فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وثانيهما : أن يعلم من نفسه بعدم إدخاله الماء تحت الخاتم ، لكن احتمل وصول الماء تحت الخاتم بنفسه. وقد توقّف بعضهم في هذه الصورة استنادا إلى ظهور الأخبار في صورة صدور فعل عنه ، بناء على ظهور الخروج من الشيء والتجاوز عنه في وقوع أصل الشيء والشكّ في صحّته وفساده. وتؤيّده منافرته لظاهر التعليلين. ويدفعه : أنّ الظاهر أنّ المراد بالخروج والتجاوز عن الشيء هو الخروج والتجاوز عن محلّه كما تقدّم سابقا ، فيشمل الشكّ في وجود الشيء أيضا. ويحتمل ورود التعليلين لبيان الحكمة دون العلّة كما تقدّم.

الثاني : أن يكون الشكّ في وجود المانع ، كما إذا شكّ بعد الفراغ من الغسل في وجود حاجب في بدنه مانع من وصول الماء إلى البشرة. وظاهر الأصحاب هو الحكم بصحّة الغسل حينئذ ، لكن لا لقاعدة الفراغ ، بل لاستصحاب عدمه.

ويشكل بأنّ أصالة عدم الحائل لا تثبت انغسال البشرة حتّى يحكم بصحّة الغسل. وقد يمنع جريان القاعدة في المقام أيضا. نظرا إلى أنّ المتبادر من أخبار الباب هو المضيّ في العمل وعدم الاعتناء بالشكّ ، فيما وقع الشكّ في إيقاع أصل الفعل أو في إيقاعه على وجه الصحّة ، والشكّ في صحّة الغسل هنا ليس من أحد القبيلين ، لأنّ الشكّ في صحّته هنا مسبّب عن وجود الحائل وعدمه ، لا عن أصل إيقاع الفعل أو عن كيفيّة إيقاعه.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع الظهور ، بل ربّما يدّعى اعتبار الاستصحاب المذكور أيضا وإن كان مثبتا ، نظرا إلى أنّ الاصول المثبتة إنّما يمنع من العمل بها من باب الأخبار ، والاصول العدميّة معتبرة من باب بناء العقلاء ، فتأمّل ، فإنّ المقام لا يخلو من إشكال.

السابع : أنّه إذا اعتقد بشيء من الأحكام أو الموضوعات ثمّ شكّ في صحّة اعتقاده السابق ، ففي جريان القاعدة في تصحيح هذا الاعتقاد وجوه :

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدها : المنع مطلقا بناء على منع شمول أخبار الباب للاعتقادات ، لانصرافها إلى غيرها.

وثانيها : القول بالموجب كذلك جمودا على ظاهر الأخبار ، لعمومها لكلّ شيء.

وثالثها : التفصيل بين العلم بفساد منشأ الاعتقاد السابق ومدركه ، كما إذا اعتقد بالحكم من الاستقراء ، لأنّ فساد المدرك لا يستلزم فساد المدرك ، فلا يعتبر ، وبين نسيان مدركه فيعتبر ، لعموم الأخبار.

وأوجه الوجوه أوّلها ، لأنّ حمل شيء على الصحّة فرع قابليّته لذلك وصلاحيّته له ، والاعتقاد الجزمي لا يتّصف بشيء من الصحّة والفساد ، لأنّه طريق عقليّ من أيّ سبب حصل.

نعم ، المتصف بهما المعتقد ، لا صفة الاعتقاد. ولا تنافيه رواية محمّد بن مسلم المتقدّمة في تضاعيف أخبار الباب عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إن شكّ الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثا صلّى أم أربعا ، وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» لأنّ المحمول على الصحّة فيها ليس هو الاعتقاد السابق ، بل المعتقد ، ونحن لا نتحاشى عنه.

وثمرة حمل الاعتقاد على الصحّة تظهر في الآثار المستقبلة ، فإذا شكّ المجتهد في صحّة اعتقاده السابق ، فمعنى حمل معتقده على الصحّة عدم وجوب إعادة أعماله التي بنى على اعتقاده السابق ، لكن يجب تحصيل اعتقاد جديد لأعماله الآتية. ومعنى حمل اعتقاده على الصحّة عدم وجوب إعادة المعتقد ثانيا ، ولا تحصيل اعتقاد آخر بعده ، فيكون الحمل على الصحّة من جملة أدلّة عدم وجوب تجديد النظر للمجتهد.

هذا كلّه إذا اعتبر الاعتقاد من باب الطريقيّة إلى الواقع. وأمّا إذا اعتبر من باب الموضوعيّة فالظاهر جريان القاعدة فيه ، لقابليّة الاعتقاد حينئذ للاتّصاف

٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالصحّة والفساد ، كجواز الشهادة للعالم بناء على أخذ الاعتقاد جزء موضوع منه ، كما تقدّم في صدر الكتاب.

الثامن : أنّه علي القول المشهور من اختصاص مورد القاعدة بأفعال الصلاة ، أعني : الأفعال المعنونة منها في كلمات الأصحاب ، لا إشكال في جريانها في أفعال المختار. وأمّا المضطرّ ، كصلاة المريض جالسا أو مستلقيا أو مضطجعا ، ففي جريان القاعدة في أفعاله ، كالجلوس بدل القيام والإيماء والغمض بالعين بدل الركوع والسجود مع تعذّرهما ، محلّ إشكال ، لعدم عنوانه في كلمات الأصحاب على ما ادّعاه صاحب الجواهر.

وتحقيق المقام : أنّ الأفعال المذكورة إن ثبتت بدليّتها عن أفعال المختار شرعا فلا إشكال في جريان القاعدة فيها ، لعموم البدليّة ، فإنّ جعل الإيماء بدلا عن الركوع والسجود يقتضي تنزيله منزلتهما في جميع أحكامهما حتّى أحكام الشكّ. فإذا شكّ في الإيماء للركوع بعد الشروع في الإيماء للسجود ، لا يلتفت إلى شكّه وبنى على وقوع المشكوك فيه. وإن لم تثبت البدليّة فالأظهر عدم جريان القاعدة فيها ، لأنّ الفرض اختصاص القاعدة بأفعال صلاة المختار ، لأنّها المتيقّنة من أخبار الباب ، وغاية الأمر أن يتعدّى إلى ما هو بمنزلتها شرعا دون غيرها.

وتحقيق موارد ثبوت البدليّة موكول إلى نظر الفقيه. ومجمله ثبوت البدليّة في الإيماء للركوع والسجود. وأمّا الجلوس ففيه أقوال : المنع مطلقا وهو الأظهر ، والقول بالموجب كذلك ، والتفصيل بدعوى ثبوت بدليّته عن القيام في حال القراءة دون غيرها ، فعلى الأوّل يكون القيام ساقطا عن المضطرّ ، ويكون الجلوس من المقدّمات الشرعيّة للقراءة. وكذا الكلام في الاضطجاع والاستلقاء. فإذا شكّ في الإيماء للسجود بعد الجلوس قبل الشروع في القراءة يعود على الأوّل دون الأخيرين ، لعدم تحقّق الدخول في فعل آخر عليه دونهما. وإذا شكّ فيه بعد الشروع في القراءة لا يلتفت إلى شكّه على الأخيرين. وأمّا على الأوّل فالظاهر وجوب العود ،

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّه وإن دخل في القراءة إلّا أنّ القراءة ليست معنونة في الفقه بنفسها ، بل بوصف كونها حال القيام لا مطلقا.

والمعتبر على مذهب المشهور في عدم الالتفات إلى الشكّ في فعل من أفعال الصلاة هو الدخول في فعل آخر من الأفعال المخصوصة المعنونة في كلمات الأصحاب ، والجلوس على القول ببدليّته عن القيام واجب حيث يجب فيه القيام ، ومستحبّ حيث يستحبّ كما في حال القنوت. وفي حكم صلاة المضطرّ في جريان القاعدة فيها وعدمه النوافل ، حيث يجوز فعلها ماشيا وعلى الدابّة والإيماء لركوعها وسجودها.

هذا كلّه على مذهب المشهور. وأمّا على المختار من عموم القاعدة فلا فرق بين صلاة المختار والمضطرّ وغيرهما ، لأنّ المدار حينئذ على حصول الشكّ في فعل بعد الدخول في فعل آخر مطلقا ، من دون فرق بين العبادات والمعاملات على أصنافهما.

التاسع : أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع القاعدة تارة يكون ساذجا ، واخرى مشوبا بالعلم الإجمالي. ولا إشكال في جريانها على الأوّل. وأمّا الثاني : مثل ما لو توضّأ وضوءين أصلي وتجديدي ، وقلنا بعدم رفع التجديدي للحدث ، وصلّى بعدهما صلاة واحدة أو أكثر ، ثمّ تيقّن بطلان أحد الوضوءين. وإنّما قلنا بكون أحدهما تجديديّا ، لأنّه مع كونهما أصليّين. حصل العلم بصحّة الصلاة ، للقطع بوقوعه بعد وضوء صحيح رافع للحدث. وإنّما قلنا بعدم رفع التجديدي ، لأنّه إن قلنا برفعه كان كالأصلي. ومن هنا يظهر أنّه لو كانا تجديديّين وقلنا برفع التجديدي كانا كالأصليّين. وإن قلنا بعدم رفعه حصل العلم حينئذ ببطلان الصلاة الواقعة بعدهما.

ففرض احتمال الصلاة للصحّة والفساد فيما وقعت بعد الوضوءين علم ببطلان أحدهما ، لأجل الإخلال ببعض ما يعتبر فيه ، منحصر فيما ذكرناه. فقد

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حكي عن العلّامة في المنتهى عدم الالتفات إلى هذا الشكّ ، لاندراجه تحت عموم القاعدة. ونقله الشهيد في محكيّ البيان عن السيّد جمال الدين بن طاوس واستوجهه.

وقال في المدارك : «ويمكن الفرق بين الصورتين ، بأنّ اليقين هنا حاصل بالترك ، وإنّما حصل الشكّ في موضعه ، بخلاف الشكّ بعد الفراغ ، فإنّه لا يقين فيه بوجه. والمتبادر من الأخبار المتضمّنة لعدم الالتفات إلى الشكّ في الوضوء بعد الفراغ الوضوء الذي حصل الشكّ فيه بعد الفراغ» انتهى.

وظاهره كون العلم الإجمالي مانعا من جريان القاعدة مطلقا. والذي يساعده التحقيق أنّ العلم الإجمالي إن كان مستلزما لخطاب شرعيّ يلزم من إلغائه مخالفته ، نظير الشبهة المحصورة إذا كان طرفاها محلّ ابتلاء للمكلّف ، لا تجري فيه القاعدة. وإن لم يستلزمها لا يعتبر فيه العلم الإجمالي ، ويراعى فيه مقتضى القاعدة ، نظير الشبهة المحصورة أيضا إذا كان كلّ من طرفيها أو أحدهما خارجا من محلّ الابتلاء. فالعلم الإجمالي على إطلاقه غير مانع من جريان القاعدة ، كما لا يمنع جريان الاستصحاب كذلك.

وتوضيح المقام : أنّ الطهارتين اللتين علم ببطلان إحداهما إجمالا إن ترتّب على بطلانهما حكم شرعيّ ، فالعلم ببطلان إحداهما يستلزم ترتّب هذا الخطاب عليه ، فلا تجوز مخالفة مثل هذا العلم الإجمالي كما قرّر في محلّه ، كما إذا صلّى بعد كلّ من الطهارتين الرافعتين صلاة واحدة وعلم ببطلان إحداهما ، فإنّ العلم الإجمالي ببطلان إحداهما مستلزم للعلم كذلك ببطلان إحدى الصلاتين لا محالة. وحينئذ يجب قضائهما من باب المقدّمة على وجه يحصل الترتيب بينهما على القول باعتباره ، على ما هو الحقّ من وجوب الموافقة القطعيّة ، وعدم كفاية الموافقة الاحتماليّة ، على ما حقّقناه في الشبهة المحصورة.

والقائل بجريان القاعدة في المقام إن أراد إجرائها بالنسبة إلى كلّ من طرفي العلم الإجمالي ، فهو مستلزم لمخالفة خطاب وجوب قضاء الفوائت قطعا. وإن أراد

٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إجرائها بالنسبة إلى أحدهما ، فهو مستلزم لمخالفته الاحتماليّة ، نظير ما قرّرناه في الشبهة المحصورة وغيرها من موارد العلم الإجمالي الذي تستلزم مخالفته مخالفة خطاب شرعيّ. وإن لم يترتّب على بطلانهما أو بطلان إحداهما حكم شرعيّ ، مثل الصلاة الواقعة بعد وضوءين تجديديّين أو أحدهما أصلي والآخر تجديدي ، وقلنا بعدم رفع التجديدي كما في محلّ الفرض ، فلا مجرى للقاعدة على الأوّل ، بخلاف الثاني.

أمّا عدم ترتّب حكم على بطلان الأوّلين ، فلفرض عدم استناد صحّة الصلاة على الوضوء التجديدي مع القطع بصحّته ، فضلا عن القطع ببطلانه تفصيلا أو إجمالا ، فلا يترتّب خطاب وجوب الإعادة والقضاء على بطلانهما. وأمّا عدم ترتّبه على العلم الإجمالي ببطلان أحدهما ، فلاحتمال كون الباطل هو التجديدي ، فلا يحصل العلم بتوجّه خطاب بوجوب الإعادة والقضاء بسبب هذا العلم الإجمالي.

وأمّا عدم جريان القاعدة على الأوّل ، فلفرض العلم التفصيلي ببطلان الصلاة فيه. وأمّا جريانها على الثاني ، فإنّه لا محظور فيه بعد فرض عدم استلزام مخالفة العلم الإجمالي حينئذ لمخالفة خطاب منجّز ، نظير ما حقّقناه في الشبهة المحصورة إذا كان أحد طرفي الشبهة خارجا من محلّ ابتلاء المكلّف.

هذا كلّه إن قلنا باعتبار القاعدة من باب الاصول. وإن قلنا باعتبارها من باب الظنّ ولو نوعا فالقول بالمنع أوجه ، لعدم تحقّق الكشف والظنّ ولو نوعا مع العلم الإجمالي بخلافها. وإن أراد صاحب المدارك بالمنع المطلق ذلك فلا اعتراض عليه. وإن أراد غير ذلك ، بأن منع جريان القاعدة مطلقا مع قوله باعتبارها من باب التعبّد ، فقد عرفت ما فيه. وما ادّعاه من انصراف الأخبار إنّما يتمّ على الأوّل لا على هذا القول ، إذ عليه لا فرق بين الشكّ البسيط والمشوب بالعلم الإجمالي في عموم القاعدة.

العاشر : أنّك قد عرفت سابقا أنّ عدم الالتفات إلى الشكّ بحكم القاعدة إنّما

٦٦

هو فيما تحقّق التجاوز عن محلّ المشكوك فيه.

وعرفت أيضا محلّه على المختار من عموم القاعدة ومذهب المشهور. وهذا مع تعيّن محلّ المشكوك فيه واضح. وإن لم يتعيّن ذلك ، بأن كان المكلّف متجاوزا عن محلّ المشكوك فيه على تقدير دون آخر ، كما إذا علم بترك أحد جزءين إجمالا ، وكان متجاوزا عن محلّ أحدهما دون الآخر ، فهو على وجهين :

أحدهما : أن يتحقّق التجاوز عن محلّ الشكّ للمحتمل الذي فرض تحقّق التجاوز عن محلّه ، كما إذا علم في حال النّهوض للقيام بترك التشهّد أو السجود ، لأنّ المتروك إن كان هو السجود فقد تجاوز عن محلّه ودخل في غيره وهو التشهّد ، وإن كان هو التشهّد فقد بقي محلّه بعد ، لفرض عدم وصوله إلى حدّ القيام.

وثانيهما : أن يتحقّق التجاوز عن محلّ النسيان للمحتمل المذكور ، وهو الدخول في ركن آخر ، كما إذا علم حال النهوض للقيام بترك التشهّد أو الفاتحة ، إذ لو كان المتروك هي الفاتحة فقد تجاوز عن محلّ نسيانها ، وهو الدخول في الركوع.

أمّا الأوّل ففي جريان القاعدة فيه وجهان ، من بقاء محلّ التشهّد فيجب الجلوس له ، فإذا جلس يتحقّق بقاء محلّ السجود أيضا فيجب العود إليه أيضا ، مضافا إلى منع العلم الإجمالي من جريان القاعدة كما تقدّم ، ومن صدق التجاوز عن محلّ أحد الجزءين وهو السجود دون الآخر وهو التشهّد ، فيجب عدم الالتفات إلى الشكّ بالنسبة إلى الأوّل دون الثاني. والعلم الإجمالي غير مانع من جريان القاعدة في المقام ، لتعيّن أحد طرفيه ، إذ الجلوس للتشهّد واجب على كلّ حال ، لفرض بقاء محلّه ، لأنّه إن كان هو المتروك فواضح ، وإن كان هو السجود دونه فلا يترتّب على وجوده أثر ، لأنّه إنّما يعتبر مع سبقه بالسجود ، إذ لو التفت بعد التشهّد إلى نسيان السجود وجب تداركه معه ما لم يدخل في ركن آخر. وقد تقدّم في مسألة الشبهة المحصورة عدم وجوب الاجتناب عن أحد طرفيها مع تعيّن الاجتناب عن الطرف الآخر بالخصوص ، فكما أنّ العلم الإجمالي هناك غير

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

مانع من استصحاب الطهارة ، كذلك هو غير مانع من إجراء القاعدة هنا بالنسبة إلى ما تحقّق التجاوز عنه.

وأمّا دعوى كون الجلوس للتشهّد محقّقا لبقاء محلّ السجود ، ففيها أنّ الإذن في العود إلى التشهّد لا يستلزم الإذن في العود إلى السجود أيضا ، وإن استلزم بقاء محلّه ، بقاء محلّه لجواز التفكيك بين اللوازم في موارد الاصول ، بناء على ما هو الحقّ من كون اعتبار القاعدة من باب التعبّد دون الظنّ ولو نوعا ، فيجب حينئذ تدارك التشهّد لبقاء محلّه دون السجود ، سيّما على القول بكون الأمر بالمضيّ وعدم الالتفات إلى الشكّ من باب العزيمة دون الرخصة. ومن هنا قد قوّى هذا الوجه بعض مشايخنا. ولكنّك خبير بأنّه وإن فرض صدق التجاوز عن محلّ السجود ، إلّا أنّه لم يتحقّق الدخول في الغير كما هو المعتبر في عدم الالتفات إلى الشكّ ، لأنّه فرع العلم بالإتيان بالتشهّد ، وهو خلاف الفرض. وكيف كان ، فعلى ما قوّاه لا فرق بين أن يكون أحد الجزءين ركنا وعدمه.

نعم ، لو كان كلّ منهما ركنا فلا يمكن فرضه في هذا القسم ، بل هو داخل في القسم الثاني ، إذ مع فرض كون المتروك هو الجزء الأوّل الركني يحصل التجاوز عن محلّ نسيانه بالدخول في الجزء الآخر الركني ، وإن فرض بقاء محلّ شكّ هذا الجزء الركنى كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ، فالظاهر جريان القاعدة بالنسبة إلى الجزء الذي حصل التجاوز عن محلّ نسيانه ، لصدق التجاوز عن محلّه. ولا يلزم هنا ما يلزم في القسم الأوّل من استلزام العود إلى الجزء الذي فرض بقاء محلّ شكّه لتحقّق بقاء محلّ الجزء الآخر. والعلم الإجمالي بترك أحد الجزءين غير مانع من جريان القاعدة ، لعدم ترتّب خطاب شرعيّ عليه ، لأنّه لو فرض العلم بكون المتروك هو الجزء الذي فرض التجاوز عن محلّ نسيانه لا يجب تداركه ، فمع كون المتروك هو ذلك لا يحصل العلم بتوجّه خطاب وجوب تدارك ما علم تركه إجمالا ، فلا مانع من مخالفته بإجراء القاعدة.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو كان الجزء الذي تحقّق التجاوز عن محلّ نسيانه جزءا ركنيّا ، فمن العلم إجمالا بكون المتروك هو هذا الجزء الركني المرتّب عليه بطلان الصلاة ، أو الجزء الذي بقي محلّ شكّه المرتّب عليه وجوب تداركه ، يحصل العلم بتوجّه خطاب إجمالي إليه ، وهو الخطاب المردّد بين وجوب إعادة الصلاة وبين وجوب تدارك ما بقي محلّ شكّه ، فلا تجوز مخالفة هذا العلم الإجمالي ، كما لا تجوز مخالفته لو ترتّب عليه خطاب تفصيلي ، كما في الشبهة المحصورة. اللهمّ إلّا أن يمنع اعتباره هنا أيضا ، على نحو ما عرفته في الوجه الثاني من القسم الأوّل من تعيّن أحد طرفي العلم الإجمالي.

ومن هنا يظهر الكلام فيما لو كان الجزءان معا ركنيّين ، كما لو شكّ في حال النهوض للقيام للركعة الثانية مثلا في ترك السجدتين أو الركوع. والله أعلم.

الحادي عشر : أنّه لو دار الأمر في مورد القاعدة بين الأقلّ والأكثر ، بأن شكّ بعد الدخول في السورة في ترك الفاتحة كلّا أو بعضا ، بأن تردّد المتروك بين النصف الأخير منها وبين تمامها ، ففي جريان القاعدة هنا وجهان ، من انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، فلا يلتفت إلى شكّه ، لتحقّق التجاوز عن محلّ المشكوك فيه بالدخول في السورة ، فيكتفي بتدارك ما علم تركه تفصيلا ، وهو النصف الأخير من الفاتحة ، ومن أنّه يجب العود إلى تدارك النصف الأخير منها ، لفرض العلم بتركه تفصيلا ، ومع العود إليه لا يصدق التجاوز عن محلّه المشكوك فيه وهو النصف الأوّل ، فيجب العود إليه أيضا. وهذا لا يخلو من قوّة ، فتأمّل.

الثاني عشر : أنّه إذا نزّل فعل مركّب من أجزاء عديدة منزلة فعل واحد ، بحيث لا تجري القاعدة عند الشكّ في بعض أجزائه قبل الدخول في فعل آخر ، كالوضوء على ما أوضحه المصنّف رحمه‌الله ، فإذا شكّ في بعض شروطه ، كما إذا شكّ بعد الدخول في غسل اليد اليمنى في كون غسل الوجه بالماء المباح أو المغصوب ، ففي جريان القاعدة فيه وجهان ، من كون الشروط تابعة للأجزاء ، لأنّها الأصل في التركيب ، وظاهر تنزيل الأجزاء منزلة فعل واحد هو تنزيلها بمنزلته مع جميع

٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

توابعها ولواحقها ، فتكون الشروط حينئذ في حكم الأجزاء ، فلا تجري فيها القاعدة إلّا إذا حصل الشكّ فيها بعد الدخول في فعل آخر غير الوضوء كالأجزاء ، ومن أنّ المتيقّن من تنزيل المركّب منزلة فعل واحد تنزيله بحسب أجزائه ، فتبقى الشروط تحت عموم القاعدة ، سيّما إذا كان خروج أجزاء الوضوء من عموم القاعدة من باب التخصيص دون التخصّص ، بتنزيلها منزلة فعل واحد على ما عرفت ، إذ مع خروج الأجزاء عن حكم القاعدة لا دليل على خروج شرائطها أيضا. والله أعلم.

٧٠

المصادر

(١) الوسائل ج ١ : ص ٣٣٢ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ١.

(٣) الوسائل ج ٤ : ص ٩٣٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٤) الوسائل ج ٥ : ص ٣٣٦ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٥) قواعد الأحكام ج ١ : ص ٢٠٦.

(٦) مفتاح الكرامة ج ٣ : ص ٣٠٥.

(٧) كشف الغطاء : ص ٢٧٨.

(٨) الوسائل ج ١ : ص ٣٣٣ ، الباب ٤٤ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٩) إيضاح الفوائد ج ١ : ص ٤٣.

٧١
٧٢

المسألة الثالثة في أصالة الصحّة في فعل الغير وهي في الجملة من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين ، فلا عبرة في موردها بأصالة الفساد المتّفق عليها عند الشكّ ، إلّا أنّ معرفة مواردها ومقدار ما يترتّب عليها من الآثار ومعرفة حالها عند مقابلتها لما عدا أصالة الفساد من الاصول ، يتوقّف على بيان مدركها من الأدلّة الأربعة (٢٦٥٠).

______________________________________________________

٢٦٥٠. ربّما يستدلّ على القاعدة بالأصل ، وهو يقرّر بوجهين :

أحدهما : ما ذكر الشيخ الأجلّ فقيه عصره الشيخ جعفر قدس‌سره ، قال في مقدّمات كشف الغطاء : «إنّ الأصل فيما خلق الله تعالى من الأعيان ـ من عرض وجوهر ، حيوان وغير حيوان ـ صحّته ، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال ، فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما خلقت له ، وعلى وفق الطبيعة التي اتّحدت به ، من مسلم مؤمن أو مخالف ، أو كافر كتابي أو غير كتابي. فيبنى إخباره ودعاويه على الصدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصحّة ، حتّى يقوم شاهد على الخلاف ، إلّا أن يكون في مقابله خصم ، ولا سيّما ما يتعلّق بالمقاصد ونحوها ، ولا تتعلّق به مشاهدة المشاهد ، فإنّه يصدق عليه ، ويجري الحكم على نحو الدعوى فيه. فمن ادّعى القصد بإشارته دون العبث ، أو قصدا خاصّا لعبادة خاصّة أو معاملة كذلك ، أو ادّعى العجز عن النطق بألفاظ العبادات أو المعاملات ، أو عن الإتيان بها على وفق العربيّة فيما يشترط فيه كالطلاق ، أو العجز عن القيام أو تحصيل الماء في صلاة النيابة بطريق المعاوضة ، أو عن وطي المرأة بعد أربعة أشهر ، أو

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

قصد النيابة أو الأصالة أو الإحياء أو الحيازة ، إلى غير ذلك ، فليس عليه سوى اليمين.

وتفصيل الحال : أنّ الأصل في جميع الكائنات ـ من جمادات ونباتات أو حيوانات ، أو عقود أو إيقاعات ، أو غيرها من إنشاءات أو إخبارات ـ أن يكون على نحو ما غلبت عليه حقيقتها ، من التمام في الذات ، وعدم النقص في الصفات ، على طور ما وضعت له مبانيها ، وعلى وجه يترتّب آثارها فيها على معانيها ، من صدق الأقوال ، وترتّب الآثار على الأفعال».

ثمّ فرّق بين حال المسلم والكافر بوجوه أربعة ، يطول الكلام بنقلها. ولم أجد أحدا قبله عمّم القاعدة على نحو ما عمّمها ، ولازمه دعوى أصالة الحجّية في خبر الفاسق ، وأنّ نافي حجّيته يحتاج إلى إقامة البرهان عليه. وأنت خبير بأنّه لم يساعده دليل ، ولا اقتضاه برهان من عقل أو نقل ، لأنّ غاية ما يمكن أن يقال في الأعيان : إنّها بحسب جبلّتها ومقتضى نوعها أن تكون صحيحة ما لم يعرض لها ما يخرجها من مقتضى طبيعتها ووضع نوعها ، فإنّ الزيادة والنقصان وسائر العوارض الخارجة من مقتضى الطبيعة النوعيّة العارضة للإنسان والحيوان ، وسائر الأعيان من النباتات والجمادات ، إنّما هي من قبيل العوارض المانعة من عمل الطبائع مقتضاها ، فإذا شكّ خروج شيء من مقتضى نوعها ، فأصالة عدم عروض ما يخرجه من مقتضى الطبيعة النوعيّة تقتضي الحكم بصحّته. ولذا ترى الفقهاء يكتفون بأصالة الصحّة عن الاختبار في الأشياء التي يفتقر في بيعها إلى اختبارها ، ممّا يشكل اختبارها حين البيع ، كالبيضة وما يشابهها من الفواكه ونحوها ، وغاية الأمر أنّه بعد ظهور الفساد بالكلّية بعد العقد يحكم بفساده ، وفي الجملة ـ بأن لم يخرج بفساده من الماليّة ـ يحكم بخيار الفسخ للمشتري ، ولكن ما لم يظهر فساده يحكم بصحّته ، وصحّة العقد في الظاهر بمقتضى الأصل المذكور.

ولكنّك خبير بأنّ ذلك وإن تمّ في الأعيان ، إلّا أنّه لا يتأتّى في الأفعال والأقوال ، لأنّ طبيعة القول والفعل ليست ممّا يقتضى صدورهما عن الفاعل ، بحيث

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يترتّب عليهما آثارهما من الصدق في الأقوال والآثار الشرعيّة في الأفعال ، فإنّا لم نجد فرقا بين صحيح العقد وفاسده من حيث اقتضاء طبيعة الألفاظ صدورها على وجه الصحّة بحيث يترتّب عليها الآثار الشرعيّة ، وكذا بين فعل الصلاة وأكل الربا من حيث كون مقتضى طبيعة الفعل كونه صادرا على وجه الصحّة إذ لا وضع ولا توظيف في الأقوال والأفعال بحسب طبيعتهما النوعيّة حتّى يقتضي صدورهما على هذا الوضع والتوظيف ، كما هو ظاهر كلامه ، بل الشارع إنّما لاحظهما ورتّب عليهما أحكاما شرعيّة على حسب ما لاحظ فيهما من المصالح والمفاسد ، لا أنّ طبيعتهما مقتضية لصدورهما على حسب ما رتّب عليهما الشارع من الآثار.

هذا إن أراد إثبات أصالة الصحّة في جميع الأشياء ـ من الأعراض والجواهر ـ بحكم الاستصحاب. وإن أراد إثباتها بحكم الغلبة في أفراد أنواعها إلحاقا للمشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، كما يشعر به قوله : «ونحو ما غلبت عليه طبيعتها» ففيه مع تسليم الغلبة أنّه لا اعتبار بها على القول بالظّنون الخاصّة ، سيّما في الموضوعات الخارجة التي لم يعمل بالظّنون المطلقة فيها أربابها.

وأحسن الوجوه التي يمكن حمل كلامه عليه أنّ ذلك منه مبنيّ على الأدلّة المختلفة بحسب اختلاف الموارد ، فمستند الأصل المذكور في الأعيان وعوارضها القائمة بها ما قدّمناه من الاستصحاب ، وفي أفعال المسلمين وأقوالهم ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من الآيات والأخبار ، وفي أفعال الكفّار وأقوالهم ما دلّ على تقريرهم على مذهبهم ، وهكذا. وقد ذكر في وجوه الفرق بين حال المسلم والكافر أنّ أقوال الكافر وأفعاله تحمل على الصحّة على مذهبه ، وليس مقصوده إثبات الكلّية بدليل واحد ، لا فتأمّل جيّدا.

وثانيهما أن يقال : إنّ الأصل في أفعال المسلمين وأقوالهم هي الصحّة ، لأنّ مقتضى التديّن بدين والتسلم لأحكام شريعة هو بناء هذا المتديّن في جميع أقواله وأفعاله على ما اقتضاه هذا الدين ، لأنّه مقتضى التديّن به والتسلّم له ، فيكون نفس

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

التديّن مقتضيا لذلك ، وتكون مخالفته ناشئة من الدواعي الخارجة. وفي موارد الشكّ يدفع احتمال وجود الدواعي الخارجة بالأصل ، فيكون الأصل في جميع أفعال المسلمين وأقوالهم صدورها على طبق شرع الإسلام. ولعلّه لذا جنح ابن جنيد والشيخ ـ فيما حكي عنهما إلى أنّ الأصل في المؤمن العدالة.

ويرد عليه أوّلا : منع كون التديّن بدين مقتضيا لصدور أفعال المتديّن بهذا الدين ، وأقواله على طبق هذا الدين ، لأنّ غاية ما يقتضيه التديّن اعتقاد صدق هذا الدين وحقّية ما جاء به صاحب الدين ، وأمّا اقتضائه لبناء المتديّن أفعاله وأقواله على طبق هذا الدين بحيث يكون ذلك هو الداعي والباعث فيهما فلا. نعم ، له مدخليّة في ذلك في الجملة ، لا بحيث يكون مقتضيا تامّا. بل التحقيق أنّ صدور الأفعال والأقوال ـ سيّما العاديّات منها ـ إنّما هو عن الدواعي النفسانيّة ، بحسب ما يلاحظ فيها من المصالح والمفاسد الدنيويّة المرتّبة عليهما. ورفع اليد عن المنافع الدنيويّة والإعراض عنها في بعض الموارد ـ لأجل الفرار عن ارتكاب المحرّم ـ إنّما هو من قبيل القهر والغلبة للنفس ، ومنعها من مشتهياتها من جلب المنافع ودفع المضارّ ، وإن استلزم الاقتحام في المهالك الاخرويّة. نعم ، ربّما يوجد أوحدي من الناس يكون بنائه في جميع أفعاله وأقواله على ملاحظة أحكام الشرع ، بحيث يكون ذلك طبيعة ثانية له تبعث على صدور الأفعال والأقوال عنه على مقتضاها.

وثانيا : مع التسليم أنّ دفع احتمال المانع بالأصل لا يثبت وجود المقتضي على وجه يعمل عمله إلّا على القول بالاصول المثبتة ، لأنّ أحدا إذا رمى سهما بحيث علمنا بأنّه لو لا الحائل لقتل زيدا ، فكما أنّ أصالة عدم الحائل لا تثبت القتل هنا ليطالب الرامي بدمه ، كذلك فيما نحن فيه ، لأنّ أصالة عدم داعي صدور العقد فاسدا لا تثبت صحّته.

نعم ، ربّما يفرّق بين الموانع الشرعيّة وغيرها ، كما يظهر من الكركي وصاحب الجواهر وبعض آخر ، بأنّ المانع إن كان شرعيّا يمكن إحراز المقتضي

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بأصالة عدم المانع ، إذ كما أنّ ثبوت المانع الشرعيّ بحسب الشرع كذلك ارتفاعه ، فإذا ارتفع بحكم الأصل ثبت وجود المقتضي لا محالة ، بخلاف ما لو كان المانع عقليّا أو عاديّا كما في مثال الرمي ، فإنّ ثبوت الموانع العقليّة والعاديّة وارتفاعها إنّما هو بحسب العقل والعادة ، فإن كان هنا حكم عقليّ أو عاديّ حكم به وإلّا فلا ، كما في مباحث الألفاظ إذا شكّ في وجود القرينة ، أو نقل اللفظ عن معنى إلى آخر ، أو ورود الكلام تقيّة أو سهوا أو نسيانا ، فإنّ هذه كلّها موانع من حمل الكلام على حقيقته ، أو على المنقول عنه ، وعن إرادة المتكلّم بيان الواقع. وقد استقرّ بناء العقلاء على اعتبار الاستصحاب هنا ، فبأصالة عدم المانع يحكم بإرادة الحقيقة وبيان الواقع ، بخلاف ما لو قلنا باعتباره من باب الأخبار.

ولما ذكرناه قد فرّقوا بين كون الحرير مانعا من صحّة الصلاة ، وبين كون عدمه شرطا لها ، لأنّه إذا شكّ في كون لباس المصلّي حريرا وعدمه ، فعلى الأوّل يحكم بصحّة صلاته ، لأصالة عدم المانع ، لما عرفت من كون أصالة عدم المانع الشرعيّ مثبتة لوجود المقتضي ، بخلافه على الثاني ، إذ لا بدّ من إحراز وجود الشرط في الحكم بالصحّة ، كيف لا والأصل عدمه.

ومثله الكلام في الماء الذي لم تعلم كريّته ولا قلّته سابقا ، كالمخلوق في الساعة إذا لاقى نجسا ، لأنّا إن قلنا بكون الكريّة عاصما ومانعا من الانفعال بالملاقاة ، يحكم بتنجّسه بأصالة عدم المانع ، مع وجود المقتضي له وهي الملاقاة. وإن قلنا بكون القلّة شرطا في الانفعال ، فلا بدّ في الحكم بتنجّسه من إحراز شرطه.

والتحقيق عدم الفرق بين الموانع ، بل إن كان الحكم في الأدلّة مرتّبا على مجرّد عدم المانع أمكن إثباته بأصالة عدمه ، وإن كان مرتّبا على نفس الممنوع منه ، كترتّب وجوب القصاص على عنوان القتل في مثال الرمي ، لا يمكن إثباته بأصالة عدم المانع حينئذ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، من دون فرق بين الموانع. نعم ، يتمّ

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب بناء العقلاء ، لأنّ لازمه القول باعتبار الاصول المثبتة ، كما قرّره المصنّف رحمه‌الله في محلّه.

ومن هنا يظهر ضعف الفرق بين كون الحرير مانعا أو عدمه شرطا ، مع أنّ أصالة عدم المانع في المثال فرع العلم بعدمه في السابق حتّى يصحّ استصحابه اللهمّ إلّا أن يتشبّث بأصالة عدم المانع في هذا المورد مطلقا ، وهي مستلزمة لعدم كون هذا اللباس أيضا مانعا ، لاستلزام انتفاء الكلّي انتفاء أفراده ، ولكنّه إنّما يتمّ على القول بالاصول المثبتة.

وأمّا ما ذكر من كون ثبوت الموانع العقليّة والعاديّة وارتفاعها بحسب حكم العقل والعادة ، ففيه : أنّ المقصود من أصالة عدم المانع العقلي أو العادّي ليس إثبات عدمها في الواقع حتّى يدّعى عدم إثبات الأصل لذلك ، بل المقصود منها إثبات الآثار الشرعية المرتّبة على عدمهما ، فإن كان الحكم مرتّبا على عدمهما فهو يثبت بنفيه بالأصل ، وإن كان مرتّبا على نفس الممنوع منه فهو لا يثبته إلّا على القول بالاصول المثبتة على ما عرفت.

وثالثا : مع التسليم أنّ التديّن بدين إنّما يقتضي صدور أفعال المتديّن وأقواله على طبق هذا الدين إذا كان عارفا بأحكامه ، لوضوح عدم اقتضائه لذلك بالنسبة إلى الجاهل فضلا عن المعتقد بخلافها. وكلمات العلماء في الحمل على الصحّة تعمّ العالم والجاهل ، بل المعتقد بالخلاف أيضا ، ولذا تحمل المعاملة الصادرة عن شخص على الصحّة وإن علمنا بجهله بأكثر أحكامها ، أو كان معتقدا بحلّية الميتة أو حصول الطهارة بالدبغ أو نحو ذلك ، فبمجرّد احتمال موافقة المعاملة للواقع يحكم بصحّتها ، ويكون اللحم أو الجلد المبيع ملكا للمشتري.

وربّما يستدلّ على القاعدة أيضا بوجهين آخرين سوى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله :

أحدهما : دليل الانسداد ، لأنّه يفيد اعتبار الظنّ حيث تمّت مقدّماته ، ولا يختصّ

٧٨

ولا بدّ من تقديم ما فيه إشارة إلى هذه القاعدة في الجملة من الكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب ، فمنه آيات : منها : قوله تعالى : (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (١) ، بناء على تفسيره بما في الكافي من قوله عليه‌السلام : " لا تقولوا إلّا خيرا حتّى تعلموا ما هو" (٢) ، ولعلّ

______________________________________________________

بالأحكام. فيقال في المقام أيضا : إنّه قد علم اعتبار القاعدة في الجملة بالإجماع ، والعلم التفصيلي بمواردها منسدّ ، والعمل بالاصول فيها مخالف للعلم الإجمالي ، فيجب العمل بالظنّ في مواردها.

وثانيهما : استقراء الموارد الجزئيّة التي ثبت اعتبار القاعدة فيها بالإجماع أو الأخبار. منها : قبول قول ذي اليد فيما في يده في الملكيّة والطهارة والنجاسة والتذكية. ومنها : قاعدة كلّ ذي عمل مؤتمن في عمله من الوكلاء والنواب ، فإنّ قولهم وفعلهم ـ من العقود والإيقاعات والأعمال التي ائتمن بهم فيها ـ مسموعة شرعا بالإجماع. ومنها : قبول رواية الثقة في الأحكام عند عدم المعارض. ومنها : قبول شهادة الشاهد في مواردها. ومنها : قبول إقرار العقلاء على أنفسهم. ومنها : تصديق النساء فيما في أرحامهنّ. ومنها : الحكم بطهارة ما وجد في أسواق المسلمين من اللحوم والجلود ، وكونها مذكّاة. وغير ذلك من الموارد التي قام الدليل فيها بالخصوص على اعتبار القاعدة ، لأنّ استقراء هذه الموارد يعطي اعتبار القاعدة على وجه الكلّية ، إلّا فيما قام الدليل على عدم اعتبارها فيه.

فإن قلت : إنّ التمسّك بالاستقراء إنّما يتمّ على القول بالظنون المطلقة دون الخاصّة.

قلت : إنّ هذا استقراء في الأدلّة الشرعيّة من الأخبار والإجماعات ، والظنّ الحاصل منها كالحاصل من رواية معتبرة ، لوضوح عدم الفرق بين الظنّ الحاصل من مجموع عدّة روايات والحاصل من رواية خاصّة من حيث الاعتبار وعدمه ، والاستقراء إنّما لا يعتبر إذا كان الظنّ حاصلا من تتّبع موارد الحكم دون الأدلّة ، وهو واضح.

٧٩

مبناه (٢٦٥١) على إرادة الظنّ (٢٦٥٢) والاعتقاد من القول.

ومنها : قوله تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (٣) ، فإنّ ظنّ السوء إثم (٢٦٥٣) ، وإلّا لم يكن شيء من الظنّ إثما. ومنها : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (٤) ، بناء على أنّ الخارج من عمومه ليس إلّا ما علم فساده ؛ لأنّه المتيقّن. وكذا قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ). (٥)

والاستدلال به (٢٦٥٤) يظهر من المحقّق الثاني (٦) ، حيث تمسّك في مسألة بيع الراهن مدّعيا سبق إذن المرتهن ، وأنكر المرتهن السبق : بأنّ الأصل صحّة البيع ولزومه ووجوب الوفاء بالعقد. لكن لا يخفى ما فيه من الضعف (٢٦٥٥). وأضعف

______________________________________________________

٢٦٥١. أي : مبنى التفسير. ولو لم يكن مبنيّا على ذلك كان ظاهر الآية ـ بمعونة التفسير بحسب مفهوم سياقها ـ النهي عن التكلّم في حقّ الغير بالسوء بمجرّد رؤية ما يصلح للخير والشر ، بأن يقال : فلان شارب بمجرّد رؤية شرب الخمر منه ، المحتمل كونه للتداوي وتشهّي النفس. وحمل فعل المسلم على الصحّة لا يبتني على حرمة التكلّم بالسوء المحتمل في فعله ، بل ظاهر الآية حينئذ هو النهي عن الافتراء ، لأنّ نسبة السوء إلى شخص من دون علم بصدوره عنه يشبه الكذب والافتراء أو داخل فيهما.

٢٦٥٢. عليه يبتني ما روي في بعض الكتب : «من قال : لا إله إلّا الله فقد كفر».

٢٦٥٣. وحمل فعل المسلم وقوله على الفاسد ظنّ السوء في حقّه ، فيكون إثما ، فيجب اجتنابه بحملهما على الصحيح.

٢٦٥٤. يعني : بآية عموم الوفاء. ولا يخفى أنّ الاستدلال بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة يظهر من جماعة ، فلازمهم أيضا جواز التمسّك بالآيتين وآية حلّ البيع للمقام.

٢٦٥٥. لضعف التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة ، كما قرّر في محلّه.

٨٠