فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

المصادر

(١) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٦.

(٢) مفاتيح الاصول : ص ٦٨٧.

(٣) النساء (٤) : ٦٠.

(٤) عوالي اللآلي ج ٤ : ص ١٣٣ ، الحديث ٢٢٩.

(٥) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢١.

(٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٤ و ٨٥ ، الباب من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٧) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٠.

(٨) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١.

(٩) الوسائل ج ١٨ : ص ٨٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٤.

(١٠) الاحتجاج ج ٢ : ص ١٠٩.

(١١) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٨ ، الباب ٩ من أبواب صفت القاضي ، الحديث ٨.

(١٢) الكافي ج ١ : ص ٦٧ ، الحديث ٨.

(١٣) الوسائل ج ١٨ : ص ٧٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

(١٤) الكافي ج ١ : ص ٦٤ ، الحديث ٢.

(١٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ج ١ : ص ٢٩٠.

(١٦) الوسائل ج ١٨ : ص ٢٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

(١٧) الكافي ج ١ : ص ٨.

(١٨) الحدائق الناضرة ج ١ : ص ٩٠.

(١٩) معارج الاصول ص ١٥٤ ـ ١٥٥ ، الفصول الغرويّة : ص ٤٤٢ ، القوانين ج ٢ :

ص ٢٩٣.

(٢٠) الاستبصار ج ١ : ص ٤.

(٢١) عدّة الاصول ج ١ : ص ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢٢) القوانين ج ١ : ص ٣١٥ ـ ٣١٦.

(٢٣) الكافي ج ١ : ص ٥٨ ، الحديث ١٩.

(٢٤) عوائد الأيّام : ص ٣٤٩ ـ ٣٥٣.

(٢٥) كفاية الأحكام : ص ١٣٥.

(٢٦) جامع المقاصد ج ٦ : ص ٧٨ ـ ٨٠.

(٢٧) الوسائل ج ١٣ : ص ٢٣٧ ، الباب ١ من أحكام العارية ، الحديث ٦.

(٢٨) مسالك الإفهام ج ٥ : ص ١٥٥ ـ ١٥٨.

٤٠١
٤٠٢

أمّا الترجيح بالسند (٢٩٤٩) ،

______________________________________________________

٢٩٤٩. لا يذهب عليك أنّ مورد الترجيح بالسند هو أخبار الآحاد إماميّة كانت أم نبويّة ، لعدم جريانه في الكتاب والسنّة المتواترة ، بخلاف مرجّحات وجه الصدور ، لجريانها في المتواترات أيضا ما عدا الكتاب والسنّة النبويّة. أمّا الكتاب فواضح. وأمّا السنّة فلعدم ثبوت خوف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عصره من أحد.

وفي المقام إشكال وارد على القول باعتبار الأخبار من باب الظنون المطلقة كما يراه جماعة ، وكذا على مختار المصنّف رحمه‌الله ، بل المشهور بين القدماء قدّس الله أسرارهم ، من قولهم باعتبارها من باب الوثوق بالصدور. وذلك لأنّه مع تعارض الخبرين لا يمكن حصول الظنّ الفعلي بالواقع من كلّ منهما ، لفرض تعارضهما وتناقضهما ، وحينئذ إمّا أن لا يحصل الظنّ كذلك من شيء منهما ، وإمّا أن يحصل من أحدهما دون الآخر. فعلى الأوّل يخرج كلّ منهما من الحجّية ، لانتفاء مناط الاعتبار في كلّ منهما. وعلى الثاني يكون المفيد للظنّ سليما من المعارض ، لخروج الآخر ـ لأجل عدم إفادته للظنّ ـ من مرتبة الحجيّة ، فلا يبقى مورد للترجيح على هذا القول. وأمّا على القول الثاني ، فإنّه مع رجحان أحد الخبرين لأجل اشتماله على بعض وجوه الترجيح لا يبقى الوثوق بصدور الآخر ، فيخرج من درجة الاعتبار ، فيكون ذو الترجيح سالما من المعارض.

وقد يذبّ عنه على القولين ، بأنّ القائلين بهما قد يقولون في بعض الموارد باعتبار الأخبار من باب الظنّ النوعي ، كما إذا زال الظنّ عنها لأجل معارضة

٤٠٣

فبأمور : منها : كون أحد الراويين عدلا (٢٩٥٠) والآخر غير عدل مع كونه مقبول الرواية من حيث كونه متحرّزا عن الكذب. ومنها : كونه أعدل. وتعرف الأعدليّة إمّا بالنص عليها وإمّا بذكر فضائل فيه لم تذكر في الآخر. ومنها : كونه أصدق مع عدالة كليهما ، ويدخل في ذلك كونه أضبط.

______________________________________________________

القياس ونحوه ممّا قام الدليل على عدم اعتباره ، لأنّهم وإن صرّحوا في كتبهم بكون اعتبارها من باب إفادة الظنّ الفعلي بالواقع ، إلّا أنّهم لا يطرحون الخبر في مقابل القياس ، كما يظهر من التتبّع في أبواب الفقه ، بل هو المصرّح به في كلمات بعضهم في الاصول أيضا ، حيث قيّد اعتبارها من باب الظنّ الفعلي بعدم زواله بمثل القياس ونحوه ، وإلّا فلا تطرح في مقابل مثل القياس. ويقال فيما نحن فيه أيضا : إنّه مع تعارض الخبرين وعدم إفادة أحدهما للظنّ الفعلي ، لأجل اقترانه ببعض الأسباب التي قام الدليل على عدم اعتباره ، لا يخرج هذا الخبر غير المفيد للظنّ من الحجّية ، فتصحّ ملاحظة الترجيح حينئذ.

وفيه : مع عدم اطّراده أنّه إنّما يتمّ إذا قلنا باعتبار الظنّ من باب الشرع دون العقل ، كما هو مبنى القول باعتبار الظنون المطلقة ، لأنّ مناط حكم العقل هو صفة الظنّ الفعلي ، فلا يجري فيما لم يفد الظنّ كذلك ، سواء كان عدم الإفادة لأجل المعارضة بالقياس ونحوه أو غيرها. ومنه يظهر الكلام فيما قلنا باعتباره من باب إفادة الوثوق أيضا.

هذا ، ولكنّ الكلام في ذلك يرجع إلى الإشكال في كيفيّة استثناء القياس من عموم دليل اعتبار الظنّ المطلق ، إذ الإشكال كما يرد على العمل بالظنّ القياسي ، كذلك يرد على رفع اليد عن دليل لأجل زوال الظنّ الحاصل منه بمعارضة القياس ، لأنّ ضرورة المذهب كما قضت ببطلان القياس من حيث كونه حجّة في الشرع ، كذلك قد قضت ببطلانه من حيث كونه موهنا أو مرجّحا كما قرّر في محلّه.

٢٩٥٠. مع مساواته مع صاحبه في مرتبة التحرّز عن الكذب ، فتكون صفة العدالة مزيّة مفقودة في خبر غير العادل.

٤٠٤

وفي حكم الترجيح بهذه الامور أن يكون طريق ثبوت مناط القبول في أحدهما أوضح من الآخر وأقرب إلى الواقع من جهة تعدّد المزكّي أو رجحان أحد المزكيين على الآخر. ويلحق بذلك التباس اسم المزكّى (٢٩٥١) بغيره من المجروحين ، وضعف ما يميّز المشترك به.

ومنها : علوّ الإسناد ؛ لأنّه كلّما قلّت الواسطة كان احتمال الكذب أقلّ. وقد يعارض في بعض الموارد بندرة ذلك ، واستبعاد الإسناد لتباعد أزمنة الرواة ، فيكون مظنّة الإرسال والحوالة على نظر المجتهد. ومنها : أن يرسل أحد الراويين فيحذف الواسطة ويسند الآخر روايته ؛ فإنّ المحذوف يحتمل أن يكون توثيق المرسل له معارضا بجرح جارح ، وهذا الاحتمال منفيّ في الآخر.

وهذا إذا كان المرسل ممّن تقبل مراسيله ، وإلّا فلا يعارض المسند (٢٩٥٢) رأسا. وظاهر الشيخ في العدّة تكافؤ المرسل المقبول والمسند (١) ، ولم يعلم وجهه.

ومنها : أن يكون الراوي لإحدى الروايتين متعدّدا وراوي الاخرى واحدا ، أو يكون رواة إحداهما أكثر ؛ فإنّ المتعدّد يرجّح على الواحد والأكثر على الأقلّ ، كما هو واضح. وحكي عن بعض العامّة عدم الترجيح قياسا على الشهادة والفتوى. ولازم هذا القول عدم الترجيح بسائر المرجّحات أيضا ، وهو ضعيف.

ومنها : أن يكون طريق تحمّل أحد

______________________________________________________

لا يقال : إنّه مع المساواة في ذلك لا دليل على الترجيح بصفة العدالة ، بناء على كون مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الحقّ. نعم ، يتمّ ذلك على القول بالتعبّد في باب الترجيح ، مع أنّه لا دليل على الترجيح حينئذ بصفة العدالة ، لأنّ المنصوص هي الأعدليّة دون العدالة.

لأنّا نقول : إنّه مع مساواتهما في مرتبة التحرّز مع قطع النظر عن عدالتهما يتقوّى ذلك في خبر العدل بملاحظة عدالته.

٢٩٥١. بصيغة الفاعل أو المفعول.

٢٩٥٢. لخروجه من الحجّية حينئذ.

٤٠٥

الراويين (٢٩٥٣) أعلى من طريق تحمّل الآخر ، كأن يكون أحدهما بقراءته على

______________________________________________________

٢٩٥٣. اعلم أنّ طرق تحمّل الرواية سبعة : أوّلها : السماع من لفظ الشيخ. وثانيها : القراءة على الشيخ ، وتسمّى العرض ، لأنّ القاري يعرض على الشيخ. وثالثها : الإجازة. ورابعها : المناولة ، بأن يعطيه ـ تمليكا ، أو عارية للنسخ ـ أصله ، ويقول له : هذا سماعي من فلان فاروه عنّي. وخامسها : الكتابة ، بأن يكتب الشيخ مرويّاته لغائب أو حاضر بخطّه ، أو يأذن لثقة يعرف خطّه يكتبها له. وسادسها : الإعلام ، بأن يعلم الشيخ الطالب أنّ هذا الكتاب أو هذا الحديث روايته أو سماعه من فلان ، مقتصرا عليه من غير أن يقول : اروه عنّي أو أذنت لك في روايته ونحوه. وسابعها : الوجادة.

وقال الشهيد في شرح الدراية : «وهو ـ أي : السماع من الشيخ ـ أرفع الطرق الواقعة في التحمّل عند جمهور المحدّثين ، لأنّ الشيخ أعرف بوجوه ضبط الحديث وتأديته. ولأنّه خليفة رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسفيره إلى أمّته ، والأخذ منه كالأخذ منه. ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر الناس أوّلا وأسمعهم ما جاء به ، والتقرير على ما جرى بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى. ولأنّ السامع أربط جأشا وأوعى قلبا ، وشغل القلب وتوزّع الفكر إلى القاري أسرع. وفي صحيحة عبد الله بن سنان قال : «قلت لأبي ـ عبد الله عليه‌السلام : يجيئني القوم فيسمعون منّي حديثكم فأضجر ولا أقوى ، قال : فاقرأ عليهم من أوّله حديثا ، ومن وسطه حديثا ، ومن آخره حديثا». فعدوله عليه‌السلام إلى قراءة هذه الأحاديث مع العجز يدلّ على أولويّته على قراءة الراوي وإلّا لأمر بها».

وساق الكلام إلى أن قال : «وقيل : هو ـ أي : العرض ـ كتحديثه ـ أي : تحديث الشيخ بلفظه ـ سواء. وهو المنقول عن علماء الحجاز والكوفة ، لتحقّق القراءة في الحالين مع سماع الآخر ، وقيام سماع الشيخ مقام قراءته في مراعاة الضبط ، وورد به حديث عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «قراءتك على العالم وقراءة العالم عليك سواء». وقيل : العرض أعلى من السماع من لفظ الشيخ. وما وقفت لهؤلاء على دليل مقنع ، إلّا ملاحظة الأدب مع الشيخ في عدم تكليفه للقراءة

٤٠٦

الشيخ والآخر بقراءة الشيخ عليه ، وهكذا غيرهما من أنحاء التحمّل.

هذه نبذة من المرجّحات السنديّة التي توجب القوّة من حيث الصدور ، وعرفت أنّ معنى القوّة كون أحدهما أقرب إلى الواقع من حيث اشتماله على مزيّة غير موجودة في الآخر ، بحيث لو فرضنا العلم بكذب أحدهما ومخالفته للواقع كان احتمال مطابقة ذي المزيّة للواقع أرجح وأقوى من مطابقة الآخر ، وإلّا فقد لا يوجب المرجّح الظنّ بكذب الخبر المرجوح (*) ؛ من جهة احتمال صدق كلا الخبرين ، فإنّ الخبرين المتعارضين لا يعلم غالبا كذب أحدهما ، وإنّما التجأنا إلى طرح أحدهما بناء على تنافي ظاهريهما وعدم إمكان الجمع بينهما لعدم الشاهد ، فيصيران في حكم ما لو وجب طرح أحدهما لكونه كاذبا فيؤخذ بما هو أقرب إلى الصدق من الآخر.

والغرض من إطالة الكلام هنا أنّ بعضهم (٢) تخيّل أنّ المرجّحات المذكورة في كلماتهم للخبر من حيث السند أو المتن ، بعضها يفيد الظنّ القويّ ، وبعضها يفيد الظنّ الضعيف ، وبعضها لا يفيد الظنّ أصلا ، فحكم بحجّية الأوّلين واستشكل في الثالث من حيث إنّ الأحوط الأخذ بما فيه المرجّح ، ومن إطلاق أدلّة التخيير ، وقوّى ذلك بناء على أنّه لا دليل على الترجيح بالامور التعبّديّة في مقابل إطلاقات التخيير.

وأنت خبير بأنّ جميع المرجّحات المذكورة مفيدة للظن الشأني بالمعنى الذي ذكرنا ، وهو أنّه لو فرض القطع بكذب أحد الخبرين كان احتمال كذب المرجوح أرجح من صدقه ، وإذا لم يفرض العلم بكذب أحد الخبرين فليس في المرجّحات المذكورة ما يوجب الظنّ بكذب الآخر (**) ، ولو فرض أنّ شيئا منها كان في نفسه موجبا للظنّ بكذب الخبر كان مسقطا للخبر عن درجة الحجّية ومخرجا للمسألة عن التعارض ، فيعدّ ذلك الشيء موهنا لا مرجّحا ؛ إذ فرق واضح عند التأمّل بين ما يوجب في نفسه مرجوحيّة الخبر وبين ما يوجب مرجوحيّته بملاحظة التعارض وفرض عدم الاجتماع.

______________________________________________________

التي هي بصورة أن يكون تلميذا لا شيخا انتهى.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : «لكنّه».

(**) فى بعض النسخ بدل «الآخر» ، أحد الخبرين.

٤٠٧

وأمّا ما يرجع إلى المتن فهي امور : منها : الفصاحة ، فيقدّم الفصيح على غيره ؛ لأنّ الركيك أبعد من كلام المعصوم عليه‌السلام ، إلّا أن يكون منقولا بالمعنى. ومنها : الأفصحيّة ، ذكره جماعة (٣) خلافا لآخرين (٤). وفيه تأمّل ؛ لعدم كون الفصيح بعيدا عن كلام (*) الإمام ، ولا الأفصح أقرب إليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة.

ومنها : اضطراب (٢٩٥٤) المتن كما في بعض روايات عمّار (**). ومرجع الترجيح بهذه إلى كون متن أحد الخبرين أقرب صدورا من متن الآخر.

وعلّل بعض المعاصرين الترجيح بمرجّحات المتن ـ بعد أن عدّ هذه منها ـ بأنّ مرجع ذلك إلى الظنّ بالدلالة ، وهو ممّا لم يختلف فيه علماء الإسلام ، وليس مبنيّا على حجّية مطلق الظنّ المختلف فيه.

ثمّ ذكر في مرجّحات المتن النقل باللفظ والفصاحة والركاكة والمسموع من الشيخ بالنسبة إلى المقروء عليه والجزم بالسماع من المعصوم عليه‌السلام على غيره ، وكثيرا من أقسام مرجّحات الدلالة ، كالمنطوق والمفهوم والخصوص والعموم ونحو ذلك.

وأنت خبير بأنّ مرجع الترجيح (٢٩٥٥) بالفصاحة والنقل باللفظ إلى

______________________________________________________

٢٩٥٤. هو ما اختلف رواة الحديث أو راويه فيه متنا أو سندا ، فروى مرّة على وجه واخرى على وجه آخر مخالف له ، بأن يرويه الراوي تارة عن أبيه عن جدّه مثلا ، وتارة عن جدّه بلا واسطة ، وثالثة عن ثالث غيرهما ، أو يروي لفظ الحديث تارة على وجه ، وأخرى على وجه آخر يخالفه ، كخبر اعتبار الدم عند اشتباهه بالقرحة لخروجه من الجانب الأيمن فيكون حيضا أو بالعكس ، فرواه في الكافي بالأوّل ، وفي التهذيب في كثير من النسخ ، وفي بعضها بالثاني ، واختلف الفتوى بذلك حتّى من فقيه واحد.

٢٩٥٥. الوجه في تخصيص الترجيح بالفصاحة بالذكر ـ مع أنّ مرجع الترجيح بكلّ من النقل باللفظ والفصاحة والمسموع من الشيخ والجزم بالسماع

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : المعصوم.

(**) فى بعض النسخ زيادة : ومنها كون أحدهما منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعني ، إذ يحتمل في المنقول بالمعنى أن يكون المسموع من الإمام عليه‌السلام لفظا مغايرا لهذا اللفظ المنقول إليه.

٤٠٨

رجحان صدور أحد المتنين بالنسبة إلى الآخر ، فالدليل عليه هو الدليل على اعتبار رجحان الصدور ، وليس راجعا إلى الظنّ في الدلالة المتّفق عليه بين علماء الإسلام.

وأمّا مرجّحات الدلالة ، فهي من هذا الظنّ المتّفق عليه ، وقد عدّها من مرجّحات المتن جماعة كصاحب الزبدة (٥) وغيره. والأولى ما عرفت من أنّ هذه من قبيل النصّ والظاهر والأظهر والظاهر ، ولا تعارض بينهما ، ولا ترجيح في الحقيقة ، بل هي من موارد الجمع المقبول ، فراجع.

وأمّا الترجيح من حيث وجه الصدور : بأن يكون أحد الخبرين مقرونا بشيء يحتمل من أجله أن يكون الخبر صادرا على وجه المصلحة المقتضية لبيان خلاف حكم الله الواقعي من تقيّة أو نحوها من المصالح. وهي وإن كانت غير محصورة في الواقع إلّا أنّ الذي بأيدينا أمارة التقيّة ، وهي مطابقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف ، فيحتمل صدور الخبر تقيّة عنهم عليهم‌السلام احتمالا غير موجود في الخبر الآخر.

قال في العدّة : إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه (٦) ، انتهى. وقال المحقّق في المعارج (٢٩٥٦) ـ بعد نقل العبارة المتقدّمة عن الشيخ ـ : والظاهر أنّ احتجاجه في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه‌السلام ، وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد. ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره. فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلّا

______________________________________________________

ليس إلى الظنّ بالدلالة ، لكون الأوّل من مرجّحات المضمون ، والبواقي من مرجّحات الصدور لا الدلالة ـ أنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو في مرجّحات الصدور التي موردها متن الحديث ، ومجمع القيدين من الامور المذكورة ليس إلّا الفصاحة ، لأنّ النقل باللفظ وإن كان من المرجّحات المتنيّة ، إلّا أنّ الكلام فيه سيجيء عند الكلام في مرجّحات المضمون. وما عدا الفصاحة من البواقي وإن كان من مرجّحات الصدور ، إلّا أنّ الكلام فيها قد ظهر ممّا سبق من مرجّحات السند.

٢٩٥٦. ظاهر كلامه طرح الترجيح بمخالفة العامّة ، ولازمه الحكم بالتخيير في مواردها من باب التسليم إن لم يوجد أحد وجوه المرجّحات الأخر. وسيشير

٤٠٩

الفتوى ، والموافق للعامّة يحتمل التقيّة ، فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلّا الفتوى ؛ لأنّه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه‌السلام ، كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه‌السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : إنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث. قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سدّ باب العمل (٧). انتهى كلامه ، رفع مقامه.

أقول : توضيح المرام في هذا المقام أنّ ترجيح أحد الخبرين بمخالفة العامّة يمكن أن يكون بوجوه (٢٩٥٧):

______________________________________________________

المصنّف رحمه‌الله إلى ضعف كلامه ، وسنشير أيضا إلى زيادة تزييف له.

٢٩٥٧. لا يخفى أنّ مخالفة العامّة على الوجه الأوّل يكون مرجّحا تعبّديا لوجه الصدور ، مندرجة في المرجّحات الداخليّة ، نظير الترجيح بالأصل من المرجّحات الخارجيّة. وعلى الثاني يكون من المرجّحات المضمونيّة. وعلى الثالث يكون من المرجّحات الخارجة ، لأنّ المخالفة حينئذ دليل مستقلّ ، نظير أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة في ترجيح دليل الحرمة على الوجوب. وعلى الرابع يكون من مرجّحات وجه الصدور ، بمعنى كون الموافقة لهم كاشفة عن صدور الخبر الموافق تقيّة لا من باب محض التعبّد ، كما في الوجه الأوّل.

ثمّ إنّه يفترق الوجه الأوّل عن الثاني والثالث أيضا باختصاصه بموارد تعارض الخبرين ، وجريانهما فيما لم يكن هناك خبر أصلا. وبهذا الوجه يفترقان عن الرابع أيضا ، لاختصاصه بموارد تعارض الخبرين.

ويفترق الأوّل عن الثاني بوجهين آخرين :

٤١٠

الأوّل : مجرّد التعبّد ، كما هو ظاهر كثير من أخباره ، ويظهر من المحقّق استظهاره من الشيخ قدس‌سرهما. الثاني : كون الرشد في خلافهم ، كما صرّح به في غير واحد من الأخبار المتقدّمة ورواية عليّ بن أسباط : " قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يحدث الأمر ، لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك. فقال : ائت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه".

وأصرح من ذلك كلّه خبر أبي إسحاق الأرجائيّ : " قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري. فقال : إنّ عليّا صلوات الله عليه لم يكن يدين الله بشيء إلّا خالف عليه العامّة إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه صلوات الله عليه عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا على الناس" (٨).

الثالث : حسن مجرّد المخالفة لهم ، فمرجع هذا المرجّح ليس الأقربيّة إلى الواقع ، بل هو نظير ترجيح دليل الحرمة على الوجوب ، ودليل الحكم الأسهل على غيره. ويشهد لهذا الاحتمال بعض الروايات مثل قوله عليه‌السلام في مرسلة داود بن الحصين : " إنّ من وافقنا خالف عدوّنا ، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منّا ولا نحن منه" (٩). ورواية الحسين بن خالد : " شيعتنا : المسلّمون لأمرنا ، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا" (١٠) فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " خالفوهم ما استطعتم".

______________________________________________________

أحدهما : أنّ الموافقة والمخالفة على الأوّل دليل على ورود الموافق تقيّة والمخالف لبيان الواقع ، وعلى الثاني أنّ الموافقة أمارة لبطلان مضمون الخبر في الواقع ، والمخالفة لحقّيته كذلك.

وثانيهما : أنّ الموافقة والمخالفة على الأوّل دليلان على ورود الموافق تقيّة ، والمخالف لبيان الواقع مطلقا ، سواء كان الاحتمال في المسألة عند الخاصّة منحصرا في اثنين أم كان أزيد ، بأن كانت المسألة عندهم ذات قولين أو أقوال ، وكانت العامّة متّفقين على أحد القولين أو الأقوال ، وكان أحد الخبرين موافقا لهم والآخر

٤١١

الرابع : الحكم بصدور الموافق تقيّة. ويدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية : " ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه" (١١) ، بناء على أنّ المحكيّ عنه عليه‌السلام مع عدالة الحاكي كالمسموع منه ، وأنّ الرواية مسوقة لحكم المتعارضين ، وأنّ القضيّة غالبيّة ؛ لكذب الدائميّة.

أمّا الوجه الأوّل ـ فمع بعده عن مقام ترجيح أحد الخبرين (٢٩٥٨) المبنيّ اعتبارهما على الكشف النوعيّ ـ ينافيه (*) التعليل المذكور في الأخبار المستفيضة المتقدّمة.

ومنه يظهر ضعف الوجه الثالث ، مضافا إلى صريح رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : " ما أنتم والله على شيء ممّا هم فيه ، ولا هم على شيء ممّا أنتم فيه ، فخالفوهم ؛ فإنّهم ليسوا من الحنفيّة على شيء" (١٢) فقد فرّع الأمر بمخالفتهم على مخالفة أحكامهم للواقع ، لا مجرّد حسن المخالفة.

______________________________________________________

مخالفا لهم. وأمّا على الثاني فمع انحصار الاحتمال في المسألة في اثنين تكون المخالفة أمارة لحقيّة مضمون الخبر في الواقع ، والموافقة أمارة لبطلانه كذلك. وأمّا مع تكثّر الاحتمال فالموافقة وإن كانت أمارة لبطلان مضمون الموافق في الواقع ، إلّا أنّ المخالفة لا تكون أمارة لحقيّة مضمون الخبر المخالف ، لأنّ الفرض حينئذ أنّ الحقّ إنّما هو بين الاحتمالات المخالفة لهم ، لا انحصاره في مضمون المخالف الذي يوافق أحد الاحتمالات المذكورة نعم ، يكون المخالف حينئذ أبعد من الباطل بالنسبة إلى الموافق ، لا أن تكون المخالفة أمارة الرشد والحقيّة. وبهذا الوجه يفترق الأوّل عن الرابع أيضا.

٢٩٥٨. لأنّ المناسب لترجيح أحد الخبرين المعتبرين من باب الطريقيّة كون المرجّح ممّا يقوّي ذا المزيّة في جهة اعتباره ، بأن يقوّي جهة كشفه عن الواقع ، بحيث يكون مورده معه أقرب إلى الواقع وأبعد من الباطل من معارضه الخالي منه ، لا جعل الامور التعبّدية من مرجّحاته ، أو جعل ما هو كاشف عن الواقع بنفسه منها ، لكن

__________________

(*) فى بعض النسخ : «ينافي».

٤١٢

فتعيّن الوجه الثاني ؛ لكثرة ما يدلّ عليه من الأخبار ، أو الوجه الرابع ؛ للخبر المذكور وذهاب المشهور ، إلّا أنّه يشكل الوجه الثاني بأنّ التعليل المذكور في الأخبار بظاهره غير مستقيم ؛ لأنّ خلافهم ليس حكما واحدا (٢٩٥٩) حتّى يكون هو الحقّ ، وكون الحقّ والرشد فيه بمعنى وجوده في محتملاته لا ينفع في الكشف عن الحقّ. نعم ، ينفع في الأبعديّة عن الباطل لو علم أو احتمل غلبة الباطل على أحكامهم وكون الحقّ فيها نادرا ، ولكنّه خلاف الوجدان.

ورواية أبي بصير المتقدّمة وإن تأكّد مضمونها

______________________________________________________

مع قطع النظر عن جهة كشفه عنه ، لاختلاف المرجّح مع صاحبه حينئذ في المرتبة.

٢٩٥٩. حاصله : أنّ التعليل المذكور إنّما يتمّ لو كان الاحتمال في المسألة منحصرا في اثنين ، أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم ، إذ يصحّ حينئذ أن يقال : إنّ الرشد فيما خالفهم. وأمّا لو كانت المسألة ذات احتمالات أحدها موافق للعامّة فلا يستقيم التعليل حينئذ ، لأنّ الحقّ حينئذ في أحد الوجوه المخالفة لهم ، وهذا لا يكفي في الكشف عن حقّية أحد الوجوه تعيينا. نعم ، المخالفة إنّما تنفع في أبعديّة الوجوه المخالفة لهم عن الباطل ، إن علمت أو احتملت غلبة الباطل على أحكامهم.

فإن قلت : إنّ التعليل الوارد في الأخبار إنّما هو كون الرشد في خلافهم ، وكلمة «في» للظرفيّة ، لا كون الرشد هو نفس ما يخالفهم. والإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل ، لأنّ غاية ما يفيده التعليل على الأوّل أنّ الرشد متحقّق في خلافهم ، ولازمه مع انحصار الاحتمال المخالف لهم في واحد كون الرشد هو ذلك الاحتمال ، وفي صورة تعدّده كونه في جملة تلك الاحتمالات المخالفة لهم ، بمعنى عدم كونه هو الاحتمال الموافق لهم ، فيكون الترجيح حينئذ بمجرّد أبعديّة المخالف عن الباطل وإن لم يتعيّن الحقّ فيه.

قلت : إنّ السائل كأنّه غفل عن ظاهر الأخبار الواردة في المضمار ، لأنّ ظاهرها الأمر بالأخذ بالمخالف للعمل لأجل كون المخالفة أمارة الرّشد ، لا لأجل مجرّد الأبعديّة عن الباطل ، سيّما رواية علي بن أسباط ، لأنّ قوله عليه‌السلام : «فخذ بخلافه ،

٤١٣

بالحلف ، لكن لا بدّ من توجيهها ، فيرجع الأمر إلى التعبّد بعلّة الحكم (٢٩٦٠) ، وهو أبعد من التعبّد بنفس الحكم.

والوجه الرابع : بأنّ دلالة الخبر المذكور عليه لا يخلو عن خفاء ؛ لاحتمال أن يكون المراد من شباهة أحد الخبرين بقول الناس كونه متفرّعا على قواعدهم الباطلة ، مثل تجويز الخطأ على المعصومين من الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ـ عمدا أو سهوا ـ والجبر والتفويض ونحو ذلك. وقد اطلق الشباهة على هذا المعنى في بعض أخبار العرض على الكتاب والسنّة ، حيث قال : " فإن أشبههما فهو حقّ ، وإن لم يشبههما فهو باطل". وهذا الحمل أولى من حمل القضيّة على الغلبة لا الدوام بعد تسليم الغلبة.

ويمكن دفع الإشكال في الوجه الثاني عن التعليل في الأخبار ، بوروده على الغالب من انحصار الفتوى في المسألة في الوجهين ؛ لأنّ الغالب أنّ الوجوه في المسألة إذا كثرت كانت العامّة مختلفين (٢٩٦١) ، ومع اتّفاقهم لا يكون في المسألة وجوه متعدّدة.

ويمكن أيضا الالتزام بما ذكرنا سابقا من غلبة الباطل في أقوالهم ، على ما صرّح به في رواية الأرجائيّ المتقدّمة. وأصرح منها ما حكي عن أبي حنيفة من قوله : " خالفت جعفرا في كلّ ما يقول ، إلّا أنّي لا أدري أنّه يغمض عينيه في الركوع والسجود أو يفتحهما". وحينئذ فيكون خلافهم أبعد من الباطل.

______________________________________________________

فإنّ الحقّ فيه» كالصريح في كون المأخوذ أمرا متعيّنا وأنّه الحقّ ، لا أنّه من محتملاته.

٢٩٦٠. لما أشار إليه من عدم استقامة ظاهر العلّة ، فلا بدّ أن يكون الأخذ بها تعبّدا محضا ، وهو أبعد من التعبّد بالترجيح بالمخالفة ، وقد تقدّم وجه بعده أيضا.

٢٩٦١. فلا تتحقّق الموافقة والمخالفة. والحاصل : أنّ هنا صورا : إحداها : أن تكون المسألة عند الشيعة ذات وجهين ، أحدهما موافق للعامّة والآخر مخالف لهم. الثانية : أن تكون عند الشيعة ذات وجوه ، وكذا عند العامّة ، بأن اختلفوا فيها كالشيعة على أقوال. الثالثة : أن تكون عند الشيعة ذات وجوه ، ولكنّ العامّة اتّفقوا على وجه واحد منها. والاولى أغلب بالنسبة إلى الثالثة. وعلى الثانية لا تتحقّق

٤١٤

ويمكن توجيه الوجه الرابع : بعدم انحصار (٢٩٦٢) دليله في الرواية المذكورة ، بل الوجه فيه هو ما تقرّر في باب التراجيح واستفيد من النصوص والفتاوى من حصول الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين يوجب كونه أقلّ أو أبعد احتمالا لمخالفة الواقع من الخبر الآخر ، ومعلوم أنّ الخبر المخالف لا يحتمل فيه التقيّة ، كما يحتمل في الموافق ، على ما تقدّم من المحقّق قدس‌سره. فمراد المشهور من حمل الخبر الموافق على التقيّة ليس كون الموافقة أمارة على صدور الخبر تقيّة ، بل المراد أنّ الخبرين لمّا اشتركا في جميع الجهات المحتملة لخلاف الواقع ـ عدا احتمال الصدور تقيّة المختصّ بالخبر الموافق ـ تعيّن العمل بالمخالف وانحصر محمل الخبر الموافق المطروح في التقيّة.

______________________________________________________

الموافقة والمخالفة. فالأخبار لا تشمل ما عدا الاولى بناء على حملها على الغالب ، لندرة الثالثة ، وعدم تحقّق الموافقة والمخالفة على الثانية.

٢٩٦٢. لا يذهب عليك أنّه بعد توجيهه بما ذكره ، وبعد تسليم عدم مساعدة الرواية المذكورة عليه ، لا تكون مخالفة العامّة على هذا التوجيه من المرجّحات المنصوصة ، وإنّما تكون منها على الوجه الثاني ، لما أشار إليه من دلالة معظم الأخبار عليه ، فلا يمكن أن يستدلّ بها على جواز الترجيح بها على الوجه الرابع. نعم ، يمكن أن يستدلّ عليه بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من جواز الترجيح بكلّ مزيّة. ومستنده على ما يستفاد من كلامه وجهان : أحدهما : ظاهر العلماء في باب التراجيح. وثانيهما : استفادته من النصوص.

ويمكن أن يقال في تقريب الأوّل : إنّ الإجماع كما انعقد على اعتبار مطلق الظنّ المتعلّق بالسند في باب الترجيح ، كذلك انعقد على اعتبار مطلقه في وجه الصدور ، حتّى إنّ بعضهم تعدّى في المقام إلى الظنّ المستفاد من القياس ، فكيف ظنّك بسائر الظنون التي لم يقم دليل على عدم اعتباره بالخصوص.

ويمكن أن يستدلّ عليه بوجهين آخرين : أحدهما : بناء العقلاء ، لاستمرار طريقتهم في باب التعارض على ترجيح ما هو أرجح صدورا لبيان الواقع. والآخر :

٤١٥

وأمّا ما أورده المحقّق (٢٩٦٣):

______________________________________________________

منع شمول أدلّة اعتبار خبر الواحد للخبر المحتمل للتقيّة ، بمعنى أنّه مع الظنّ أو الوثوق بصدور الخبر تقيّة لا يطمأنّ بشمول الأدلّة لمثله. نعم ، انعقد إجماعهم على اعتبار مثل هذا الخبر في غير مقام التعارض.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى هذه الأدلّة عدم الفرق في الترجيح بين كون التقيّة من العامّة أو غيرهم ، بأن صدر الخبر خوفا وتقيّة من غيرهم ، وإن كان من بعض فرق الشيعة ، كما أنّه لا فرق على الوجه الثاني بين وجود أمارة التقيّة في المقام ـ بأن كانت هنا أمارة تورث الظنّ بصدور الخبر الموافق للتقيّة ـ وعدمه ، بل وإن حصل الظنّ أيضا بعدم الخوف والتقيّة عند صدور الخبر الموافق ، لأنّ مناط الترجيح على هذا الوجه كون مخالفة الخبر لهم من أمارات الرشد وحقّيته من حيث إنّه مخالف لهم ، فلا يتفاوت الأمر حينئذ بين الأمرين.

وتحقيق المقام : أنّك حيث قد عرفت أنّ ما يستفاد من كلمات الأصحاب هو الوجه الرابع ، وما يستفاد من معظم الأخبار هو الوجه الثاني ، فما يمكن دعوى القطع بكونه من المرجّحات المنصوصة من مخالفة العامّة ما كان مجمعا للوجهين ، بأن كانت المخالفة من أمارات الرشد ، والموافقة من أمارات صدور الخبر تقية ، دون الفاقد لأحد الوجهين ، لأنّ التعليل وإن اقتضى كون الترجيح لأجل كون المخالفة من أمارات الرشد ، إلّا أنّه لا يطمأنّ بهذا التعليل بعد مخالفته لظاهر الأصحاب ، سيّما مع شمول بعض هذه الأخبار المعلّلة لغير صورة التعارض أيضا ، وكذا لا يطمأن بما هو ظاهر الأصحاب بعد مخالفته لظاهر معظم الأخبار ، فالقدر المتيقّن ما كان مجمعا لهما على ما عرفت.

٢٩٦٣. لا يخفى أنّ المحقّق قدس‌سره قد أورد دليلين للترجيح بمخالفة العامّة ، وزيّف كلّا منهما.

٤١٦

من معارضة احتمال التقيّة باحتمال الفتوى على التأويل. ففيه : أنّ الكلام فيما إذا اشترك الخبران في جميع الاحتمالات المتطرّقة في السند والمتن والدلالة ، فاحتمال الفتوى على التأويل مشترك. كيف ، ولو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرّقه في الخبر الموافق ، كان اللازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ؛ لما عرفت من أنّ النصّ والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجّحات.

وأمّا ما أجاب به صاحب المعالم عن الإيراد بأنّ احتمال التقيّة في كلامهم أقرب وأغلب. ففيه ـ مع إشعاره بتسليم ما ذكره المحقّق من معارضة احتمال التقيّة في الموافق باحتمال التأويل ، مع ما عرفت من خروج ذلك عن محلّ الكلام ـ : منع أغلبية التقيّة في الأخبار من التأويل.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا من الوجه في رجحان الخبر المخالف مختص بالمتباينين ، وأمّا فيما كان من قبيل العامين من وجه ـ بأن كان لكلّ واحد منهما ظاهر يمكن الجمع بينهما بصرفه عن ظاهره دون الآخر ـ فيدور الأمر بين حمل الموافق منهما على التقيّة ، والحكم بتأويل أحدهما ليجتمع مع الآخر. مثلا إذا ورد الأمر بغسل الثوب من أبوال ما لا يؤكل لحمه ، وورد : " كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله" ، فدار الأمر بين حمل الثاني على التقيّة وبين الحكم بتخصيص أحدهما لا بعينه ، فلا وجه لترجيح التقية لكونها في كلام الأئمّة عليهم‌السلام أغلب من التخصيص.

فالعمدة في الترجيح بمخالفة العامة ـ بناء على ما تقدّم من جريان هذا المرجّح وشبهه في هذا القسم من المتعارضين ـ : هو ما تقدّم (١٣) من وجوب الترجيح بكلّ مزيّة في أحد المتعارضين ، وهذا موجود فيما نحن فيه ؛ لأنّ احتمال مخالفة الظاهر قائم في كلّ منهما ، والمخالفة للعامّة مختصّ بمزيّة مفقودة في الآخر ، وهو عدم احتمال الصدور تقيّة (*).

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الترجيح بالمخالفة من أحد وجهين ـ على ما يظهر من الأخبار ـ أحدهما : كونه أبعد من الباطل وأقرب إلى الواقع ، فيكون مخالفة الجمهور نظير موافقة المشهور من المرجّحات المضمونيّة ، على ما يظهر من أكثر أخبار هذا الباب.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «تقيّة» لاجل التقيّة.

٤١٧

والثاني : من جهة كون المخالف ذا مزيّة ؛ لعدم (*) احتمال التقيّة. ويدلّ عليه ما دلّ على الترجيح بشهرة الرواية معلّلا بأنّه لا ريب فيه بالتقريب المتقدّم (٢٩٦٤) سابقا. ولعلّ الثمرة بين هذين الوجهين تظهر لك فيما يأتي (٢٩٦٥) إن شاء الله تعالى.

بقي في هذا المقام امور : الأوّل : أنّ الخبر الصادر تقيّة يحتمل أن يراد به ظاهره فيكون

______________________________________________________

أحدهما : أنّ الأبعد لا يحتمل إلّا الفتوى ، والموافق للعامّة يحتمل التقيّة. وزيّفه بما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله هنا مع جوابه.

والآخر : المرويّ عن الصادق عليه‌السلام. وأورد عليه أوّلا : بأنّه إثبات مسألة علميّة بخبر واحد. وثانيا : بطعن الفضلاء من الشيعة فيه.

ويدفع الأوّل ما تقرّر في محلّه من عدم الفرق في أدلّة اعتبار أخبار الآحاد بين الفروع والاصول العمليّة. والثاني أنّ الأخبار الدالّة على الترجيح بمخالفة العامّة وإن سلّمنا عدم بلوغها حدّ التواتر ، إلّا أنّها كثيرة جدّا. والأخبار وإن ضعف سندها إلّا أنّها تكتسي ثوب الحجّية بسبب التكاثر والتعاضد والاجتماع ، بل ربّما يصير أعلى من الصحيح الأعلى ، فلا يقدح في اعتبارها طعن جماعة من فضلاء الشيعة في سند بعضها. مع أنّ بعضها معتبر بالخصوص ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، لتلقّي الأصحاب لها بالقبول حتّى سميّت مقبولة ، بل وصفها في البحار بالصحّة ، والشهيد الثاني بالموثقيّة ، بل هي مستندهم في باب القضاء. فهي بنفسها كافية في الباب إن شاء الله تعالى ، سيّما عند المحقّق حيث لم يلاحظ سند أخبار الآحاد في العمل بها ، بل جعل المدار فيها في المعتبر على قبول الأصحاب وعدم قبولهم.

٢٩٦٤. من كون المراد من نفي الريب في الرواية المشهورة نفيه بالإضافة إلى ما في الرواية الشاذّة من الريب ، لا نفيه مطلقا.

٢٩٦٥. عند بيان القسم الثاني من المرجّحات الخارجيّة.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «لعدم» ، أبعديّة.

٤١٨

من الكذب المجوز لمصلحة ، ويحتمل أن يراد منه تأويل (٢٩٦٦) مختف على المخاطب فيكون من قبيل التورية ، وهذا أليق بالإمام عليه‌السلام ، بل هو اللائق له إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية.

الثاني : أنّ بعض المحدّثين كصاحب الحدائق وإن لم يشترط في التقيّة موافقة الخبر (٢٩٦٧)

______________________________________________________

٢٩٦٦. لا يخفى أنّ التقيّة على هذا تكون قرينة صارفة لا معيّنة. وحينئذ إن انحصر التأويل في شيء تعيّن ، وإن تعدّد تصير الرواية مجملة مع عدم أظهريّة أحد التأويلين ، وإلّا تعيّن الأظهر منهما ، نظير وجوب حمل اللفظ على أقرب مجازاته عند تعذّر الحقيقة ، فتدبّر.

٢٩٦٧. فيجوز على هذا القول الحمل على التقيّة وإن لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة ، بأن كان الخبر واردا لبيان خلاف الواقع لمصلحة سوى مصلحة التقيّة ، مثل مجرّد تكثير المذهب في الشيعة كي لا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

قال في المقدّمة الاولى من مقدّمات الحدائق في جملة كلام له : «فصاروا صلوات الله عليهم محافظة على أنفسهم وشيعتهم يخالفون بين الأحكام ، وإن لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام ، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعدّدة وإن لم يكن بها قائل من المخالفين ، كما هو واضح لمن تتبّع قصصهم وأخبارهم ، وتحدّي سيرهم وآثارهم.

وحيث إنّ من أصحابنا رضوان الله عليهم خصّوا الحمل على التقيّة بوجود قائل من العامّة ، وهو خلاف ما أدّى إليه الفهم الكليل والفكر العليل من أخبارهم صلوات الله عليهم ، رأينا أن نبسط الكلام بنقل جملة من الأخبار الدالّة على ذلك ، لئلّا يحملنا الناظر على مخالفة الأصحاب من غير دليل ، وينسبنا إلى الضلال والتضليل. فمن ذلك ما رواه في الكافي في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف

٤١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي. فلمّا خرج الرجلان قلت : يا بن رسول الله رجلان من العراق من شيعتكم قدما يسألان ، فأجبت كلّ واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال : يا زرارة إنّ هذا خير لنا وأبقي لكم ، ولو اجتمعتم على أمر لصدّقكم الناس علينا ، ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم». قال : ثمّ قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنّة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين. قال : فأجابني بمثل جواب أبيه.

فانظر إلى صراحة هذا الخبر في اختلاف أجوبته في مسألة واحدة في مجلس واحد وتعجّب زرارة ، ولو كان الاختلاف إنّما وقع لموافقة العامّة لكفى جواب واحد بما هم عليه ، ولما تعجّب زرارة عن ذلك ، لعلمه بفتواهم عليهم‌السلام أحيانا بما يوافق العامّة تقيّة. ولعلّ السّر في ذلك أنّ الشيعة إذا خرجوا عنهم مختلفين ، كلّ ينقل عن إمامه خلاف ما ينقله الآخر ، سخف مذهبهم في نظر العامّة ، وكذّبوهم في نقلهم ، ونسبوهم إلى الجهل وعدم الدّين ، وهانوا في نظرهم ، بخلاف ما لو اتّفقت كلمتهم ، وتعاضدت مقالتهم ، فإنّهم يصدّقونهم ، ويشتدّ بغضهم لهم ولإمامهم ومذهبهم ، ويصير ذلك سببا لثوران العداوة. وإلى ذلك ينظر قوله عليه‌السلام : «ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ...». ثمّ أورد شطرا من الأخبار الأخر المتضمّنة لكونهم موقعين للخلاف بينهم لئلّا يعرفوا فيؤخذ رقابهم.

وأورد عليه الوحيد البهبهاني في فوائده الجديدة بوجوه :

أحدها : أنّ الحكم إذا لم يكن موافقا لمذهب أحد من العامّة يكون رشدا وصوابا ، لما ورد في الأخبار أنّ الرشد في خلافهم وفيما لم يذهبوا إليه ، فكيف يكون هذا تقيّة؟ لأنّ المراد بالرشد والصواب ما كان في الواقع رشدا وصوابا لا من جهة التقيّة ورفع الضرر ، وإلّا فجميع ما ذهب إليه العامّة يصير رشدا وصوابا. وأيضا

٤٢٠