فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا كان رشدا فلم حكمت بأنّه تقيّة مخالف (*) لمذهب الشيعة؟

والثاني : أنّه غير خفيّ على من له أدنى اطّلاع وتأمّل أنّ العامّة بأدنى شيء كانوا يتّهمون الشيعة بالرفض ، وأذيّتهم للشيعة إنّما كانت بالتهمة غالبا ، وكان الأئمّة عليهم‌السلام يبالغون في احترازهم عن أسباب التهمة ، وهذه كانت طريقتهم المستمرّة في الأعصار والأمصار ، فكيف يكون الحال إذا رأوهم يفعلون فعلا لا يوافق مذهبا من مذاهبهم ، ولا يقول به أحد منهم. بل غير خفيّ أنّ العامّة ما كانوا مطّلعين على مذهب الشيعة في ذلك الزمان من الخارج إلّا نادرا ، فكانوا كلّما يرون مخالفا لمذهبهم يعتقدون أنّه مذهب الشيعة ويبادرون بالأذيّة ، وما كانوا يصبرون إلى أن يروا ما يخالف ذلك منه أو من غيره من الشيعة ، مع أنّ روايته من الغير غير نافع. فتكثير المذهب بين الشيعة ـ سيّما مع عدم موافقته لمذهب أحد منهم ـ مخالف للحكمة ، وموجب لزيادة الإيذاء منهم لهم كما هو واضح.

والثالث : أنّ الحقّ عندنا واحد والباقي باطل ، فما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال ، فأيّ داع إلى مخالفة الواقع وارتكاب الحرام الذي هو أعظم لأجل التقيّة التي هي أخفّ وأسهل على المعنى الذي اعتبره؟

والرابع : أنّ التقيّة اعتبرت لأجل ترجيح الخبر الذي هو الحقّ على الذي ليس بحقّ ورشد ، على ما يظهر من الأخبار وما عليه الفقهاء في الأعصار والأمصار ، وهذا الفاضل المتوهّم أيضا اعتبر ما ادّعاه من التقيّة التي توهّمها لأجل الترجيح ، وبنى عليه المسألة الفقهيّة ، فإذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة فبأيّ نحو يعرف أنّ هذا الخبر وارد على التقيّة دون ذلك ، حتّى يعتبر في مقام الترجيح ويقال : إنّ معارضه حقّ ومذهب للشيعة؟» انتهى.

__________________

(*) في الطبعة الحجريّة هكذا : فخالفت ، ربّما تقرأ أيضا : مخالفة ، ولعلّ الشكّ من الكاتب فكتبها بالتاء الطويلة مع النقطتين ، ولم يتيسّر لنا مراجعة الفوائد الجديدة لتطبيقها عليها.

٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأراد المصنّف رحمه‌الله بتوضيح مراد المحدّث البحراني دفع ما أورده الوحيد البهبهاني بالوجوه المتقدّمة. وتوضيح المقام : أنّ مراد المحدّث المذكور بعدم اشتراطه في التقيّة موافقة الخبر لمذهب العامّة هو بيان منشأ اختلاف أكثر الأخبار المأثورة عن أئمّتنا المعصومين عليهم‌السلام ، مع فرض قطعيّة سندها كما يراه جماعة من الأخباريّين ، إذ ربّما يستبعد ذلك مع هذا الاختلاف الذي لا يكاد يجتمع ، فأراد دفع هذا الاستبعاد بأنّ الاختلاف فيها إنّما جاء من جهة التقيّة لا من جهة دسّ الأخبار المكذوبة فيها ، لتهذيبها وتنقيحها منها في الأزمنة المتأخّرة ، وأنّ التقيّة لا تنحصر فيما كان هنا قول من العامّة موافق للخبر ، لأنّ الخبر كما أنّه قد يصدر عنهم عليهم‌السلام خوفا من العامّة المتوقّف دفع ضررهم على موافقتهم ، كذلك قد يصدر لأجل إلقاء الخلاف بين الشيعة وتكثير مذهبهم وإن لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة ، لئلّا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

وبالجملة ، إنّ الأئمّة عليهم‌السلام كما كانوا يتّقون عن هؤلاء الكلاب أحيانا بإظهار الموافقة ، كذلك كانوا يتّقون عنهم أحيانا بإلقاء الخلاف بين شيعتهم وإن لم يوجد لهم موافق منهم. وبهذا اعترض على المشهور في اعتبارهم وجود قول من العامّة في الحمل على التقيّة. ومقصوده بعدم اشتراط قول منهم في الحمل عليها ليس في مقام الترجيح ، لعدم تعقّل حمل أحد الخبرين بالخصوص على التقيّة مع فرض مخالفتهما للعامّة ، وعدم ما يدلّ على ورود أحدهما بالخصوص لبيان خلاف الواقع. بل مقصوده أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ربّما كانوا يجيبون في المسائل بما هو خلاف الواقع وإن لم يكن على وفق مذهب أحد من العامّة ، لما يراه من المصلحة في ذلك ، وأنّ هذا هو منشأ اختلاف الأخبار ، لا دسّ الأخبار المكذوبة فيها ، لتنزّهها عنها في الأزمنة المتأخّرة ، لا أنّه في مقام الترجيح يحمل أحد المتعارضين على التقيّة مع مخالفتهما لمذاهبهم.

٤٢٢

لمذهب العامّة ؛ لأخبار تخيّلها دالّة على مدّعاه ، سليمة عمّا هو صريح في خلاف ما ادّعاه ، إلّا أنّ الحمل على التقيّة في مقام الترجيح لا يكون إلّا مع موافقة أحدهما ؛ إذ لا يعقل حمل أحدهما بالخصوص على التقيّة إذا كانا مخالفين لهم. فمراد المحدّث المذكور ليس الحمل على التقيّة مع عدم الموافقة في مقام الترجيح ـ كما أورده عليه بعض الأساطين (١٤) في جملة المطاعن على ما ذهب إليه من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ـ بل المحدّث المذكور لمّا أثبت في المقدمة الاولى من مقدّمات الحدائق خلوّ الأخبار عن الأخبار المكذوبة لتنقيحها وتصحيحها في الأزمنة المتأخّرة ، بعد أن كانت مغشوشة مدسوسة ، صحّ لقائل أن يقول : فما بال هذه الأخبار المتعارضة التي لا تكاد تجتمع؟! فبيّن في المقدّمة الثانية دفع هذا السؤال بأنّ معظم الاختلاف من جهة اختلاف كلمات الأئمة عليهم‌السلام مع المخاطبين ، وأنّ الاختلاف إنّما هو منهم عليهم‌السلام ، واستشهد على ذلك بأخبار زعمها دالّة على أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة ، كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة ؛ كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم (١٥).

______________________________________________________

ومن هنا يندفع الإيرادات المتقدّمة ، لابتنائها على كون مراد المحدّث المذكور من عدم اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة هو الحمل في مقام الترجيح ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

وأمّا توضيح اندفاعها. فأمّا الأوّل : فإنّه إنّما يرد لو كان مقصود المحدّث المذكور من الحمل على التقيّة هو الحمل عليها في مقام طرحه ، لأنّه حينئذ يرد عليه أنّه لا وجه لطرحه مع مخالفته لمذهب العامّة ، لكون الحكم المخالف لهم رشدا وحقّا في الواقع كما هو مقتضى الأخبار ، وليس كذلك ، لما عرفت من كون مقصوده بيان منشأ اختلاف الأخبار مع فرض تنقيحها وتهذيبها عن الأخبار المكذوبة المدسوسة ، بأنّه كان قد تصدر الأخبار عن الأئمّة عليهم‌السلام لبيان خلاف الواقع لما يراه من المصلحة ، وإن كانت مخالفة لمذهب جميع العامّة ، ثمّ بعد ارتفاع المصلحة كانوا يبيّنون نفس الحكم الواقعي ، ومن هذا جاء الاختلاف بينها كما عرفت ، وهذا

٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يستلزم الحمل على التقيّة بالمعنى المذكور في مقام الترجيح أيضا ، بأن يحمل أحد الخبرين المتعارضين المخالفين للعامّة على التقيّة ، حتّى يرد عليه الإشكال. بل الظاهر أنّ المحدّث المذكور في مقام الترجيح ـ مع مخالفة الخبرين للعامّة ـ يستعمل سائر المرجّحات. والأخبار الدالّة على كون مخالف العامّة رشدا وصوابا ، مع فرض ورودها في مقام تعارض الأخبار وترجيحها ، لا تنفي صدور الخبر عن الإمام عليه‌السلام لبيان خلاف الواقع ، لمصلحة يراها مع مخالفته للعامّة.

وأمّا الثاني فإنّ اتّهام العامّة للشيعة وإيذائهم لهم بسبب ذلك لا ينفي وجود مصلحة أحيانا تقتضي بيان خلاف الواقع مع مخالفته للعامّة.

وأمّا الثالث فإنّ الداعي هو وجود المصلحة بالفرض كما تقدّم.

وأمّا الرابع فوجه ضعفه يظهر من وجه ضعف الأوّل.

فالتحقيق أنّه لا وجه لإنكار إمكان وجود مصلحة تقتضي بيان خلاف الواقع مع عدم الموافقة لمذهب أحد من العامّة ، على نحو ما ذكره المحدّث المذكور ، إلّا أنّ الكلام في تحقّق مثل هذه المصلحة ، سيّما في تصحيح جلّ الأخبار المتعارضة. وما استشهده لذلك من الأخبار المتقدّمة خالية من الدلالة عليه ، إذ اختلاف أجوبة الإمام عليه‌السلام في مجلس واحد كما تضمّنته رواية زرارة ـ لا يقضي بذلك ، لانتشار مذاهب العامّة في ذلك الزمان ، ولعلّ أجوبة الإمام عليه‌السلام مع اختلافها كانت موافقة لمذاهبهم المختلفة المنتشرة ، واحتمال ذلك كاف في عدم ثبوت ما رامه المحدّث المذكور من تلك الأخبار.

وبالجملة ، إنّ القدر الثابت من وجود المصلحة المقتضية لبيان خلاف الواقع ليس إلّا مصلحة التقيّة المقتضية لصدور الخبر عن الإمام عليه‌السلام على وفق مذهبهم دفعا للخوف والضرر ، وأمّا وجود مصلحة اخرى سواها وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه لم يدلّ دليل على وقوعها على ما عرفت. وإلى هذا أشار المصنّف رحمه‌الله في صدر هذه المسألة بقوله : «إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ...» إلى آخر ما ذكره.

٤٢٤

وهذا الكلام ضعيف ، لأنّ الغالب اندفاع الخوف بإظهار الموافقة مع الأعداء ، وأمّا الاندفاع بمجرّد رؤية الشيعة مختلفين مع اتّفاقهم على مخالفتهم ، فهو وإن أمكن حصوله أحيانا لكنّه نادر جدّا ، فلا يصار إليه في جلّ الأخبار المتخالفة ، مضافا إلى مخالفته لظاهر قوله عليه‌السلام في الرواية المتقدّمة : " ما سمعت منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعت منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه".

فالذي يقتضيه النظر ـ على تقدير القطع بصدور جميع الأخبار التي بأيدينا على ما توهّمه بعض الأخباريّين ، أو الظنّ بصدور جميعها إلّا قليلا في غاية القلّة ، كما يقتضيه الإنصاف ممّن اطّلع على كيفية تنقيح الأخبار وضبطها في الكتب ـ هو أن يقال : إنّ عمدة الاختلاف إنّما هي كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار إمّا بقرائن متّصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار أو نقلها بالمعنى ، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حاليّة (*) معلومة للمخاطبين أو مقاليّة اختفت بالانطماس ، وإمّا بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام من تقيّة ـ على ما اخترناه من أنّ التقيّة على وجه التورية ـ أو غير التقيّة من المصالح الأخر. وإلى ما ذكرنا ينظر ما فعله الشيخ قدس‌سره في الاستبصار من إظهار إمكان الجمع بين متعارضات الأخبار ، بإخراج أحد المتعارضين أو كليهما عن ظاهره إلى معنى بعيد.

وربّما يظهر من الأخبار محامل وتأويلات أبعد بمراتب ممّا ذكره الشيخ ، تشهد بأنّ ما ذكره الشيخ من المحامل غير بعيد عن مراد الإمام عليه‌السلام ، وإن بعدت عن ظاهر الكلام إن لم (**) يظهر فيه قرينة عليها :

فمنها : ما روي عن بعضهم صلوات الله عليهم ، لمّا سأله بعض أهل العراق وقال : " كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه‌السلام : ثمانون. ولم يعد السائل ، فقال عليه‌السلام : هذا يظن أنّه من أهل الإدراك. فقيل له عليه‌السلام : ما أردت بذلك وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على

__________________

(*) في بعض النسخ بدل : «حاليّة» : خارجيّة.

(**) فى بعض النسخ : بدل «إن لم» : إلّا أن.

٤٢٥

عشر آيات (٢٩٦٨) ، ونافلة الزوال ثمان ركعات" (١٦).

ومنها : ما روي من : " أنّ الوتر واجب" ، فلمّا فرغ السائل واستفسر (*) قال عليه‌السلام : " إنّما عنيت وجوبها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله".

ومنها : تفسير قولهم عليهم‌السلام : " لا يعيد الصلاة فقيه" بخصوص الشكّ بين الثلاث والأربع. ومثله تفسير وقت الفريضة في قولهم عليهم‌السلام : " لا تطوّع في وقت الفريضة" بزمان قول المؤذّن : " قد قامت الصلاة" ، إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ويؤيّد ما ذكرنا ـ من أنّ عمدة تنافي الأخبار ليس لأجل التقيّة ـ ما ورد مستفيضا : من عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال للنهار : إنّه ليل ، ولليل : إنّه نهار ، معلّلا ذلك بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن السامع له فينكره فيكفر من حيث لا يشعر ، فلو كان عمدة التنافي من جهة صدور الأخبار المنافية بظاهرها لما في أيدينا من الأدلّة تقيّة (٢٩٦٩) ، لم يكن في إنكار كونها من الإمام عليه‌السلام مفسدة ، فضلا عن كفر الرادّ.

الثالث : أنّ التقيّة قد تكون من فتوى العامّة ، وهو الظاهر من إطلاق موافقة العامة في الأخبار. واخرى من حيث أخبارهم التي رووها ، وهو المصرّح به في بعض الأخبار ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك محمول على الغالب من كون الخبر مستندا للفتوى. وثالثة : من حيث عملهم ، ويشير إليه قوله عليه‌السلام في المقبولة المتقدّمة : " ما هم إليه أميل قضاتهم وحكّامهم". ورابعة : بكونه أشبه بقواعدهم واصول دينهم وفروعه ، كما يدلّ عليه الخبر المتقدّم.

______________________________________________________

٢٩٦٨. بإسقاط البسملة عن السورتين ، وإلّا فهما اثنتا عشرة آية. ولعلّ سبب الإسقاط كون المخاطب من العامّة ، ولعلّ في تعريض الإمام عليه‌السلام إيماء إلى ذلك ، وإلّا فالتعريض منه لبعض مواليه لا يناسبه.

٢٩٦٩. بالمعنى الأوّل من معنييها الذين تقدّما في الأمر الأوّل.

__________________

(*) في بعض النسخ : بدل «واستفسر» : واستقرّ.

٤٢٦

وعرفت سابقا قوّة احتمال إرادة التفرّع على قواعدهم الفاسدة ، ويخرج الخبر حينئذ عن الحجّية ولو مع عدم المعارض ، كما يدلّ عليه عموم الموصول.

الرابع : أنّ ظاهر الأخبار (٢٩٧٠) كون المرجّح موافقة جميع الموجودين في زمان الصدور أو معظمهم على وجه يصدق الاستغراق العرفيّ. فلو وافق بعضهم بلا مخالفة (*) الباقين ، فالترجيح به مستند إلى الكلّية المستفادة من الأخبار من الترجيح بكلّ مزيّة.

______________________________________________________

٢٩٧٠. لا يخفى أنّ في المسألة وجوها : أحدها : اعتبار موافقة الجميع أو معظمهم الذي يصدق معه الاستغراق العرفي. الثاني : كفاية موافقة قول بعضهم الذي حكّامهم وقضاتهم إليه أميل. الثالث : كفاية موافقة البعض مطلقا. الرابع : كفاية موافقة القول المشهور بينهم بحيث تكون مخالفته مظنّة للضرر والخوف.

وظاهر الأخبار الآمرة بالأخذ بمخالف العامّة وطرح ما يوافقهم هو الأوّل. وظاهر بعضها الآمر بسؤال حكّامهم والعمل بخلافه ـ كما هو ظاهر المقبولة ـ هو الثاني. وظاهر المرفوعة ـ بالتقريب الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله هنا في المقبولة ـ هو الثالث.

والتحقيق ابتناء (**) المسألة على الوجه الثاني والرابع من الوجوه الأربعة التي ذكرها المصنّف رحمه‌الله في الترجيح بالمخالفة ، إذ على الثاني يعتبر موافقة الجميع أو ما يصدق معه الاستغراق العرفي ، لأنّ مقتضى التعليل بكون الرشد في خلافهم كون الرشد في مخالفة جميعهم أو معظمهم. وعلى الرابع يكفي موافقة البعض ومخالفته التي يظنّ معها صدور الموافق تقيّة منه. وحينئذ لا بدّ من ملاحظة فتاوي العامّة في زمان صدور الرواية ، وأنّ قضاتهم وحكّامهم إلى أيّ فتوى كانوا أميل؟ وأيّ فتوى كانت مشهورة فيما بينهم؟ ويحصل الاطّلاع على ذلك من كتبهم وتواريخهم ، وحينئذ تكثر الحاجة إلى مراجعتها والتتبّع فيها.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «مخالفة» ، معارضة.

(**) في هامش الطبعة الحجريّة : «لظهور أكثر الأخبار في الثاني ، وذهاب المشهور إلى الرابع. منه».

٤٢٧

وربّما يستفاد من قول السائل في المقبولة : " قلت : يا سيّدي ، هما معا موافقان للعامّة" : أنّ المراد ب" ما وافق العامّة" أو" خالفهم" في المرجّح السابق يعم ما وافق البعض أو خالفه. ويرده : أنّ ظهور الفقرة الاولى في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة في كفاية موافقة البعض ، فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما وتساويهما من هذه الجهة ، لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما وتكافئهما من هذه الجهة. وكيف كان ، فلو كان كلّ واحد موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم ، وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ملاحظة التقيّة منه.

وربّما يستفاد ذلك من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ، ويعلم ذلك بمراجعة أهل النقل والتأريخ ، فقد حكي عن تواريخهم : أنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة وسفيان الثوري ورجل آخر ، وأهل مكّة على فتاوى ابن جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك (٢٩٧١) ورجل آخر ، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعيّ والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهريّ ، وكان فيهم أهل الفتوى من غير هؤلاء كسعيد بن المسيّب وعكرمة وربيعة الرأي ومحمّد بن شهاب الزهريّ ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة ، كما حكي. وقد يستفاد ذلك من الأمارات الخاصّة ، مثل :

______________________________________________________

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما يتأتّى على القول بالمرجّحات المنصوصة بالخصوص. وأمّا على ما هو التحقيق من اعتبار مطلق الظنّ في باب الترجيح ، والاعتماد على كلّ مزيّة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر ، فيجوز الترجيح بمطلق الموافقة والمخالفة ، بأن تساوى الخبران من جميع الوجوه ، إلّا احتمال التقيّة في أحدهما دون الآخر ، على أيّ وجه فرض حصول التقيّة في الموافق منهما.

٢٩٧١. في شرحي الوافية للسيّد الصدر والفاضل الكاظمي : زيادة «ورجل آخر» بعد مالك. وكذا لفظ عثمان بدل عمّان. وزيادة «وسعيد الربيع» من فقهائهم بعد ذكر سوادة. وزيادة مرو بعد خراسان. وزيادة وسفيان بن عيينة

٤٢٨

قول الصادق عليه‌السلام حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصية : " أمّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه". وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم ؛ ولذا انيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم.

الخامس : قد عرفت أنّ الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور ، وكذا لا يزاحمه هذا الرجحان (٢٩٧٢) أي : الرجحان من حيث جهة الصدور. فإذا كان الخبر الأقوى دلالة موافقا للعامّة قدّم على الأضعف المخالف ؛ لما عرفت من أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول الذي هو مقدّم على الطرح.

______________________________________________________

بعد ربيعة الرأي. وقالا بعد ذكر محمّد بن شهاب الزهري : «وكلّ واحد من هؤلاء إمام قوم برأسه ، ليس تابعا لغيره. وكانت المذاهب الأربعة كغيرها إلى أن مال هارون الرشيد إلى الحنفيّة ، وغيره إلى غيرها ، ولكن لم يترك المذاهب الأخر إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب ، فحصروها في الأربعة في سنة خمس وستّين وستّمائة كما قيل ، فصارت أشهر من غيرها بتوسّط السلاطين والأمراء ، واشتهر البعض الآخر بتوسّط ما ذكر ، ولكونه أقرب إلى الصواب من غيره كمذهب الشافعي» انتهى.

٢٩٧٢. توضيح المقام : أنّه لا إشكال في أنّ الأصل بمقتضى أدلّة اعتبار الأخبار هو التعبّد بصدور كلّ من الخبرين المتعارضين ، وإنّما احتجنا إلى الترجيح بواسطة تنافي مدلولهما وعدم إمكان الجمع بينهما ، فحيثما أمكن الجمع بينهما على وجه مقبول عند أهل اللسان لا يبقى مجال للترجيح ، لا من حيث الصدور ولا من حيث جهة الصدور. وحيثما ما لا يمكن الجمع المقبول ، والتجأنا إلى طرح أحدهما لأجل وجود مرجّح في الآخر ، فإن كان هذا المرجّح سالما من معارضة مرجّح آخر في الطرف الآخر فهو ، وإلّا فالترجيح من حيث الصدور مقدّم على الترجيح من حيث جهة الصدور ، لتفرّعها على نفس الصدور ، فلا معنى لملاحظة جهة الصدور قبل ملاحظة نفس الصدور ، فإذا أمكن التعبّد بصدور أحدهما وطرح الآخر لأجل وجود مرجّح في المأخوذ وفقده في المطروح ، لا يبقى محلّ لملاحظة جهة الصدور.

٤٢٩

أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة ، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامّة ، بناء على تعليل الترجيح (٢٩٧٣) بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأنّ هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في الخبرين ، بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر ، وفيما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت : إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّة ، كما يقتضى ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور. قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة ، لأنّه إلغاء لأحدهما في الحقيقة ؛ ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور لم تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل.

______________________________________________________

وبعبارة أوضح : أنّ الحمل على التقيّة ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين ، أو شرعا كما في الخبرين ، مع فرض عدم إمكان التعبّد بأحدهما معيّنا وطرح الآخر كذلك ، بأن دار الأمر بينهما في الأخذ والطرح ، لأجل تنافي مدلولهما وعدم إمكان الجمع بينهما. أمّا الأوّل فلما عرفت من كون جهة الصدور متفرّعة على نفس الصدور. وأمّا الثاني فإنّه مع إمكان التعبّد بأحدهما معيّنا وطرح الآخر كذلك ، لو حمل أحدهما على التقيّة لزم ملاحظة جهة الصدور قبل نفس الصدور ، وقد عرفت فسادها ، فمع إمكان التعبّد بأحدهما تعيّن الأخذ به وطرح الآخر.

٢٩٧٣. يعني : بناء على الوجه الرابع من الوجوه الأربعة المتقدّمة. وأمّا بناء على الوجه الثاني منها فسيشير هنا إلى أنّ الترجيح بمخالفة العامّة حينئذ من قبيل الترجيح من حيث المضمون ، وسيجيء بيان حاله مع غيره.

٤٣٠

نعم ، لو علم بصدور الخبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه ، وأمّا إذا لم يعلم بصدورهما ـ كما فيما نحن فيه من المتعارضين ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعيينه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا (٢٩٧٤). فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علما كما في المتواترين أو تعبّدا كما في المتكافئين من الآحاد. وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور.

والفرق بين هذا الترجيح والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبّد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما وبتأويل الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ثمّ حمل أحدهما على التقيّة الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبّد به.

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة. أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ وأبعد من الباطل ـ كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ـ فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها.

أمّا المرجّحات الخارجية (٢٩٧٥) فقد أشرنا إلى أنّها على قسمين : الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه. والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع.

______________________________________________________

٢٩٧٤. يعني : كان مرجّحا لأصل التعبّد بأحدهما لا للأخذ بأحدهما بعد التعبّد بصدورهما ، لأنّ مرجع الحمل على التقيّة إلى رفع اليد عن الموافق للعامّة رأسا.

٢٩٧٥. لا يذهب عليك أنّ المصنّف رحمه‌الله قد قسّم المرجّحات في عنوان المقام الرابع إلى خارجيّ وداخلي. وقسّم الداخليّ إلى أقسام ثلاثة ، أعني : الترجيح من حيث الصدور ، ووجه الصدور ، والمضمون. ثمّ ذكر الترجيح بحسب الدلالة في

٤٣١

فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين إمّا من حيث الرواية ، بأن اشتهر روايته بين الرواة ، بناء على كشفها (٢٩٧٦) عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى (٢٩٧٧) به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه.

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات أو في بعضها ، بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به. ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار (٢٩٧٨) المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها. ومنه كلّ أمارة مستقلّة

______________________________________________________

البين ، لمناسبة تقدّمه على الترجيح بحسب السند. ثمّ بيّن الترجيح من حيث الصدور ، ثمّ من حيث وجه الصدور. وبقي الكلام في الترجيح من حيث المضمون من المرجّحات الداخلة ، وكذا في الترجيح بالمرجّحات الخارجة. وتعرّض هنا لبيان الأخيرة ، وجعله مقاما ثالثا ، نظرا إلى كون الكلام فيها مقاما ثالثا بالنسبة إلى ما ذكره قبلها من الترجيح بالصدور وبوجه الصدور ، وإن لم يذكر هذا اللفظ في عنوان الكلام فيهما. وسكت عن الترجيح بالمرجّحات المضمونيّة الداخلة استغناء عنه بما ذكره هنا ، لكون الترجيح بالمرجحات الخارجة مطلقا من حيث المضمون.

ثمّ المراد بالمرجّحات الخارجة امور خارجة من نفس الخبرين ، موجبة لأقربيّة مضمون أحدهما إلى الواقع دون الآخر ، من دون مدخليّة لها في قوّة دليليّة أحدهما بالنسبة إلى الآخر ، كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما إذا وافقت أحدهما دون الآخر ، بخلاف الترجيح من حيث السند ، فإنّها تحصل بامور تقوّي جهة دليليّة أحدهما كما تقدّم سابقا.

٢٩٧٦. إذ لولاه لكانت الشهرة بحسب الرواية من المرجّحات الداخلة دون الخارجة ، ولذا قيّد الترجيح بالأفقهيّة أيضا بقوله : «بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به».

٢٩٧٧. معطوف على قوله : «إمّا من حيث».

٢٩٧٨. يعني : بناء على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة. وأمّا على الوجه الرابع منها فمخالفة العامّة من المرجّحات الداخلة كما سيشير إليه.

٤٣٢

غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس (٢٩٧٩).

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو (٢٩٨٠) من المرجّح ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع (*) إلى المرجّح الداخليّ ؛ فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب. وقد عرفت أنّ المزيّة

______________________________________________________

٢٩٧٩. سيشير إلى حكم القياس ونحوه. وبالجملة ، إنّ الكلام هنا في مقامات ، لأنّ الأمر الخارجي إمّا معتبر أو غير معتبر. وعلى الثاني : إمّا أن يكون عدم اعتباره لأجل عدم الدليل على اعتباره ، أو لأجل الدليل على عدم اعتباره. وأشار إلى حكم الأوّلين هنا ، وإلى الثالث فيما يأتي من كلامه.

٢٩٨٠. ربّما يقال بعدم الدليل على جواز الترجيح بالامور الخارجة ، إذ كما أنّ كون الشيء دليلا وحجّة يحتاج إلى قيام دليل عليه ، كذلك كونه مرجّحا. ولا يمكن قياسها على المرجّحات السنديّة. ولا يلزم من القول بها القول بهذه أيضا ، لأنّ تلك المرجّحات ـ كما أشرنا إليه ـ توجب القوّة في دليليّة أحد الخبرين ، فيمكن الاستدلال على اعتبارها بنفس الأدلّة الدالّة على اعتبار الأخبار ، لأنّ الدليل إذا دلّ على اعتبار أمارة ، فمقتضاه عند تعارض الأمارتين تقديم الأمارة التي يكون شمول هذا الدليل له أقوى. هذا بخلاف هذه المرجّحات ، فإنّها لا توجب القوّة في سند ذيها ، ولا تورث قوّة في دليليّة صاحبها ، بل ما يترتّب عليها كون مضمون أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع من الآخر ، وهذا أمر خارج من وصف الدليليّة في الأخبار الّتي أنيط اعتبارها بمصادفة المخبر في إخباره للواقع ، ولا تورث قوّة في سندها ، فلا يمكن الاستناد في إثبات اعتبار هذه المرجّحات إلى أدلّة اعتبارها.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : من المرجّح.

٤٣٣

الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر كقلّة الوسائط ، ومخالفة العامّة بناء على الوجه السابق (٢٩٨١). وقد توجب بعد الاحتمال الموجود

______________________________________________________

هذا ، والذي يقتضيه الاعتبار والتدبّر في الأخبار الواردة في المضمار ـ بل وغيرها من الأدلّة التي أقيمت على الترجيح بالمرجّحات السنديّة ـ هو القول بجواز الترجيح في المقام أيضا ، لأنّ ما استدلّ به على اعتبار المرجّحات السنديّة وجوه :

أحدها : أخبار الترجيح بالتقريب الذي أشار إليه هنا وأوضحه سابقا ، حيث استنهض بفقرات منها لجواز الترجيح بكلّ مزيّة موجودة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر. مضافا إلى إمكان دعوى اندراج ما نحن فيه في المرجّحات الداخليّة ، فيدلّ على اعتباره ما دلّ على اعتبارها. وثانيها : بناء العقلاء المتحقّق في المقام أيضا.

وثالثها : قاعدة الاشتغال. وهي جارية في المقام أيضا ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ الكلام في اعتبار هذا الترجيح إنّما هو بعد الفراغ من اعتبار نفس المتعارضين ، إذ لو لا الترجيح لا يجوز الرجوع إلى مقتضى الاصول ، بل يثبت التخيير بينهما ، وحينئذ يدور الأمر بين التخيير وتعيين الراجح ، والثاني أوفق بالاحتياط.

ورابعها : الإجماع. وقد حكاه صاحب المفاتيح. ويمكن تحصيله في المقام أيضا بالتقريب الذي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه.

وخامسها : دليل الانسداد. وقد تقدّم سابقا أنّ تقريره بوجهين ، ولا يتمّ الاستدلال على أحد تقريريه ويمكن إجرائه على تقريره الآخر في المقام أيضا ، بأن يقال : إنّه مع تعارض الخبرين وعدم إمكان الجمع بينهما ، مع فرض كون الحكمة في جعل الأخبار هو الوصول إلى الواقع ، وكونها كاشفة عنه ، أنّ العقل يحكم بتقديم ما كانت جهة الكاشفيّة والقرب فيه أقوى ولو بمعونة الامور الخارجة ، مثل الشهرة كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في آخر كلامه ، مع أمره بالتأمّل فيه ، وسنشير إلى وجهه.

٢٩٨١. أعني : الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة.

٤٣٤

في ذيها بالنسبة إلى الاحتمال الموجود في الآخر كالأعدليّة (٢٩٨٢) والأوثقيّة (*). والمرجّح الخارجيّ من هذا القبيل ، غاية الأمر عدم العلم تفصيلا بالاحتمال القريب في أحدهما البعيد في الآخر ، بل ذو المزيّة داخل في الأوثق المنصوص عليه في الأخبار.

ومن هنا ، يمكن أن يستدلّ على المطلب بالإجماع المدّعى في كلام جماعة (١٧) على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على عدم شموله للمقام ؛ من حيث إنّ الظاهر من أقواهما أقواهما في نفسه ومن حيث هو ، لا مجرّد كون مضمونه أقرب إلى الواقع لموافقة أمارة خارجيّة. فيقال في تقريب الاستدلال : إنّ الأمارة موجبة لظنّ خلل في المرجوح (٢٩٨٣) مفقود في الراجح ، فيكون الراجح أقوى احتمالا (**) من حيث نفسه.

فإن قلت : إنّ المتيقّن من النصّ ومعاقد الإجماع اعتبار المزيّة الداخليّة القائمة بنفس الدليل ، وأمّا الحاصلة من الأمارة الخارجيّة التي دلّ الدليل على عدم العبرة بها من حيث دخولها (٢٩٨٤) فيما لا يعلم ، فلا اعتبار بكشفها عن الخلل في المرجوح ، ولا فرق بينها وبين القياس في عدم العبرة بها في مقام الترجيح كمقام الحجيّة.

هذا ، مع أنّه لا معنى لكشف الأمارة عن خلل في المرجوح ؛ لأنّ الخلل في الدليل من حيث إنّه دليل قصور في طريقيّته ، والمفروض تساويهما في جميع ما له دخل في الطريقيّة ، ومجرّد الظنّ بمخالفة خبر للواقع لا يوجب خللا (***) في ذلك ؛ لأنّ الطريقيّة ليست منوطة بمطابقة الواقع.

______________________________________________________

٢٩٨٢. لأنّ احتمال الكذب في كلّ من خبري العدل والأعدل موجود ، إلّا أنّه في الثاني أبعد من الأوّل.

٢٩٨٣. بما في صدوره أو جهة صدوره.

٢٩٨٤. لا من حيث قيام دليل على عدم اعتبارها ، لخروجها من محلّ الكلام حينئذ.

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «الأوثقيّة» : الأفقهيّة.

(**) فى بعض النسخ بدل «احتمالا» : إجمالا.

(***) فى بعض النسخ زيادة : في الواقع.

٤٣٥

قلت : أمّا النصّ ، فلا ريب في عموم التعليل في قوله عليه‌السلام : " لأنّ المجمع عليه لا ريب فيه" وقوله عليه‌السلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" لما نحن فيه ، بل قوله عليه‌السلام : " فإنّ الرشد فيما خالفهم" ، وكذا التعليل في رواية الأرجائيّ : " لم امرتم بالأخذ بخلاف ما عليه العامّة" وارد في المرجّح الخارجيّ (٢٩٨٥) ؛ لأنّ مخالفة العامّة نظير موافقة المشهور.

وأمّا معقد الإجماعات ، فالظاهر أنّ المراد منه : الأقرب إلى الواقع والأرجح مدلولا ، ولو بقرينة ما يظهر من العلماء قديما وحديثا من إناطة الترجيح بمجرّد الأقربيّة إلى الواقع ، كاستدلالهم على الترجيحات بمجرّد الأقربية إلى الواقع ، مثل ما سيجيء من كلماتهم في الترجيح بالقياس ، ومثل الاستدلال على الترجيح بموافقة الأصل بأنّ الظنّ في الخبر الموافق له أقوى ، وعلى الترجيح بمخالفة الأصل بأنّ الغالب تعرّض الشارع لبيان ما يحتاج إلى البيان ، واستدلال المحقّق على ترجيح أحد المتعارضين بعمل أكثر الطائفة : " بأنّ الكثرة أمارة الرجحان والعمل بالراجح واجب" ، وغير ذلك ممّا يجده المتتبّع في كلماتهم. مع أنّه يمكن دعوى حكم العقل بوجوب العمل بالأقرب إلى الواقع فيما كان حجّيتهما من حيث الطريقيّة ، فتأمّل (٢٩٨٦).

______________________________________________________

٢٩٨٥. هذا مناف لعدّه مخالفة العامّة من المرجّحات المضمونيّة الداخلة عند تقسيم المرجّحات في أوّل المقام الرابع ، فراجع. ولعلّ ما ذكره هنا أظهر.

لا يقال : إنّ المرجّح هي مخالفة الخبر للعامّة ، وصفة المخالفة ليست من الامور المستقلّة بنفسها.

لأنّا نقول : إنّ هذا الكلام جار في سائر المرجّحات الخارجة ، كموافقة الكتاب والسنّة والشهرة والأصل ، فالمعتبر في عدّ المرجّح خارجيّا كون ذات المرجّح كذلك مع قطع النظر عن صفة الموافقة والمخالفة.

٢٩٨٦. يحتمل الأمر بالتأمّل وجهين :

أحدهما : ما تقدّم سابقا من أنّ الأصل في تعارض ما هو معتبر من باب الطريقيّة هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لا الترجيح بما لم يثبت مرجّحيته وثانيهما :

٤٣٦

بقي في المقام أمران : أحدهما : أنّ الأمارة التي قام الدليل على المنع عنها بالخصوص كالقياس ، هل هي من المرجّحات أم لا؟ ظاهر المعظم العدم ، كما يظهر من طريقتهم في كتبهم الاستدلاليّة في الفقه.

وحكي المحقّق في المعارج عن بعض القول بكون القياس مرجّحا ، حيث قال : وذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر. ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض ، فلا بدّ في العمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة. لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل ، لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ؛ وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون

______________________________________________________

أنّ العقل على تقدير تسليم استقلاله بتقديم أقوى الدليلين إنّما هو فيما كانت القوّة في نفس الدليليّة ، لا في أمر خارج من صفة الدليليّة ، واعتبار الأخبار وإن كان من باب الطريقيّة ، إلّا أنّ اعتبار سندها إنّما هو من حيث الطريقيّة إلى الصدور ، واعتبار دلالتها إنّما هو من حيث الطريقيّة إلى مراد المتكلّم ، والمرجّحات الخارجة لا تقوّي شيئا من الحيثيّتين. أمّا الاولى فواضحة ، وإلّا كانت من المرجّحات السنديّة دون المضمونيّة. وأمّا الثانية فإنّه لو تقوّت بها دلالة أحد الخبرين صارا من قبيل الظاهر والأظهر ، فخرجا من مورد التعارض ، لوجوب حمل الظاهر على الأظهر منهما حينئذ كما مرّ غير مرّة. فالتعارض والرجوع إلى المرجّحات إنّما هو فيما تساوت دلالتهما ، وغاية ما يفيده المرجّح الخارجي كون مضمون أحدهما أقرب إلى الواقع من الآخر ، من دون إيراث قوّة في دلالته ، ومجرّد أقربيّة مضمون أحدهما إلى الواقع خارج من جهة الدليليّة كما عرفت.

٤٣٧

العمل به ، لا بذلك القياس. وفيه نظر (١٨) ، انتهى. ومال إلى ذلك بعض سادة (٢٩٨٧) مشايخنا المعاصرين.

والحقّ خلافه ، لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ، كرفع العمل بالخبر السليم عن المعارض والرجوع معه إلى الاصول. وأيّ فرق بين رفع القياس لوجوب العمل بالخبر السليم عن المعارض وجعله كالمعدوم حتّى يرجع إلى الأصل ، وبين رفعه لجواز العمل بالخبر المكافى لخبر آخر وجعله كالمعدوم حتّى يتعيّن العمل بالخبر الآخر؟!

ثمّ إنّ الممنوع هو الاعتناء بالقياس مطلقا ؛ ولذا استقرّت طريقة أصحابنا على هجره في باب الترجيح ، ولم نجد منهم موضعا يرجّحونه به ، ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول ليرجّح به في الفروع.

الثاني : في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة (٢٩٨٨) إلى المرجّحات السابقة. فنقول : أمّا الرجحان من حيث الدلالة ، فقد عرفت غير مرّة تقدّمه على جميع المرجّحات.

______________________________________________________

٢٩٨٧. لعلّ المراد به صاحب المناهل ، لأنّه سيّد مشايخ المصنّف رحمه‌الله. وحكاه بعض مشايخنا عن شريف العلماء أيضا. ويمكن الاستدلال عليه أيضا بقاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر في المقام بين التعيين والتخيير.

٢٩٨٨. اعلم أنّ محصّل الكلام فيما ذكره هنا وفيما تقدّم هو تقديم الترجيح من حيث الدلالة على سائر المرجّحات ، سواء كان من حيث الصدور أو وجه الصدور أو المضمون ، وتقديم الترجيح من حيث الصدور على الترجيح من حيث وجه الصدور ، وتقديم الترجيح من حيث المضمون على الترجيح من حيث الصدور ، وأمّا على الترجيح من حيث وجه الصدور فبطريق أولى. والوجه في الكلّ واضح ممّا ذكره هنا وسابقا.

وهذا كلّه بناء على ما يستفاد من الأخبار وكلمة الأصحاب من جواز الترجيح بكلّ مزيّة ، سواء كانت منصوصة أم لا. وأمّا بناء على الاقتصار على المرجّحات المنصوصة تعبّدا من دون اعتبار إفادتها للظنّ بالواقع فعلا ، فلا فائدة

٤٣٨

نعم ، لو بلغ المرجّح الخارجيّ إلى حيث يوهن الأرجح دلالة ، فهو يسقطه عن الحجّية ويخرج الفرض عن تعارض الدليلين ؛ ومن هنا قد يقدّم العامّ المشهور أو (*) المعتضد بالامور الخارجيّة الأخر على الخاصّ.

وأمّا الترجيح من حيث السند ، فظاهر مقبولة ابن حنظلة تقديمه على المرجّح الخارجيّ (٢٩٨٩) ، لكنّ الظاهر أنّ الأمر بالعكس ؛ لأنّ رجحان السند إنّما اعتبر لتحصيل الأقرب إلى الواقع ، فإنّ الأعدل أقرب إلى الصدق من غيره ، بمعنى أنّه لو فرض العلم بكذب أحد الخبرين كان المظنون صدق الأعدل وكذب العادل ، فإذا فرض كون خبر العادل مظنون المطابقة للواقع وخبر الأعدل مظنون المخالفة ، فلا وجه لترجيحه بالأعدليّة. وكذا الكلام في الترجيح بمخالفة العامّة ، بناء على أنّ الوجه فيه (٢٩٩٠) هو نفي احتمال التقيّة.

وأمّا القسم الثاني ، وهو ما كان مستقلا بالاعتبار ولو خلا المورد عن الخبرين ، فقد أشرنا إلى أنّه على قسمين : الأوّل : ما يكون معاضدا لمضمون أحد الخبرين. والثاني : ما لا يكون كذلك.

فمن القسم الأوّل : الكتاب والسنّة ، والترجيح بموافقتهما ممّا تواتر به الأخبار. واستدلّ في المعارج على ذلك بوجهين : أحدهما : أنّ الكتاب دليل مستقلّ ، فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر. ثانيهما : أنّ الخبر المنافي لا يعمل به (٢٩٩١)

______________________________________________________

لإطالة الكلام في ذلك بعد ما اخترناه من جواز الترجيح بكلّ مزيّة.

٢٩٨٩. حيث قدّم فيها الأعدليّة على الأفقهيّة وعلى الشهرة.

٢٩٩٠. لأنّه بناء على الوجه الثاني من الوجوه الأربعة المتقدّمة تكون مخالفة العامّة من المرجّحات الخارجة أيضا ، وحيث تعارض مع مرجّح خارجيّ آخر يكون المدار على ما ترجّح في نظر المجتهد.

٢٩٩١. لإطلاق الأخبار المتواترة على طرح ما خالف كتاب الله وأنّه زخرف.

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «أو» : و.

٤٣٩

لو انفرد عن المعارض ، فما ظنّك به معه (١٩)؟! انتهى. وغرضه الاستدلال على طرح الخبر المنافي ، سواء قلنا بحجّيته مع معارضته لظاهر (٢٩٩٢) الكتاب أم قلنا بعدم حجّيته ، فلا يتوهّم التنافي بين دليليه.

ثمّ إنّ توضيح الأمر في هذا المقام يحتاج إلى تفصيل أقسام ظاهر الكتاب و (*) السنّة المطابق لأحد المتعارضين. فنقول : إنّ ظاهر الكتاب إذا لوحظ مع الخبر المخالف فلا يخلو عن صور ثلاث : الاولى : أن يكون على وجه لو خلّى الخبر المخالف له عن معارضة المطابق له كان مقدّما عليه ؛ لكونه نصّا بالنسبة إليه ؛ لكونه اخصّ منه أو غير ذلك (٢٩٩٣) ـ بناء على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ فالمانع عن التخصيص حينئذ ابتلاؤه (**) بمعارضة مثله ، كما إذا تعارض" أكرم زيدا العالم" و" لا تكرم زيدا العالم" ، وكان في الكتاب عموم يدلّ على وجوب إكرام العلماء.

ومقتضى القاعدة في هذا المقام أن يلاحظ اوّلا جميع ما يمكن أن يرجّح به الخبر المخالف للكتاب على المطابق له ، فإن وجد شيء منها رجّح المخالف به وخصّص به الكتاب ؛ لأنّ المفروض انحصار المانع عن تخصيصه به في ابتلائه بمزاحمة الخبر المطابق للكتاب ؛ لأنّه مع الكتاب من قبيل النصّ والظاهر ، وقد عرفت أنّ العمل بالنصّ ليس من باب الترجيح ، بل من باب العمل بالدليل والقرينة في مقابلة أصالة الحقيقة ، حتّى لو قلنا بكونها (٢٩٩٤) من باب الظهور النوعيّ. فإذا عولجت المزاحمة

______________________________________________________

٢٩٩٢. كما هو مقتضى دليله الأوّل. وقوله : «أم قلنا ...» هو مقتضى دليله الثاني.

٢٩٩٣. بأن كان بين ظاهر الكتاب والخبر المخالف له عموم من وجه ، وكان الخبر المخالف له أظهر منه دلالة ، إمّا لكونه أقلّ أفرادا منه ، أو كان حكمه معلّلا ، أو نحو ذلك.

٢٩٩٤. قد تقدّم تفصيله في أوّل المسألة عند بيان معنى الحكومة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «و» ، أو.

(**) فى بعض النسخ بدل «ابتلاؤه» : ابتلاء الخاص.

٤٤٠