فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

التعادل

و

التراجيح

٢٠١
٢٠٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

خاتمة (٢٧٦٦)

______________________________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم ، الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى عترته المعصومين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين.

٢٧٦٦. لا إشكال بل لا خلاف في أنّ البحث عن الأخبار من حيث التعادل والترجيح داخل في المسائل الاصوليّة. مضافا إلى أنّ تمايز العلوم على ما ذكروه إنّما هو بتمايز موضوعاتها أو بحدودها ، ومقتضاهما أيضا كذلك.

أمّا الأوّل ، فإنّ موضوع علم الاصول هي الأدلّة الأربعة ، فيكون البحث عن أحوالها من مسائل هذا العلم ، والبحث عن الأخبار من حيث التعادل والترجيح بحث عن أحوالها ، فيدخل في مسائله.

وأمّا الثاني ، فإنّ علم الاصول على ما عرّفوه هو العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة. ولا إشكال في انطباقه على ما نحن فيه. وربّما يتعجّب من أنّهم مع إكثارهم الخلاف في أغلب المسائل الاصوليّة من حيث اندراجها في المبادي أو المسائل الكلاميّة أو الفقهيّة ، قد أدرجوا هذه المسائل الخلافيّة في مقاصد هذا العلم ، وذكروا هذه المسألة في خاتمة الكتاب الموهم لخروجها من المقاصد ، مع ما عرفت من شهادة اتّفاقهم وموضوع العلم وحدّه بخلافه.

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وأقول : لعلّ الوجه فيه أنّ البحث عن الأدلّة من حيث التعادل والترجيح متأخّر شأنا عن البحث عن سائر أحوالها ، كالبحث عنها من حيث الدلالة أو الحجّية ، لأنّ البحث عنها من حيث التعارض فرع دلالتها وحجّيتها ، ولذا أخّروا البحث عنها من هذه الحيثية عنه عن سائر الحيثيّات ، فجعلوا البحث عنها من هذه الحيثيّة في الخاتمة إشارة إلى كون ذلك آخر ما يبحث عنه في هذا العلم ، لا إلى خروجه من مسائله.

وأمّا ما أشرنا إليه من إكثارهم الخلاف في أكثر المسائل الاصوليّة ، فذلك مثل دعوى دخول مباحث الألفاظ طرّا ، وكذا البحث عن حجّية الكتاب والسنّة والإجماع والعقل في المبادي. ودخول البحث عن حجّية الأوّلين في الكلام ، وعن أصالة البراءة والاستصحاب والاجتهاد والتقليد في الفقه ، أو البحث عن الأخيرين في الكلام.

نظرا في الأوّل إلى أنّ مسائل كلّ علم هي النسب الخبريّة المتعلّقة بأحوال موضوع هذا العلم من حيث إنّها أحوال موضوع هذا العلم ، والبحث عن دلالة الأمر والنهي والعموم والخصوص وسائر ما يتعلّق بها من المباحث اللفظيّة ليس بحثا عن أحوال الأدلّة من حيث إنّها أحوالها ، لعموم عنوان هذه المباحث ، إذ البحث عن دلالة الأمر مثلا ليس مقيّدا بعنوان ورودها في الكتاب والسنّة ، ولذا تنسب الدلالة إليه ولو مع وروده في غيرهما أيضا. والبحث في مباحث العلوم إنّما هو عن الأحوال المختصّة بموضوعات تلك العلوم ، إذ البحث عن أحوال العامّ لا يعدّ بحثا عن أحوال الخاصّ ، فمن هنا تخرج تلك المسائل من مقاصد هذا العلم. نعم ، لمّا كان البحث عن أحوال الأدلّة من حيث حجّيتها أو تعادلها وترجيحها متوقّفا على معرفة تلك المسائل ، فلا بدّ من ذكرها في المبادي.

والجواب : أنّ عنوان تلك المسائل وإن كان أعمّ ، إلّا أنّ بحث الاصولي عنها إنّما هو بعنوان ورودها في الكتاب والسنّة ، لعدم تعلّق غرضه بغير ذلك ، لعدم حاجته

٢٠٤

في التعادل والتراجيح (٢٧٦٧) وحيث إنّ موردهما الدليلان المتعارضان ، فلا بدّ من تعريف التعارض وبيانه. وهو لغة من العرض بمعنى (٢٧٦٨) الإظهار ، وغلّب في

______________________________________________________

إلى البحث عن مفاهيم الألفاظ من حيث هي.

وفي الثاني إلى أنّ البحث عن الحجّية بحث عن موضوع الدليل من حيث كونه دليلا ، والبحث عن تشخيص موضوع العلوم داخل في المبادي ، لأنّ البحث عن أحوال الموضوع فرع إحراز نفس الموضوع وتشخيصه.

وفي الثالث إلى أنّ مرجع البحث عن حجّية الكتاب والسنّة إلى البحث عن حجّية قول الله تعالى والأئمّة الهدى عليهم‌السلام ، والبحث عنها محرّر في الكلام دون الاصول.

وفي الرابع إلى كون البحث عن تلك المسائل بحثا عن عمل المكلّف ، الذي هو موضوع علم الفقه دون أحوال الأدلّة.

وفي الخامس إلى أنّ مرجع البحث عن وجوب الاجتهاد والتقليد إلى البحث عن وجوب إطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

وبالجملة ، إنّ الخلاف في جميع تلك المسائل موجود ، وقد قرّرنا الجواب عن الكلّ في محلّه. ولا يجدي الإطناب هنا طائلا ، فليطلب من مواضعها. نعم ، قد حرّرنا في محلّه كون مسائل الاجتهاد والتقليد من المسائل الفقهيّة دون الاصوليّة.

٢٧٦٧. التعادل مأخوذ من عدل الحمل بالكسر ، وهو نصفه ، فكأنّ الدليلين المتكافئين عدلا حمل لأجل تعادلهما وتساويهما. والترجيح في الأصل إحداث الرجحان والمزيّة في أحد الشيئين المتقابلين. وفي باب الأدلّة : تقديم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزيّة فيه. ولفظ الترجيح في عبارة المصنّف رحمه‌الله بصيغة المفرد ، وفي بعض العبارات بصيغة الجمع. ولكلّ وجه ، إذ الأوّل ناظر إلى فعل المستنبط ، والثاني إلى أفراده المتعدّدة مطلقا ، أو باعتبار تعدّد المرجّحات. ويحتمل أن يراد به جنس المفرد بعد انسلاخ معنى الجمعيّة ، ولكنّه خلاف الظاهر.

٢٧٦٨. في القاموس : عرض له كذا : ظهر وبدا ، والشيء له : أظهره ، وعليه : أراه إيّاه.

٢٠٥

الاصطلاح (٢٧٦٩) على تنافي الدليلين وتمانعهما باعتبار مدلولهما ؛ ولذا ذكروا (٢٧٧٠):

______________________________________________________

٢٧٦٩. وجه التسمية والتغليب : أنّ الدليلين المتعارضين لأجل تعارضهما وتمانعهما بمدلولهما كأنّ كلّ واحد منهما يظهر نفسه ويبارزه لدفع الآخر ، فتكون العلاقة في الإطلاق هي المشابهة.

٢٧٧٠. منهم السيّد عميد الدين في المنية. ثمّ إنّ جريان أحكام التعادل والترجيح فرع إحراز تعارض الدليلين وتمانعهما ، فيكون النزاع في المسألة كبرويّا. والبحث عن تحقّق التعارض وعدمه في بعض الموارد ـ كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله بقوله : «ومنه يعلم ...» ـ استطراديّ ، لوجود المناسبة كما لا يخفى.

ثمّ إنّ توضيح الكلام في أقسام التعارض : أنّ تعارض مدلول الدليلين إمّا أن يكون بمدلولهما المطابقي ، مثل قولنا : أكرم زيدا ولا تكرم زيدا ، أو بالمدلول المطابقي من أحدهما والتضمّني من الآخر ، مثل قولك : أكرم العلماء ولا تكرم قوما كذا ، إذا كان بعضهم من العلماء أو الالتزامي كذلك ، مثل تعارض المفاهيم مع سائر الأدلّة ، وهكذا.

وعلى التقادير : إمّا أن يكون التعارض ذاتيّا أو عرضيّا ناشئا من أمر آخر ، كما ورد أنّه عليه‌السلام متى خرج من مكّة إلى عرفات كان يقصّر في الصلاة ، وما دلّ على عدم جواز التقصير في الصوم في أربعة فراسخ ، إذ التعارض بينهما إنّما هو بواسطة ما ورد من قولهم عليهم‌السلام كلّما قصّرت أفطرت ، وكلّما أفطرت قصّرت» وإلّا فلا تعارض بينهما بالذات ، لاختلاف موردهما. وإن شئت قلت : إنّ تنافي مدلولي الدليلين إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، سواء كان اللزوم عقليّا أم عاديّا أم شرعيّا.

والأولى أن يقال : إنّ قيد التنافي في الحدّ أعمّ من أن يكون بين الدليلين البسيطين والمركّبين ، ومن المركّب والبسيط. وما أشرنا إليه من قبيل الثالث ، إذ

٢٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

التنافي فيه في الحقيقة بين الرواية الاولى والأخيرتين. ووجه الأولويّة : أنّ التعارض موضوع يتعلّق به الحكم بالتخيير مع تكافؤ الدليلين ، وبالترجيح مع مزيّة أحدهما. وهذان الحكمان إنّما يتعلّقان بنفس المتعارضين ، لعدم إمكان تحقّق الحكم في غير موضوعه. فإذا فرض رجحان أحد المتعارضين ، وتعيّن تأويل المرجوح منهما ، فعلى ما اعتبرناه أوّلا من خروج الأمر الخارجي من طرفي التعارض لا بدّ من صرف التأويل إلى نفس الدليل المرجوح دون الأمر الخارجي ، لفرض خروجه من طرفي التعارض. وهو على إطلاقه غير صحيح ، إذ ربّما يتعيّن تأويل الأمر الخارجي أيضا بما يوافق الراجح ، كما إذا فرض كونه ظنيّا والراجح قطعيّا ، إذ المتعارضان كما قد يكونان قطعيّين وقد يكونان ظنّيين وقد يكونان مختلفين ، كذلك الأمر الخارجي قد يكون قطعيّا وقد يكون ظنّيا. فالأولى أن يفرض التعارض بين أحد الدليلين والدليل الآخر مع ضميمة الأمر الخارجي.

ثمّ إنّ التعارض قد يكون على وجه التناقض ، واخرى على وجه التضادّ ، وثالثة على وجه العموم من وجه. وأمّا على وجه العموم مطلقا فلا يشمله قيد التنافي ، لعدم التنافي بين العامّ والخاصّ ، وكذا المطلق والمقيّد بحسب العرف ، بل بين الظاهر والأظهر مطلقا. فلا يصغى إلى خلاف جماعة من أواخر المتأخّرين ممّن يظهر منه دخول ما أشرنا إليه في باب تعارض الأدلّة.

وممّن يظهر منه خروج ذلك منه السيّد عميد الدين في المنية (*) قال : «واعلم أنّ المتعارضين هما اللذان لا يمكن الجمع بين مدلوليهما ، إمّا بأن يكون أحدهما ينفي ما أثبته الآخر من الحيثيّة التي أثبتها مطابقة ، كما لو قال : صلّ في الوقت الفلاني فرضا ، ثمّ قال : لا تصلّ في ذلك الوقت فرضا ، أو التزاما كما لو قال : طف في ذلك الوقت أو صلّ فيه نفلا» انتهى. ولعلّ عدم تعرّضه للدلالة التضمّنية لعدم الاعتداد بها كما قرّر في محلّه.

__________________

(*) في هامش الطبعة الحجريّة : «في مبحث حجّية الأخبار. منه».

٢٠٧

أنّ التعارض تنافي مدلولي الدليلين على وجه التناقض أو التضادّ. وكيف كان ، فلا يتحقق إلّا بعد اتحاد الموضوع وإلّا لم يمتنع اجتماعهما.

ومنه يعلم : أنّه لا تعارض (٢٧٧١)

______________________________________________________

وكذا الفاضل الجواد حيث قال : «التعارض أن يكون هناك دليلان يتضمّنان حكمين يتعذّر العمل بهما ، وليس أحدهما أولى من الآخر» انتهى ، لأنّ العمل بالعامّين مطلقا ممكن عرفا كما أشرنا إليه.

ويشهد بخروج ذلك من باب التعارض عقد باب في مباحث الألفاظ لكلّ من العامّ والخاصّ مطلقا والمطلق والمقيّد ، حيث يذكرون حكم كلّ منهما ووجه الجمع بينهما في بابه.

ثمّ إنّ تخصيص الدليلين في الحدّ بالذكر لبيان أقلّ المراتب ، وإلّا فقد يتحقّق التعارض بين الأدلّة. وكذا المراد منهما أعمّ من الدليل الاجتهادي والفقاهتي مع تساوي مرتبتهما ، كالخبرين والاستصحابين والبراءتين. وأمّا مع اختلاف مرتبتهما ، كالكتاب والسنّة مع الاصول ، بل الاستصحاب مع البراءة ونحوهما ، فلا تعارض بينهما ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وسنشير إلى توضيح ما يتعلّق به ، وكذا إلى سائر ما يتعلّق بأقسام المتعارضين من حيث كونهما قطعيّين أو ظنّيين أو بالاختلاف.

٢٧٧١. لا يذهب عليك أنّ قيد التنافي في الحدّ مخرج لأمرين : أحدهما : مخالفة الاصول للأدلّة الاجتهاديّة ، لعدم تحقّق التعارض بينهما ، لأجل اختلاف موضوعهما. وثانيهما : مخالفة الدليلين القطعيّين ، على ما سيشير إلى بيانه. وتوضيح المقام تارة ببيان الوجوه التي يمكن أن يتوهّم التنافي والتعارض من جهتهما بين الحكم الواقعي والظاهري في موضوع واحد ، واخرى ببيان ما يدفع ذلك.

أمّا الأوّل فاعلم أنّ الحكم الواقعي ما جعله الشارع ـ اقتضاء أو تخييرا ـ للموضوعات الواقعيّة من حيث هي ، يعني : مع قطع النظر عن تعلّق إحدى الإدراكات

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بها ، فلا يتغيّر بالعلم والجهل. والظاهري ما كان مجعولا للجاهل بالحكم الواقعي أو موضوعه. فالفرق بينهما إنّما هو بأخذ الجهل في موضوع الثاني دون الأوّل. ومجرّد ذلك لا يدفع التنافي بينهما ، لأنّه إذا كان شيء في الواقع حراما ، فالشكّ في حرمته أو في موضوعها لا يخرج الموضوع الواقعي من وجوده الواقعي. فالمائع المردّد بين الخمر والخلّ إذا كان خمرا في الواقع تلازمه الحرمة في الواقع ، وحينئذ يمتنع عروض الرخصة له في الظاهر بأصالة الإباحة لوجوه :

أحدها : امتناع اجتماع الضدين ، قضيّة لتضادّ الأحكام الخمسة ، لأنّ الحرمة وإن ثبتت لشرب الخمر في الواقع من حيث هو والإباحة له في حال الجهل ، إلّا أنّ اختلاف جهة المنع والرخصة ـ أعني : جهتي الواقع والظاهر ـ لا يوجب اختلاف موضوعهما في الخارج ، نظير ما لو وجب إكرام زيد لكونه ابن عمرو وإهانته لكونه أخا بكر.

وثانيها : لزوم التكليف بما لا يطاق في بعض صور اختلاف الحكم الواقعي والظاهري ، وإن قلنا بكون تعدّد الجهة مكثّرة للموضوع ، نظير ما ذكروه في امتناع اجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة.

وثالثها : امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة في موضوع واحد. والتقريب فيه يظهر من الوجه الأوّل. ورابعها : قبح تفويت مصلحة الواقع عن المكلّف ، لأنّه إذا كان فعل في الواقع واجبا أو حراما ، فالرخصة في الترك على الأوّل والفعل على الثاني في الظاهر ـ لأصالة البراءة ـ يوجب تفويت مصلحة فعل الواجب أو ترك الحرام لا محالة.

ومحظور هذه الوجوه لا يندفع إلّا بارتكاب التخصيص في أدلّة الواقع أو الظاهر. ولكن لا سبيل إلى الأوّل إجماعا ، فتعيّن الثاني ، كما عليه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

٢٠٩

بين الاصول وما يحصّله المجتهد من الأدلّة الاجتهاديّة ؛ لأنّ موضوع الحكم في الاصول الشيء بوصف أنّه مجهول الحكم ، وفي الدليل نفس ذلك الشيء من دون ملاحظة ثبوت حكم له فضلا عن الجهل بحكمه ، فلا منافاة بين كون العصير المتّصف بجهالة حكمه حلالا على ما هو مقتضى الأصل ، وبين كون نفس العصير حراما كما هو مقتضى الدليل الدالّ على حرمته.

______________________________________________________

هذا كلّه في الحكم الواقعي بالقياس إلى مؤدّيات الاصول. ومنه يظهر قياس الواقع إلى مؤدّيات الطرق الاجتهاديّة ، لكونها ظاهريّة أيضا بالنسبة إلى الواقع الأوّلي. وكذا قياس مؤدّيات الطرق إلى مؤدّيات الاصول ، لكونها بمنزلة الواقع بالنسبة إليها.

وأمّا الثاني ، فإنّه يدفع الوجه الأوّل منع التضادّ بين الحكم الواقعي والظاهري بعد تغاير موضوعهما ، لأنّ موضوع الأوّل هو الواقع من حيث هو ، وموضوع الثاني هو الواقع بوصف كونه مجهولا. وقياسهما على وجوب إكرام زيد من جهة كونه ابن عمرو وإهانته من جهة كونه أخا بكر قياس مع الفارق ، لأنّ الموضوع في المقيس عليه واحد ، وكونه ابن عمرو وأخا بكر إنّما هما جهتا عروض الحكمين وسببه. ومنه يظهر ضعف الثالث أيضا.

وأمّا الثاني فيدفع بأنّ التكليف بما لا يطاق إنّما يلزم إذا تنجّز التكليف بالواقع مطلقا ، سواء علم به المكلّف أم لا ، وإلّا فمع كون الحكم الواقعي شأنيّا ، كما هو الفرض في موارد الجهل بالواقع ، فاللازم منتف لا محالة.

وأمّا الرابع فيندفع بأنّ مفسدة تفويت الواقع يندفع بتداركها بمصلحة اخرى وإن لم نعلمها تفصيلا ، واحتمال ذلك يدفع القبح المذكور. وممّا يكشف عن صحّة جميع ما ذكرناه حسن الاحتياط في موارد الاصول ، إذ الواقع لو كان مختصّا بها لم يبق مسرح للاحتياط حينئذ أصلا. وممّا ذكرناه تظهر الحال بالنسبة إلى سائر المراتب المذكورة التي منها ما نحن فيه ، وهي نسبة الأدلّة الاجتهاديّة إلى الاصول.

٢١٠

والدليل المفروض : إن كان بنفسه (٢٧٧٢)

______________________________________________________

٢٧٧٢. توضيح ما ذكره يتوقّف على بيان معنى الورود والحكومة ، والفرق بين الثاني والتخصيص ، والثمرة بينهما. وقد أشار المصنّف رحمه‌الله إلى كلّ منها ، فنقول : أمّا الأوّل فهو أن يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر في بعض الموارد على سبيل الحقيقة ، كجميع الأدلّة القطعيّة بالنسبة إلى الاصول ، بل وسائر الأدلّة الظنّية أيضا بالنسبة إلى الاصول العقليّة. فمع الشكّ في حليّة العصير مثلا ، فأصالة البراءة وإن اقتضت حلّيته في الظاهر ، إلّا أنّه إذا انعقد الإجماع على حرمته يرتفع موضوع الإباحة الظاهريّة به حقيقة ، لأنّ موضوعها العصير بوصف كونه مشكوك الحكم ، والفرض زوال الشكّ بسببه. وكذا المائع المردّد بين كونه خمرا أو خلّا ، وحصل القطع بكونه أحدهما بشهادة جماعة مثلا ، وهكذا. وكذا الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول العقليّة ، كأصالة البراءة الاحتياط والتخيير ، لأنّ موضوع الاولى عدم البيان ، والثانية احتمال العقاب ، والثالثة عدم الترجيح لأحد الطرفين ، وهذه كلّها ترتفع بالأدلّة الاجتهاديّة ، لصلاحيّتها للبيان ، وكونها دليلا قطعيّا على عدم العقاب ، لفرض كونها مقطوعة الاعتبار ، ومرجّحة لأحد الطرفين.

وأمّا الثاني فهو أن يكون أحد الدليلين رافعا لحكم الدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه بلسان التفسير والبيان ، بمنزلة التفسير بلفظ «أعني» ونحوه. فالحكومة أن يكون أحد الدليلين متعرّضا لحال الآخر ومبيّنا للمراد منه ومقدار مدلوله ، برفع حكمه عن بعض أفراد موضوعه مع صدق موضوعه عليه حقيقة. والمراد بالتفسير والبيان أن لا يفهم التنافي بينهما من أوّل النظر كالقرائن المتّصلة ، فيكون مجموع المحكوم والحاكم بمنزلة كلام واحد مشتمل على قرينة ارتكاب التجوّز في بعض فقراته ، نظير الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول العمليّة الشرعيّة ، لأنّ خبر الواحد مثلا وإن لم يرفع الشكّ حقيقة عن موضوع الاستصحاب

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

مثلا ، إلّا أنّه من حيث تنزيل مدلوله منزلة الواقع الاولي في إلغاء احتمال خلافه ، مبيّن بلسان التفسير لرفع حكم الاصول الجارية في مورده. وكذا عمومات العسر والضرر بالنسبة إلى سائر العمومات المثبتة للتكليف ، لأنّها مخصّصة لها بغير موارد العسر والضرر بلسان التفسير. والأمر بالمسارعة إلى الخيرات المقتضي لفوريّة التكاليف بالنسبة إلى الإطلاقات ، إلى غير ذلك ممّا أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وكذلك الاصول الحاكمة بعضها على بعض ، سواء اتّحد سنخها كالاستصحاب المزيل والمزال ، أم اختلف كالاستصحاب بالنسبة إلى البراءة ، كاستصحاب الحياة بالنسبة إلى أصالة البراءة عن وجوب فطرة عبده ، وهكذا.

وأمّا الثالث فإنّ تخصيص العامّ من باب تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ ، لقوّته بالنسبة إليه ، بخلاف الحكومة ، لأنّ تقديم الحاكم على المحكوم كما عرفت لأجل عدم المعارضة بينهما عرفا ، وكون الحاكم مفسّرا للمراد من المحكوم ، لا من باب الترجيح لقوّة الدلالة.

وبالجملة ، إنّ التخصيص من باب دوران الأمر بين رفع اليد عن أحد الظهورين وترجيح أحدهما لقوّته. فالعامّ له ظهور في الشمول لمورد التعارض ، إلّا أنّه قد رفعت اليد عن ظهوره لقوّة ظهور معارضه ، بخلاف الحكومة ، إذ لا ظهور للمحكوم مع ملاحظة الحاكم في الشمول لمورد اجتماعهما ، لما عرفت من كونه مفسّرا للمراد منه ، ومبيّنا لمقدار دلالته ، ولذا يقدّم على المحكوم وإن كان له أدنى مرتبة من الظهور وأوّل درجة من الرجحان ، بخلاف التخصيص ، إذ لا بدّ للخاصّ من ظهور زائد على ظهور العامّ ليترجّح به عليه.

نعم ، تخصيص العامّ بالخاصّ إنّما هو فيما كان الخاصّ ظنّي الدلالة ، وإلّا فإن كان قطعيّا مطلقا أو بحسب الدلالة فهو وارد عليه على الأوّل ، وحاكم عليه على الثاني ، وسنشير إلى توضيحه.

٢١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد اختلط الأمر على بعض الأجلّة ، كالمحقّق القمّي رحمه‌الله وصاحب الإشارات ، ففرضا التعارض بين الأمر بالمسارعة إلى الخيرات وسائر الأوامر المثبتة للتكاليف. وقد عرفت فساده.

وزعم صاحب الرياض كون تقديم الأدلّة اللفظيّة على الاصول من باب التخصيص. وقد عرفت الحال فيه. بل ليس في كلمات العلماء من الحكومة والورود عين ولا أثر ، بمعنى عدم تعبيرهم بهما في كلماتهم ، وإن كانوا قد قدّموا الأدلّة اللفظيّة على الاصول ، وكذا بعض الأدلّة اللفظيّة على بعض ممّا كان بينهما ورود أو حكومة ، كتقديم أدلّة العسر والضرر ونحوها على الأدلّة المثبتة للتكاليف ، إلّا أنّهم لم يبيّنوا وجه التقديم ، وأنّه من باب التخصيص أو الورود أو الحكومة. وقد عرفت حقيقة الحال في الجميع.

وبقي هنا شيء يتعلّق بعبارة المصنّف رحمه‌الله ، وهو أنّ ما ذكره في ضابط الحكومة بعد قوله : «ومتفرّعا عليه» بقوله : «وميزان ذلك أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد» بظاهره ظاهر الفساد ، لمنع الملازمة في كثير من موارد الحكومة ، مثل أنّ الخاصّ ظنّي الدلالة حاكم على العامّ كما سيأتي. ولا ريب أنّه مع عدم العامّ لا يكون الخاصّ بلا مورد ، مثل قولنا : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا العالم ، ومثل أكثر الأدلّة الاجتهاديّة بالنسبة إلى الاصول الشرعيّة.

نعم ، ما ذكره من الأمثلة من قبيل ما ذكره مع تأمّل فيها أيضا ، إذ لو لا الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك لم تكن القاعدة التي أشار إليها لغوا محضا ، لموافقتها لأصالة البراءة ، فتكون مؤكّدة لحكم العقل.

نعم ، الغرض من الدليل الحاكم بيان حال المحكوم ومقدار دلالته كما أشرنا إليه ، فلولا الدليل المحكوم كان الحاكم لغوا بلا مورد ، بمعنى خلّوه من محلّ يتعلّق به الغرض المذكور ، لا كونه لغوا محضا لا تترتّب عليه فائدة أصلا. ولعلّه لأجل ما

٢١٣

يفيد العلم صار المحصّل له عالما بحكم العصير (*) ، فلا يقتضي الأصل حلّيته ؛ لأنّه إنّما اقتضى حليّة مجهول الحكم (٢٧٧٣) ، فالحكم بالحرمة ليس طرحا للأصل ، بل هو بنفسه غير جار وغير مقتض ؛ لأنّ موضوعه مجهول الحكم. وإن كان بنفسه لا يفيد العلم بل هو محتمل الخلاف ، لكن ثبت اعتباره بدليل علمي :

______________________________________________________

قدّمناه كانت العبارة المزبورة مضروبا عليها في بعض النسخ المصحّحة ، ولكن كان الأولى حينئذ أن يضرب على قوله أيضا «لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور».

ثمّ إنّ الحكومة قد تكون بالتخصيص ، بأن كان أحد الدليلين رافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، وقد تكون بالتعميم في موضوع الدليل الآخر ، كما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله في غير موضع من كلماته. وتظهر الحال في الأوّل ممّا تقدّم.

وأمّا الثاني فمثاله في الأحكام استصحاب الطهارة بعد خروج المذي المثبت لعدم ناقضيّته ، فإنّه حاكم على ما دلّ على اشتراط الطهارة في الصلاة أو غيرها ممّا هو مشروط بها ، فإنّه معمّم لموضوع الدليل المذكور بحيث يشمل من خرج منه المذي بعد الطهارة وإن كان هو مشكوك الطهارة في الواقع. وكذلك استصحاب نجاسة ماء زال تغيّره من قبل نفسه ، فإنّه حاكم على الأدلّة المثبتة لأحكام النجاسة ، ومعمّم لموضوعها لما يشمل مثل هذا الماء المشكوك النجاسة.

ومثاله في الموضوعات استصحاب الطهارة أو النجاسة أو الحدث بالنسبة إلى ما دلّ على اعتبار هذه الامور وجودا أو عدما في الصلاة. وكذا ما لو ورد الأمر بإكرام العلماء ، وقامت البيّنة على كون رجل عالما ، وهكذا. وما ذكره المصنّف رحمه‌الله في ضابطة الحكومة إنّما ينطبق على ما لو كانت الحكومة فيه على وجه التخصيص ، فلا يشمل ما لو كانت فيه على وجه التعميم ، وهو واضح.

٢٧٧٣. قال في الحاشية «هذا حال الأصل بعد اطّلاع المجتهد على الدليل. و

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : العنبي مثلا.

٢١٤

فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل ـ كأصالة البراءة العقلية والاحتياط والتخيير العقليين ـ فالدليل أيضا وارد عليه ورافع لموضوعه ؛ لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان ، وموضوع الثاني احتمال العقاب ، ومورد الثالث عدم المرجّح لأحد طرفي التخيير ، وكلّ ذلك يرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعية كالاستصحاب ونحوه ، كان ذلك الدليل حاكما على الأصل ، بمعنى أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل ، فالدليل العلمي المذكور وإن لم يرفع موضوعه أعني الشك ، إلّا أنّه يرفع حكم الشك أعني الاستصحاب. وضابط الحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه ، فيكون مبيّنا لمقدار مدلوله ، مسوقا لبيان حاله ، متفرعا عليه.

وميزان ذلك : أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغوا خاليا عن المورد (*) ، نظير الدليل الدالّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع كثرة الشك أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لأحكام الشكوك ، فلو فرض أنّه لم يرد من الشارع حكم الشكوك ـ لا عموما ولا خصوصا ـ لم يكن مورد للأدلّة النافية لحكم الشكّ في هذه الصور.

______________________________________________________

أمّا نفس الدليل الدالّ على حكم الشيء مع قطع النظر عن اطّلاع المجتهد عليه ، فموضوعه ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه معلوم الحكم أو مجهوله ، ومحموله الحكم الشأني الغير المنجّز على المكلّف. ولا منافاة بين الحكم الشأني لذات الفعل من حيث هو ، وثبوت ضدّه الفعلي من حيث صفة جهالة حكمه. فلك أن تعتبر الجهل بالحكم في دليل الأصل صفة للمكلّف ، فتقول : لا منافاة بين كون المكلّف من حيث هو محكوما بالحكم الشأني ، ومحكوما بضدّه الفعلي من حيث كونه جاهلا بالحكم. لكنّ الأوّل أوفق بأدلّة الاصول» انتهى.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : بظاهره.

٢١٥

والفرق بينه وبين التخصيص : أنّ كون المخصّص بيانا للعام إنّما هو بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاص ، وهذا بيان بلفظه ومفسّر للمراد من العام ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

ثمّ الخاص ، إن كان قطعيّا تعيّن طرح عموم العام ، وإن كان ظنيّا دار الأمر بين طرحه وطرح العموم ، ويصلح كل منهما لرفع اليد بمضمونه على تقدير مطابقته للواقع عن الآخر ، فلا بدّ من الترجيح بخلاف الحاكم ، فإنّه يكتفى به في صرف المحكوم عن ظاهره ، ولا يكتفى بالمحكوم في صرف الحاكم عن ظاهره ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى ، كما يتّضح ذلك بملاحظة الأمثلة المذكورة.

فالثمرة بين التخصيص والحكومة تظهر في الظاهرين ، حيث لا يقدّم المحكوم ولو كان الحاكم أضعف منه ؛ لأنّ صرفه عن ظاهره لا يحسن بلا قرينة اخرى ، هي مدفوعة بالأصل. وأمّا الحكم بالتخصيص فيتوقّف على ترجيح ظهور الخاص ، وإلّا أمكن رفع اليد عن ظهوره وإخراجه عن الخصوص بقرينة صاحبه.

فلنرجع إلى ما نحن بصدده من (*) حكومة الأدلّة الظنيّة على الاصول ، فنقول : قد جعل الشارع مثلا للشيء المحتمل للحلّ والحرمة حكما شرعيّا أعني الحلّ ، ثمّ حكم بأنّ الأمارة الفلانيّة ـ كخبر العادل الدالّ على حرمة العصير ـ حجّة ، بمعنى أنّه لا يعبأ باحتمال مخالفة مؤدّاه للواقع ، فاحتمال حلّية العصير المخالف للأمارة بمنزلة العدم ، لا يترتّب عليه حكم شرعي كان يترتّب عليه لو لا هذه الأمارة ، وهو ما ذكرنا من الحكم بالحليّة الظاهرية ، فمؤدّى الأمارات بحكم الشارع كالمعلوم ، لا يترتّب عليه الأحكام الشرعية المجعولة للمجهولات.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الورود والحكومة (٢٧٧٤) جار في الاصول اللفظية

______________________________________________________

٢٧٧٤. توضيح المقام أنّ اعتبار أصالة الحقيقة لا يخلو : إمّا أن يكون من باب التعبّد وأصالة عدم القرينة ، أو من باب الظهور النوعي أو الشخصي. ولا إشكال في عدم جريانها مع القرينة القطعيّة بخلافها ، لارتفاع موضوعها بها حقيقة. وأمّا مع

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : ترجيح.

٢١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

القرينة الظنّية التي اعتبرها الشارع جعلا أو إمضاء فنقول : إنّه على الأوّل لا يخلو : إمّا أن يكون دليل التعبّد مطلقا ، أو مقيّدا بعدم القرينة. وعلى الثاني أيضا يحتمل أن يكون دليل اعتبار الظنّ النوعي أو موضوع نفس الظنّ مطلقا أو مقيّدا بما عرفت وأمّا على الثالث فالمدار فيه على صفة الظنّ ، وهو واضح فالأقسام خمسة أو ستّة. وإذا ورد عامّ وخاصّ ، فالخاصّ لا يخلو : إمّا أن يكون قطعيّا مطلقا ، أو ظنّيا كذلك ، أو قطعيّا دلالة وظنّيا سندا ، أو بالعكس. وبضرب الأربعة في الخمسة ترتقي الأقسام إلى عشرين.

ونقول في توضيح أحكام هذه الأقسام : إنّه إذا ورد عامّ وخاصّ فلا إشكال في تقديم الخاصّ عليه في الجملة. وإنّما الإشكال في وجه التقديم ، فإن كان الخاصّ قطعيّا مطلقا فلا إشكال في كونه من باب الورود ، لارتفاع موضوع أصالة الحقيقة في العامّ به حقيقة.

وإن كان ظنّيا مطلقا ، أو سندا خاصّة كالنصّ من الآحاد ، أو دلالة كذلك كالخاصّ الظنّي من الكتاب ، فإن كان العمل بأصالة الحقيقة من باب التعبّد المقيّد أو الظنّ النوعي كذلك دليلا أو موضوعا على ما عرفت ، فالخاصّ وارد عليها ، لرفعه موضوعها حقيقة بالفرض. وإن كان من باب التعبّد المطلق فالخاصّ حاكم عليها ، لأنّ الخاصّ وإن لم يعلم بصدوره عن الشارع ولا بما هو المراد منه واقعا ، إلّا أنّه بمقتضى دليل اعتباره دلالة وسندا منزّل بمنزلة الواقع ، بجعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم ، في عدم ترتّب ما كان يترتّب على هذا الاحتمال من الأثر لو لا حجّيته ، وهو وجوب العمل بالعامّ. وبعبارة اخرى : أنّ العمل بأصالة الحقيقة في العامّ إنّما هو في مورد احتمال وجود المخصّص وعدمه ، والخاصّ المعتبر شرعا رافع لاحتمال العدم شرعا ، فيكون بمقتضى دليل اعتباره حاكما عليها.

٢١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان من باب الظنّ النوعي ، فتقديم الخاصّ حينئذ من باب الحكومة ـ كما يظهر من المصنّف رحمه‌الله ـ إن كان ظنّي السند خاصّة ، ومن باب المعارضة وتقديم أقوى الظنّين بحكم العقل إن كان ظنّيا مطلقا أو بحسب الدلالة خاصّة. ولكن سنشير إلى ما يخدش فيه.

وإن كان من باب الظنّ الشخصيّ ، فإن زال الظنّ بالعموم بسبب وجود الخاصّ فلا مسرح للأصل فيه ، لانتفاء مناط اعتباره ، وإلّا فالخاصّ حاكم عليه ، لأنّ الظنّ المذكور منزّل بمنزلة عدمه بمقتضى دليل اعتبار الخاصّ ، لأنّ مقتضاه تنزيل مؤدّى الخاص بمنزلة الواقع في رفع اليد بسببه عن عموم العامّ ، كما يظهر تقريبه ممّا عرفت.

ومن هنا يظهر أنّ تقديم الخاصّ على العامّ من باب التخصيص ، وتقديم أحد الظاهرين لقوّته ورجحانه ، لا من باب الورود أو الحكومة ، مختصّ بصورة خاصّة ، وهي كون الخاصّ ظنّيا مطلقا أو بحسب الدلالة. ويظهر أيضا أنّ ما تقدّم من المصنّف رحمه‌الله عند بيان الفرق بين الحكومة والتخصيص من كون الخاصّ مبيّنا للمراد بالعامّ بحكم العقل لأجل قوّة ظهوره. وبعبارة اخرى : كون تقديم الخاصّ من باب تقديم الأظهر على الظاهر إنّما هو في الصورة المزبورة.

وبقي في العبارة شيء ، وهو أنّ المراد بالنصّ في قوله : «فثبت أنّ النصّ وارد ...» إن كان أعمّ من النصّ الحقيقي ـ أعني : ما لا يحتمل النقيض ـ وما كان أظهر بالنسبة إلى العامّ ـ وحاصله : دعوى ورود الخاصّ إن كان قطعيّ الدلالة والسند ، وحكومته إن كان ظنّيا سندا أو دلالة ـ يرد عليه حينئذ سؤال الفرق في العامّ والخاصّ ظنّي الدلالة بين ما لو قلنا باعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد ، وما لو قلنا باعتبارها من باب الظنّ النوعي ، حيث حكم هنا بالحكومة علي الأوّل ، وبالمعارضة على الثاني فيما يأتي من كلامه ، وسنشير إليه. وإن أراد به النصّ الحقيقي ـ أعني : قطعيّ الدلالة ـ يرد عليه أوّلا : إلغاء قوله : «في الجملة» لأنّ ر

٢١٨

أيضا ، فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز. فإن كان المخصّص مثلا دليلا علميّا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنصّ القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلميّ في مقابل الأصل العملي (*). وإن كان المخصّص ظنيّا معتبرا كان حاكما على الأصل ؛ لأنّ معنى حجّية الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لو لا حجّية هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ؛ فإنّ الواجب عرفا وشرعا العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه ، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم. فثبت : أنّ النصّ وارد على أصالة الحقيقة (**) إذا كان قطعيّا من جميع الجهات ، وحاكم عليه إذا كان ظنيّا في الجملة ، كالخاص الظنّي السند مثلا. ويحتمل أن يكون الظنّي أيضا واردا ، بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلّقا على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاصول العقلية ، فتأمّل (٢٧٧٥).

هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة. وأمّا إذا كان من جهة الظنّ النوعي الحاصل بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة أو من غيرها فالظاهر أنّ النص وارد عليها مطلقا وإن كان النصّ ظنيّا ، لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّية الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة الذي هو مستند أصالة الظهور ، مقيد بصورة

______________________________________________________

ضمير «كان» في قوله : «إن كان ظنّيا في الجملة» راجع إلى النصّ ، وظنّية النصّ لا تتصوّر إلّا بحسب السند. وثانيا : أنّه تبقى صورة معارضة العامّ والخاصّ ظنّيّ الدلالة مسكوتا عنها في كلامه.

٢٧٧٥. لعلّ الأمر بالتأمّل إشارة إلى كون اعتبار أصالة الحقيقة من باب التعبّد المقيّد على خلاف التحقيق ، لأنّ الحقّ اعتبارها إمّا من باب التعبّد المطلق أو الظنّ النوعي كذلك. وقد مرّ تحقيقه في أوائل الكتاب عند بيان اعتبار الظواهر.

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : فإطلاق المتعارضين عليها مسامحة.

(**) فى بعض النسخ زيادة : في الظاهر.

٢١٩

عدم وجود ظنّ معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل.

ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدّم فيه العام ـ من حيث هو ـ على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون (٢٧٧٦) المعتبرة ، فلو كان حجّية ظهور العام غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه ، لوجد مورد يفرض (*) فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاص من ظنّ العام حتّى يقدّم عليه ، أو مكافئته له حتّى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العام من حيث هو والخاص ، فضلا عن أن يرجّح عليه. نعم ، لو فرض الخاص ظاهرا أيضا خرج عن النص ، وصارا من باب تعارض (٢٧٧٧) الظاهرين ، فربّما يقدّم العام. وهذا نظير (٢٧٧٨) ظنّ الاستصحاب على القول به ، فإنّه لم يسمع مورد يقدّم الاستصحاب على الأمارة المعتبرة المخالفة له ، فيكشف عن أنّ إفادته للظنّ أو اعتبار ظنّه النوعيّ مقيّد بعدم قيام ظنّ آخر على خلافه ، فافهم.

______________________________________________________

٢٧٧٦. يعني : من حيث السند ، كما يرشد إليه قوله : «نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا أيضا ...».

٢٧٧٧. يمكن منع المعارضة بناء على ما هو المفروض من اعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ النوعي ، لأنّ دليل اعتبار هذا الظنّ في الخاصّ حاكم عليه في العامّ ، بتقريب ما أسلفناه على تقدير اعتبارها من باب التعبّد المطلق.

وبالجملة ، إنّ الظهورين في أنفسهما وإن كانا متعارضين ، إلّا أنّهما بضميمة دليل اعتبارهما يصير ظهور الخاصّ حاكما على ظهور العامّ. ومع قطع النظر عن دليل اعتبارهما فالتعارض بينهما ثابت ، وإن قلنا باعتبارهما من باب التعبّد المطلق ، فلا وجه لتخصيص المعارضة بصورة كون اعتبار أصالة الحقيقة من باب الظنّ النوعي.

٢٧٧٨. أي : ما ذكره قبل قوله : «نعم لو فرض ...».

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «يفرض» ، نفرض.

٢٢٠