فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

وكذا الكلام في الظاهر والأظهر ؛ فإنّ دليل حجّية الأظهر يجعله قرينة صارفة عن إرادة الظاهر ، ولا يمكن طرحه لأجل أصالة الظهور ، ولا طرح ظهوره لظهور الظاهر ، فتعيّن العمل به وتأويل الظاهر به. وقد تقدّم في إبطال الجمع بين الدليلين ما يوضح ذلك. نعم ، يبقى الإشكال في الظاهرين اللذين يمكن التصرّف في كلّ واحد منهما بما يرفع منافاته لظاهر الآخر ، فيدور الأمر بين الترجيح من حيث (٢٨٨٦) السند وطرح المرجوح ، وبين الحكم بصدورهما وإرادة خلاف الظاهر في أحدهما.

فعلى ما ذكرنا ـ من أنّ دليل حجّية المعارض لا يجوز طرحه لأجل أصالة الظهور في صاحبه ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الأصل لا يزاحم الدليل ـ يجب الحكم في المقام بالإجمال ؛ لتكافؤ أصالتي الحقيقة في كلّ منهما مع العلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، فيتساقط الظهوران من الطرفين ، فيصيران مجملين بالنسبة إلى مورد

______________________________________________________

راجحا أو مأخوذا ومختارا على تقدير عدم رجحانه ، لأنّ الكلام في جواز تقديم الظاهر على النصّ دون العكس ، يدور الأمر حينئذ بين ظهور الظاهر وسند النصّ ، وحيث كان النصّ على تقدير القطع بسنده واردا على ظهور الظاهر ، فعلى التقدير ظنّيته كان دليل اعتباره حاكما عليه.

وإن كانا من قبيل الظاهر والأظهر ، كالعامّ والخاصّ المطلقين مع عدم نصوصيّة الخاصّ ، فهما كسابقهما ، إلّا أنّه مع دوران الأمر هنا بين الظاهر وسند الأظهر لا يكون دليل اعتبار سند الأظهر حاكما على أصالة الحقيقة في الظاهر ، بل كان تقديمه عليه من باب تقديم أقوى الدليلين على الآخر ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله ، لكون الأظهر من حيث قوّة دلالته أقوى من صاحبه.

وإن كانا من قبيل العامّين من وجه ، فحيث كان دليل اعتبار كلّ منهما صالحا للحكومة على ظهور الآخر يتعارضان ، وحينئذ إمّا يتساقطان ويرجع إلى مقتضى الاصول ، أو يلتمس الترجيح بالمرجّحات السنديّة على الوجهين في المسألة ، على ما أوضحه المصنّف قدس‌سره.

٢٨٨٦. يعني : في مورد التعارض خاصّة.

٣٤١

التعارض ، فهما كظاهري مقطوعي الصدور أو ككلام واحد تصادم فيه ظاهران.

ويشكل بصدق التعارض بينهما عرفا ودخولهما في الأخبار العلاجيّة ؛ إذ تخصيصها بخصوص المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما إلّا بإخراج كليهما عن ظاهرهما خلاف الظاهر ، مع أنّه لا محصّل للحكم بصدور الخبرين والتعبّد بكليهما ؛ لأجل أن يكون كلّ منهما سببا لإجمال الآخر ، ويتوقّف في العمل بهما فيرجع إلى الأصل ؛ إذ لا يترتّب حينئذ ثمرة على الأمر بالعمل بهما. نعم ، كلاهما دليل واحد (٢٨٨٧) على نفي الثالث ، كما في المتباينين.

وهذا هو المتعيّن ؛ ولذا استقرّت طريقة العلماء على ملاحظة المرجّحات السنديّة في مثل ذلك ، إلّا أنّ اللازم من ذلك وجوب التخيير بينهما عند فقد المرجّحات ، كما هو ظاهر آخر عبارتي العدّة والاستبصار المتقدّمتين ، كما أنّ اللازم على الأوّل التوقّف من أوّل الأمر والرجوع إلى الأصل إن لم يكن مخالفا لهما ، وإلّا فالتخيير من جهة العقل ، بناء على القول به في دوران الأمر بين احتمالين مخالفين للأصل ، كالوجوب والحرمة.

______________________________________________________

٢٨٨٧. لا يخفى أنّ هذه الثمرة تكفي في الأمر بالتعبّد بهما ، وإن كانت عاقبة الأمر الحكم بإجمالهما والرجوع إلى الأصل الموافق لأحدهما ، بل يمكن منع لزوم ترتّب الثمرة على جعل اعتبار الخبرين المتعارضين ، لأنّ ذلك إنّما يلزم على تقدير اعتبارهما بالخصوص ، لا على تقدير اعتبارهما بعموم أدلّة اعتبارهما. ونظير ما نحن فيه جميع القواعد والاصول التي قد يتعارض مؤدّى بعضها في بعض الموارد كالشبهة المحصورة وغيرها ، لأنّ تعارض استصحابي الطهارة فيها لا يمنع شمول أدلّة الاستصحاب لكلّ من المشتبهين من حيث أنفسهما ، وغاية الأمر أن يكون تعارضهما موجبا للتساقط لا مانعا من أصل اعتبارهما ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله في بعض كلماته.

نعم ، قد يظهر منه في بعض آخر من كلماته عدم شمول أدلّة اعتبار الاصول لموارد العلم الإجمالي ، لكن لا لأجل عدم ترتّب ثمرة عليه ، بل من أجل عدم إمكان شمول أدلّتها لكلّ من المتعارضين ، ولا لأحدهما بعينه ولا لا بعينه ، كما قرّره في تعارض الاستصحابين ، فراجع.

٣٤٢

وقد أشرنا سابقا إلى أنّه قد يفصّل في المسألة بين ما إذا كان لكلّ من المتعارضين (٢٨٨٨) مورد سليم عن التعارض ، كما في العامين من وجه ؛ حيث إنّ الرجوع إلى المرجّحات السنديّة فيهما على الإطلاق يوجب طرح الخبر المرجوح في مادّة الافتراق ولا وجه له ، والاقتصار في الترجيح بها على (*) خصوص مادّة الاجتماع التي هي محلّ المعارضة وطرح المرجوح بالنسبة إليها مع العمل به في مادّة الافتراق ، بعيد عن ظاهر الأخبار العلاجيّة ، وبين ما إذا لم يكن لهما مورد سليم ، مثل قوله : " اغتسل للجمعة" الظاهر في الوجوب ، وقوله : " ينبغي غسل الجمعة" الظاهر في الاستحباب ، فيطرح الخبر المرجوح رأسا لأجل بعض المرجّحات.

لكنّ الاستبعاد المذكور في الأخبار العلاجيّة إنّما هو من جهة أنّ بناء العرف في العمل بأخبارهم من حيث الظنّ بالصدور ، فلا يمكن التبعيض في صدور العامّين من وجه من حيث مادّتي الافتراق والاجتماع ، كما أشرنا سابقا إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل.

وأمّا إذا تعبّدنا الشارع بصدور الخبر الجامع للشرائط ، فلا مانع من تعبّده ببعض مضمون الخبر دون بعض. وكيف كان فترك التفصيل أوجه منه ، وهو أوجه من إطلاق إهمال المرجّحات.

وأمّا ما ذكرنا في وجهه من عدم جواز طرح دليل حجّية أحد الخبرين لأصالة الظهور في الآخر ، فهو إنّما يحسن إذا كان ذلك الخبر بنفسه (٢٨٩٠) قرينة على

______________________________________________________

٢٨٨٨. يعني «** و***» : بالعموم من وجه.

٢٨٨٩. يعني «** و***» : من قبيل التبعيض في السند. وحاصل ما ذكره في المقام : أنّ الأخبار المتعارضة العرفيّة المعتبرة عندهم من باب الظنّ ، كما لا يمكن التبعيض فيها بحسب الصدور ، كذلك الأخبار المتعارضة في الشرعيّات المعتبرة من باب الظنّ شرعا.

٢٨٩٠. وهذا إنّما يتمّ فيما كان ذلك الخبر نصّا أو أظهر بالنسبة إلى الآخر ،

__________________

(*) فى بعض النسخ بدل «علي» : في.

(** و***) هاتان التعليقتان على عبارة زائدة وردت في بعض النسخ ، وهي : «كما أشرنا سابقا إلى أنّ الخبرين المتعارضين من هذا القبيل». انظر فرائد الاصول (طبعة مجمع الفكر الاسلامي) ج ٤ : ص ٨٨ الهامش رقم (٣).

٣٤٣

إرادة خلاف الظاهر في الآخر ، وأمّا إذا كان محتاجا إلى دليل ثالث يوجب صرف أحدهما ، فحكمهما حكم الظاهرين المحتاجين في الجمع بينهما إلى شاهدين في أنّ العمل بكليهما مع تعارض ظاهريهما يعدّ غير ممكن ، فلا بدّ من طرح أحدهما معيّنا للترجيح ، أو غير معيّن للتخيير. ولا يقاس حالهما على حال مقطوعي الصدور في الالتجاء إلى الجمع بينهما ، كما أشرنا إلى دفع ذلك عند الكلام في أولويّة (*) الجمع على الطرح ، والمسألة محلّ إشكال.

وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ تقديم النصّ على الظاهر خارج عن مسألة الترجيح بحسب الدلالة ؛ إذ الظاهر لا يعارض النص حتّى يرجّح النصّ عليه. نعم ، النصّ الظنّي السند يعارض دليل سنده لدليل حجّية الظهور ، لكنّه حاكم على دليل اعتبار الظاهر ، فينحصر الترجيح بحسب الدلالة في تعارض الظاهر والأظهر ؛ نظرا إلى احتمال خلاف الظاهر في كلّ منهما بملاحظة نفسه ، غاية الأمر ترجيح الأظهر.

ولا فرق في الظاهر والنصّ بين العام والخاص المطلقين إذا فرض عدم احتمال في الخاصّ (٢٨٩١) يبقى معه ظهور العام وإلّا دخل في تعارض الظاهرين أو تعارض

______________________________________________________

إذ على الأوّل يكون دليل اعتباره حاكما على ظهور الآخر ، وعلى الثاني يكون تقديم الأظهر عليه من باب تقديم أقوى الدليلين ، كما عرفت توضيحه عند شرح قوله : «وإن شئت قلت إنّ مرجع التعارض بين النصّ والظاهر ...».

٢٨٩١. مثل احتمال الأمر في قوله : أعتق رقبة مؤمنة بعد قوله : أعتق رقبة ، لبيان أفضل الأفراد ، لبقاء الأمر بالمطلق حينئذ على ظهوره من إفادة الوجوب. وحينئذ إن كان هذا الاحتمال مساويا لاحتمال إرادة الاستحباب من الأمر بالمطلق كانا من قبيل الظاهرين ، وإن كان مرجوحا بالنسبة إليه كانا من قبيل الظاهر والأظهر ، وإن فرض عدم تحقّق هذا الاحتمال فيه ولو لأجل دليل خارجي كانا من قبيل النصّ والظاهر.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «أولويّة» ، أدلّة تقديم.

٣٤٤

الظاهر والأظهر ـ وبين ما يكون التوجيه فيه (٢٨٩٢) قريبا وبين ما يكون التوجيه فيه بعيدا ، مثل صيغة الوجوب مع دليل نفي البأس عن الترك ؛ لأنّ العبرة بوجود احتمال في أحد الدليلين لا يحتمل ذلك في الآخر وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا في الغاية ؛ لأنّ مقتضى الجمع بين العامّ والخاصّ بعينه موجود فيه.

وقد يظهر خلاف ما ذكرنا في حكم النصّ والظاهر من بعض الأصحاب في كتبهم الاستدلاليّة ، مثل حمل الخاصّ المطلق (٢٨٩٣) على التقيّة لموافقته لمذهب العامّة : منها : ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله في مسألة" من زاد في صلاته ركعة" ، حيث حمل ما ورد في صحّة صلاة من جلس في الرابعة بقدر التشهّد على التقيّة ، وعمل على عمومات إبطال الزيادة ، وتبعه بعض متأخّري المتأخّرين. لكنّ الشيخ رحمه‌الله كأنّه بنى على ما تقدّم عن العدّة والاستبصار من ملاحظة المرجّحات قبل حمل أحد الخبرين على الآخر أو على استفادة التقيّة من قرائن أخر غير موافقة مذهب العامّة. ومنها : ما تقدّم عن بعض المحدّثين ، من مؤاخذة حمل الأمر والنهي على الاستحباب والكراهة.

وقد يظهر من بعض الفرق بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ الصريح في الاستحباب وما يتلوهما في قرب التوجيه وبين غيرهما ممّا كان تأويل الظاهر فيه بعيدا ، حيث إنّه (*) ـ بعد نفي الإشكال عن الجمع بين العامّ والخاصّ والظاهر في الوجوب والنصّ (**) في الاستحباب ـ استشكل الجمع في مثل ما إذا دلّ دليل على أنّ القبلة أو مسّ باطن الفرج لا ينقض الوضوء ، ودلّ دليل آخر على أنّ الوضوء يعاد منهما ، وقال : " إنّ الحكم بعدم وجوب الوضوء في المقام مستند إلى النصّ المذكور ، وأمّا الحكم باستحباب الوضوء فليس له مستند ظاهر ، لأنّ تأويل كلامهم

______________________________________________________

٢٨٩٢. يعني بينما ورد فيه خبران احتمل أحدهما توجيها لا يحتمله الآخر ، سواء كان التوجيه فيه قريبا أم بعيدا.

٢٨٩٣. أي : لا من وجه.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «إنّه» : قال.

(**) فى بعض النسخ : بدل «النصّ» : الصريح.

٣٤٥

لم يثبت حجّيته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته ، والفتوى والعمل به محتاج إلى مستند شرعي ، ومجرّد أولويّة الجمع غير صالح".

أقول ـ بعد ما ذكرنا من أنّ الدليل الدالّ على وجوب الجمع بين العامّ والخاصّ وشبهه بعينه جار فيما نحن فيه ، وليس الوجه في الجمع شيوع التخصيص ، بل المدار على احتمال موجود في أحد الدليلين مفقود في الآخر ، مع أنّ حمل ظاهر وجوب إعادة الوضوء على الاستحباب أيضا شايع على ما اعترف به سابقا. وليت شعري ما الذي أراد بقوله : تأويل كلامهم لم يثبت حجّيته إلّا إذا فهم من الخارج إرادته؟

فإن بنى على طرح ما دلّ على وجوب إعادة الوضوء وعدم البناء على أنّه كلامهم عليهم‌السلام ، فأين كلامهم حتّى يمنع من تأويله إلّا بدليل؟! وهل هو إلّا طرح السند لأجل الفرار عن تأويله؟! وهو غير معقول (٢٨٩٤). وإن بنى على عدم طرحه وعلى التعبّد بصدوره ثمّ حمله على التقيّة ، فهذا أيضا قريب من الأوّل ؛ إذ لا دليل على وجوب التعبّد بخبر يتعيّن حمله على التقيّة على تقدير الصدور ، بل لا معنى لوجوب التعبّد به ؛ إذ لا أثر في العمل يترتّب عليه.

وبالجملة : إنّ الخبر الظنّيّ إذا دار الأمر بين طرح سنده وحمله وتأويله ، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المتعيّن تأويله ووجوب العمل على طبق التأويل ، ولا معنى لطرحه أو الحكم بصدوره تقيّة فرارا عن تأويله. وسيجيء زيادة توضيح ذلك إن شاء الله.

فلنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان المرجّحات في الدلالة ، ومرجعها إلى ترجيح الأظهر على الظاهر (٢٨٩٥). والأظهريّة قد تكون بملاحظة خصوص المتعارضين من

______________________________________________________

٢٨٩٤. يعني : لم يظهر له وجه معقول لا أنّه ممتنع ، لأنّ الممتنع هو التأويل مع طرح السند ، لا طرح السند لئلّا يلزم التأويل على تقدير الأخذ به. ثمّ إنّ وجه عدم المعقوليّة هو تعيّن الأخذ بالسند وتأويل الدلالة على ما حقّق به المقام.

٢٨٩٥. لما تقدّم في كلام المصنّف رحمه‌الله من كون تقديم النصّ على الظاهر من باب الحكومة دون الترجيح.

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ ما ذكره من اختلاف رجحان أحد الخبرين على الآخر مشخّصا وصنفا ونوعا ممّا لا إشكال فيه. وكذا لا إشكال في ترتّبها متنازلا ، فيقدّم الراجح شخصا على الراجح نوعا أو صنفا ، وكذا الراجح صنفا على الراجح نوعا ، لكون الأوّل أقوى من الثاني ، وهو من الثالث. وحيث لم يندرج الأوّل تحت قاعدة وضابطة جعلوا الكلام في باب تعارض الأحوال في الأخيرين ، ولا بدّ مع رجحان أحد الدليلين من ارتكاب خلاف الأصل في الآخر ، بارتكاب التأويل فيه وصرفه عن ظاهره. وحصروا الامور المخالفة للأصل في خمسة : النسخ ، والإضمار ، والتخصيص ، والتقييد ، والتجوّز. وربّما يضاف إليها امور أخر إلّا أنها لا تخرج منها ، وما عدا الأخير وإن كان من أقسامه في وجه ، إلّا أنّهم أفردوا البحث عن كلّ واحد منه وخصّوه بالذكر ، لمزيد امتيازه من بين سائر المجازات.

ثمّ إنّه ربّما يدور الأمر بين المتجانسين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وذاك الدليل ، وهكذا. وربّما يدور الأمر بين المتخالفين منها ، بأن دار الأمر بين ارتكاب النسخ في هذا الدليل وبين ارتكاب أحد الأربعة الباقية في ذاك الدليل. وحينئذ يكون التعارض والدوران تارة وحدانيّا ، بأن دار الأمر بين ارتكاب أحدها في أحد الدليلين وواحد من الأربعة الباقية في الآخر ، واخرى ثنائيّا ، وثالثة ثلاثيّا ، ورابعة رباعيّا ، وخامسة خماسيّا ، وسادسة مختلفا. ويعبّر الاصوليّون عن هذا التعارض والدوران بتعارض الأحوال.

وأورد المصنّف رحمه‌الله من صور الاختلاف الوحداني مسائل ، ثمّ نبّه على تعارض المتجانسين ، ويظهر الكلام في الباقي ممّا حقّق به المقام. والمشهور ـ كما هو الأقوى ـ كون احتمال النسخ أخسّ من جميع الامور المذكورة ، والإضمار بالنسبة إلى ما عداه ، لقلّة الأوّل بالنسبة إلى الجميع ، والإضمار بالنسبة إليه. فحيث يدور الأمر بين الأوّل وأحد الأربعة الباقية ، أو بين الثاني وواحد ممّا عداه ، يقدّم ما عداهما عليهما ، لغلبته ورجحانه بالنسبة إليهما. وستقف على تتمّة الكلام فيهما وفي الباقي.

٣٤٧

جهة القرائن الشخصيّة ، وهذا لا يدخل تحت ضابطة ، وقد تكون بملاحظة نوع المتعارضين ، كأن يكون أحدهما ظاهرا في العموم والآخر جملة شرطيّة ظاهرة في المفهوم ، فيتعارضان ، فيقع الكلام في ترجيح المفهوم على العموم. وكتعارض التخصيص والنسخ في بعض أفراد العامّ والخاصّ (٢٨٩٦) والتخصيص والتقييد (٢٨٩٧) ، وقد تكون باعتبار الصنف ، كترجيح أحد العامّين (٢٨٩٨) أو المطلقين على الآخر لبعد التخصيص أو التقييد فيه.

ولنشر إلى جملة من هذه المرجّحات النوعيّة لظاهر أحد المتعارضين في مسائل : منها : لا إشكال في تقديم ظهور الحكم الملقى من الشارع في مقام التشريع في استمراره باستمرار الشريعة على ظهور العام في العموم الأفراديّ ، ويعبّر عن ذلك بأنّ التخصيص أولى من النسخ ، من غير فرق بين أن يكون احتمال المنسوخيّة في العام أو في الخاص (٢٨٩٩). والمعروف تعليل ذلك بشيوع التخصيص وندرة النسخ.

وقد وقع الخلاف في بعض الصور ، وتمام ذلك في بحث العامّ والخاص من مباحث الألفاظ. وكيف كان ، فلا إشكال في أنّ احتمال التخصيص مشروط بعدم

______________________________________________________

٢٨٩٦. بأن ورد الخاصّ بعد العامّ وجهل تاريخهما ، فاحتمل ورود الخاصّ بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبله ، فيدور الأمر حينئذ بين كون الخاصّ ناسخا ومخصّصا. واحترز ببعض الأفراد عن صورة العلم بالتاريخ ، وبكون الخاصّ واردا قبل حضور وقت العمل بالعامّ أو بعده ، لعدم الدوران حينئذ.

٢٨٩٧. مثل قوله : صلّ ولا تغصب.

٢٨٩٨. مثل العامّ المعلّل والوارد في مقام الامتنان ، وكذا العامّ الذي كان أقلّ فردا من الآخر كما سيجيء.

٢٨٩٩. لأنّه مع ورود الخاصّ بعد العامّ مع الجهل بوروده بعد حضور وقت العمل بالعامّ أو قبله ، يدور الأمر بين كون العامّ منسوخا أو مخصّصا بالفتح. ومع ورود الخاصّ قبله مع الجهل بورود العامّ قبل حضور وقت العمل به أو بعده ، يدور الأمر بين كون الخاصّ منسوخا وكونه مخصّصا للعامّ.

٣٤٨

ورود الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، كما أنّ احتمال النسخ مشروط بورود الناسخ بعد الحضور ، فالخاصّ الوارد بعد حضور وقت العمل بالعام يتعيّن فيه النسخ ، وأمّا ارتكاب كون (٢٩٠٠) الخاصّ كاشفا عن قرينة كانت مع العامّ واختفت فهو خلاف الأصل. والكلام في علاج المتعارضين من دون التزام وجود شيء زائد عليهما.

نعم ، لو كان هناك دليل على امتناع النسخ وجب المصير إلى التخصيص مع التزام اختفاء القرينة حين العمل أو جواز إرادة خلاف الظاهر من المخاطبين واقعا (٢٩٠١) مع مخاطبتهم بالظاهر الموجبة لعملهم بظهوره ، وبعبارة اخرى : تكليفهم ظاهرا هو العمل بالعموم. ومن هنا يقع الإشكال في تخصيص العمومات المتقدّمة في كلام النبيّ أو الوصيّ أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام بالمخصّصات الواردة بعد ذلك بمدّة عن باقي الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّه لا بدّ أن يرتكب فيها النسخ أو كشف الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية أو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا.

أمّا النسخ ـ فبعد توجيه وقوعه بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بإرادة كشف ما بيّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للوصيّ عليه‌السلام عن غاية الحكم الأول وابتداء الحكم الثاني ـ مدفوع : بأنّ غلبة هذا النحو (*) من التخصيصات يأبى عن حملها على ذلك ، مع أنّ الحمل على النسخ يوجب طرح ظهور كلا الخبرين في كون مضمونهما حكما مستمرّا من أوّل الشريعة إلى آخرها ، إلّا أن يفرض المتقدّم ظاهرا في الاستمرار ، والمتأخّر غير ظاهر بالنسبة إلى ما قبل صدوره ، فحينئذ يوجب طرح ظهور المتقدّم لا المتأخّر ، كما لا يخفى. وهذا لم (**) يحصل في كثير من الموارد بل أكثرها.

______________________________________________________

٢٩٠٠. دفع لتوهّم عدم تعيّن الخاصّ للنسخ في الفرض المذكور.

٢٩٠١. يعني : المخاطبين بالعامّ. وقوله «واقعا» متعلّق بالإرادة.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : وهو كون المخاطبين بالعامّ تكليفهم ظاهرا العمل بالعموم المراد به الخصوص واقعا.

(**) فى بعض النسخ : بدل «لم» ، لا.

٣٤٩

وأمّا اختفاء المخصّصات ، فيبعّده بل يحيله عادة عموم البلوى بها من حيث العلم والعمل ، مع إمكان دعوى العلم بعدم علم أهل العصر المتقدّم وعملهم بها ، بل المعلوم جهلهم بها.

فالأوجه هو الاحتمال الثالث ، فكما أنّ رفع (٢٩٠٢) مقتضى البراءة العقليّة ببيان التكليف كان على التدريج ـ كما يظهر من الأخبار والآثار ـ مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ، فكذلك ورود التقييد والتخصيص للعمومات والمطلقات ، فيجوز أن يكون الحكم الظاهريّ للسابقين الترخيص في ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات الذي يقتضيه العمل بالعمومات ، وإن كان المراد منها الخصوص الذي هو الحكم المشترك.

ودعوى : الفرق (٢٩٠٣) بين إخفاء التكليف الفعليّ وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك بمقتضى البراءة العقليّة وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام وترك الواجب ، ممنوعة. غاية الأمر أنّ الأوّل من قبيل عدم البيان ، والثاني من قبيل بيان العدم ، ولا قبح فيه بعد فرض المصلحة ، مع أنّ بيان العدم قد يدّعى وجوده

______________________________________________________

٢٩٠٢. هذا زيادة تقريب للوجه الثالث بالمقايسة ، ورفع استبعاد عنه.

٢٩٠٣. بلزوم القبح على الشارع على الثاني دون الأوّل. وتوضيح الفرق : أنّ تقرير المكلّفين على مقتضى عقولهم من البراءة والتخيير مع ثبوت التكليف في الواقع ، وكذا إنشاء الحكم عموما أو إطلاقا مع ثبوت التخصيص أو التقييد في الواقع ، وإن استلزم كلّ منهما تفويت الواقع عليهم ، إلّا أنّه لا قبح في الأوّل ، لأنّ التفويت فيه ليس بمستند إلى الشارع بل إلى اختيار المكلّف ، لفرض إمكان الاحتياط واحتمال ثبوت التكليف في الواقع ، فمجرّد تقرير الشارع وسكوته عن بيان الواقع لا قبح فيه أصلا ، بخلاف الثاني ، لأنّ إنشاء الحكم عموما أو إطلاقا بيان لنفس الواقع ، فيزعم منه المكلّف عدم التخصيص والتقييد في الواقع ، فيقدم على الامتثال زاعما للعموم أو الإطلاق ، فيكون تفويت الواقع حينئذ مستندا إلى الشارع لا محالة.

٣٥٠

في الكلّ ، بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة الغدير في حجّة الوداع : " معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم من النار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه" ، بل يجوز أن يكون مضمون العموم والإطلاق هو الحكم الإلزاميّ وإخفاء القرينة المتضمّنة (٢٩٠٤) لنفي الإلزام ، فيكون التكليف حينئذ لمصلحة فيه لا في المكلّف به.

فالحاصل أنّ المستفاد من التتبّع في الأخبار والظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرينة ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الوصيّ عليه‌السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه واطلق في كتاب الله ، وأودعه علم ذلك وغيره. وكذلك الوصيّ بالنسبة إلى من بعده من الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين ، فبيّنوا ما رأوا فيه المصلحة وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه.

فإن قلت : اللازم من ذلك (٢٩٠٥) عدم جواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص

______________________________________________________

وأمّا توضيح المنع بعد اشتراك المقيس مع المقيس عليه في إمكان الاحتياط ، واحتمال ثبوت التكليف في الواقع على خلاف مقتضى البراءة أو العموم والإطلاق ، واضح ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله.

٢٩٠٤. فلا يلزم ما تقدّم من الترخيص في فعل الحرام أو ترك الواجب.

٢٩٠٥. توضيح السؤال : أنّ إثبات تكليفنا بالعموم بواسطة أصالة عدم المخصّص إنّما يتمّ على وجهين :

أحدهما : أن يكون الخطاب عامّا للمعدومين أيضا ، إذ بعد إثبات عدم ورود المخصّص من الشارع يثبت تكليفنا بالعموم لا محالة ، لقبح الخطاب بما له ظاهر مع إرادة خلافه.

وثانيهما : بعد تسليم اختصاص الخطاب بالمشافهين أن نقول بالملازمة بين عدم ورود التخصيص من الشارع وإرادة العموم في الواقع ، لأنّه بعد إثبات عدم المخصّص بأصالة عدمه يثبت تكليف المشافهين بالعموم في الواقع ، ويثبت في حقّنا أيضا بدليل الاشتراك في التكليف. وأمّا إذا قلنا باختصاص الخطاب ، وكذا بعدم

٣٥١

في العمومات ـ بناء على اختصاص الخطاب بالمشافهين أو فرض الخطاب في غير الكتاب ـ إذ لا يلزم من عدم المخصّص لها في الواقع إرادة العموم ؛ لأنّ المفروض حينئذ جواز تأخير المخصّص عن وقت العمل بالخطاب.

قلت : المستند في إثبات أصالة الحقيقة بأصالة عدم القرينة قبح الخطاب بالظاهر المجرّد وإرادة خلافه ، بضميمة أنّ الأصل الذي استقرّ عليه طريقة التخاطب هو أنّ المتكلم لا يلقي الكلام إلّا لأجل إرادة تفهيم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ ، فإذا لم ينصب قرينة على إرادة تفهيم المجاز تعيّن إرادة الحقيقة فعلا ، وحينئذ فإن اطّلعنا على التخصيص المتأخّر كان هذا كاشفا عن مخالفة المتكلّم لهذا الأصل لنكتة ، وأمّا إذا لم نطّلع عليه ونفيناه بالأصل فاللازم الحكم بإرادة تفهيم الظاهر فعلا من المخاطبين ، فيشترك الغائبون معهم.

ومنها : تعارض الإطلاق والعموم ، فيتعارض تقييد المطلق وتخصيص العامّ. ولا إشكال في ترجيح التقييد على ما حقّقه سلطان العلماء (٢٩٠٦)

______________________________________________________

الملازمة المذكورة كما هو الفرض في المقام ، فغاية ما يثبت بأصالة عدم المخصّص هو تكليف المشافهين بالعموم في الظاهر ، وإن كان المراد به الخصوص في الواقع. ولا دليل على الاشتراك في التكليف في الأحكام الظاهريّة ، لعدم الإجماع عليه كما قرّر في محلّه.

وحاصل الجواب : أنّ مبنى أصالة الحقيقة في الظواهر هو قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، مع فرض كون إلقاء الكلام للإفهام. وحينئذ نقول : إنّ مقتضى أصالة الحقيقة كون تكليف المشافهين في الواقع بالعموم ، غاية الأمر أنّه إذا ورد مخصّص للعامّ بعد حضور وقت العمل به كشف ذلك عن مخالفة المتكلّم لهذه القاعدة لمصلحة راعاها ، وأنّ تكليف المشافهين إنّما كان بالعموم ظاهرا دون الواقع. وأمّا إذا لم يظهر المخصّص ، كما هو الفرض في موارد التمسّك بأصالة عدمه ، فمقتضى أصالة الحقيقة هو تعلّق تكليف المشافهين في الواقع بالعموم ، فيثبت ذلك في حقّنا أيضا بدليل الاشتراك في التكليف.

٢٩٠٦. توضيح المقام يتوقّف على بيان أقسام المطلقات ، فنقول : إنّها على

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثلاثة أقسام :

أحدها : الإطلاق بحسب الأحوال ، أعني : الإطلاق الحاصل بحسب أحوال التكليف الناشئ من عدم البيان ، لأنّ عدم تقييد الأمر بالعتق في قولنا : أعتق رقبة بزمان أو مكان أو حالة يورث له الإطلاق بحسب هذه الأحوال ، لأجل عدم بيان القيد. وهذا الإطلاق خارج من مدلول اللفظ ، وإنّما هو ناش من عدم بيان القيد. ولا شكّ أنّ التقييد في مثل هذا الإطلاق لا يوجب تجوّزا في اللفظ ، لفرض خروجه من مدلوله كما عرفت ، ولذا لا ترى المنافرة والتمانع بينهما أصلا عرفا ولو في بادي النظر ، بخلاف قرائن المجاز ، لأنّ التمانع بينهما حاصل ، إلّا أنّ تقديم ظهور القرينة على ظهور الحقيقة لأجل قوّته ورجحانه بالنسبة إليه ، ولذا سمّيت قرائن صارفة ، لا من باب البيان كما فيما نحن فيه. ولعلّ المشهور أيضا لا يقولون بالمجازيّة هنا ، وإن نسب القول بالتجوّز على وجه الإطلاق إليهم بحيث يشمل المقام أيضا. ومن هنا يظهر أنّه إذا دار الأمر بين التخصيص وتقييد مثل هذا الإطلاق فهو من قبيل دوران الأمر بين الأصل والدليل ، لأنّ العمل بالثاني من باب عدم البيان ، وعموم العامّ بيان له بلا إشكال ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله.

والثاني : الإطلاق بحسب الفرد المنتشر المعبّر عنه بالحصّة الشائعة ، كما عرّفه بها جماعة مثل : أعتق رقبة ، بناء على كون التنوين للتنكير. ومحصّل نزاعهم واحتجاجاتهم في حصول التجوّز بالتقييد في هذا القسم ، هو أنّ من يقول بالتجوّز يدّعي أنّ مدلول «رقبة» في المثال بحسب الوضع هو الفرد المنتشر بوصف التعرية عن جميع القيود حتّى القيود الثابتة من الخارج ، كما إذا ثبت بالإجماع كون المكلّف به في المثال هو المؤمنة. وهذا لازم ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره ، فإنّه وإن لم يصرّح بوصف التعرية على نحو ما ذكرناه ، بل ادّعى كون وضعه للفرد المنتشر لا بوصف التعرية ولا بوصف عدمها ، بل له في حال التعرية ، نظرا إلى كون الوضع وحدانيّا ، إلّا أنّ ما ذكرناه لازم ما ادّعاه من كون تقييد المطلقات مورثا للتجوّز

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مطلقا حتّى بالقيود الثابتة من الخارج ، إذ لا وجه له سوى أخذ وصف التعرية في الموضوع له ، فيكون استعماله في غير حال التعرية مجازا لا محالة ، لانتفاء جزء الموضوع له حينئذ.

وأمّا من يقول بالحقيقة فيدّعي كون مدلول «رقبة» هو الفرد المنتشر مطلقا ، بمعنى عدم تقيّده بوصف التعرية ، لا بمعنى تقيّده بوصف عدم التعرية حتّى يلزم التجوّز عند استعماله في نفس الفرد المنتشر من دون قيد ، بل بمعنى وضعه لمعنى يجتمع مع الإطلاق والتقييد ، من دون أن يكون شيء منهما مأخوذا في الموضوع له ، وهي الطبيعة المهملة كما يراه سلطان العلماء رحمه‌الله. وحيثما تطلق المطلقات مطلقة أو مقيّدة بشيء فالمراد بها هذه الطبيعة المهملة التي وضعت لها. والقيد حيثما ثبت إنّما يراد من الخارج لا بنفسها. وهذا هو المختار ، للتبادر ، لأنّا لا نفهم من المطلقات إلّا هذا المعنى.

نعم ، إن اريد القيد من لفظ المطلق كان مجازا ، والظاهر أنّ سلطان العلماء أيضا لا ينكر ذلك. والإطلاقات العرفيّة منزّلة على غير هذه الصورة ، وهي صورة إرادة المطلق في ضمن المقيّد بالحمل المتعارف ، بأن ثبت القيد من الخارج ، لا أن يكون مرادا من لفظ المطلق مع الطبيعة. وعلى هذا القول يكون الحكم بالإطلاق لأجل عدم البيان لا لأجل ظهوره في الإطلاق ، وحيث كان ظهور العامّ في العموم صالحا للبيانيّة يقدّم التقييد على التخصيص عند دوران الأمر بينهما.

الثالث : الإطلاق بحسب الطبيعة المعرّاة مطلقا حتّى عن قيد الفرد المنتشر ، أعني : الطبيعة المطلقة. والكلام فيه من حيث كون التقييد مورثا للتجوّز وعدمه كسابقه. ويدلّ على عدم التجوّز هنا ـ مضافا إلى ما عرفت ـ أنّا لا نفهم فرقا بين قولنا : أعتق رقبة مؤمنة بناء كون التنوين للتمكّن ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فكما أنّ الثاني حقيقة كذلك الأوّل. وإلى أنّ التقييد لو كان موجبا للتجوّز يلزم التجوّز في جميع مطلقات الكتاب والسنّة ، بل استعمالها في

٣٥٤

من كونه حقيقة ؛ لأنّ الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان ، والعامّ بيان ، فعدم البيان للتقييد جزء من مقتضي الإطلاق ، والبيان للتخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم ، فإذا دفعنا المانع عن العموم بالأصل ، والمفروض وجود المقتضي له ، ثبت بيان التقييد وارتفع المقتضي للإطلاق ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي ، والعمل بالتعليقيّ موقوف على طرح التنجيزي ؛ لتوقّف موضوعه على عدمه ، فلو كان طرح التنجيزيّ متوقّفا على العمل بالتعليقيّ ومسبّبا عنه لزم الدور ، بل هو يتوقّف على حجّة اخرى راجحة عليه. فالمطلق دليل تعليقيّ والعام دليل تنجيزي.

______________________________________________________

معانيها الحقيقيّة والمجازيّة ، بل استعمالها في ألف مجاز ، لتعاود القيود عليها بحسب اختلاف أحوال المكلّفين ، لأنّ قوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ) مثلا قد اريد منه الأمر بطبيعة الصلاة بالنسبة إلى من خلا من مرض وسفر وحالة اضطرار ونحوها ، وأمّا بالنسبة إلى المريض والمسافر والمضطرّ فقد قيّد بقيود شتّى ، وهكذا غيره من الإطلاقات ، ولا أقلّ من تقيّدها بالأفراد الممكنة من الطبيعة.

وربّما يفصّل في القيود بين المتّصلة والمنفصلة بالتزام التجوّز في الثاني دون الأوّل ، بدعوى كون المطلقات المقيّدة بالقيود المتّصلة موضوعة بحسب الهيئة للمقيّدات ، بخلاف المقيّدة بالقيود المنفصلة ، لبقائها على وضعها الأفرادي ، فيكون تقييدها بها مورثا للتجوّز فيها ، كما عرفته في حجّة القول الأوّل. وضعفه يظهر ممّا تقدّم.

وإذا عرفت هذا ظهر لك أنّ إثبات ورود المطلقات في مقام بيان الإطلاق في جميع الأقسام المتقدّمة إنّما هو بمعونة عدم بيان القيد ، أعني : دليل الحكمة ، فعدم بيانه جزء من مقتضى الإطلاق ، بخلاف عموم العامّ ، لكونه بحسب الوضع ، فهو بنفسه مقتض للعموم ، والتخصيص مانع منه ، فهو بضميمة أصالة عدم المخصّص صالح للبيانيّة ، فيقيّد بإطلاق المطلق ، ولا يمكن العكس ، وكيف لا وهو مستلزم للدور كما قرّره المصنّف قدس‌سره وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ في إرادة الإطلاق مسبّب عن الشكّ في إرادة العموم ، فلو انعكس الأمر ايضا لزم الدور ، فلا بدّ أن يكون الشكّ في إرادة العموم مسبّبا عن أمر خارجي.

٣٥٥

وأمّا على القول بكونه مجازا (٢٩٠٧) ،

______________________________________________________

٢٩٠٧. هذا القول محكيّ عن المشهور ولا إشكال في تحقّق الأغلبيّة ، لأنّهم وإن ادّعوا أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا أنّه وارد على سبيل المبالغة ، لكثرة العمومات العرفيّة ، كما تقول : ما لقيت اليوم أحدا ، وما أكلت شيئا ، وما قرأت اليوم كتابا ونحو ذلك ، بخلاف المطلقات ، لندرة سلامتها عن التقييد ، بل لا يكاد يوجد لها مصداق في الخارج ، لأنّ منها ما هو واقع في حيّز الأخبار ، مثل : جاءني رجل أو رأيت رجلا أو نحوهما ، ولا ريب أنّها قد قيّدت بالوجود الخارجي ، لأنّ الأخبار في الغالب إنّما هو عن المعنيّات الخارجيّة ، ومنها ما هو واقع في حيّز الطلب ، ولا أقلّ من تقيده بالأفراد المقدورة. وبالجملة ، إنّ وجود خطاب سالم عن التقييد طلبا ومطلوبا من حيث الزمان والمكان والإمكان ونحوها في غاية القلّة ونهاية العزّة.

ويمكن الاستدلال أيضا على رجحان التقييد على القول المذكور بوجهين آخرين :

أحدهما : الفهم العرفي ، لأنّه مع دوران الأمر بين التقييد والتخصيص يجعل عموم العام بحسب العرف قرينة على التقييد ، وهذا واضح لمن تتبّع الأمثلة العرفيّة ، كما تقول : أهن جميع الفسّاق وأكرم العالم ، فإنّه يفهم منه وجوب إكرام العالم العادل.

وثانيهما : القرب الاعتباري بناء على جواز الترجيح به كما يراه بعضهم ، لأنّ المقيّد أقرب إلى المعنى الحقيقي من قرب الخاصّ إلى العامّ ، ولذا يحمل المطلق على المقيّد بالحمل المتعارف فيقال : زيد إنسان ، ولا يصحّ حمل العامّ على الخاصّ ، فلا يقال : زيد العالم العلماء. ولعلّ المصنّف رحمه‌الله لم يتعرّض للأوّل نظرا إلى كون مبنى الفهم العرفي على ما ذكره من الغلبة ، وللثاني لعدم الاعتداد بالقرب العرفي.

٣٥٦

فالمعروف في وجه تقديم التقييد كونه أغلب من التخصيص. وفيه تأمّل (٢٩٠٨). نعم ، إذا استفيد العموم الشموليّ من دليل الحكمة كانت الإفادة غير مستندة إلى الوضع ، كمذهب السلطان في العموم البدليّ. وممّا ذكرنا يظهر حال التقييد مع سائر المجازات.

ومنها : تعارض العموم مع غير الإطلاق من الظواهر. والظاهر المعروف تقديم التخصيص لغلبته وشيوعه (٢٩٠٩). وقد يتأمّل في بعضها ، مثل ظهور الصيغة في الوجوب ؛ فإنّ استعمالها في الاستحباب شايع أيضا ، بل قيل بكونه مجازا مشهورا ، ولم يقل ذلك في العامّ المخصّص ، فتأمّل.

ومنها : تعارض ظهور بعض ذوات المفهوم من الجمل مع بعض. والظاهر تقديم الجملة الغائيّة على الشرطيّة ، والشرطيّة على الوصفيّة.

ومنها : تعارض ظهور الكلام في استمرار الحكم مع غيره من الظهورات ، فيدور الأمر بين النسخ وارتكاب خلاف ظاهر آخر. والمعروف ترجيح الكلّ على النسخ ، لغلبتها بالنسبة إليه.

______________________________________________________

٢٩٠٨. قال المصنّف رحمه‌الله في الحاشية : «وجه التأمّل أنّ الكلام في التقييد المنفصل ، ولا نسلّم كونه أكثر. نعم ، دلالة ألفاظ العموم أقوى من دلالة المطلق لو قلنا إنّها بالوضع» انتهى.

٢٩٠٩. يحتمل أن يريد بغلبة التخصيص وجوها :

أحدها : أن يكون التخصيص أغلب بحسب وجوده الخارجي من مطلق المجازات الواقعة في الاستعمالات. وهذه الدعوى تكاد تشبه المكابرة ، لوضوح أغلبيّة سائر المجازات.

وثانيها : ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره من كون التخصيص أغلب من سائر المجازات الحاصلة في اللفظ العامّ. وهذه الدعوى أيضا غير مجدية في المقام ، لأنّ الكلام هنا في ترجيح التخصيص على سائر المجازات ، إذا دار الأمر بين تخصيص العامّ في كلام وارتكاب خلاف الظاهر في كلام آخر.

٣٥٧

وقد يستدلّ على ذلك (٢٩١٠) بقولهم عليهم‌السلام : " حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة" (٢٣). وفيه : أنّ الظاهر سوقه لبيان استمرار أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نوعا من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة في مقابل نسخها بدين آخر ، لا بيان استمرار أحكامه الشخصيّة إلّا ما خرج بالدليل ، فالمراد أنّ حلاله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال من قبل الله جلّ ذكره إلى يوم القيامة ، لا أنّ الحلال من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال من قبله إلى يوم القيامة ، ليكون المراد استمرار حليّته.

______________________________________________________

وثالثها : وهو الحقّ أن يقال إنّ نوع العمومات إذا قيست إلى سائر أنواع الخطابات بخصوصها ، مثل الخطاب المشتمل على الأمر أو النهي أو نحو ذلك ، فالتخصيص بحسب نوعه أغلب من سائر المجازات الحاصلة في سائر أنواع الخطابات ، لأنّ استعمال هذه الخطابات في معانيها الحقيقة غير عزيز ، بل كثير في المحاورات العرفيّة ، بخلاف الخطابات المشتملة على ألفاظ العموم ، لغلبة ورود التخصيص عليها. نعم ، ربّما يمنع غلبة التخصيص بالنسبة إلى حمل صيغة الأمر على الاستحباب ، كيف لا وقد قيل بكونها مجازا مشهورا فيه ، ولم يقل ذلك أحد في العامّ. ولعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى معارضة ذلك بما اشتهر من أنّه ما من عامّ إلّا وقد خصّ.

٢٩١٠. تقريب الاستدلال : أنّ الحلال والحرام في الحديث الشريف إمّا كناية عن مطلق الأحكام الشرعيّة ، وإمّا أنّه قد خصّها بالذكر لأهمّيتهما من بين سائر الأحكام ، وعلى كلّ تقدير فالمراد استمرار مطلق أحكام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فهذا الحديث الشريف يعطي قاعدة كلّية ، وهي استمرار كلّ حكم من الأحكام الشرعيّة إلى الأبد ، فيجعل هذه القاعدة مرجعا عند الشكّ في تحقّق النسخ ، لوضوح أنّه لا بدّ في تخصيصها من الاقتصار على ما علم نسخه شرعا.

فنقول فيما نحن فيه : إذا دار الأمر بين نسخ دليل وارتكاب خلاف الظاهر في دليل آخر ، فعموم الحديث الشريف حاكم على صرف التأويل إلى الدليل الآخر ، مع أنّ الأمر هنا دائر بين ارتكاب خلاف ظاهرين وارتكاب خلاف ظاهر

٣٥٨

وأضعف من ذلك التمسّك باستصحاب عدم النسخ في المقام ؛ لأنّ الكلام في قوّة أحد الظاهرين (٢٩١١) وضعف الآخر ، فلا وجه لملاحظة الاصول العمليّة في هذا المقام ، مع أنّا إذا فرضنا عامّا متقدّما وخاصّا متأخّرا ، فالشكّ في تكليف المتقدّمين بالعام وعدم تكليفهم ، فاستصحاب الحكم السابق لا معنى له ، فيبقى ظهور الكلام في عدم النسخ معارضا بظهوره في العموم. نعم ، لا يجري في مثل العامّ المتأخّر عن الخاصّ. ثمّ إنّ هذا التعارض (٢٩١٢) إنّما هو مع عدم ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، وإلّا تعيّن التخصيص.

______________________________________________________

واحد ، لأنّه على تقدير النسخ يلزم تخصيص هذا الحديث الشريف ، وصرف الدليل الظاهر في الاستمرار عن ظهوره ، بخلافه على تقدير ارتكاب خلاف الظاهر في الدليل الآخر ، ولا ريب أنّ الثاني أولى وأرجح ، لوجوب المحافظة على الظواهر بحسب الإمكان.

٢٩١١. مضافا إلى عدم صلاحيّة الاصول للترجيح في المقام ، إمّا لأنّ اعتبار الاصول من باب التعبّد ، فلا تصلح لترجيح أحد الظهورين ، لاختلاف مرتبتهما. اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك في خصوص أصالة عدم النسخ ، نظرا إلى استقرار بناء العقلاء عليها. وإمّا لحكومة الظاهر المقابل لها عليها ، ولذا لا يقاوم شيء من الاصول ـ سواء قلنا باعتبارها من باب التعبّد أو الظنّ ـ شيئا من الأدلّة الظنّية.

٢٩١٢. يعني : التعارض بين ظهور الكلام في استمرار الحكم وبين ظهوره في شمول الحكم لجميع الأفراد. وحاصله : أنّه إذا ورد عامّ فله ظهور من جهتين : إحداهما : ظهوره في استمرار الحكم إلى الأبد ، والاخرى : ظهوره في شمول الحكم لجميع أفراده ، ولا تعارض بين هذين الظهورين في أنفسهما. وإذا ورد بعده خاصّ مخالف له في الحكم ، مردّد بين كونه مخصّصا للعامّ وناسخا لحكم بعض أفراده ، فحينئذ يقع التعارض بين الظهورين المذكورين بواسطة ورود هذا الخاص المردّد بين الأمرين.

ولكن هذا التعارض المشار إليه بقوله «ثمّ إنّ هذا التعارض ...» إنّما هو مع عدم

٣٥٩

ومنها : ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي مع ظهوره مع القرينة في المعنى المجازيّ ؛ وعبّروا عنه بتقديم (٢٩١٣) الحقيقة على المجاز ، ورجّحوها عليه. فإن أرادوا أنّه إذا دار الأمر بين طرح الوضع اللفظيّ بإرادة المعنى المجازيّ وبين طرح مقتضى القرينة في

______________________________________________________

ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في زمان صدور العامّ ، وإلّا انتفى احتمال نسخ بعض أفراد العامّ بالخاصّ المذكور. ووجهه واضح ، لأنّ الشكّ في كون الخاصّ ناسخا مسبّب عن الشكّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، إذ مع العلم به يحصل القطع بكونه مخصّصا لا ناسخا وإذا فرض ظهوره في ثبوت حكمه ابتداء بالظهور المعتبر تعيّن كونه مخصّصا. وبعبارة اخرى أنّ ظهوره في ثبوت حكمه ابتداء حاكم على ظهور العامّ في الشمول لجميع أفراده ، فلا يصحّ جعل ظهور العامّ في الشمول والعموم دليلا على كون الخاصّ ناسخا. مع أنّ فيه ارتكاب خلاف ظاهرين ، أحدهما : ظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، والآخر : ظهور العامّ في استمرار حكمه إلى الأبد. وفي التخصيص ارتكاب خلاف ظاهر واحد ، وهو ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وهذا أسهل ، فارتكابه أرجح وأولى ، وحينئذ يتعيّن التخصيص.

ولكنّ التعارض المذكور الذي فرض ارتفاعه بظهور الخاصّ في ثبوت حكمه في الشريعة ابتداء ، إنّما يتأتّى فيما تقدّم العامّ وتأخّر الخاصّ ، ولا يجري في الخاصّ المتقدّم على العامّ المردّد بين كونه مخصّصا للعامّ وكون العامّ ناسخا له ، لأنّ التعارض حينئذ بين ظهور كلامين ، وهو ظهور الخاصّ في استمرار حكمه المقتضي لكونه مخصّصا للعامّ ، وظهور العام في الشمول لجميع الأفراد المقتضي لكونه ناسخا للخاصّ ، وهذا التعارض غير التعارض السابق ، لما عرفت من كون التعارض بين الظهورين في الصورة الاولى بواسطة أمر ثالث بالذات ، بخلافه هنا.

٢٩١٣. لعلّه لكون الاهتمام بشأن الحقائق الوضعيّة أولى من الاهتمام بشأن المجازات ، لما ثلمتها ثلمة المجازيّة والخروج من الحقيقة الوضعيّة ، فتكون مراعاة حال الحقائق أولى وأرجح.

٣٦٠