار المتعارضة لا يتعدّى في إعمال الظنّ منها إلى غيرها.

هذا ، ويشكل الدليل المذكور بمنع العلم الإجمالي هنا ، لانحلاله في المقام إلى علم تفصيلي وجهل بسيط ، لأنّ أغلب الأخبار المتعارضة يعالج تعارضها بحسب الدلالة بحمل أحدهما على الآخر بالتقييد أو التخصيص أو نحوهما. وقد تقدّم كون الجمع بحسب الدلالة إجماعيّا ، وجملة منها يندفع تعارضها بشاهد خارجي من الأخبار يشهد بالجمع بين المتعارضين منها ، وطائفة اخرى يرجّح الراجح منها بالمرجّحات المنصوصة التي اتّفقت كلمة الأصحاب على اعتبارها مع فرض حصول الظنّ منها ، وما خرج من تحت الوجوه المذكورة من المتعارضات ليس إلّا أقلّ قليل منها ، ولا ريب في عدم حصول العلم الإجمالي بصدور مثل ذلك عن أهل العصمة عليهم‌السلام فلا يجري دليل الانسداد فيها ، لأنّ من جملة مقدّماته تحقّق العلم الإجمالي المنتفي في المقام.

الثالث : أنّ اعتبار الأخبار إنّما هو من باب الكشف والطريقيّة دون السببيّة والموضوعيّة ، كما يشهد به التعليل في آية النبأ ، واعتبار المرجّحات المنصوصة وغيرها من القرائن ، فمع تعارض الخبرين ورجحان أحدهما يستقلّ العقل بتقديم الراجح وما هو الأقرب منهما أو الواقع. وبعبارة اخرى : أنّ الحكمة في اعتبار الأخبار هي كشفها عن الواقع ولو نوعا ، والعقل يحكم بتقديم ما تكون حكمة الجعل والاعتبار فيه أقوى عند التعارض وعدم إمكان العمل بهما.

الرابع : أصالة الاشتغال ، لأنّه مع رجحان أحد المتعارضين يدور الأمر بين التعيين والتخيير ، والمتعيّن في مثله هو وجوب الأخذ بمحتمل التعيين إذا كان الشكّ في الطريق ، كما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله.

٣٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الخامس : استقرار طريقة العقلاء بالأخذ بما هو أقلّ خطرا من الطريقين إذا دار الأمر بينهما ، وكذا في المقام ، لكون الأخبار طريقا إلى الواقع ، فيتعيّن الأخذ بما هو الراجح من المتعارضين منها.

السادس : ما استظهره المصنّف قدس‌سره من الأخبار.

ثمّ إنّه بعد ثبوت اعتبار مطلق المرجحات بالأدلّة المذكورة ليس في مقابلها الأمران ، أحدهما : الأدلّة الدالة على اعتبار الأخبار ، لأنّ مقتضى شمولها لكلا المتعارضين هو التخيير عند عدم إمكان العمل بهما معا بمقتضى حكم العقل. وثانيهما : إطلاق أخبار التخيير في متعارضات الأخبار ، لأنّ المرجّحات التي لم يثبت اعتبارها بالخصوص لا تصلح لتقييدها.

أمّا الأوّل فيرد عليه : أنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير مع عدم رجحان أحدهما ، وقد عرفت حكم العقل بتقديم الراجح منهما.

وأمّا الثاني فيرد عليه أوّلا : أنّ أخبار التخيير غير شاملة لصورة رجحان أحد الخبرين المتعارضين ، لانصرافها إلى صورة تحيّر المكلّف في مقام العمل وعدم رجحان أحدهما على الآخر أصلا ، كما استظهره المصنّف رحمه‌الله ، لكن قد تقدّم في الحاشية السابقة ما يدفعه.

وثانيا : أنّ فيما اخترناه جمعا بين الأخبار ، ولو اقتصرنا على المرجّحات المنصوصة لا تجتمع الأخبار بعضها مع بعض ، وذلك لأنّه على ما اخترناه من اعتبار مطلق المرجّحات وتقديم ذي المزيّة مطلقا ، يمكن حمل أخبار الترجيح على بيان إمضاء ما استقرّ عليه بناء العقلاء من تقديم ذي المزيّة من الخبرين المتعارضين في امور معاشهم ، وحمل أخبار التخيير على صورة التحيّر المحض. هذا بخلاف ما لو اقتصرنا على المرجّحات المنصوصة ، وحملنا أخبارها على بيان الجعل والإنشاء من الشارع ، وذلك لأنّ أخبار الترجيح كلّها صدرت عن الباقر ومن بعده من الأئمّة عليهم‌السلام دون من قبلهم ، فحينئذ لا يخلو : إمّا أن يقال إنّ المكلّفين الذين كانوا قبل

٣٣٠

إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة (١٩) ، بل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين بعد أن حكى الإجماع عليه عن جماعة.

وكيف كان ، فما يمكن استفادة هذا المطلب منه فقرات من الروايات : منها : الترجيح بالأصدقيّة (٢٨٧٢) في المقبولة وبالأوثقيّة في المرفوعة ؛ فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين من حيث إنّه أقرب من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة تحتملان اعتبار الأقربية الحاصلة من السبب الخاص.

______________________________________________________

الباقر عليه‌السلام كانوا مكلّفين بالتخيير في متعارضات الأخبار وإلغاء الترجيح بالكليّة ، أو كانوا غير محتاجين إلى إعمال المرجّحات ، لعدم تعارض الأخبار إلى زمان صدور هذه الأخبار ، أو يقال بجواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والأوّل يستلزم تغيّر أحكام الله تعالى باختلاف الأشخاص والأزمان. والثاني بعيد جدّا ، بل معلوم الفساد يقينا. والثالث بديهيّ البطلان عند ذوي العقول. وأمّا لو حملنا أخبار الترجيح على إمضاء طريقة العقلاء ، فيمكن أن يقال : إنّهم كانوا عاملين بذي المزيّة مطلقا ، ومقدّمين له على صاحبه ، لكونهم من جملة العقلاء.

وثالثا : أنّ إجماع الفقهاء المعتنين بالفقه منعقد على تقديم الترجيح بكلّ ذي مزيّة على التخيير ابتداء ، كما هو واضح لمن تتبّع كلماتهم ، فلا يعبأ بخلاف الأخباريّين ومن يحذو حذوهم ، ولا أقلّ من تحقّق الشهرة في ذلك. وأخبار التخيير كلّها كما قيل ضعيفة ، فلا جابر لها ، سيّما مع تحقّق الشهرة على خلافها.

٢٨٧٢. هذا بناء على كون الصفات في المقبولة من مرجّحات الرواية دون الحكمين ، وإلّا خرج الترجيح بمثل الأصدقيّة من محلّ الكلام. ودعوى أنّ الاستدلال بالأصدقيّة والأوثقيّة على جواز الترجيح بكلّ مزية توجب قوّة الظنّ بصدور ذي المزيّة ، إنّما يتمّ لو كانت هاتان الصفتان ملازمتين لأقربيّة الخبر إلى

٣٣١

وحينئذ ، فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى أو شبه ذلك ، فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ، ونتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ؛ لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم تعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ، فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق.

ويؤيّد ما ذكرنا أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها (٢٨٧٣) وتخالفها في الراويين (*) ، وإنّما سأل عن حكم صورة

______________________________________________________

الصدور ، وليس كذلك ، لأنّ غايتهما أكثريّة تحرّز صاحبهما عن تعمّد الكذب بالنسبة إلى الفاقد لهما ، لا أقربيّة خبره إلى الصدور مطلقا ، لاحتمال الخطأ والنسيان بل كثرتهما ، مدفوعة بأنّ احتمال الخطأ والنسيان مندفع بالأصل المجمع عليه ، ومنع اشتراكه بين الخبرين ، وكثرتهما مفروضة العدم ، وإلّا سقط الخبر عن درجة الاعتبار.

٢٨٧٣. هذا دليل على فهم السائل لعدم اعتبار اجتماع الصفات ، وقوله : «وتخالفها» دليل على فهمه لجواز الترجيح بكلّ مزيّة. أمّا الأوّل فواضح ، إذ لو لم يفهم ما ذكرناه احتيج إلى السؤال عن صورة وجود بعضها ، إذ بيان حكم صورة الاجتماع لا يغني عن بيان حكم وجود البعض. نعم ، عدم السؤال عنه لا يدلّ على جواز الترجيح بكلّ مزيّة ، لاحتمال كون عدم السؤال عنه لفهمه لجواز الترجيح بكلّ واحدة من الصفات تعبّدا. وأمّا الثاني فإنّ فهمه لجواز الترجيح بكلّ واحدة منها لا يغني عن بيان حكم تخالفها.

فإن قلت : إنّ حكم صورة التخالف غير محتاج إلى البيان ، لأنّ الخبرين إن وجدت في أحدهما إحدى الصفات دون الاخرى ، فقد فرضنا فهم السائل لحكمه

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «الروايتين» ، الروايتين.

٣٣٢

تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها ، حتّى قال : " لا يفضل أحدهما على صاحبه" ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلا ، فلولا فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم.

ومنها : تعليله عليه‌السلام الأخذ بالمشهور بقوله : " فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه". توضيح ذلك : أنّ معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ (٢٨٧٤) ، كما يدلّ عليه فرض السائل كليهما مشهورين ، والمراد بالشاذّ ما لا يعرفه إلّا القليل ، ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى ليس قطعيّ المتن والدلالة من جميع الجهات (٢٨٧٥) حتّى يصير ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين ، ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما

______________________________________________________

بترك السؤال عن صورة وجود بعضها. وإن وجدت في كلّ واحد منهما ما وجدت في الآخر ، بأن كان راوي كلّ من الخبرين أصدق وأوثق فهو داخل في صورة التساوي التي وقع السؤال عنها. وإن وجدت في كلّ واحد منهما صفة مغايرة للصفة الموجودة في الآخر ، بأن كان راوي أحدهما أوثق والآخر أعدل ، فقد ظهر حكمه من الترتيب المذكور في الرواية ، فيقدّم ما هو المتقدّم ذكرا فيها.

قلت : إنّ استفادة حكم صورة الاختلاف من الترتيب إنّما تتمّ لو اتّفقت المقبولة والمرفوعة ـ بل وغيرهما من الروايات ـ في الترتيب ، وليس كذلك ، بل اختلافها يكشف عن سقوط حكم الترتيب ، وحينئذ فالمختلفان إن أفاد أحدهما ظنّا أقوى من الآخر يقدّم عليه ، وإلّا فيدخلان في صورة التساوي.

فإن قلت : إنّ غاية الأمر أن يفهم السائل ما ذكرت ، وفهمه ليس بحجّة لنا.

قلت : تثبت حجّيته بتقرير الإمام عليه‌السلام وعدم إنكاره عليه. وقد تقدّم في المقام الثاني عند شرح ما يتعلّق بالمقبولة ما ينفعك هنا ، فراجع.

٢٨٧٤. لا معمولا بها عندهم.

٢٨٧٥. في بعض النسخ : ليس قطعيّا من جميع الجهات ، ومؤدّاهما واحد.

٣٣٣

إلى المرجّحات الأخر ، فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ، ومعناه أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه ، فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّ بأنّ في الشاذّ احتمالا لا يوجد في المشهور ، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع.

ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام لتقديم الخبر المخالف للعامّة ب : " أنّ الحقّ والرشد في خلافهم" ، و" أنّ ما وافقهم فيه التقيّة" ؛ فإنّ هذه كلّها قضايا غالبية لا دائمية ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

بل الإنصاف أنّ مقتضى هذا التعليل كسابقه وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : " ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإن أشبههما فهو حقّ (٢٨٧٦) ، وإن لم يشبههما فهو باطل" ؛ فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين إلّا ما ذكرنا من إرادة الأبعديّة عن الباطل والأقربية إليه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : " دع ما يريبك (٢٨٧٧) إلى ما لا يريبك" ، دلّ على أنّه إذا دار

______________________________________________________

٢٨٧٦. بأن كان الحكم المذكور في أحد الخبرين موافقا ومتفرّعا على القواعد المذكورة في الكتاب والسنة ، وكان الآخر موافقا لقواعد العامّة ، وسيصرّح بهذا المعنى عند بيان الترجيح بوجه الصدور ، أعني : مخالفة العامّة والموافقة للقواعد المستفادة من الكتاب والسنّة ، أو لقواعد العامّة وإن لم تكن أمارة موافقة مضمون الخبر بالخصوص للواقع ، ومخالفته له نظير الشهرة في الفتوى ، إلّا أنّ مضمون الخبر حينئذ يكون أبعد من الباطل أو الحقّ. نعم ، لو كان المراد بمشابهة الكتاب والسنّة هي المشابهة في الأسلوب والفصاحة والبلاغة أمكن جعل ذلك أمارة صدق الخبر ، فتدبّر.

٢٨٧٧. لا يخفى أنّ هذه الرواية الشريفة من جملة أخبار الاحتياط في الشبهات البدويّة ، وقد تقدّم في مسألة البراءة عدم دلالتها إلّا على الأمر الإرشادي غير المفيد للوجوب المولوي المقصود في المقام.

٣٣٤

الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى. وحينئذ فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا باللفظ والآخر بالمعنى وجب الأخذ بالأوّل ؛ لأنّ احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفيّ فيه ، وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال الغير المنفيّ في طرف المرجوح.

المقام الرابع في بيان المرجّحات. وهي على قسمين : أحدهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسها (٢٨٧٨) بل متقوّمة بما فيه. وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبرا كالأصل والكتاب أو غير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها.

ثمّ المستقلّ إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب والأصل بناء على إفادته الظنّ ، أو غير مؤثّر ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري. وجعل المستقلّ المعتبر مطلقا ، خصوصا (٢٨٧٩) ما لا يؤثّر في الخبر ـ من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة.

______________________________________________________

٢٨٧٨. بمعنى عدم استقلاله في نفسه على تقدير اعتباره في الدلالة على حكم ، كصفات الراوي مثل الأعدليّة والأوثقيّة والأضبطيّة ونحوها ، وصفات السند مثل كونه عاليا أو متّصلا أو نحوهما ، أو صفات متن الرواية مثل الأفصحيّة ونحوها. وبالمقابلة يظهر معنى المرجّح الخارجي ، وهي كلّ مزيّة تدلّ بذاته على تقدير اعتبارها على حكم من الأحكام ، مثل الشهرة والكتاب والسنّة والأصل ونحوها.

فإن قلت : إنّ المرجّح هي موافقة الخبر لشيء منها ، وصفة الموافقة لا تثبت حكما.

قلت : المرجّح هو نفس الامور المذكورة من حيث موافقة الخبر لأحدها ، والمدّعى دلالة ذات هذه الامور كما لا يخفى.

٢٨٧٩. يعني : في اصطلاح العلماء ، لا في جعل الشارع ووضعه وحكمه بالأخذ بموافقه ، إذ لا شكّ في وقوعه شرعا وعدم المسامحة في حكمه ، ولا في تسميته مرجّحا بحسب الشرع ، إذ ليس من التسمية في الأخبار عين ولا أثر.

٣٣٥

أمّا الداخليّ ، فهو على أقسام ؛ لأنّه : إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور وأبعد عن الكذب ، سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي أو إلى متنه كالأفصحيّة. وهذا لا يكون إلّا في أخبار الآحاد. وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفا للعامّة أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور ، بناء على احتمال كون (٢٨٨٠) مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة.

وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ؛ إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ، فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ، وكمخالفة العامّة بناء على أنّ الوجه في الترجيح بها ما في أكثر الروايات : من" أنّ خلافهم أقرب إلى الحقّ" ، وكالترجيح بشهرة الرواية (٢٨٨١) ونحوها.

وهذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصحّ سندا وموافقا للكتاب ومشهور الرواية بين الأصحاب ؛ لأنّ صفات الرواية لا تزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا تجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد.

______________________________________________________

وأمّا وجه المسامحة ، فإنّ المرجّح الخارجي المعتبر مستقلّ بإثبات الحكم ، سواء رجح به أحد الخبرين أم لا. والمتبادر من المرجّح في كلمات العلماء ما كان محدثا لمزيّة ورجحان في الخبر الموافق له ، من دون أن يكون هو مستقلّا بإفادة الحكم. ومنه يظهر أنّ المسامحة في جعل المعتبر الذي لا يؤثّر في الخبر أشدّ وآكد ، لفرض عدم موافقته للخبر في المرتبة ، لكون اعتبار الخبر من باب الكشف والطريقيّة ، واعتبار الأصل مثلا من باب التعبّد ، ولذا لا يؤثّر في رجحانه.

٢٨٨٠. احترز به عن كون مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة.

٢٨٨١. كونها من المرجّحات المضمونيّة إنّما هو مبنيّ على ما سيجيء في بيان المرجّحات الخارجة من كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى على طبق الرواية وإن لم يكن استناد المفتين إليها ، وإلّا فهي من المرجّحات الصدوريّة.

٣٣٦

فكلّما رجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر. والسرّ في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقية ، بل في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد.

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة ، وصيرورتهما كالكلام الواحد ـ على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين ـ فيدخل في قوله عليه‌السلام : " أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ..." إلى آخر الرواية المتقدّمة ، وقوله عليه‌السلام : " إنّ في كلامنا محكما ومتشابها فردّوا متشابهها إلى محكمها" ، ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما (٢٨٨٢) ، تحيّر السائل فيهما ، ولم يظهر المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما أو لكليهما. نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض وتعيين الأظهر ، وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين ، ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع. نعم قد يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره في الاستبصار خلاف ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر فضلا عن الظاهر والأظهر ؛ فإنّه قدس‌سره بعد ما ذكر حكم الخبر الخالي عمّا يعارضه ، قال : وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين ، فيعمل على أعدل الرواة في الطريقين. وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا. وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وكانا عاريين عن جميع القرائن التي ذكرناها ينظر :

______________________________________________________

٢٨٨٢. لعلّ وجه الترقّي أنّ العامّ والخاصّ المطلقين إذا لم يفرض اقترانهما ربّما يفهم التنافي بينهما ، لكن بعد فرض اقترانهما يظهر كون الخاصّ قرينة عرفيّة على ما هو المراد من العامّ.

٣٣٧

فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل ، كان العمل به أولى من العمل بالآخر الذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ؛ لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا.

وإن كان الخبران يمكن العمل بكلّ منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل ، وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه ـ صريحا أو تلويحا ، لفظا أو دليلا ـ وكان الآخر عاريا عن ذلك ، كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار. وإذا لم يشهد لأحد التأويلين خبر آخر وكانا متحاذيين ، كان العامل مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢٠) ، انتهى موضع الحاجة.

وقال في العدّة : وأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت ، فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء ، منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا لهما ؛ فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك العمل بما خالفهما ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه وترك ما يخالفهم.

فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما : فإن كان إحدى الروايتين راويها عدلا (٢٨٨٣) وجب العمل بها وترك العمل بما لم يروه العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب. فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواة وعمل به وترك العمل بقليل الرواة. فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم. وإن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهم نظر في حالهما : فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب

______________________________________________________

٢٨٨٣. الأولى أن يقال : أعدل كما هو مقتضى أخبار الترجيح ، لأنّ الترجيح فرع استجماع الخبرين لشرائط الحجّية ، والعدالة شرط في العمل بهما عند الشيخ بالمعنى المعتبر في هذا الباب. ولعلّ في حمل المصدر إشارة إلى أعدليّة رواة أحدهما ، حيث إنّ حمله يفيد مبالغة.

٣٣٨

من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر الآخر ، وجب العمل بالخبر الذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ؛ لأنّ الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما ، وليس هنا قرينة تدلّ على صحّة أحدهما ، ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا يعمل بالخبر الذي إذا عمل به وجب اطّراح العمل بالآخر. وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه ، كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢١) ، انتهى. وهذا كلّه كما ترى يشمل حتّى تعارض العام والخاص مع الاتّفاق فيه على الأخذ بالنصّ.

وقد صرّح في العدّة في باب بناء العام على الخاص بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارض العامّين دون العام والخاص ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا. واستدلّ على العمل بالخاص بما حاصله : أنّ العمل بالخاص ليس طرحا للعام ، بل حمل له على ما يمكن أن يريده الحكيم ، وأنّ العمل بالترجيح والتخيير فرع التعارض الذي لا يجري فيه الجمع. وهو مناقض صريح لما ذكره هنا من أنّ الجمع من جهة عدم ما يرجّح أحدهما على الآخر.

وقد يظهر ما في العدّة من كلام بعض المحدّثين ، حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب أو الكراهة لمعارضة خبر الرخصة ، زاعما أنّه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب ، بل ظاهرها تعيّن الرجوع إلى المرجّحات المقرّرة.

وربّما يلوح هذا أيضا من كلام المحقّق القمي في باب بناء العام على الخاص ، فإنّه بعد ما حكم بوجوب البناء ، قال : وقد يستشكل : بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامة أو موافق للكتاب ونحو ذلك ، وهذا يقتضي تقديم العام لو كان هو الموافق للكتاب أو المخالف للعامة أو نحو ذلك. وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العام والخاص من حيث العموم والخصوص ، لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العام من جهة مرجّح خارجي ، وهو خارج عن المتنازع (٢٢) ، انتهى.

٣٣٩

والتحقيق : أنّ هذا كلّه خلاف ما يقتضيه الدليل ؛ لأنّ الأصل في الخبرين الصدق والحكم بصدورهما فيفرضان كالمتواترين ، ولا مانع عن فرض صدورهما (٢٨٨٤) حتّى يحصل التعارض ؛ ولهذا لا يطرح الخبر الواحد الخاص بمعارضة العام المتواتر.

وإن شئت قلت : إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر (٢٨٨٥) إلى التعارض بين أصالة الحقيقة في الظاهر ودليل حجيّة النص ، ومن المعلوم ارتفاع الأصل بالدليل.

______________________________________________________

٢٨٨٤. حاصله : أنّ تعارض الخبرين إنّما هو بتمانع مدلولهما على وجه لا يمكن فرض صدورهما عن الإمام عليه‌السلام ، لاستلزامه التنافي ، ولذا احتيج إلى الترجيح في المتباينين ، وحيث لا تنافي بين العامّ والخاصّ عرفا على الوجه المذكور لا يكونان موردين للترجيح.

٢٨٨٥. توضيح المقام : أنّه إذا وقع التعارض بين ظاهرين بحيث لا يمكن الجمع بينهما إلّا بصرفهما عن ظاهرهما ، فالصور المتصوّرة هنا أربع : الاولى : الأخذ بسندهما ، وطرح ظاهرهما. الثانية : الأخذ بسند أحدهما مع ظاهره. وطرح الآخر رأسا. الثالثة : الأخذ بسند أحدهما مع ظاهر الآخر. الرابعة : الأخذ بظاهرهما ، وطرح سندهما.

ولا سبيل إلى الأخيرتين ، لامتناعهما جدّا ، فيدور الأمر بين الأوليين. وحينئذ لا بدّ من الجمع ، أو الترجيح إن كان أحدهما موافقا لأحد المرجّحات ، وإلّا فالتخيير. وحينئذ فالأخذ بسند الراجح أو المختار وطرح ظاهر الآخر متعيّنان ، لثبوتهما على كلّ تقدير. وحينئذ يدور الأمر بين الأخذ بسند ما تعيّن طرح ظاهره ، وبين طرح ظاهر ما تعيّن الأخذ بسنده ، كما تقدّم توضيح ذلك عند بيان قاعدة الجمع.

وأمّا إذا كان الخبران من قبيل النصّ والظاهر ، فيدور الأمر بين الأخذ بسندهما مع دلالة النصّ وطرح ظهور الظاهر ، وبين الأخذ بسند أحدهما الراجح أو المخيّر مع دلالته وطرح الآخر كذلك. وحيث فرضنا الكلام فيما كان الظاهر

٣٤٠