فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في اعتبار قاعدة القرعة ، وقد نطق بها الكتاب ، وتواترت بها الأخبار. قال الله تبارك وتعالى في قصّة يونس على نبيّنا وعليه‌السلام : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) المراد بالمساهمة المقارعة ، وبكونه من المدحضين صيرورته معلوما بالقرعة ممتازا عن غيره ، والإدحاض : الإزالة والإبطال ، والمعنى : صار من المقروعين المعلومين المقهورين ، كما في المجمع. وصورة الواقعة كما في الخبر : أنّه عليه‌السلام لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمر الله به ، فركب في السفينة فوقفت السفينة ، فقالوا : هنا عبد أبق عن مولاه فأقرعوا ، فخرجت القرعة على يونس عليه‌السلام ، فرمى بنفسه في الماء فالتقمه الحوت.

وأمّا الأخبار فكثيرة مذكورة في محلّها. وموردها أعمّ من المشتبه في الواقع والظاهر ، ـ بمعنى كون المشتبهين متساويين في الاندراج تحت عموم الأدلّة الواقعيّة ـ كتزاحم الإمامين أو المترافعين عند الحاكم أو المتدرّسين عند المدرّس ، وغيرها ممّا أجمع الأصحاب على الرجوع فيها إلى القرعة ، مع كونه غير معيّن في الواقع والظاهر ، ومن المشتبه في الظاهر المعيّن في الواقع ، كما في اختلاط الموتى في الجهاد ، وتلف درهم من الودعيّين ، والعبد المعتق بين الاثنين أو أكثر ، إلى غير ذلك.

ولا إشكال في اعتبارها في المقامين ، لأنّه كما ورد أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه أو لكلّ أمر مجهول الظاهر فيما كان مشتبها في الظاهر فقط ، كذلك قد ورد أنّها لكلّ أمر مشكل الظاهر فيما لم يكن معيّنا لا في الظاهر ولا في الواقع ، فهي كما تصلح لتمييز المشتبه في الظاهر خاصّة ، كذلك تصلح لترجيح ما لم يكن معيّنا في الواقع أيضا.

فما صدر عن الشهيد الثاني في موارد من اختصاصها بالمشتبه في الظاهر خاصّة ، استنادا إلى أنّها لكلّ أمر مشتبه ، ليس كما ينبغي. مضافا إلى ما ورد في خصوص المشتبه في الواقع ، مثل صحيحة الحلبي : «فمن قال : أوّل مملوك أملكه فهو حرّ ، فورث سبعة جميعا ، قال : يقرع بينهم وعتق الذي خرج سهمه». وإلى أنّ

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

تزاحم الإمامين أو المترافعين أو المتدرّسين ممّا أجمع الأصحاب ـ حتّى الشهيد الثاني ـ على اعتبار القرعة فيه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من التعميم في موردها ، وكونها أعمّ من التمييز والترجيح ، إنّما هو بالنظر إلى ظاهر كلمات الأصحاب ، وإلّا أمكن أن يقال بكونها للتمييز مطلقا من دون ترجيح لغير المعيّن في الواقع ، بأن يقال : إنّ جعل الأحكام الكلّية كما أنّه لا بدّ أن يكون ناشئا من المصالح والمفاسد الكلّية الكامنة التي لاحظها الشارع ، كذلك يمكن أن يقال بكون القرعة مجعولة لتمييز المصالح الشخصيّة في الموارد الخاصّة المشتبهة التي تختلف باختلاف زمان المكلّف ومكانه وسائر أحواله ، فهي دائما لكشف ما فيه المصلحة من الطرفين ، فلا يفرّق في ذلك بين ما كان من قبيل تزاحم الإمامين واختلاط الموتى في الجهاد.

وربّما يكشف عن هذا المعنى ما رواه في الفقيه والتهذيب عن محمّد بن حكيم عن الكاظم عليه‌السلام : «كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له : إنّ القرعة تخطئ. فقال : كلّ ما حكم الله به فليس بمخطئ» لأنّ الظاهر أنّ المراد بالإصابة إصابة ما فيه المصلحة للمتقارعين في نفس الأمر ، فتكون القرعة معتبرة في مواردها مطلقا لتمييز المصلحة الشخصيّة فيها خاصّة. ولم أر من تنبّه على هذا المعنى من الرواية.

لا يقال : إنّ ما ذكرته يرجع إلى مقالة الشهيد الثاني من كون القرعة للتمييز دون الترجيح.

لأنّا نقول : إنّه لا يقول للتمييز بهذا المعنى كما هو واضح ممّا قدّمناه.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الأصحاب ـ كما ادّعاه بعض مشايخنا ـ قد أطبقوا على تقديم الاستصحاب ـ بل البراءة والتخيير والاحتياط ـ على القرعة ، فلا إشكال في الحكم. وإنّما الإشكال في وجهه ، وقد ذكروا له وجوها غير ناهضة :

أحدها : أنّ أدلّتها وإن كثرت بل ربّما بلغت الأخبار الواردة فيها حدّ التواتر ، إلّا أنّه قد تطرّق عليها الوهن لأجل كثرة المخصّصات الواردة عليها ،

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

فلا يعمل بها في مقابل الاصول ، بل لا يعمل بها مطلقا ما لم تنجبر بعمل الأصحاب أو جماعة منهم.

وفيه : أنّ مقتضى هذا الوجه جواز العمل بها بعد الانجبار ، وأمّا قبل الانجبار فعدم العمل بها حينئذ لعدم حجّيتها لا لتقدّم الاصول عليها.

وثانيها : أنّ الاصول مبيّنة للشبهة ، فيرتفع موضوع القاعدة بها ، فتكون الاصول واردة عليها. وهذا الوجه يظهر من صاحب العناوين.

وفيه : أنّه يمكن قلب هذه الدعوى ، بأن يقال : إنّ القرعة مزيلة للشكّ المأخوذ في موضوع الاصول ولو في الظاهر ، لأنّ المأخوذ في موضوع كلّ من القاعدة والاصول في الأدلّة هو الشكّ والجهل والشبهة وعدم العلم ، فإن كان المراد بهذه العناوين هو الجهل بالواقع خاصّة حتّى لا يكفي في إزالتها بيان الحكم الظاهري في مقام الجهل ، فلا ريب أنّ ذلك لا يختصّ بأحدهما ، وإن كان أعمّ من الجهل بالواقع والظاهر فكذلك. فاعتبار الجهل أعمّ منهما في موضوع القاعدة دون الاصول لا وجه له أصلا. بل ربّما يدّعى كون ظاهر رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة كون القرعة كسائر الأمارات الظنّية كاشفة عن الواقع ، فتكون حاكمة أو واردة على الاصول.

ومن هنا يظهر فساد وجه ثالث في المقام ، وهي حكومة الاصول على قاعدة القرعة.

ورابعها : أنّ أدلّة القرعة أعمّ من أدلّة الاصول ، فتخصّص بها ، لكون الاولى أعمّ من الشكّ في التكليف والمكلّف به ، مع إمكان الاحتياط وعدمه ، مع كون الشبهة حكميّة أو موضوعيّة وغيرها.

فإن قلت : إنّ الإجماع منعقد على عدم جريان القرعة في الأحكام المشتبهة ، بل الضرورة قاضية بذلك ، وإلّا لاختلّ نظام الأحكام. وحينئذ تصير النسبة بين عمومات الاصول والقرعة عموما من وجه. ومحلّ الاجتماع مع الاستصحاب

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

هي الشبهات الموضوعيّة المسبوقة بالحالة السابقة ، ومحلّ الافتراق للاستصحاب هي الشبهة الحكميّة مطلقا ، ولقاعدة القرعة هي الشبهات الموضوعيّة مع عدم سبق حالة سابقة. وبعد التعارض في مورد الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى سائر القواعد.

قلت : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ لو ترتّبت المخصّصات ، حتّى لوحظت النسبة بعد التخصيص أوّلا بين الباقي تحت العامّ والخاصّ الآخر ، ولا دليل عليه ، لأنّ كلّا من الإجماع وعمومات الاصول مخصّص لعمومات القرعة في آن واحد ، فإنّ انعقاد الإجماع وإن تأخّر عن صدور الأخبار زمانا ، إلّا أنّه كاشف عن اقتران العامّ حين صدوره بما يؤدّي مؤدّاه.

وبالجملة ، إنّ جميع الأخبار وإن اختلفت صدورا بحسب اختلاف زمان الأئمّة عليهم‌السلام وزمان صدورها ، وكذلك الإجماعات وإن تأخّر انعقادها عن زمان صدور الأخبار بل اختلف زمان انعقادها ، إلّا أنّ جميع ذلك لا بدّ أن يفرض كالصادر في زمان واحد ، لكون جميع ذلك حاكيا عن حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكون الأئمّة عليهم‌السلام حاكين عنه لا منشئين للأحكام ، فهم عليهم‌السلام معه صلى‌الله‌عليه‌وآله كالمتكلّم الواحد في زمان واحد ، فلا وجه للتخصيص أوّلا ثمّ ملاحظة النسبة بعده.

فإن قلت : سلّمنا كون النسبة عموما مطلقا ، إلّا أنّ الخاصّ إنّما يقدّم على العامّ مع قوّته ورجحانه عليه ، وليس المقام كذلك ، لأنّ رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة تدلّ ـ كما أشرنا إليه ـ على اعتبار القرعة من باب الكشف عن الواقع ، فتكون حاكمة على عمومات الاصول ، وإن كانت خاصّة بالنسبة إلى عمومات القرعة.

قلت : لو لا الإجماع ـ كما نقل ـ على عدم وجوب الرجوع إلى القرعة ، بل جوازه أيضا في موارد الاصول ، لاتّجه ما ذكر كما لا يخفى.

هذا ، وتحقيق المقام مع الغضّ عن الإجماع المذكور : أنّا إن قلنا باعتبار الاصول من باب التعبّد فالقاعدة حاكمة عليها ، سواء قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي ، كما هو ظاهر رواية محمّد بن حكيم المتقدّمة ، أم من باب التعبّد كما هو

١٦٤

أنّ ظاهر أخبارها أعمّ من جميع أدلّة الاستصحاب ؛ فلا بدّ من تخصيصها بها ، فيختصّ القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب.

نعم ، القرعة واردة على أصالة التخيير ، وأصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما العقل ، وإن كان مدركهما تعبّد الشارع بهما في مواردهما فدليل القرعة حاكم عليهما ، كما لا يخفى. لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، والله العالم.

المقام الثالث : في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة أعني : أصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير.

______________________________________________________

ظاهر أكثر أخبارها. أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني ، فإنّ ظاهر الأخبار الواردة فيها كونها مجعولة لتشخيص المشتبه الواقعي في مورد الشكّ ولو تعبّدا ، فيكون تقدّمها على الاصول نظير تقدّم البيّنة عليها ، بناء على اعتبار البيّنة من باب التعبّد.

فإن قلت : إنّ هذا مسلّم بالنسبة إلى البراءة والاحتياط والتخيير. وأمّا بالنسبة إلى الاستصحاب فلا ، لأنّه أيضا في الموضوعات مشخّص لحال الموضوع المشتبه ، ومبيّن لبقائه على حالته الاولى.

قلت : إنّ معنى اعتبار الاستصحاب في الموضوعات من باب التعبّد ترتيب آثار الموضوع المعلوم عليه ، لا وجوب البناء على كون الموضوع المشتبه البقاء موجودا في اللاحق ، أو كون الموضوع المشتبه البقاء على صفة كونه في اللاحق على الصفة المذكورة ، بخلاف قاعدة القرعة ، لأنّ ظاهر الأخبار الواردة فيها هو وجوب البناء على كون الموضوع المشتبه ما أخرجته القرعة ، لا على مجرّد ترتيب آثار الواقع عليه ، بل عليه وعلى كونه هو الموضوع المطلوب إخراجه بها.

وتظهر ثمرة هذا البناء في تقديمها على الاستصحاب في المقام وإن قلنا باعتبارها من باب العقل ، فالقاعدة واردة على ما عدا الاستصحاب ، لأنّ موضوع البراءة ـ كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في أوّل باب التعادل والترجيح ـ هو عدم البيان ،

١٦٥

أمّا أصالة البراءة ، فلا تعارض الاستصحاب ولا غيره من الاصول والأدلّة ، سواء كان مدركها العقل أو النقل. أمّا العقل ، فواضح ؛ لأنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا مع عدم الدليل على التكليف واقعا أو ظاهرا. وأمّا النقل ، فما كان منه مساوقا لحكم العقل (٢٧٢٣) فقد اتّضح أمره ، والاستصحاب وارد عليه.

وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي" ، فقد يقال (٢٧٢٤) إنّ مورد الاستصحاب خارج منه ؛ لورود النهي في المستصحب ولو بالنسبة إلى الزمان

______________________________________________________

وموضوع قاعدة الاحتياط هو احتمال العقاب ، وموضوع التخيير عدم الترجيح ، وهذه كلّها مرتفعة بالقاعدة. وأمّا الاستصحاب فهو حاكم على القاعدة إن قلنا باعتبارها من باب التعبّد ، وإن قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي فالظاهر حصول التعارض بينهما.

وممّا ذكرناه يظهر ما في حكم المصنّف رحمه‌الله بكون عمومات الاستصحاب مخصّصة لعمومات القرعة ، لأنّ الحكم بالتخصيص إنّما يتمّ في غير مورد الحكومة على ما عرفت. هذا كلّه بناء على الإغماض عن انعقاد الإجماع على تقديم الاصول عليها ، وإلّا فلا مناص من العمل بمقتضاه ، ولكن ظاهر كلام المصنّف رحمه‌الله هنا عدم تحقّقه في المقام ، فتدبّر.

٢٧٢٣. مثل قوله عليه‌السلام : «الناس في سعة ما لا يعلمون» ونحوه ، لتعلّق الحكم فيه بعدم العلم المساوق لعدم الدليل والبيان واقعا وظاهرا. هذا بخلاف قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لتعليق الحكم بالإباحة فيه على عدم وصول نهي من الشارع الصادق مع ورود حكم ظاهري لمجهول الحرمة مخالف للإباحة. ولذا قد ذكر المصنّف رحمه‌الله في مسألة البراءة معارضة هذا الخبر مع أخبار الاحتياط ، بخلاف غيره من أخبار البراءة.

٢٧٢٤. القائل صاحب الرياض على ما حكاه عنه بعض مشايخنا. وحاصل ما ذكره : أنّه قد ثبتت بالإجماع ونحوه حرمة العصير قبل ذهاب ثلثيه بالنار ، بحيث لم

١٦٦

السابق. وفيه : أنّ الشيء المشكوك في بقاء حرمته لم يرد نهي عن ارتكابه في هذا الزمان ، فلا بدّ من أن يكون مرخّصا فيه ، فعصير العنب بعد ذهاب ثلثيه بالهواء لم يرد فيه نهي ، وورود النهي عن شربه قبل ذهاب الثلثين لا يوجب المنع عنه بعده ، كما أنّ وروده في مطلق العصير باعتبار وروده في بعض أفراده لو كفى في الدخول فيما بعد الغاية ، لدلّ على المنع عن كلّ كليّ ورد المنع عن بعض أفراده.

والفرق في الأفراد بين ما كان تغايرها بتبدّل الأحوال والزمان دون غيرها ، شطط من الكلام ، ولهذا لا إشكال في الرجوع إلى البراءة مع عدم القول باعتبار الاستصحاب.

ويتلوه في الضعف ما يقال : من أنّ النهي الثابت بالاستصحاب عن نقض اليقين ، نهي وارد في رفع (٢٧٢٥) الرخصة. وجه الضعف : أنّ الظاهر من الرواية بيان الرخصة

______________________________________________________

يظهر شموله لصورة ذهاب ثلثيه بالهواء ، ولذا صار هذا محلّ شبهة. ولكن لا يمكن التمسّك فيه بقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» لصدق الغاية مع ذهاب الثلثين بالهواء ، إذ يصدق أنّه ممّا ورد فيه نهي ولو باعتبار وروده قبل ذهاب ثلثيه.

وتوضيح الجواب : أنّ العصير قبل ذهاب ثلثيه موضوع وبعده موضوع آخر ، فثبوت النهي في الأوّل لا يوجب ثبوته في الثاني وإن اشتركا في كونهما فردين من العصير ، ولكن النهي عن بعض أفراد العامّ لا يوجب النهي عن فرد آخر.

فإن قلت : إن فرض كونهما فردين متغايرين فكيف يجعل ذلك من موارد تعارض الاستصحاب مع قاعدة البراءة؟ ويشترط في الأوّل اتّحاد الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة حتّى يصدق معه البقاء والارتفاع.

قلت : نعم ، ولكنّ المدار في اتّحاد الموضوع والبقاء والارتفاع على الصدق العرفي لا المداقّة العقليّة كما تقدّم في محلّه ، ومع عدم الاتّحاد عرفا لا مسرح للاستصحاب ، والمقام ليس كذلك. وإنّما قلنا : وقد ثبتت بالإجماع ونحوه ، إذ لو ثبتت بعموم دليل لفظي أو إطلاقه لم يكن مجرى للاستصحاب وأصالة البراءة أصلا.

٢٧٢٥. حاصله : أنّه قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق» وإن أثبت إباحة العصير بعد

١٦٧

في الشيء الذي لم يرد فيه نهي من حيث عنوانه الخاصّ ، لا من حيث إنّه مشكوك الحكم ، وإلّا فيمكن العكس بأن يقال : إنّ النهي عن النقض في مورد عدم ثبوت الرخصة بأصالة الإباحة ، فيختصّ الاستصحاب بما لا يجري فيه أصالة البراءة ، فتأمّل.

فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق بالنسبة إلى الزمان اللاحق ، فقوله : " لا تنقض اليقين بالشكّ" يدلّ على أنّ النهي الوارد لا بدّ من إبقائه وفرض عمومه للزمان اللاحق وفرض الشيء في الزمان اللاحق ممّا ورد فيه النهي أيضا. فمجموع الرواية المذكورة ودليل الاستصحاب بمنزلة أن يقول : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، وكلّ نهي ورد في شيء فلا بدّ من تعميمه لجميع أزمنة احتماله ، فيكون الرخصة في الشيء وإطلاقه مغيّا بورود النهي المحكوم عليه بالدوام وعموم الأزمان ، فكان مفاد الاستصحاب نفي ما يقتضيه الأصل الآخر في مورد الشكّ لو لا النهي ، وهذا معنى الحكومة ، كما سيجيء في باب التعارض.

______________________________________________________

ذهاب ثلثيه بالهواء من حيث كونه مشكوك الحكم ، إلّا أنّ استصحاب النهي السابق رافع لهذه الإباحة والرخصة ، وبهذا يدخل العصير بعد ذهاب ثلثيه بالهواء في الغاية دون المغيّا.

وحاصل الجواب : أنّ ظاهر قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» هو بيان الرخصة ما لم يصل النهي عن الشيء من حيث عنوانه الخاصّ لا من حيث إنّه مشكوك الحكم ، فيدلّ على إباحة كلّ شيء لم تعلم حرمته واقعا. والمراد بالنهي في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو المنع من نقض الحالة السابقة في المورد المشكوك البقاء ، من حيث كونه مشكوك البقاء فهو يفيد الحرمة الظاهريّة في مورد لم يعلم ارتفاع النهي الواقعي الثابت في السابق. وحينئذ فكما يمكن أن يقال : إنّ المراد بالرخصة في الرّواية الاولى غير مورد تحقّق النهي السابق ، كذلك يمكن أن يقال : إنّ المراد بالنهي في الرواية الثانية غير مورد ثبوت الرخصة للشيء من حيث كونه مشكوك البقاء ، فتتعارضان فتتساقطان.

١٦٨

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشبهة (٢٧٢٦) الحكميّة والموضوعيّة ، بل الأمر في الشبهة الموضوعيّة أوضح (٢٧٢٧) ؛ لأنّ الاستصحاب الجاري فيها جار في الموضوع ، فيدخل في الموضوع المعلوم الحرمة. مثلا : استصحاب عدم ذهاب ثلثي العصير عند الشكّ في بقاء حرمته لأجل الشكّ في الذهاب ، يدخله في العصير قبل ذهاب ثلثيه المعلوم حرمته بالأدلّة ، فيخرج عن قوله : " كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام".

نعم ، هنا إشكال في بعض أخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة ، وهو قوله عليه‌السلام في الموثّقة : " كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك. والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره ، أو تقوم به البينة".

فإنّه قد استدل بها جماعة كالعلّامة في التذكرة وغيره على أصالة الإباحة ، مع أنّ أصالة الإباحة هنا معارضة باستصحاب حرمة التصرف في هذه الأشياء المذكورة في الرواية ، كأصالة عدم التملّك في الثوب والحرّية في المملوك (٢٧٢٨) وعدم تأثير العقد في الامرأة. ولو اريد من الحلّية (٢٧٢٩) في الرواية ما يترتّب على أصالة الصحّة

______________________________________________________

٢٧٢٦. في إطلاق كلامه نظر ، إذ أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة قد تكون حاكمة على الاستصحاب ، كما إذا بلغ ماله مقدار الاستطاعة للحجّ لو لم يكن عليه دين ، ولكن شكّ في اشتغال ذمّته بمقدار من الدين بحيث لا يفي ماله بالحجّ بعد إيفائه ، إذ أصالة البراءة عن هذا الدين حاكمة على استصحاب عدم الاستطاعة باعتراف من المصنّف رحمه‌الله في مسألة البراءة ، فلا بدّ من ملاحظة المقامات وضابطة الحكومة.

٢٧٢٧. قد تقدّم الكلام في ذلك في صدر الكتاب عند الكلام في فروع العلم الإجمالي ، عند بيان جواز المخالفة الالتزاميّة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، فراجع حتّى تتبصّر هنا.

٢٧٢٨. فيه نوع مسامحة ، لعدم كون أصالة الحرّية من أفراد الاستصحاب ، بل هي قاعدة اخرى في كلّ إنسان مشكوك الحرّية والرقية.

٢٧٢٩. بأن اريد بها قاعدة الصحّة في شراء الثوب والمملوك ، واستصحاب

١٦٩

في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في المرأة ، كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ، كما هو ظاهر الرواية. وقد ذكرنا في مسألة أصالة البراءة بعض الكلام في هذه الرواية ، فراجع ، والله الهادي.

هذا كلّه حال قاعدة البراءة. وأمّا استصحابها ، فهو لا يجامع (٢٧٣٠) استصحاب التكليف ؛ لأنّ الحالة السابقة إمّا وجود التكليف أو عدمه ، إلّا على ما عرفت سابقا من ذهاب بعض المعاصرين إلى إمكان تعارض استصحابي الوجود والعدم في موضوع واحد ، وتمثيله لذلك بمثل : صم يوم الخميس.

الثاني : تعارض قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ولا إشكال بعد التأمّل في ورود الاستصحاب عليها ؛ لأنّ المأخوذ في موردها بحكم العقل الشكّ في براءة الذمّة بدون الاحتياط ، فإذا قطع بها بحكم الاستصحاب فلا مورد للقاعدة ، كما لو أجرينا استصحاب وجوب التمام أو القصر في بعض الموارد التي يقتضي الاحتياط الجمع فيها بين القصر والتمام ، فإنّ استصحاب وجوب أحدهما وعدم وجوب الآخر مبرئ قطعيّ لذمّة المكلّف عند الاقتصار على مستصحب الوجوب.

هذا حال القاعدة ، وأمّا استصحاب الاشتغال (٢٧٣١) في مورد القاعدة

______________________________________________________

عدم النسب والرضاع في المرأة ، وهما حاكمان على استصحاب الحرمة. وأنت خبير بأنّه إنّما يتمّ إن كانت قاعدة الصحّة عامّة لفعل الشاكّ أيضا. اللهمّ إلّا أن يريد بها قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، وهو أيضا إنّما يتمّ على تقدير عموم هذه القاعدة أيضا لصورة تذكّر الشاكّ للواقعة على ما وقعت عليه ، كما هو ظاهر الرواية. وقد تقدّم استشكال المصنّف رحمه‌الله فيه في الموضع السابع من المواضع المتعلّقة بالقاعدة. مع أنّ استصحاب عدم النسب إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة ، فتدبّر.

٢٧٣٠. حتّى يلاحظ فيه حكم التعارض والترجيح ، لأنّ الواقعة إن كانت مسبوقة بالتكليف فهي مورد لاستصحابه ، وإن كانت مسبوقة بعدمه فهي مورد لاستصحاب البراءة ، فهما لا يجتمعان أصلا.

٢٧٣١. يعني : بعد الموافقة الاحتماليّة بالإتيان بأحد المحتملين ، كما في مثال

١٧٠

على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا سابقا من أنّه غير مجد في مورد القاعدة لإثبات ما يثبته القاعدة ـ فسيأتي حكمها في تعارض الاستصحابين. وحاصله أنّ الاستصحاب الوارد على قاعدة الاشتغال حاكم على استصحابه.

الثالث : [تعارض قاعدة] التخيير [مع الاستصحاب] ولا يخفى ورود الاستصحاب عليه ؛ إذ لا يبقى معه التحيّر الموجب للتخيير ، فلا يحكم بالتخيير بين الصوم والإفطار في اليوم المحتمل كونه من شوّال مع استصحاب عدم الهلال ، ولذا فرّع الإمام عليه‌السلام قوله : " صم للرؤية وأفطر للرؤية" على قوله : " اليقين لا يدخله الشكّ".

وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين وهي المسألة المهمّة في باب تعارض الاصول التي اختلف فيها كلمات العلماء في الاصول والفروع ، كما يظهر بالتتبّع.

فاعلم : أنّ الاستصحابين المتعارضين ينقسمان إلى أقسام كثيرة من حيث كونهما موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين ، وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين ، وكون تعارضهما بأنفسهما أو بواسطة أمر خارج (٢٧٣٢) إلى غير ذلك (٢٧٣٣) ، إلّا أنّ الظاهر أنّ اختلاف هذه الأقسام لا يؤثّر في حكم المتعارضين إلّا من جهة واحدة ، وهي أنّ الشكّ في أحد

______________________________________________________

الظهر والجمعة وكذا القصر والإتمام ، فإنّه بعد الإتيان بإحداهما يستصحب الاشتغال ، فيحكم بوجوب الإتيان بالاخرى.

٢٧٣٢. كالعلم الإجمالي في موارده.

٢٧٣٣. مثل وجود مرجّح لأحد الاستصحابين ، وعدمه. وعلى الأوّل : كون المرجّح من الاصول ، أو غيرها. وعلى الثاني : إمّا أن يكون من الظنون المعتبرة ، أو لا. وعلى التقادير : إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب الوصف ، أو السببيّة. إلى غير ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله أيضا ينشعب إلى أقسام ، مثل كون الموضوع صرفا أو مستنبطا أو متعلّقا لحكم تكليفي أو وضعي ، والحكم كلّيا أو جزئيّا ، تكليفيّا أو وضعيّا ، إلى غير ذلك.

١٧١

الاستصحابين (٢٧٣٤) إمّا أن يكون مسبّبا عن الشكّ في الآخر من غير عكس ، وإمّا أن يكون الشكّ فيهما مسبّبا عن ثالث. وأمّا كون الشك في كلّ منهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فغير معقول.

وما توهّم له من التمثيل بالعامّين من وجه ، وأنّ الشكّ في أصالة العموم في كلّ منهما مسبّب عن الشكّ في أصالة العموم في الآخر. مندفع : بأنّ الشكّ في الأصلين مسبّب عن العلم الإجمالي بتخصيص أحدهما.

______________________________________________________

فإن قلت : إنّ فرض تعارض الاستصحابين في موضوع واحد مشكل بل ممتنع ، لعدم إمكان وجود حالتين سابقتين لموضوع واحد حتّى يمكن استصحابهما معا ، كما هو قضيّة التعارض. ولعلّ إدراج المصنّف رحمه‌الله ذلك في الأقسام لاستيفاء الأقسام المقصورة عقلا لا الواقعة منها شرعا.

قلت : نمنع عدم الإمكان ، لإمكان فرضه في مثل الجلد المطروح ، فإنّ استصحاب الطهارة الثابتة حال الحياة يقتضي طهارته ، واستصحاب عدم التذكية يقتضي كونه ميتة ، وهو مستلزم لنجاسته. نعم ، ما ذكره النراقي من تعارض استصحاب الوجود والعدم في محلّ واحد قد أوضح المصنّف رحمه‌الله فساده سابقا.

٢٧٣٤. لا يخفى أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الاستصحابين بحسب التصوير العقلي لا يخلو : إمّا أن يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، وإمّا أن يكون كلّ منهما مسبّبا عن سبب مغاير لسبب الآخر ، وإمّا أن يكونا مسبّبين عن ثالث ، وإمّا أن يكون كلّ منهما مسبّبا عن الآخر. ولا سبيل إلى الأخير ، لعدم تعقّله كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. فما صدر عن النراقي من إدراجه تحت الأقسام وتمثيله له بالعامّين من وجه ممّا لا وجه له ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله. وأمّا عدم إشارة المصنّف رحمه‌الله إلى القسم الثاني مع صحّته ووقوعه شرعا ، فلكونه في حكم القسم الثالث كما سنشير إليه.

ومثال الأوّل : الثوب النجس المغسول بالماء النجس المسبوق بالطهارة ، وكذا الثوب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض الطاهرة. والثاني : مثل واجدي

١٧٢

وكيف كان ، فالاستصحابان المتعارضان على قسمين : القسم الأوّل (٢٧٣٥) ما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، واللازم تقديم الشكّ السببي وإجراء الاستصحاب فيه ، ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر. مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فإنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب عن الشكّ في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فيستصحب طهارته ، ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب.

خلافا لجماعة (٢٧٣٦) ،

______________________________________________________

المنيّ في الثوب المشترك ، لأنّ شكّ كلّ منهما في جنابته مسبّب عن وجدانه المني في الثوب ، أو عن علمه إجمالا بجنابته أو جنابة صاحبه ، فهنا شكّان مسبّبان عن أحدهما ، وعلمان إجماليّان مسبّبان عن الأوّل خاصّة. والثالث : كالماء النجس المتمّم بالطاهر كرّا ، لأنّ الشكّ في بقاء المتمّم ـ بالفتح ـ على نجاسته والمتمّم بالكسر على طهارته مسبّب عن علم إجمالي باتّحاد حكم الماءين إجماعا ، وكالمتوضّئ بالماء المشتبه النجاسة ، فإنّ الشكّ في بقاء طهارة البدن وكذا في بقاء الحدث مسبّبان عن الشكّ في نجاسة الماء ، أو عن العلم الإجمالي بارتفاع واحد من الطهارة والحدث.

٢٧٣٥. اعلم أنّ هذه المسألة هي المعنونة بمسألة المزيل والمزال ، وقد حكي عن الفاضل النراقي أنّه المبتدع لها ، ولا سابق له في ذلك ، حيث عنون المسألة ورجّح المزيل على المزال. وهو الأقوى ، وفاقا له ولجماعة من محقّقي مقارب عصرنا ومنهم المصنّف رحمه‌الله.

٢٧٣٦. اعلم أنّ الأقوال المخالفة ثلاثة : أحدها : الحكم بالتعارض والتساقط. وثانيها : الجمع بين الأصلين والعمل بهما في موردهما. وهو لجماعة منهم صاحب الرياض والمحقّق القمّي قدس سرّهما ، كما سيشير المصنّف رحمه‌الله إليه وإلى سابقه.

وثالثها : إعمال مرجّحات التعارض ثمّ التخيير بينهما. وهو الظاهر من جماعة ، ومنهم الفاضل الكلباسي في آخر مسألة التعادل والترجيح. ولكن لم

١٧٣

لوجوه (*) (٢٧٣٧) : الأوّل : الإجماع على ذلك في موارد لا تحصى ، فإنّه لا يحتمل الخلاف في تقديم الاستصحاب في الملزومات الشرعية كالطهارة من الحدث والخبث وكريّة الماء وإطلاقه وحياة المفقود وبراءة الذمّة من الحقوق المزاحمة للحجّ ونحو ذلك على استصحاب عدم لوازمها الشرعية ، كما لا يخفى على الفطن المتتبّع. نعم ، بعض العلماء في بعض المقامات يعارض أحدهما بالآخر ، كما سيجيء. ويؤيّده السيرة المستمرّة بين الناس على ذلك بعد الاطّلاع على حجّية الاستصحاب ، كما هو كذلك في الاستصحابات العرفية.

______________________________________________________

يظهر هذا من المعتنين بالفقه ، كالفاضلين والشهيدين وأمثالهم. وسنشير إلى ما يتعلّق بالأقوال عند بيان ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الخلاف عن جماعة.

٢٧٣٧. تعليل لقوله : «واللازم تقديم الشكّ السببي ...». ولا يذهب عليك أنّ هذه الوجوه تبلغ تسعة ، وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى أكثرها ، أربعة منها بعنوان مستقلّ. وأشار إلى الخامس والسادس ـ وهما السيرة وبناء العقلاء ـ في ضمن الدليل الأوّل ، وإلى السادس بالخصوص بعد الفراغ من الأدلّة بقوله : «ويشهد لما ذكرناه ...» ، وإلى السابع بما نقله عن الشيخ علي في حاشية الروضة من الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي ، وليس الوجه فيه سوى كونهما من قبيل المزيل والمزال. وأمّا الثامن والتاسع فهما ما تمسّك به بعض مشايخنا.

أمّا الأوّل ، فإنّ العمل بالظواهر واجب ما لم يثبت دليل مخرج منها. والعمل بالاستصحاب في الشكّ السببي موجب لبقاء قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» على ظاهره ، لخروج الشكّ المسبّب منه حينئذ بحسب الموضوع ، لكون زوال النجاسة عن الثوب النجس من آثار غسله بالماء المستصحب الطهارة ، بخلاف العمل بالاستصحاب في الشكّ المسبّب ، لأنّه موجب لخروج الشكّ السببي من عموم حكمه ، لعدم كون نجاسة الماء من آثار استصحاب نجاسة الثوب ، فالعمل بالاستصحاب في الشكّ المسبّب مخصّص لعمومه لا محالة ، والأصل عدم التخصيص.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «لوجوه» ، ويدلّ على المختار امور :.

١٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة ، إنّه مع دوران الأمر في فرد بين إخراجه من حكم العامّ أو موضوعه فالثاني أولى ، لعدم استلزامه ارتكاب خلاف الظاهر فيه ، بخلافه على الأوّل ، كما قرّر في باب تعارض الأحوال عند دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص.

وأمّا الثاني ، فإنّهم قد أجمعوا على تقديم الاصول اللفظيّة على العمليّة ، مثل أنّه إذا ورد عامّ ثمّ شكّ في تخصيصه بإخراج بعض أفراده ذاتا أو بحسب الأحوال ، كما لو ثبت حرمة العصير بإطلاق دليل لفظي أو عمومه ، فإذا شكّ في بقاء حرمته بعد ذهاب ثلثيه بالهواء يتمسّك بأصالة الإطلاق أو العموم ، لا باستصحاب الحرمة أو أصالة البراءة عنها ، وليس الوجه فيه سوى كون الشكّ في بقاء الحرمة السابقة أو في الإباحة مسبّبا عن الشكّ في إطلاق الدليل أو عمومه بالنسبة إلى حالة ذهاب ثلثيه بالهواء ، فإذا زال الشكّ عن الإطلاق أو العموم بأصالة الحقيقة يرتفع الشكّ عن مورد الأصلين.

وإنّما لم يذكر المصنّف رحمه‌الله الوجوه الخمسة الأخيرة في تضاعيف الأدلّة بحيالها ، لأنّ الخامس والسادس لم يثبتا على وجه يعتمد عليه في المقام ، ولذا جعلهما مؤيّدين للدليل الأوّل لا دليلا بحياله. وأمّا السابع فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من المناقشة في تحقّق الإجماع المذكور. وأمّا الثامن فإنّ مرجعه إلى الدليل الثاني من الأدلّة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله ، كما سنشير إليه وإلى أنّ الفرق بينهما إنّما هو بحسب العبارة. وأمّا التاسع فإنّ الإشكال في تقديم المزيل والمزال إنّما هو مع اتّحاد دليلهما ، كالأخبار في مثال غسل الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة ، واعتبار الاصول اللفظيّة من باب بناء العقلاء ، فإذا ثبت بنائهم على تقديم ظواهر الألفاظ على الاصول العمليّة ، فهو لا يثبت المطلوب مع اتّحاد دليلهما وتساويهما في الاندراج تحته.

ويمكن أن يحتجّ للمقام بوجه عاشر ، وهو أنّ الأصل في الشكّ السببى والمسبّب لا يخلو : إمّا أن يعمل به في كلّ منهما ، أو لا يعمل به في شيء منهما ، أو يعمل

١٧٥

الثاني : أنّ قوله عليه‌السلام : " لا تنقض اليقين بالشك" باعتبار دلالته على جريان الاستصحاب في الشكّ السببي ، مانع (*) عن قابليّة شموله لجريان الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، يعني : أنّ نقض اليقين (٢٧٣٨) به يصير نقضا بالدليل لا بالشكّ ، فلا يشمله النهي في" لا تنقض". واللازم من شمول" لا تنقض" للشكّ المسببي نقض اليقين في مورد الشكّ السببي ، لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ، فيلزم من

______________________________________________________

به في الثاني خاصّة ، أو في الأوّل كذلك. وما عدا الأخير باطل. أمّا بطلان الأوّل فلما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في إبطال القول بالجمع. وأمّا الثاني فلمنافاته لدليل اعتبار الأصل. وأمّا الثالث فلعدم ظهور قول به ، فتعيّن الأخير وبوجه حادي عشر ، وهو أنّ الاستصحاب ليس بمؤسّس لحكم شرعيّ في مقابل الأحكام الخمسة ، ولا في مقابل خصوص المتيقّن السابق ، بل معناه في الموضوعات تنزيل المشكوك فيه منزلة المعلوم في ترتيب آثاره عليه ، وفي نفس الأحكام الحكم بوجودها في زمان الشكّ تنزيلا في المشكوك فيه منزلة المعلوم. فمعنى استصحاب طهارة الأرض المنشور عليها ثوب مستصحب النجاسة هو تنزيل هذه الأرض منزلة معلوم الطهارة في جواز ملاقاتها ، وجواز السجود والتيمّم عليها. ومعنى استصحاب نجاسة الثوب ترتيب آثار النجس الواقعي عليه من وجوب الاجتناب عنها في الصلاة ، وتنجّس ملاقيه ونحوهما. فكما أنّ طهارة الأرض بالذات لا تنافي عروض النجاسة عليها بالملاقاة للنجس الواقعي ، كذلك طهارة الأرض المذكورة من حيث ملاحظة كونها مستصحبة الطهارة بالذات ، لا تنافي عروض النجاسة عليها بسبب الملاقاة للمستصحب النجاسة. فالأرض طاهرة من حيث ملاحظة كونها مستصحبة الطهارة ، ومتنجّسة من حيث ملاحظة كونها ملاقية للنجاسة المستصحبة.

٢٧٣٨. يعني : نقض اليقين في مورد الشكّ المسبّب بسبب جريان الاستصحاب في الشكّ السببى. ثمّ إنّ حاصل هذا الدليل هو دوران الأمر في المقام بين إخراج

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مانع» ، مخرج للعامّ.

١٧٦

إهمال الاستصحاب في الشكّ السببي طرح عموم" لا تنقض" من غير مخصّص ، وهو باطل. واللازم من إهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابلية العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر.

وتبيان ذلك : أنّ مقتضى (*) عدم نقض اليقين رفع اليد عن الامور السابقة المضادّة لآثار ذلك المتيقّن ، فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له إلّا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة بلا حكم من الشارع بطروء النجاسة ، وهو طرح لعموم" لا تنقض" من غير مخصّص ، أمّا الحكم بزوال النجاسة فليس نقضا لليقين بالنجاسة إلّا بحكم الشارع بطروّ الطهارة على الثوب. والحاصل : أنّ مقتضى عموم" لا تنقض" للشكّ السببي نقض الحالة السابقة لمورد الشكّ المسببي.

______________________________________________________

بعض أفراد العامّ من حكمه وموضوعه. وبعبارة اخرى : دوران الأمر فيه بين التخصيص والتخصّص. ويمكن تقرير الدليل بالعبارتين. أمّا الاولى ـ كما هو ظاهر المصنّف رحمه‌الله ـ فبأن يقال : إنّ إجراء الأصل في الشكّ السببى موجب لخروج الشكّ المسبّب من موضوع «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالدليل ، لأنّ من آثار طهارة الماء المستصحبة المغسول به ثوب نجس ارتفاع النجاسة عن الثوب ، بخلاف العكس ، لأنّ نجاسة الماء ليست من آثار نجاسة الثوب التامّة بالاستصحاب ، لعدم كونها من آثار نجاسته شرعا وإن لزمتها عقلا ، فإخراج الشكّ السببى من العموم بسبب إجراء الاستصحاب في الشكّ المسبّب من باب التخصيص بلا مخصّص. ولا ريب أنّه إذا دار الأمر بين خروج فرد من موضوع العامّ بدليل ، وخروج فرد آخر من حكمه بلا دليل ، فالمتعيّن هو الأوّل.

وأمّا الثانية فبأن يقال : إنّه مع إجراء الاستصحاب في الشكّ السببى يلزم إخراج الشكّ المسبّب من موضوع النهي في قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين» ومع

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مقتضي» ، معني.

١٧٧

ودعوى : أنّ اليقين (٢٧٣٩) بالنجاسة أيضا من أفراد العام ، فلا وجه لطرحه وإدخال اليقين بطهارة الماء. مدفوعة اوّلا : بأنّ معنى عدم نقض (٢٧٤٠) يقين النجاسة أيضا رفع اليد عن الامور السابقة المضادة لآثار المستصحب ، كالطهارة السابقة الحاصلة لملاقيه وغيرها ، فيعود المحذور ، إلّا أن نلتزم هنا أيضا ببقاء طهارة الملاقي ، وسيجيء فساده. وثانيا : أنّ نقض يقين النجاسة بالدليل الدالّ على أنّ كلّ نجس غسل بماء طاهر فقد طهر ، وفائدة استصحاب الطهارة إثبات كون الماء طاهرا به ، بخلاف نقض يقين الطهارة بحكم الشارع بعدم نقض يقين النجاسة.

______________________________________________________

إجرائه في الشكّ المسبّب يلزم إخراج الشكّ السببى من النهي ، كما عرفته في التقرير الأوّل ، فيدور الأمر حينئذ بين التخصيص والتخصّص ، والمقرّر في باب تعارض الأحوال تقدّم الثاني علي الأوّل ، لأنّ الأوّل موجب لارتكاب خلاف الظاهر في العموم اللفظي ، بخلافه على الثاني ، لبقاء العموم حينئذ على ظاهره ، والعمل بأصالة الحقيقة بحسب الإمكان واجب.

٢٧٣٩. حاصله : أنّ الشكّ السببى والمسبّب من أفراد الشكّ المأخوذ في دليل الاستصحاب ، فلا وجه لإخراج أحدهما من العموم بإدخال الآخر. وأنت خبير بأنّ ضعف هذه الدعوى قد ظهر ممّا ذكره في سابقها ، بحيث صارت إعادتها ثانيا والتصدّي للجواب عنها كالمستغنى عنها ، فالأولى ترك ذكرها إلى قوله : «وقد يشكل».

٢٧٤٠. حاصله : بيان عدم المناص من تقديم الشكّ السببى ، بتقريب : أنّه مع تسليم تقديم الشكّ المسبّب أيضا فلا ريب أنّ هذا الشكّ أيضا قد يكون سببا لشكّ آخر ، كما إذا لاقى الثوب النجس المغسول بماء مستصحب الطهارة شيئا آخر ، فصار هذا الشيء بذلك مشكوك النجاسة ، وحينئذ إن اريد من إدخال الشكّ المسبّب تحت العموم ترتيب آثاره التي منها تنجيس الثوب ملاقيه في المثال ، فحينئذ تعود الدعوى المذكورة بالنسبة إلى ملاقي الثوب ، وإن اريد منه الحكم بنجاسة الثوب مع الحكم بطهارة ملاقيه ـ عملا بالأصلين ـ فسيجيء فساده.

١٧٨

بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النجاسة كنّا قد طرحنا اليقين بطهارة الماء من غير ورود دليل شرعيّ على نجاسته ؛ لأنّ بقاء النجاسة في الثوب لا يوجب زوال الطهارة (٢٧٤١) عن الماء ، بخلاف ما لو عملنا باستصحاب طهارة الماء ؛ فإنّه يوجب زوال نجاسة الثوب بالدليل الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فطرح اليقين بنجاسة الثوب لقيام الدليل على طهارته.

هذا ، وقد يشكل (٢٧٤٢) بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به ، كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدّ سواء ؛ لأنّ نسبة حكم العام إلى أفراده على حدّ سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أوّلا حتّى يجب نقض اليقين بالنجاسة ، لأنّه مدلوله ومقتضاه؟! والحاصل أنّ جعل شمول حكم العام لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو عن الموضوع ـ كما فيما نحن فيه ـ فاسد ، بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.

______________________________________________________

٢٧٤١. يعني : في مفروض المثال من غسل الثوب النجس بالماء القليل المستصحب الطهارة بالصبّ عليه لا بغمسه فيه.

٢٧٤٢. حاصل الإشكال : أنّا وإن سلّمنا أنّ إبقاء الشكّ السببى تحت عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» يصير دليلا على خروج الشكّ المسبّب منه دون العكس ، إلّا أنّه يتوقّف على قيام دليل على إبقاء الأوّل أوّلا ليصير خروج الثاني بالدليل ، ولا دليل عليه ، لأنّ نسبة العامّ في الشمول لأفراده نسبة واحدة ، وإن لزم من شموله لبعضها ما لزم ، نظير مسألة المانع والممنوع التي ذكروها في فروع دليل الانسداد ، لأنّ دخول الظنّ المانع تحته وإن منع دخول الممنوع منه فيه ، لأنّ موضوع الدليل المذكور كلّ ظنّ لم يقم على عدم اعتباره دليل ، وبعد دخوله تحته يصير الممنوع منه من الظّنون التي قام الدليل على عدم اعتبارها ، إلّا أنّه فرع دخوله تحته قبله ، ولا دليل عليه ، فيتزاحمان في الاندراج تحته.

١٧٩

ويدفع : بأنّ فرديّة (٢٧٤٣) أحد الشيئين إذا توقّف على خروج الآخر

______________________________________________________

وقد أجاب شريف العلماء عن هذا الإشكال ـ فيما حكي عنه ـ بما حاصله : أنّ وجود الكلّيات في الخارج إنّما هو بوجود أفرادها ، ولا ريب أنّ الغالب وجود الشكّ السببي في الخارج قبل وجود الشكّ المسبّب ، كما في مثال الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، لأنّ الغالب وجود الشكّ في طهارة الماء قبل غسل الثوب به ، والشكّ في زوال النجاسة عن الثوب إنّما يحصل بغسله به ، فمع وجود الشكّ السببي قبل وجود الشكّ المسبّب يتحقّق كلّي حرمة نقض اليقين بالشكّ في ضمنه ، وهو يمنع تحقّقه في ضمن الشكّ المسبّب بعد وجوده. وأمّا فيما لو تقارن وجودهما ، كما لو حصل الشكّ في طهارة الماء حين غسل الثوب به أو بعده ، فيمكن إتمام المطلوب فيه بالإجماع المركّب.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب إنّما يتأتّى لو قلنا باعتبار الشكّ الفعلي في الاستصحاب ، وليس كذلك ، إذ يكفي في صحّة استصحاب نجاسة الثوب كون زوال نجاسته مشكوكا على تقدير غسله بالماء المشكوك الطهارة ، غاية الأمر أن يكون استصحاب النجاسة تعليقيّا. ولا مناص من القول بكفاية الشكّ الثاني ، لأنّ العامل بالاستصحاب هو المجتهد دون المقلّد ، لأنّه إنّما يفتي للمقلّد بمضمون الاستصحاب في الوقائع التي لم يبتل المكلّف بها بعد ، فيقول : إنّ الماء المشكوك الطهارة الذي علمت طهارته سابقا طاهر ، وكذا الثوب النجس المغسول به ، وهكذا. فالأولى في دفع الإشكال ما ذكره المصنّف رحمه‌الله فتدبّر.

٢٧٤٣. حاصله : أنّ الشكّ السببى من مصاديق حرمة نقض اليقين بالشكّ مطلقا ، سواء قلنا بخروجه من هذا الحكم بدخول الشكّ المسبّب فيه أم لا. وأمّا الشكّ المسبّب فصيرورته مصداقا له ومن جملة أفراده متوقّفة على خروج الشكّ السببي من حكمه ، وحينئذ لا يعقل إدخال الشكّ المسبّب في موضوع الحكم ، وجعله

١٨٠