فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يأجرك ولا يخلف. قال : قلت له : ولم؟ فقال لي : إنّ الله عزوجل يقول : (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فهل تعرف أسفه من شارب الخمر؟ قال : ثمّ قال : لا يزال العبد في فسحة من الله عزوجل حتّى يشرب الخمر ، فإذا شربها فرّق الله عزوجل عنه سرباله ، وكان وليّه وأخوه إبليس لعنه الله ، وسمعه وبصره ويده ورجله ، يسوقه إلى كلّ ضلال ، ويصرفه عن كلّ خير».

وقد تعجّب صاحب مفتاح الكرامة ـ على ما حكي عنه ـ بعد ذكر هذه الرواية أو سابقتها من دعوى بعضهم عدم الدليل على قبول قول العدل في الموضوعات.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا إشكال في حمل قول المسلم على الصحّة على الوجه الأوّل من الوجهين اللذين أشار إليهما المصنّف رحمه‌الله. وكذا على الوجه الأوّل من وجوه الوجه الثاني أيضا.

وأمّا على الثاني منها ـ أعني : الصدق المخبري ، وهو المطابقة للاعتقاد ـ فلا إشكال فيه أيضا ، لما ادّعاه المصنّف رحمه‌الله من السيرة القطعيّة بين المسلمين. وثمرة الحمل على الصحة بهذا المعنى ـ أعني : المطابقة لاعتقاد المخبر ـ هي ترتيب الآثار الواقعيّة للمخبر به بعد نفي احتمال الخطأ في مقدّمات اعتقاده ـ وكذا احتمال السهو فيها ـ بالأصل. ولكن سنشير إلى ضعف الاعتماد على مثل هذا الأصل.

وأمّا على الثالث منها ، أعني : الصدق الخبري وهو المطابقة للواقع ، فهي العمدة في المقام ، وهو معنى حجّية خبر المسلم على غيره. وهذه المراتب الثلاثة مختلفة من حيث سهولة إثباتها وصعوبتها صعودا ونزولا ، فبإثبات التالي منها يثبت المقدّم منها بالاولويّة ، بخلاف العكس. وقد عرفت عدم الإشكال في الحمل على الصحّة على الوجه الأوّل والثاني منها. وأمّا على الثالث فلا دليل عليه. أمّا الأدلّة المستدلّ بها على أصل القاعدة ، فقد تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله وما علّقناه على كلامه ضعف ما عدا الإجماع والسيرة منها ، وأشرنا هنا إلى عدم تحقّقهما في المقام. وأمّا ما أشرنا إليه هنا من الآية والروايات فيرد عليهما : أنّ المراد بتصديق

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

المؤمنين فيها مجرّد التصديق الصوري لا التصديق الخبري ، أعني : ترتيب آثار الواقع على خبره ، وقد أوضح المصنّف رحمه‌الله ذلك عند الاستدلال على حجّية أخبار الآحاد.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتمّ في الآية والرواية الاولى ، وأمّا الروايتين الأخيرتين فلا ، لأنّ إسناد التقصير فيهما في دفع البضاعة إلى الرجل القرشي مطلقا على إحداهما ، وعلى تقدير الدفع في الاخرى ، دليل على كون المراد بتصديق المسلمين فيهما هو التصديق الخبري لا محالة لا التصديق الصوري.

قلت : نعم ظاهرهما ذلك ، ولكن لا بدّ من حملهما على إرادة التصديق الصوري مع مراعاة الاحتياط في دفع البضاعة ، بقرينة الاستشهاد فيهما بالآية التي يتعيّن حملها على إرادة ذلك كما أشرنا إليه.

هذا كلّه مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله هنا. وحاصله : أنّا لو قلنا بظهور الآية والروايات في المدّعى ، وبنينا على خروج ما أخرجه الدليل ، لزم تخصيص الأكثر ، لأنّ المراد بالمؤمنين والمسلمين فيها العموم الأفرادي ، قضيّة لظاهر الجمع المعرّف ، والإجماع منعقد على عدم جواز تصديقهم في الشهادة والرواية إلّا مع شروط خاصّة ، ولا في الحدسيّات والنظريّات إلّا في موارد خاصّة ، كالفتوى ونحوه. ودعوى كون الخارج بحسب النوع لا الأفراد حتّى يلزم المحظور ، يدفعها ـ مع تسليم كثرة الأنواع الباقية ـ ظاهر الجمع المعرّف المقيّد للعموم الأفرادي.

مضافا إلى لزوم تخصيص المورد كما لا يخفى ، فلا مناص من حمل التصديق فيها على التصديق الصوري ، وإلى أنّ آية النبأ دالّة على وجوب التبيّن في خبر الفاسق ، فتخصّص الآية والأخبار المذكورة بها ، فلا تدلّ على تمام المدّعى من وجوب تصديق خبر المسلم مطلقا ، فتأمّل.

ثمّ مع التنزّل عن عموم الدعوى ، فهل يمكن إثبات وجوب حمل خبر العدل على الصدق على الوجه الثالث أو لا؟ وليعلم أنّ مرادنا بالعدل هنا مقابل ما علم فسقه ، لا العدل الواقعي ليدخل فيه ذلك ومن لم تحصل له بعد ملكة العدالة ،

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كالكافر إذا أسلم ولم يصدر عنه بعد معصية ولم تحصل له ملكة بعد ، والمسلم بعد بلوغه كذلك ، ومن هو مجهول الحال.

ويدلّ عليه أوّلا : عموم الآية والأخبار السابقة. وثانيا : قوله عليه‌السلام : «المؤمن وحده جماعة».

وثالثا : الأصل ، لأنّ المانع من قبول قول المسلم فسقه ، كما يدلّ عليه تعليق وجوب التبيّن عليه في آية النبأ ، لأنّه يقتضي كون الإسلام من حيث هو مقتضيا للقبول ، وأنّ المانع منه الفسق ، فحيث علمت العدالة فهو ، وإلّا فحيث احتمل عروض الفسق يدفع بالأصل ، لأنّ الظاهر أنّ الفسق أمر وجودي ، وليس عبارة عن عدم الملكة حتّى لا يكون موردا للأصل ، وحيث يدفع احتماله بالأصل يعمل المقتضي عمله.

ورابعا : مفهوم آية النبأ ، لأنّ مقتضى تعليق وجوب التبيّن فيها على وصف الفسق هو اختصاص وجوبه بموارد العلم بفسقه ، لظهور الفاسق في ذلك ، فيدخل أقسام العادل على ما عرفت في مفهومها شرطا أو وضعا.

وفي الجميع نظر. أمّا الأوّل فلما تقدّم من عدم دلالتها على أزيد من التصديق الصوري.

وأمّا الثاني فلضعفه سندا ، كما تقدّم سابقا عند الاستدلال على أصل القاعدة. مضافا إلى أنّ إبقائه على ظاهره والبناء على تخصيص ما أخرجه الدليل يوجب تخصيص الأكثر كما تقدّم ، فلا بدّ من حمل المؤمن فيه على إرادة الكمّل من المؤمنين ، أو غير ذلك كما أشرنا إليه هناك.

وأمّا الثالث فمع عدم دلالة التعليق على الوصف إلّا من باب الإشعار الذي لا حجّية فيه ، أنّه يحتمل أن يكون التعليق على وصف الفسق من باب عدم المقتضي للقبول معه لا من باب وجود المانع ، إذ كما يحتمل كون الإسلام مقتضيا والفسق مانعا ، كذلك يحتمل كون المقتضي هي العدالة الواقعيّة ، ولا ظهور للآية في أحد

١٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتمالين. مع أنّ مقتضى التعليق وجوب التثبّت عن خبر مجهول الحال ، لكون الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة دون المعلومة. ودعوى الانصراف إليها ممنوعة كما قرّر في محلّه. فتدلّ الآية على اعتبار العلم بعدم الفسق في قبول خبره. ودفع احتمال المانع حينئذ بالأصل لا يثبت وجود المقتضي إلّا على القول بالاصول المثبتة.

ومن هنا يظهر ضعف الرابع أيضا. وقد تقدّم توضيح الكلام في عدم دلالته على قبول خبر العدل مفهوما وصفا وشرطا وعلّة عند الاستدلال على حجّية خبر الواحد. ومع تسليم جميع ذلك أنّ الأدلّة المتقدّمة ـ ما عدا قوله عليه‌السلام : «المؤمن وحده جماعة» ـ إنّما تدلّ على التصديق المخبري دون الخبري كما هو المدّعى. أمّا الرواية المذكورة فإنّها بظاهرها ـ بعد الإغماض عمّا أشرنا إليه ـ إنّما تدلّ على وجوب تنزيل خبر المؤمن الواحد منزلة خبر الجماعة في ترتيب آثار الواقع عليه ، وهو معنى التصديق الخبري.

وأمّا ما عداها فتوضيح الكلام فيه : أنّ الشبهة في جواز قبول خبر المخبر ينشأ تارة من احتمال تعمّده للكذب ، واخرى من احتمال الخطأ في المقدّمات المحصّلة للاعتقاد وإن علمت مطابقته له ، وثالثة من احتمال السهو والنسيان ، ورابعة من احتمال وجود المعارض.

ثمّ إذا صرّح الشارع بقوله : صدّق العادل أو الثقة أو المؤمن أو المسلم ، فلا ريب أنّ الظاهر منه وجوب تصديقه من حيث احتمال تعمّده للكذب لا من جهة اخرى ، بل إن أمكن نفي سائر الاحتمالات بالاصول أو بناء العقلاء يعمل بمقتضى الخبر وإلّا فلا. وكذلك إذا قال : لا تصدّق الفاسق أو غير الثقة ، لأنّ ظاهره أيضا عدم جواز تصديقه من حيث احتمال تعمّده للكذب لا من جهة اخرى.

ومن هنا يظهر أنّ الظاهر من قول الشارع : صدّق فلانا هو التصديق المخبري دون الخبري. وحينئذ نقول : إنّ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة المتقدّمة هو تصديق العادل أو المسلم ، وغايته الدلالة على تصديقه من حيث مطابقة خبره

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لاعتقاده لا بحسب الواقع كما هو المدّعى. مضافا إلى شهادة التعليق على الوصف والتعليل في آية النبأ لذلك ، لأنّ التعليق به مشعر بعلّيته للحكم ، ولا ريب في عدم مدخليّة وصف الفسق فيما عدا احتمال تعمّد الكذب من الاحتمالات الأخر المتقدّمة. وأمّا التعليل فلتساوي خبر العادل والفاسق فيما عدا احتمال تعمّد الكذب من الاحتمالات المذكورة ، فلا يصلح التعليل بخوف الإصابة بجهالة أن يكون علّة لوجوب التثبّت في خبر الفاسق من حيث احتمال ما عدا تعمّد الكذب ، وإلّا لزم تعليل عدم جواز قبول خبر الفاسق بعلّة مشتركة بينه وبين خبر العادل ، وهو باطل بالبديهة.

ومن هنا قد ذكرنا في محلّه عدم جواز التمسّك بالآية على حجّية الإجماع المنقول بخبر العدل ، لأنّ المانع من قبول إخباره عنه ليس احتمال تعمّده للكذب ، بل احتمال خطائه في حدسه ، والآية لا تنفيه. وكذا قد ذكرنا عدم جواز التمسّك بها لجواز التمسّك بالعمومات قبل الفحص عن مخصّصاتها ، كما يظهر من صاحب الوافية وشارحه السيّد الصدر ، لأنّ المانع منه هو العلم الإجمالي بالتخصيص المسقط لها عن الظهور في العموم ، لا احتمال تعمّد الكذب من الراوي حتّى ينفي بالآية ، ولا لحجّية فتوى المجتهد لمقلّديه ، كما نقله بعض مشايخنا عن بعض معاصريه ، لأنّ المانع هنا أيضا هو احتمال الخطأ في الاجتهاد ، لا احتمال تعمّده للكذب في قوله : رأيي كذا.

ومع الإغماض عن جميع ما قدّمناه ، وتسليم دلالة الأدلّة المتقدّمة على تصديق خبر العادل في الموضوعات كما هو محلّ الكلام ، لأنّ الكلام في تصديقه في الأحكام قد تقدّم عند الكلام في حجّية خبر الواحد ، نقول : إنّها معارضة بما دلّ على حليّة محتمل الحرمة وطهارة محتمل النجاسة ما لم تقم على حرمته أو نجاسته بيّنة ، فإنّه يقتضي عدم حجّية خبر العدل الواحد فيه ، منها رواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفيها بعد الحكم بإباحة محتمل الحرمة : «والأشياء كلّها على

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة». ومنها رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال : «قال : كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك بأنّ فيه ميتة» إلى غير ذلك ممّا يقرب منها. فهذه الأخبار مقيّدة لإطلاق الأدلّة المتقدّمة.

ودعوى كون البيّنة في الاولى منها أعمّ من العدل الواحد فاسدة ، إمّا لكونها حقيقة شرعيّة في العدلين ، أو كون ذلك مرادا منها جزما ولو مجازا ، مضافا إلى صراحة الرواية الثانية فيه ، ولا بدّ أن يكون ذلك مرادا من الاولى أيضا ، لأنّ الأخبار يكشف بعضها عن بعض.

ولكن يدفع هذا الوجه أنّ غاية ما تدلّ عليه الأخبار المذكورة عدم حجّية خبر العدل في محتمل الحرمة أو النجاسة ، فيؤخذ بعموم الأدلّة المتقدّمة في غيرهما. ولا يمكن إتمام الدلالة بعدم القول بالفصل ، لعدم الثبوت ، ولا بالفحوى ، لعدم الأولويّة ، لاحتمال كون العلّة في عدم اعتبار قول العدل الواحد في محتمل الحرمة والنجاسة هي التوسعة من الشارع للمكلّفين فيهما ، فلا يلزم من عدم اعتبار قوله فيهما عدمه في غيرهما ، فضلا عن أن يكون ذلك على وجه الأولويّة.

ثمّ إنّه لا ينافي ما ذكرناه من الكلّية ـ وهو عدم حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات ـ ثبوت اعتباره في بعض الموارد الخاصّة. وقد جمع الشهيد الثاني في خاتمة باب التعارض من تمهيد القواعد موارد يقبل في بعضها قول العدل الواحد ، وفي بعض آخر قول غير العدل أيضا ، وفي ثالث قول النساء أيضا.

قال : «أمّا الأوّل ، فمنها : إخبار العدل الواحد بهلال رمضان على قول بعض الأصحاب. ومنها : إخباره بعزل الموكّل الوكيل ، فإنّه كاف وحده ، كما دلّت عليه صحيحة هشام بن سالم. ومنها : إخباره بدخول وقت الصلاة والفطر للمعذور ، كالأعمى والمحبوس ومن لا يعلم الوقت ولا يقدر على التعلّم ، إمّا مطلقا أو مع تعذّر العدلين. ومنها : إخباره إذا كان مؤذّنا بدخول الوقت بالأذان للمعذور كما

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مرّ قطعا ، أو لغيره أيضا على قول المحقّق وبعض الأصحاب ، استنادا إلى قوله عليه‌السلام : «المؤذّنون أمناء» ولا تتحقّق الأمانة إلّا مع قبول قولهم. ومنها : إخباره بكون الجدي من المستقبل على الجهة الموجبة للقبلة ، ونحوه من العلامات. ومنها : إخباره بوصول الظلّ إلى محلّ يعلم المخبر بأنّه يوجب دخول الوقت على قول بعض الأصحاب ، وإن لم يجز تقليده في أصل دخول الوقت.

وأمّا الثاني ، فمنها : إخبار ذي اليد بطهارة ما بيده بعد العلم بنجاسته ، أو بالعكس. ومنها : قبول قول الأمناء ونحوهم ممّن يقبل قوله في تلف ما اؤتمن عليه من مال وغيره.

وأمّا الثالث ، فمنها : قبول قول المعتدّة في انقضاء عدّتها بالأقراء ولو في شهر واحد ، سواء كانت عادتها منتظمة لا تخالف ذلك أم لا ، وإخبارها بابتداء الحيض بها وانقطاعه عنها بعد العلم بخلافه ما لم يعلم كذبها ونحو ذلك ، وهو كثير جدّا. ومنها : ادّعاء المطلّقة ثلاثا التحليل في وقت إمكانه مطلقا ، أو مع كونها ثقة على رواية ، أو إصابة المحلّل وإن أنكرها على الأقوى» انتهى.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت عدم الدليل على أصالة حجّية قول العدل الواحد في الموضوعات ، بقي الكلام في أصالة حجّية قول العدلين في غير باب المرافعات ، للإجماع القطعي على اعتبار البيّنة فيه. وليعلم أنّ الكلام هنا في مقامين : أحدهما : بيان الدليل على أصالة حجّية قول البيّنة في جميع الموارد إلّا ما أخرجه الدليل. والآخر : أنّه بعد إثبات هذه الكلّية إذا شكّ في اعتبار الزائد على العدلين ، هل يمكن نفيه بهذه الكلّية أم لا؟ المشهور في المقامين هو القول بالموجب ، كما يظهر بالتتبّع في أبواب الفقه ، ولذا تراهم في كثير من المقامات يعلّلون الثبوت بالبيّنة بأنّها حجّة شرعيّة قائمة مقام العلم ، مع عدم ورود النصّ بها في كثير منها ، بل إرسال الأصحاب هذه المسألة إرسال المسلّمات وتعليلاتهم بعموم حجّية البينة يوضح ما ذكرناه غايته. بل ادّعى بعضهم لأجل هذه القرائن الإجماع المحصّل في هذه

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

المقامات فضلا عن تحقّق الشهرة. وبالجملة ، لا إشكال في اشتهار كون البيّنة من القواعد المتلقّاة من الشارع.

نعم ، ربّما يحكى خلاف ذلك عن جماعة ـ منهم عبد العزيز بن البرّاج ، والشيخ في خلافه ، والمحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، والفاضل الكاشاني والوحيد البهبهاني والنراقي في باب الطهارة والنجاسة ، ـ قالوا بعدم ثبوت النجاسة بقول العدلين ، لعدم الدليل على اعتباره عموما ، والحكم فيها معلّق على العلم ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر». ومنهم السيّد في الذريعة ، والمحقّق الأوّل في المعارج ، والثاني في الجعفريّة وصاحب الوافية ، حيث قالوا بعدم ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين ، لعدم الدليل على اعتبارها مطلقا. ومنهم المولى المقدّس الأردبيلي في إخبار العدلين بطلوع الفجر في شهر رمضان.

والحقّ ما هو المشهور. ولنا على المقامين وجوه من الأدلّة :

أحدها الإجماع المحكيّ (*) المعتضد بالشهرة المحقّقة ، بل ربّما تدّعى استفاضته.

الثاني : قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

فإن قلت : قد تقدّم أنّ المراد به التصديق الصوري دون الواقعي ، كما هو المطلوب في قبول شهادة العدلين.

قلت : لا شكّ أنّ الظاهر من الإيمان ـ المفسّر في الأخبار بالتصديق ـ هو التصديق الواقعي ، فلمّا لم يمكن إبقائه على ظاهره ، لمنافاته لمورد نزوله ، لما تقدّم من نزوله في المنافق النمّام ، يحمل على إرادة المعنى الأعمّ منه ومن التصديق الواقعي ، لأنّه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذّرها. فحيث تمكن إرادة التصديق الواقعي فهو المتعيّن فيه ، وحيث لا تمكن ـ كما في موردها ـ يراد به التصديق الصوري. ولا يلزم منه

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «قوله : أحدها : الإجماع المحكيّ .... حكاه في العناوين ، بل هو من جملة المدّعين. وحكي أيضا اتّفاق الأصحاب عن طوالع الأنوار للمولى الوحيد السيّد باقر الاصبهاني. منه».

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

استعمال اللفظ في معنيين ، لأنّ المراد بها المعنى الأعمّ. والاختلاف إنّما جاء من اختلاف الموارد ، وهو لا يوجب الاختلاف في المفهوم المستعمل فيه اللفظ.

فإن قلت : يلزمه قبول قول العدل الواحد أيضا ، بل الفاسق والمنافق أيضا حيث لا يعلم كذبه كما في مورد الآية.

قلت : تخصّص عموم الآية بما دلّ على عدم اعتبار قولهم من رواية مسعدة بن صدقة وعبد الله بن سليمان كما تقدّم. وستعرف زيادة توضيح لذلك.

الثالث : قوله عليه‌السلام : «إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم». ومثله آخر ، وقد تقدّما ، بتقريب أنّ مقتضى تعليق وجوب التصديق والقبول على شهادة المسلمين اعتبار شهادة الجميع في القبول ، قضيّة لظاهر الجمع المعرّف المفيد للإحاطة والاستغراق الأفرادي ، وهو خلاف الإجماع. وبعد تعذّر الحقيقة إمّا أن يحمل على إرادة الماهيّة والجنس الصادق على الواحد والمتعدّد ، كما هو الظاهر بعد انسلاخ المعنى الحقيقي ، أو إرادة الجمعيّة في الجنس ، بأن تراد شهادة الجماعة من المسلمين بأيّ مرتبة اتّفقت من مراتب الجمع ، أو إرادة الطبيعة في ضمن فردين ـ أعني : عدلين ـ من المسلمين. ولا سبيل إلى ما عدا الأخير.

أمّا الأوّل فلكونه خلاف الإجماع ، سيّما في مورد الرواية ، أعني : الشهادة على شرب الخمر. ولا يجوز تخصيص المورد ، ومع التسليم يلزم تخصيص الأكثر كما تقدّم.

وأمّا الثاني فلعدم اعتبار الاستفاضة في موردها ، وإن اعتبرت في موارد خاصّة ذكرها الشهيد الثاني في باب القضاء والشهادات من الروضة. ودعوى أنّ المراد بالتصديق في الروايتين هو التصديق الصوري قد عرفت المناص منها عند الاستدلال بالآية. وممّا يومي إلى ما ذكرناه هو التعبير بالشهادة المشعر بإرادة شهادة العدلين ، فتأمّل.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ السيّد السند سيّد مشايخ المصنّف رحمه‌الله قال في المناهل : «سمعت من الوالد دام ظلّه العالي وجود رواية دالّة على حجّية شهادة العدلين مطلقا» انتهى. وفيه دلالة على عدم وقوفه على الرواية العامّة.

الرابع : روايتا مسعدة وابن سليمان المتقدّمتان. والتقريب فيهما : أنّهما إنّما دلّتا على اعتبار البيّنة في الشبهات الموضوعيّة ممّا دار الأمر فيه بين الحليّة والحرمة أو الطهارة والنجاسة ، فيتعدّى إلى غير موردهما من الشبهات الموضوعيّة بالفحوى ، لتوسعة الشارع للمكلّفين في باب الحليّة والحرمة والطهارة والنجاسة ، حيث اكتفي منهم في الحكم بالحليّة والطهارة بعدم العلم بمقابلتهما ، ومع ذلك قد اعتبر البيّنة الموجبة للتضييق في الجملة في إثبات مقابلتهما ، فيثبت اعتبارها في غيرهما ممّا فيه الضيق بالنسبة إليهما بالأولويّة.

الخامس : آية النبأ بناء على تماميّة دلالتها مفهوما ، وصفا أو شرطا ، فإنّها تدلّ حينئذ على اعتبار قول العدل مطلقا ، ولكنّه يقيّد بما دلّ على عدم اعتبار قول العدل الواحد ، فيبقى غيره تحت إطلاقه.

السادس : التعليلات الواردة في جملة من الأخبار ، منها : ما رواه في الفقيه عن الفضل بن شاذان في بيان العلل التي لأجلها أمر المكلّفون بالأذان ، وفيها : «وجعل بعد التكبير الشهادتان ، لأنّ أوّل الإيمان التوحيد ، والإقرار لله تبارك وتعالى ، والإقرار للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، وأنّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان. ولأنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان ، فجعل شهادتين شهادتين كما جعل في سائر الحقوق شاهدان ، فإذا أقرّ العبد لله عزوجل بالوحدانيّة ، وأقرّ للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة ، فقد أقرّ لجملة الإيمان ، لأنّ أصل الإيمان إنّما هو لله ولرسوله» الحديث.

ومنها : ما رواه إسماعيل بن أبي حنيفة عن أبي حنيفة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف صار القتل يجوز فيه شاهدان ، والزنا لا يجوز فيه إلّا أربعة شهود ، والقتل

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

أشدّ من الزنا؟ فقال : لأنّ القتل فعل واحد والزنا فعلان ، فمن ثمّ لا يجوز إلّا أربعة شهود ، على الرجل شاهدان وعلى المرأة شاهدان».

وروى الشيخ عن علي بن إبراهيم مثله. قال الكليني : «ورواه بعض أصحابنا عنه عليه‌السلام. قال : فقال عليه‌السلام لي : ما عندكم يا أبا حنيفة؟ فقلت : ما عندنا فيه إلّا حديث عمر : إنّ الله أخذ في الشهادة كلمتين على العباد. قال : فقال لي : ليس كذلك يا أبا حنيفة ، ولكنّ الزنا فيه حدّان ، ولا يجوز إلّا أن يشهد كلّ اثنين على واحد ، لأنّ الرجل والمرأة جميعا عليهما الحدّ ، والقتل إنّما يقام على القاتل ، ويدفع عن المقتول». قوله : «ولكنّ الزنا فيه حدّان ...» ، أقول : لعلّه مبنيّ على الغالب ، وإلّا فربّما لا يثبت في الزنا إلّا حدّ واحد ، كما إذا صدر الفعل عن أحدهما عن جبر وإكراه لا عن رضا واختيار.

وفي هذه الأخبار دلالة على المقام الثاني أيضا. وأمّا دلالتها على المقام الأوّل فلا ، لورودها في الحقوق التي يتوقّف ثبوتها على حكم الحاكم. وقد تقدّم خروج باب القضاء من محلّ الكلام ، لقيام الإجماع وورود الأخبار المتكاثرة على اعتبارها فيه. وإنّما الكلام في إثبات اعتبارها في سائر الموارد ، من أبواب النجاسة ومعرفة الوقت والقبلة ونحوها ممّا لا دخل له في الترافع عند الحاكم.

وقد حكي عن طوالع الأنوار للسيّد السديد محمّد باقر الأصبهاني الاستدلال على المدّعى بما رواه في الكافي عن يونس عمّن رواه قال : «استخرج الحقوق بأربعة وجوه : بشهادة رجلين عدلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، فإن لم يكونا امرأتين فرجل ويمين المدّعي ، وإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقّه ، وإن أبى فلا شيء عليه».

ويمكن توجيهه ـ مع اختصاصها أيضا بالحقوق ـ بأنّ المقصود بيان أنّ الشبهة في الحقوق تدفع بما جعله الشارع طريقا لدفع الشبهة مطلقا من الوجوه

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الأربعة ، فتدلّ على اعتبار البيّنة كأخواتها في غير مقام الترافع أيضا.

فإن قلت : إنّ اليمين لا يعتبر من دون ضميمة حكم الحاكم ، فلا بدّ أن يكون المراد بيان اعتبار البيّنة أيضا في مقام الترافع خاصّة ، إبقاء للوجوه الأربعة على نسق واحد.

قلت : إنّ هذا خلاف ظاهر الرواية ، وقد خرجنا منه في خصوص اليمين بالدليل ، فبقي اعتبار البيّنة على إطلاقه. ويؤيّده ما رواه في الوسائل عن داود بن الحصين ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا شهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيّرها كيف شئت ، ورتّبها وصحّحها بما استطعت ، حتّى يصحّ الشيء لصاحب الحقّ بعد أن لا تكون تشهد إلّا بحقّه ، ولا تريد في نفس الحقّ ما ليس بحقّ ، فإنّما الشاهد يبطل الحقّ ويحقّ الحقّ ، وبالشاهد يوجب الحقّ ، وبالشاهد يعطى ، وأنّ للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكلّ ما يجد إليه السبيل ، من زيادة الألفاظ والمعاني ، والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحقّ ويصحّحه ، ولا يؤخذ به زيادة على الحقّ ، مثل أجر الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله» لأنّها ظاهرة في استناد ثبوت الحقّ إلى نفس البيّنة من دون مدخليّة حكم الحاكم ، فهي دليل على ثبوت الحقّ بها قبل حكمه ، وإن كان له نقضه قبله.

وأمّا احتمال اختصاص ذلك بالحقوق ، نظرا إلى ورودها فيها ، فمع الإغماض عمّا عرفت في سابقتها أنّه يمكن دعوى عدم الفرق إن لم نقل بأولويّة غيرها بذلك ، كما يظهر من المحكيّ عن الفاضل الهندي في مسألة ثبوت النجاسة بشهادة العدلين.

السابع : بناء العقلاء على اعتبار البيّنة مطلقا ، وكون ذلك أمرا مركوزا في أذهانهم ممّا لا يقابل بالإنكار.

الثامن : الاستقراء ، لتلقّي العلماء لاعتبار البيّنة في جميع أبواب الفقه بالقبول ، مضافا إلى ثبوت اعتبارها في أغلبها بالنصّ والإجماع. وإنكار بعضهم لها في باب

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

النجاسة ودخول الوقت ـ مع دلالة النصّ على خلافه ـ غير مضرّ في المقام. ومرجع هذا الاستقراء في الحقيقة إلى الاستقراء في الأدلّة من الإجماعات والنصوص ، فلا يرد أنّ الاستقراء لا يثبت به حكم شرعيّ ، لأنّ ذلك إنّما هو فيما كان الاستقراء في غير الأدلّة ، كما أشرنا إليه في غير موضع ، وإلّا فلا فرق بين استفادة الحكم من دليل واحد وبين استفادته من أدلّة متعدّدة ، لعموم أدلّة اعتبارها.

التاسع : ما ذكره النراقي قال : «ويدلّ على المطلوب أيضا الأخبار الغير المحصورة المصرّحة بجواز شهادة المملوك ونفوذها قبل العتق وبعده والمكاتب ، والصبيّ بعد الكبر ، واليهودي والنصراني بعد الإسلام ، والخصيّ والأعمى والأصمّ والولد والوالد والوصيّ والشريك والأجير والصديق والضعيف ، والمحدود إذا تاب ، والعدل والمولود على الفطرة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة مدوّنة في أبواب متكثّرة.

وجه الدلالة : أنّها تدلّ بإطلاقها بل عمومها ـ لمكان المفرد المضاف والمعرّف ـ على قبول كلّ شهادة من كلّ هؤلاء المذكورين ، سواء كانت في مقام التنازع والترافع أو لا ، وسواء كان كلّ منهم منفردا أو متعدّدا ، اثنين أو أكثر ، خرج المنفرد بما يأتي فبقي الاثنان فما زاد. ثمّ قبول شهادة شخص ونفوذها وإن كان أعمّ من أن يجعل علّة تامّة للحكم بمقتضاها أو علّة ناقصة وجزء علّة ، إلّا أنّه ليس المراد كونها جزءا لما يفيد العلم قطعا ، إذ لا فرق في جزء ما يفيد العلم بين هؤلاء المذكورين وغيرهم. ولا معنى للتقييد بما قيّد به أكثر هذه الموارد من معرفة الصلاح أو الخيريّة أو العدالة أو العتق أو الإسلام أو البلوغ أو انضمام الغير ، أو كونه مرضيّا أو نائبا أو نحو ذلك. فيكون إمّا قبوله من حيث التماميّة أو الجزئيّة لغير العلم. وكلّ من يقول بصلاحيّته لجزئيّة العلّة لا يقول باشتراط الأزيد من الاثنين في غير الزنا ، فيحصل المطلوب بالإجماع المركّب القطعي.

فإن قيل : السائل والمسئول عنه في جميع تلك الأخبار إنّما هو في مقام بيان حكم آخر دون إطلاق الحكم أو عمومه ، فلا يفيد إلّا قبول شهادة هؤلاء في

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الجملة ، ولا كلام فيه.

قلنا : قد مرّ في بعض العوائد المتقدّمة قريبا أنّ ذلك لا يضرّ في إطلاق اللفظ المطلق أو العامّ على سبيل الإطلاق ، وإنّما هو في بعض الموارد الذي ليس هنا منه» انتهى.

وحاصل ما ذكره في بعض العوائد المتقدّمة : أنّا إن قلنا بعموم المطلق من باب دليل الحكمة فالعمل بعمومه إنّما هو فيما لم يحتمل المقام لفائدة اخرى سوى بيان حكم المطلق ، وإلّا احتمل ورود الكلام لبيان هذه الفائدة ، كما في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) لوروده لبيان حليّة ما يصيده الكلب ، لا من حيث بيان وجوب غسل موضع العضّ وعدمه ، وإن قلنا بعمومه من باب السّريان وتعلّق الحكم بالطبيعة المأخوذة في ضمن كلّ فرد ، فيتحقّق الحكم في ضمن الجميع.

والحقّ في الحكم بالعموم حينئذ اشتراطه بعدم العلم بعدم كون الكلام منساقا لبيان حكم الطبيعة ، ولا يشترط بالعلم بكونه منساقا لذلك ، وإلّا لا يحكم بالعموم ، لعدم تعلّق الحكم بالطبيعة حينئذ. فلو قال : خذ هذه الدراهم واشتر لي لحم الغنم ، فذهب المأمور واشترى الخبز ، فقال له الآمر : إنّي أمرتك باشتراء اللحم وأنت اشتريت الخبز ، لا يكون قوله : إنّي أمرتك باشتراء اللحم ، مطلقا معارضا لقوله : اشتر لحم الغنم ، لأنّ قرينة المقام دالّة على أنّ مراده ليس بيان إرادة طبيعة اللحم ، بل أراد به نفي إرادة الخبز ، فلا يمكن الاستدلال به على ثبوت الحكم لجميع الأفراد. هذا ملخّص كلامه ومحصّل مرامه.

وأقول : إنّ تحقيق المقام وإن كان كما ذكره في الحكم بالعموم من باب السراية ، إلّا أنّ القرينة قائمة في الأخبار ـ التي ادّعي إطلاقها أو عمومها في المقام ـ على ورودها في مقام بيان حكم آخر ، أعني : بيان تشريع شهادة هؤلاء الجماعة المذكورين ، لأنّ السؤال في هذه الأخبار طرّا عن أصل جواز شهادة هؤلاء ، لا عنها بحسب الموارد خصوصا أو عموما بعد الفراغ من أصل جوازها ، وهذا ما لا يقابل

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإنكار. وبالجملة ، إنّ عموم اعتبار البيّنة أوضح من أن يتمسّك فيه بمثل هذه الإطلاقات ، وفيما قدّمناه كفاية ، والمعاند لا يكفيه ألف حكاية.

نعم ، بقي في المقام إشكال من جهة اخرى ، وهو أنّ غاية ما يستفاد من الأدلّة المذكورة هو وجوب تصديق البيّنة من حيث الصدق المخبري دون الخبري ، على ما أشرنا إلى الفرق بينهما سابقا ، فغاية ما تدلّ عليه هذه الأدلّة نفي احتمال تعمّد الكذب في شهادة العدلين ، لا نفي الغفلة والسهو والنسيان ونحوها في المقدّمات اعتقادهما ، حتّى ينزّل المشهود به منزلة الواقع فيما كانت شهادتهما مبنيّة على الاعتقاد النظري دون الحسّي. فالأدلّة المذكورة مع تطرّق هذا الاحتمال لا تدلّ على اعتبار البيّنة. ولا يوجد مورد يخلو من جميع هذه الاحتمالات ، وإن وجد فنادر ، فأمّا اللفظيّة منها فلما أشرنا إليه عند بيان اعتبار شهادة العدل الواحد من ظهورها في نفي احتمال تعمّد الكذب خاصّة ، وأمّا غير اللفظيّة منها ـ من بناء العقلاء والاستقراء ـ فلأنّ ما ذكرناه هو المتيقّن منهما ، وأمّا دفع الاحتمالات المزبورة بالاصول فلا يعوّل عليه ، لكونها مثبتة في المقام.

ولعلّ ما ذكرناه هو الوجه في عدم اعتداد العلماء بشهادة العدلين في التقويمات والأروش والجنايات ، حيث اعتبروا فيها كونهما من أهل الخبرة. وكذا قد اعتبروا في باب الرواية بعد اعتبار عدالة الراوي كونه ضابطا ، لأنّ الشبهة في قبول قول الغير في هذه الأبواب ليست من حيث احتمال تعمّد الكذب ، حتّى ينفي بالأدلّة المتقدّمة على اعتبار قول البيّنة أو العدل الواحد ، بل من حيث احتمال الخطأ في الاجتهاد والنظر في التقويمات والسهو والنسيان في الرواية ، والأدلّة المذكورة لا تنفيها. وإن شئت قلت : إنّ اشتراطهم الخبرة والضبط في التقويم والرواية ليس من باب تخصيص أدلّة اعتبار قول البيّنة أو العدل الواحد ، بل من باب عدم شمول أدلّة اعتبار قولهما لقبول قول غير أهل الخبرة وغير الضابط.

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى ما ذكرناه إذا أخبرت البيّنة عن وقوع بيع أو غيره من العقود والإيقاعات ممّا اختلف فيه آراء الأصحاب ، أو عن طهارة ماء مخصوص في الخارج ، أو عن كون يوم معيّن أوّل شهر ، واحتمل كون الشهادة في الأوّل مبنيّة على اعتقاد الصحّة ، ولعلّنا لا نقول بصحّته لو اطّلعنا على اعتقاد البيّنة ، وفي الثاني على اعتقاد طهارة الماء القليل وعدم انفعاله بالملاقاة كما هو رأي بعض الأصحاب ، وقلنا بانفعاله بها ، وفي الثالث على الاجتهاد في علم النجوم ، وقلنا بكون الحكم في أوّل الشهر منوطا بالرؤية كما في قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» لا تسمع هذه الشهادات ، لعدم اندفاع الاحتمالات المذكورة بأدلّة اعتبارها. وهكذا في غير ذلك من الموارد التي احتمل ابتناء شهادة البيّنة على الاعتقاد النظري ، واحتملنا خطأه في بعض مقدّمات اعتقاده.

هذا ، ويمكن دفع هذا الإشكال ببناء العقلاء على عدم الالتفات إلى احتمال السهو والنسيان في الخطابات والأقارير والشهادات. وأمّا احتمال الخطأ في الاجتهاد في النظريّات ، فإن كان المشهود به ممّا لا يحتمل الاجتهاد فيه ، أو علم من حال الشاهد عدم بناء شهادته على الاجتهاد والنظر ، أو احتمل ذلك فيه لكن كان اجتهاده معتبرا عندنا أيضا ، فلا إشكال فيه.

وأمّا في غير ذلك فيمكن دفع الإشكال عنه من وجوه :

أحدها : أن يحمل المشهود به على الصحّة بعد ثبوت أصله بشهادة البيّنة ، فإنّها إذا شهدت بوقوع معاملة ، واحتملنا ابتناء شهادته على اعتقاد صحّته لأجل اجتهاده فيها كذلك ، وقلنا بعدم صحّتها على تقدير وقوعها على طبق ما زعمته البيّنة ، فأدلّة اعتبار قول البيّنة تدلّ على وقوع هذه المعاملة في الجملة ، لاندفاع احتمال تعمّد الكذب بهذه الأدلّة ، واحتمال السهو والنسيان ببناء العقلاء ، فإذا ثبت وقوعها في الجملة وتردّدت بين الصحيحة والفاسدة نحملها على الصحيحة ، حملا لفعل المسلم على الصحيح.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا الوجه لا يطّرد ، لاختصاصه بما كان من قبيل ذلك ، بأن كان فعلا محتملا للصحّة والفساد ، وكانت شهادة البيّنة مبنيّة على الاعتقاد الناشئ من الاجتهاد والنظر ، بخلاف ما لو شهدت بكون يوم معيّن أوّل شهر ، أو بطهارة ماء مخصوص كما تقدّم. ومرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في صحّة اعتقاد البيّنة وعدم خطائها في بعض مقدّمات اعتقادها ، فلا مسرح لقاعدة الحمل على الصحّة في مثله. اللهمّ إلّا أن يحمل اعتقاد البيّنة على الصحّة ، بناء على جريان القاعدة في الاعتقادات.

وثانيها : أن يحمل إقدام البيّنة على الشهادة وتعرّضها لها على الصحّة ، لأنّه أيضا فعل من أفعال المسلم منقسم إلى الصحيح والفاسد ، فيحمل الفرد المشكوك فيه منه على الصحّة. والفرد الصحيح منه ما كان ممضى عند الشارع وترتّب الأثر على ما أقدمت عليه ، والفاسد ما لم يكن كذلك.

وثالثها : أنّ المعتبر في الشهادة لما كان ما وقع على وجه الجزم واليقين دون الظنّ والتردّد ، فظاهر الشهادة على وجه الجزم استنادها إلى الحسّ دون النظر والاجتهاد ، لندرة حصول القطع منه ، فحينئذ يؤخذ بظاهرها ، ولا يلتفت إلى احتمال ابتنائها على الاجتهاد.

ولكن يشكل ذلك بمنع ندرة حصول اليقين من الأدلّة الاجتهاديّة ، لأنّه إن اريد به اليقين الوجداني فهو متّجه ، إلّا أنّه لا دليل على اعتباره في جواز شهادة الشاهد ، لأنّ الأدلّة الاجتهاديّة إذا ثبت اعتبارها شرعا أفادت اليقين الشرعي ، وجاز للشاهد بناء شهادته عليه ، وإن لم تكن معتبرة شرعا فعدالته مانعة من الاقتحام في الشهادة من دون مستند شرعيّ.

ورابعها وهي العمدة في المقام : أنّ المشهود به إن كان من الامور التي لها أسباب نظريّة بحيث تكون الشهادة مستندة إليها غالبا ، وإن استندت إلى الحسّ في بعض الأحيان ، وجب على الحاكم حينئذ أن يسأل الشاهد عن السبب ، ولا يعتني

١٥٧

فالصحّة فيها تكون من وجهين : الأوّل : من حيث كونه حركة من حركات المكلّف ، فيكون الشكّ من حيث كونه مباحا أو محرّما. ولا إشكال في الحمل على الصحّة من هذه الحيثيّة. الثاني : من حيث كونه كاشفا عن مقصود المتكلّم.

والشكّ من هذه الحيثيّة يكون من وجوه : أحدها : من جهة أنّ المتكلّم بذلك القول قصد الكشف بذلك عن معنى أم لم يقصد ، بل تكلّم به من غير قصد لمعنى؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة من هذه الحيثيّة بحيث لو ادّعى كون التكلّم لغوا أو غلطا لم يسمع منه.

الثاني : من جهة أنّ المتكلّم صادق في اعتقاده ومعتقد بمؤدّى ما يقوله ، أم هو كاذب في هذا التكلّم في اعتقاده؟ ولا إشكال في أصالة الصحّة هنا ايضا. فإذا أخبر بشىء جاز نسبة اعتقاد مضمون الخبر إليه ، ولا يسمع دعوى أنّه غير معتقد لما يقوله. وكذا إذا قال : افعل كذا ، جاز أن يسند إليه أنّه طالبه في الواقع ، لا أنّه مظهر للطلب صورة لمصلحة كالتوطين أو لمفسدة. وهذان الأصلان ممّا قامت عليهما السيرة القطعيّة ، مع إمكان إجراء ما سلف من أدلّة تنزيه فعل المسلم عن القبيح في المقام. لكنّ المستند فيه ليس تلك الأدلّة.

______________________________________________________

بإطلاق الشهادة من دون ذكر السبب. وإن كان ممّا له أسباب نظريّة وحسيّة ، وكان الغالب استناد الشهادة إلى الحسيّة منها ، فالفرد المشكوك فيه يحمل على الغالب ، ولا يجب عليه السؤال عن السبب حينئذ ، لبناء العقلاء على هذه الغلبة في باب الشهادة في عدم الالتفات إلى احتمال استنادها إلى الأسباب الاجتهاديّة التي يحتمل فيها الخطأ.

ولعلّه إلى ذلك ينظر كلام الشهيد في قواعده ، لأنّه بعد الحكم بحمل إخبار المسلم على الصحّة قال : «يشترط في بعض الموارد هنا ذكر السبب عند اختلاف الأسباب ، كما لو أخبر بنجاسة الماء ، فإنّه يمكن أن يتوهّم ما ليس بسبب سببا وإن كانا عدلين. اللهمّ إلّا أن يكون المخبر فقيها يوافق اعتقاده اعتقاد المخبر. ومنه عدم قبول شهادة الشاهد باستحقاق الشفعة ، أو بأنّ بينهما رضاعا محرّما ، لتحقّق

١٥٨

الثالث : من جهة كونه صادقا في الواقع أو كاذبا. وهذا معنى حجّية خبر المسلم لغيره ، فمعنى حجّية خبره صدقه. والظاهر عدم الدليل على وجوب الحمل على الصحيح بهذا المعنى ، والظاهر عدم الخلاف في ذلك ؛ إذ لم يقل أحد بحجّية كلّ خبر صدر من مسلم ، ولا دليل يفي بعمومه عليه حتّى نرتكب دعوى خروج ما خرج بالدليل.

وربّما يتوهّم وجود الدليل العامّ من مثل الأخبار المتقدّمة الآمرة بوجوب حمل أمر المسلم على أحسنه ، وما دلّ على وجوب تصديق المؤمن وعدم اتّهامه عموما (٢٧١٧) ، وخصوصا قوله عليه‌السلام : " إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم" ، وغير ذلك ممّا ذكرنا في بحث حجّية خبر الواحد ، وذكرنا عدم دلالتها. مع أنّه لو فرض دليل عامّ على حجّية خبر كلّ مسلم ، كان الخارج منه أكثر من الداخل (٢٧١٨) ؛ لقيام الإجماع على عدم اعتباره في الشهادات ولا في الروايات إلّا مع شروط خاصّة ، ولا في الحدسيّات والنظريّات إلّا في موارد خاصّة ، مثل الفتوى وشبهها (٢٧١٩).

نعم يمكن أن يدّعى : أنّ الأصل في خبر العدل الحجّية ؛ لجملة ممّا ذكرناه في

______________________________________________________

الخلاف في ذلك ، وبأوّلية شهر ، أو بإرث زيد من عمرو ، أو بكفره ، والصور كثيرة». إلى أن قال : «وبالجملة ، لا ينبغي للشاهد أن يرتّب الأحكام على أسبابها ، بل وظيفته أن ينقل ما سمعه منها من إقرار أو عقد بيع أو غيره ، أو ينقل ما رآه ، وإنّما ترتيب المسبّبات وظيفة الحاكم ، فالشاهد سفير ، والحاكم متصرّف» انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهذا خلاصة الكلام في تحقيق عموم اعتبار قول البيّنة. وقد تقدّم في تضاعيف الأدلّة ما يدلّ على كفاية الاثنين في الشهادة ، بحيث يكون هذا أصلا في الباب يدفع به احتمال اعتبار العدد الزائد عليهما في بعض الموارد ، وبعد إثبات كفاية الشاهدين ثبت اعتبار الزائد عليهما بالأولويّة. والله العالم بحقيقة الحال.

٢٧١٧. أي : في جميع أفعاله وأقواله.

٢٧١٨. متعلّق بقوله «خرج».

٢٧١٩. كقول الطبيب وإخبار المقوّم عن القيمة ونحوهما.

١٥٩

أخبار الآحاد ، وذكرنا ما يوجب تضعيف ذلك ، فراجع.

وأمّا الاعتقادات ، فنقول : إذا كان الشكّ في أنّ اعتقاده ناش عن مدرك صحيح من دون تقصير عنه في مقدّماته ، أو من مدرك فاسد لتقصير منه في مقدّماته ، فالظاهر وجوب الحمل على الصحيح ؛ لظاهر بعض ما مرّ من وجوب حمل امور المسلمين على الحسن دون القبيح.

وأمّا إذا شكّ في صحّته بمعنى المطابقة للواقع ، فلا دليل على وجوب الحمل على ذلك ، ولو ثبت ذلك أوجب حجّية (٢٧٢٠) كلّ خبر أخبر به المسلم ؛ لما عرفت من أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر.

أمّا لو ثبت حجّية خبره : فقد يعلم أنّ العبرة باعتقاده بالمخبر به ، كما في المفتي وغيره ممّن يعتبر نظره في المطلب ، فيكون خبره كاشفا عن الحجّة لا نفسها. وقد يعلم من الدليل حجّية خصوص إخباره بالواقع ، حتّى لا يقبل منه قوله : اعتقد بكذا. وقد يدلّ الدليل على حجّية خصوص شهادته المتحقّقة تارة بالإخبار عن الواقع ، واخرى بالإخبار بعلمه به. والمتّبع في كلّ مورد ما دلّ عليه الدليل ، وقد يشتبه مقدار دلالة الدليل.

ويترتّب على ما ذكرنا (٢٧٢١) قبول تعديلات أهل الرجال المكتوبة في كتبهم وصحّة التعويل في العدالة على اقتداء العدلين.

المقام الثاني : في بيان تعارض الاستصحاب مع القرعة وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ، ومجمل القول فيها (٢٧٢٢):

______________________________________________________

٢٧٢٠. حاصله : أنّا إن قلنا بأصالة مطابقة اعتقاد المسلم للواقع ، وقد تقدّم أيضا أنّ الأصل في الخبر هو الكشف عن معتقد المخبر ، فلازم هاتين المقدّمتين حجّية كلّ خبر أخبر به المسلم ، وهو واضح.

٢٧٢١. لأنّ المناط في قبول تزكية أهل الرجال هو اعتقاد المزكّي بعدالة الراوي لا إخباره عن الواقع ، وحيث فرض كون الكتابة كالقول كاشفة عن الاعتقاد تحقّق فيها مناط قبول الشهادة بعدالة الراوي. ونحوه الكلام في مسألة الاقتداء.

٢٧٢٢. توضيح هذا الإجمال على ما يسعه المجال وتقتضيه الحال : أنّه لا إشكال

١٦٠