فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ المفروض أنّ المعارض المرجوح لم يسقط من الحجّية الشأنيّة ، كما يخرج الأمارة المعتبرة بوصف الظنّ عن الحجّية إذا كان معارضها أقوى. وبالجملة : فاعتبار قوّة الظنّ في الترجيح في تعارض ما لم ينط اعتباره بإفادة الظنّ أو بعدم الظنّ على الخلاف لا دليل عليه.

وإن قلنا بالتخيير بناء على اعتبار الأخبار من باب السببيّة والموضوعية ، فالمستفاد بحكم العقل من دليل وجوب العمل بكلّ من المتعارضين مع الإمكان ، كون وجوب العمل بكلّ منهما عينا مانعا عن وجوب العمل بالآخر كذلك ، ولا تفاوت بين الوجوبين في المانعيّة قطعا. ومجرّد مزيّة أحدهما على الآخر بما يرجع إلى أقربيّته إلى الواقع لا يوجب كون وجوب العمل بالراجح مانعا عن العمل بالمرجوح دون العكس ؛ لأنّ المانع بحكم العقل هو مجرّد الوجوب (٢٨٤٢) ، والمفروض وجوده في المرجوح. وليس في هذا الحكم (٢٨٤٣) العقليّ إهمال وإجمال وواقع مجهول حتى يحتمل تعيين الراجح ووجوب طرح المرجوح.

وبالجملة : فحكم العقل بالتخيير نتيجة وجوب العمل بكلّ منهما في حدّ ذاته ، وهذا الكلام مطّرد في كلّ واجبين متزاحمين (٢٨٤٤). نعم ، لو كان الوجوب في أحدها آكد والمطلوبية فيه أشدّ ، استقلّ العقل عند التزاحم بوجوب ترك غيره ،

______________________________________________________

المفروض كون اعتبار المتعارضين في أنفسها من حيث إفادة نوعهما للظنّ وغلبة إيصالهما إلى الواقع ، فإذا تعاضد أحدهما بظنّ نوعي آخر أو ظنّ فعلي تقوّت جهة كشفه عن الواقع التي هي مناط اعتباره ، فلا يعارضه الطريق الآخر في حكم العقل ، ولا ينافيه تساقطهما عند العقل لأجل المعارضة لو لا المزيّة المزبورة. والمقام بعد محتاج إلى التأمّل.

٢٨٤٢. من دون مدخليّة للمزيّة في المانعيّة.

٢٨٤٣. بخلاف ما لو استفيد وجوب العمل بأحد المتعارضين من حكم الشارع كما تقدّم.

٢٨٤٤. قد تقدّم شطر من الكلام في ذلك.

٣٠١

وكون وجوب الأهمّ مزاحما لوجوب غيره من دون عكس. وكذا لو احتمل الأهميّة في أحدهما دون الآخر. وما نحن فيه ليس كذلك قطعا ؛ فإنّ وجوب العمل بالراجح من الخبرين ليس آكد من وجوب العمل بغيره.

هذا ، وقد عرفت فيما تقدّم أنّا لا نقول بأصالة التخيير في تعارض الأخبار ، بل ولا غيرها من الأدلّة ؛ بناء على أنّ الظاهر من أدلّتها وأدلّة حكم تعارضها كونها من باب الطريقيّة ، ولازمه التوقّف والرجوع إلى الأصل المطابق لأحدهما أو أحدهما المطابق للأصل ، إلّا أنّ الدليل الشرعي دلّ على وجوب العمل بأحد المتعارضين في الجملة ، وحيث كان ذلك بحكم الشرع فالمتيقّن من التخيير هو صورة تكافؤ الخبرين.

أمّا مع مزيّة أحدهما على الآخر من بعض الجهات فالمتيقّن هو جواز العمل بالراجح ، وأمّا العمل بالمرجوح فلم يثبت ، فلا يجوز الالتزام به ، فصار الأصل وجوب العمل بالراجح ، وهو أصل ثانوي ، بل الأصل فيما يحتمل كونه مرجّحا الترجيح به ، إلّا أن يرد عليه (٢٨٤٥) إطلاقات التخيير ؛ بناء على وجوب الاقتصار في تقييدها على ما علم كونه مرجّحا.

وقد يستدلّ على وجوب الترجيح (٢) : بأنّه لو لا ذلك لاختلّ نظم الاجتهاد بل نظام الفقه ؛ من حيث لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من الظاهر والنصّ المتعارضين.

وفيه : أنّ الظاهر (٢٨٤٦) خروج مثل هذه المعارضات عن محلّ النزاع ؛ فإنّ

______________________________________________________

٢٨٤٥. سيجيء في المقام الثالث دعوى المصنّف رحمه‌الله أنّ المتبادر من أخبار التخيير هي صورة تكافؤ الخبرين من جميع الوجوه ، وعدم مزيّة أحدهما على الآخر أصلا.

٢٨٤٦. لا ريب في صحّة الاستدلال لو لا استشهاده لزوم التخيير بين الخاصّ والعامّ والمطلق والمقيّد ، إذ لا شكّ في لزوم تأسيس فقه جديد لو لا البناء على الترجيح في متعارضات الأخبار.

٣٠٢

الظاهر لا يعدّ معارضا للنصّ ، إمّا لأنّ العمل به لأصالة عدم الصارف المندفعة بوجود النصّ ، وإمّا لأنّ ذلك (٢٨٤٧) لا يعدّ تعارضا في العرف. ومحلّ النزاع في غير ذلك.

وكيف كان ، فقد ظهر ضعف القول المزبور وضعف دليله المذكور وهو عدم الدليل على الترجيح بقوّة الظن.

وأضعف من ذلك ما حكي عن النهاية من احتجاجه : بأنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل ؛ لعدم تقديم شهادة الأربعة على الاثنين.

وأجاب عنه في محكيّ النهاية والمنية : بمنع بطلان التالي ، وأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الاثنين. سلّمنا ، لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة ، والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى. ومرجع الأخير إلى أنّه لو لا الإجماع (٢٨٤٨) حكمنا بالترجيح في البيّنات أيضا.

ويظهر ما فيه ممّا ذكرنا سابقا ؛ فإنّا لو بنينا على أنّ حجّية البيّنة من باب الطريقيّة ، فاللازم مع التعارض التوقّف والرجوع إلى ما يقتضيه الاصول في ذلك المورد من التحالف أو القرعة أو غير ذلك.

ولو بني على حجّيتها من باب السببيّة والموضوعية ، فقد ذكرنا أنّه لا وجه للترجيح بمجرّد أقربيّة أحدهما إلى الواقع ؛ لعدم تفاوت الراجح والمرجوح في الدخول فيما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبقها ، وتمانعهما مستند إلى مجرّد سببية كلّ منهما ، كما هو المفروض ، فجعل أحدهما مانعا دون الآخر لا يحتمله العقل.

ثمّ إنّه يظهر من السيّد الصدر (٢٨٤٩)

______________________________________________________

٢٨٤٧. هذا بناء على اعتبار الظواهر من باب الظهور العرفي من دون ملاحظة أصالة عدم القرينة.

٢٨٤٨. المعبّر عنه في كلام النهاية والمنية بمذهب أكثر الصحابة.

٢٨٤٩. أقول : لا بأس بنقل ملخّص كلامه أوّلا ، ثمّ الإشارة إلى المواقع التي اختلط عليه الأمر فيها ، قال : «إنّ المشهور ـ بل المجمع عليه ـ عند الاصوليّين هو

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب استعلام التراجيح ووجوب العمل بالراجح ، فيرد على قولهم إشكالات على تلك الأحاديث. منها :

أنّ الراوي سأل مرّة وأجاب عليه‌السلام بأنّ اللازم العمل بما هو أصحّ سندا ، ففرض الراوي التساوي فيه ، فأجاب بترجيح المشهور على النادر. فيشكل الأمر بأنّ الراوي إن فرض التساوي في الوجوه الأخر غير السند ، ثمّ فرض التساوي فيه أيضا ، فالجواب هو التوقّف أو التخيير ليس إلّا. وإن لم يفرض التساوي فالعمل بما هو حكم الله تعالى في الواقع ، لأنّ الأوثقيّة لا تفيد إلّا قوّة الظنّ بصدور الخبر عن المعصوم عليه‌السلام ، وربّما كان خبر الثقة قطعيّ المضمون فضلا عن قوّة الظنّ به ، كأن يروي الأوثق ما هو مخالف لجميع أقوال الأمّة ، ويروي الثقة ما هو المعلوم من مذهب الشيعة.

وأيضا بعد فرض التساوي في السند فقط ليس اللازم العمل بما يخالف العامّة كما يدلّ عليه حديث زرارة ، لأنّ المخالفة لا تقتضي قوّة الظنّ بكون مضمون المخالف واقعيّا ، كما إذا كان الموافق موافقا لنصّ الكتاب ومحكمه ، لأنّ صدور الأخبار التي ليست واقعيّة ليس منحصرا في التقيّة عن العامّة ، بل لعلّه كان تقيّة من بعض سلاطين الوقت الذي لا يبالي بالدين مطلقا ، كبعض بني أميّة وبني العبّاس ، أما ترى أنّ الوليد لعنه الله استخفّ بالقرآن ، والمتوكّل لعنه الله صرّح بعداوة سيّدة النساء صلوات الله عليها ، مع أنّ هذين ليسا مذهبا لأحد من العامّة.

ومنها : أنّ العرض على كتاب الله تعالى إن كان على المحكم الذي صار مضمونه ضروريّا في الدين أو المذهب ، فلا ثمرة لعرض الحديث عليه إن كان المقصود تحصيل العلم أو الظنّ بحقيته ليعمل به ، لأنّ مثل هذا الحكم مستغن عن الدليل. وإن كان على الظاهر الذي اختلف في ظهوره ولم يعلم من طريق الأئمّة عليهم‌السلام حاله والمقصود منه ، فلا يحصل من موافقته لمثل هذا الظاهر قوّة الظنّ ، إذ ربّما كانت دعوى الظهور من قائله غير مستندة إلى حجّة شرعيّة ، وكان ما

٣٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ليس بظاهر عنده هو المقصود ، فيكون الحديث المخالف لهذا الظاهر هو المطابق للواقع.

ومنها : الاكتفاء في البعض بالبعض.

ومنها : مخالفة الترتيب ، ففي البعض قدّمت الشهرة ، وفي الآخر قدّم السند ، وغير ذلك ممّا يظهر بالتأمّل فيها.

والجواب عن الكلّ هو ما أشرنا إليه من أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل ، إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الفضل والأولى. والمعصوم عليه‌السلام علّم بعض المرجّحات مع فرض التساوي في الباقي ، فكأنّه عليه‌السلام قال : السند مرجّح مع فرض التساوي في غيره ، والمخالفة للعامّة مرجّحة مع فرض التساوي في غيرها ، والموافقة للكتاب مرجّحة مع فرض التساوي في غيرها ، وهكذا.

وأمّا الاكتفاء بالبعض فغير مناف للاستحباب. وأمّا التعرّض لبعض خاصّ فلعلّه كان للاهتمام به ، مثلا إذا كان الغالب في جماعة الكذب المخالف للقرآن والسنة فالمناسب لمعرفة حال حديثهم من جهة الصدق والكذب تعليم قاعدة الموافقة والمخالفة ، وأكثر المكلّفين وإن كانوا عالمين بالأحكام الضروريّة المستنبطة من الكتاب والسنّة ، ولكن لما سمعوا أنّ للقرآن بطونا فربّما توهّموا أنّ الحديث المخالف لمحكماته ربّما كان موافقا لبواطن القرآن ، وأنّه يجوز نسخ الباطن بحكم الظاهر ، وإن علم هذا عند الأئمّة عليهم‌السلام ، فلهذا وأمثاله قال الإمام عليه‌السلام : «إنّ الحديث المخالف للمحكم زخرف وكذب ، وإنّ باطن القرآن لا يناقض محكماته» انتهى كلامه.

وأنت خبير بضعف هذه الإشكالات.

أمّا الأوّل فإنّ من الواضحات أنّ مورد الترجيح إنّما هو ما لم يعلم صدق مضمون أحد الخبرين وبطلان الآخر في الواقع ، وإلّا لم يقع التحيّر للسائل ، ولم

٣٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

يحتج إلى إعمال المرجحات. وحينئذ نختار الشقّ الثاني من الترديد ، ونمنع ورود النقض الذي أورده.

وأمّا ما ذكره من قوله : «وأيضا بعد فرض التساوي ...» ، فيرد عليه : أنّ موافق العامّة إذا كان موافقا لنصّ الكتاب أو محكمه ، والمخالف لهم موافقا لميل سلطان الجور ، فهو من موارد تعارض المرجّحات ، لأنّ الموافق لهم وللكتاب مرجوح من حيث موافقته لهم ، وراجح من حيث الموافقة للكتاب ، والمخالف لهم الموافق لميل سلطان الجور راجح من حيث المخالفة ومرجوح من حيث الموافقة ، والموافقة لميل حكّامهم وقضاتهم والمخالفة لهم من جملة المرجّحات أيضا على ما نصّ عليه في المقبولة. وصورة تعارض المرجّحات خارج مورد الأخبار ، لأنّ مقصود الإمام عليه‌السلام بيان ترجيح أحد الخبرين بالمزيّة الموجودة فيه ، ولا مزيّة مع التعارض. وقد استظهر المصنّف رحمه‌الله في المقام الثالث من عدم تعرّض السائل لصورة التعارض ، كون مقصود الإمام عليه‌السلام هو الترجيح بكلّ مزية في أحدهما مفقودة في الآخر ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وأمّا الثّاني فيرد عليه : أنّ المراد بموافقة الكتاب أعمّ من الموافقة لنصّه وظاهره.

وما أورده على الموافقة لنصّه من عدم ترتّب ثمرة على العرض على الكتاب حينئذ ، إن كان المقصود منه تحصيل الظنّ بحقّية الموافق له ، لاستغناء هذا الحكم عن الدليل ، فمقدوح بأنّه إنّما يرد لو كان المقصود هو الموافقة لنصّه خاصّة دون الأعمّ ، سيّما مع قلّة نصوص الكتاب بحيث لا يحتمل الخلاف. وما أورده على الموافقة لظاهره من عدم حصول الظنّ به بحقيّة الموافق له ، فهو مخالف للوجدان ، إذ مجرّد احتمال إرادة خلاف الظاهر لا يقدح في رجحان إرادة ما هو الظاهر منه. وكذا كون دعوى الظهور غير مستندة إلى مستند شرعيّ غير صادم فيه ، إذ غاية الأمر أن يشتبه عليه الظاهر بغيره ، وهو غير قادح في حصول الظنّ ، بل هو معذور في اعتقاده إن كان أهلا للاجتهاد ، وإلّا فهو خارج من محلّ الكلام.

٣٠٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الثالث فيرد عليه : أنّه إنّما يتمّ على تقدير وجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، لا على المختار من التعدّي إلى كلّ مزيّة موجودة في أحدهما دون الآخر ، لأنّه إذا كان المقصود بيان الترجيح بكلّ مزيّة كان التعرّض لبيان بعض المرجّحات من باب المثال من دون مدخليّة للخصوصيّة في الترجيح.

نعم ، على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة لا بدّ من التعرّض لجميعها ، لئلّا يلزم الإغراء والإخلال ببيان الواجب. مع أنّ عدم التعرّض للجميع لعلّه لعدم الحاجة إليه ، إذ لعلّ الإمام عليه‌السلام كان عالما بتساوي الخبرين المسئول عنهما فيما عدا المرجّحات التي تعرّض لبيانها.

وممّا ذكرناه يظهر ضعف الرابع أيضا إذ الموافقة في الترتيب إنّما يلزم على القول بوجوب الاقتصار على المرجّحات المنصوصة ، وأمّا على القول بجواز الترجيح بكلّ مزيّة فلا. وسيجيء توضيح الكلام في بيان التعدّي عن المرجّحات المنصوصة في المقام الثالث.

وأمّا ما دفع به الإشكالات على تقدير حمل الأمر بالترجيح على الاستحباب. فأمّا ما دفع به الأوّل فيرد عليه : أنّه إن تمّ يدفع به الإشكال على تقدير وجوب الترجيح أيضا كما هو واضح.

وأمّا ما دفع به الثالث من قوله : «وأمّا الاكتفاء بالبعض فغير مناف للاستحباب» ـ ولعلّ مقصوده بعدم المنافاة جواز المسامحة في المستحبّات والمكروهات ، ولعلّه من هنا لم يتعرّض لدفع إشكال مخالفة الترتيب ـ فيرد عليه على أنّ ما دلّ على جواز المسامحة فيها من الأخبار المستفيضة إنّما هي في الثبوت عن الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث يتسامح في أدلّتها سندا ودلالة على التفصيل المقرّر في محلّه ، لا في بيان الأئمّة عليهم‌السلام ، وإلّا لزم مخالفة اللطف ، لأنّ اللطف كما يقتضي وجوب بيان الواجبات والمحرّمات كذلك المستحبّات والمكروهات. وأمّا ما صحّح به جواز الترجيح بموافقة الكتاب ، فهو إن تمّ يتمّ على القول بوجوب الترجيح أيضا كما لا يخفى.

٣٠٧

ـ الشارح للوافية ـ الرجوع في المتعارضين من الأخبار إلى التخيير أو التوقّف والاحتياط وحمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، حيث قال ـ بعد إيراد إشكالات على العمل بظاهر الأخبار ـ : " إنّ الجواب عن الكلّ ما أشرنا إليه : من أنّ الأصل التوقّف في الفتوى والتخيير في العمل إن لم يحصل من دليل آخر العلم بعدم مطابقة أحد الخبرين للواقع ، وأنّ الترجيح هو الأفضل والأولى".

ولا يخفى بعده عن مدلول أخبار الترجيح. وكيف يحمل الأمر بالأخذ بما يخالف العامّة وطرح ما وافقهم على الاستحباب ، خصوصا مع التعليل ب" أنّ الرشد في خلافهم" ، و" أنّ قولهم في المسائل مبنيّ على مخالفة أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما يسمعونه منه". وكذا الأمر بطرح الشاذّ النادر ، وبعدم الاعتناء والالتفات إلى حكم غير الأعدل والأفقه من الحكمين. مع أنّ في سياق تلك المرجّحات موافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، ولا يمكن حمله على الاستحباب ، فلو حمل غيره عليه لزم التفكيك ، فتأمّل (٢٨٥٠). وكيف كان ، فلا شكّ أنّ التفصيّ عن الإشكالات الداعية له إلى ذلك ، أهون من هذا الحمل (*).

ثمّ لو سلّمنا دوران الأمر بين تقييد أخبار التخيير وبين حمل أخبار الترجيح على الاستحباب ، فلو لم يكن الأوّل أقوى وجب التوقّف ، فيجب العمل بالترجيح ؛ لما عرفت : من أنّ حكم الشارع بأحد المتعارضين إذا كان مردّدا بين التخيير والتعيين وجب التزام ما احتمل تعيينه.

المقام الثاني : في ذكر الأخبار الواردة في أحكام المتعارضين ، وهي أخبار : الأوّل : ما رواه المشايخ الثلاثة (٢٨٥١) بإسنادهم عن عمر بن حنظلة : " قال : سألت

______________________________________________________

٢٨٥٠. لعلّه أشار به إلى أنّ التفكيك إنّما لا يصار إليه مع عدم الدليل ، والدليل هنا قائم عليه ، وهو ما أشار إليه من وجوه الإشكال.

٢٨٥١. قد وصفها في البحار بالصحّة ، وفي الوافية بالموثّقية. وليس في السند من يوجب القدح فيه إلّا رجلان ، أحدهما : داود بن حصين ، وقد وثّقه

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : لما عرفت من عدم جواز الحمل علي الاستحباب.

٣٠٨

أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا ، يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ قال عليه‌السلام : من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وإنّما أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (٣). قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا قد ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله.

______________________________________________________

النجاشي ، قال : كوفيّ ثقة ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام. ونقل الوحيد البهبهاني في فوائده المتعلّقة بعلم الرجال عن المحقّق الشيخ محمّد بن الشيخ حسن صاحب المعالم أنّه قال : «إنّه إذا قال النجاشي : ثقة ، ولم يتعرّض لفساد المذهب فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض للفساد ، فعدمه ظاهر في عدم ظفره ، وهو ظاهر في عدمه ، لبعد وجوده مع عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته ، وعليه جماعة من المحقّقين» انتهى. وقال الشيخ في رجاله في أصحاب الكاظم عليه‌السلام : إنّه واقفيّ. فمن وصف الرواية بالصحة نظر إلى توثيق النجاشي ، بناء على كون توثيقه تعديلا ولا يعارضه قول الشيخ بكونه واقفيّا ، لكونه أثبت وأضبط كما قيل. ومن وصفها بالتوثيق نظر إلى الجمع بين الوقف والثقة ، أو إلى عدم ثبوت كون مراد النجاشي من التوثيق هو التعديل ، أو إلى تقدّم الجرح على التعديل وثانيهما : عمر بن حنظلة. ولم يذكره أصحاب الرجال بمدح ولا ذمّ ، إلّا الشهيد الثاني في شرح بداية الدراية حيث قال : «إنّ عمر بن حنظلة لم ينصّ الأصحاب عليه بجرح ولا تعديل ، ولكن حقّقت توثيقه من محلّ آخر» انتهى. وقال ولده المحقّق الشيخ حسن فيه ما هو غير خفيّ على من راجع كتب الرجال. وكيف كان ،

٣٠٩

قلت : فإن كان كلّ رجل يختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما ، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما. ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟

قال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم. قال : قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد رواهما الثّقات عنكم؟

قال : ينظر ، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف الكتاب والسنّة ووافق العامّة. قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد. فقلت : جعلت فداك ، فإن وافقهم الخبران جميعا. قال : ينظر إلى ما هم إليه أميل ، حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا. قال : إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات".

وهذه الرواية الشريفة وإن لم تخل عن الإشكال (٢٨٥٢)

______________________________________________________

فلا تأمّل في قبول الرواية ، لقبول الأصحاب لها ، وهو كاف في الباب إن شاء الله تعالى ، مضافا إلى رواية المشايخ الثلاثة لها في كتبهم.

٢٨٥٢. لا يخفى أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله يرجع إلى وجوه ثلاثة :

أحدها : أنّ مورد الرواية هو التحكيم لأجل فصل الخصومة ، فلا يناسبها أوّلا : تعدّد الحكمين. وثانيا : غفلة كلّ عن المعارض الواضح المستند حكمه. وثالثا :

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

اجتهاد المتحاكمين في ترجيح مستند أحدهما على الآخر. ورابعا : جواز حكم أحدهما بعد حكم الآخر ، لبعد فرض وقوع حكمهما دفعة.

ويرد على ما عدا الثاني : أنّه إنّما يتمّ على تقدير كون المراد بالحاكم في مورد الرواية هو المنصوب عموما أو خصوصا من قبل الإمام عليه‌السلام. وأمّا لو كان المراد به قاضي التحكيم فلا دليل على بطلان ما ذكر من اللوازم.

ومنه يندفع إشكال آخر هنا ، وهو أنّ اختيار الحاكم إنّما هو بيد المدّعي ، فله أن يختار من أراد من الحكّام ، وإن كان مفضولا بالنسبة إلى من اختاره المنكر ، فالأولى حينئذ الجواب بتفويض الأمر إلى المدّعي لا إليهما وتحرّيهما في إعمال المرجّحات. ووجه الاندفاع واضح. مضافا إلى احتمال اختصاص مورد الرواية بصورة التداعي ، فتدبّر.

وأمّا الثاني فهو مجرّد استبعاد لا يقدح في العمل بالظواهر. مع أنّه لا استبعاد فيه ، حيث لم تكن الأخبار مجتمعة في زمان صدور الأخبار عند كلّ أحد. مضافا إلى احتمال إعراض كلّ منهما عن مستند حكم الآخر ، لأجل اطّلاع كلّ منهما على قدح في مستند حكم الآخر لم يطّلع عليه الآخر ، مثل وروده تقيّة أو نحوها ، لا لأجل الغفلة عنه رأسا.

ويدفع الجميع أيضا أنّه يحتمل أن يكون المراد بالحكمين هو الحاكم على سبيل نقل الرواية في خصوص الواقعة ليعمل بمضمونها المتخاصمان ، لا الحاكم بالمعنى المصطلح عليه.

ويؤيّده أنّ المتعارف في ذلك الزمان أنّ كلّ من كان يفتي بشيء كان على سبيل نقل الرواية ، وكان غرض المستفتي أيضا استعلام ما عند المسئول من الحديث في الواقعة المجهولة المسئول عنها.

ويؤيّده أيضا قوله : «كلاهما اختلفا في حديثكم» لأنّ ظاهره كون الرجوع إليهما من حيث نقل الرواية والحديث ، وجعل الفاصل ذلك لا رأي الحكمين.

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

ويؤيّده أيضا كون الشبهة في مورد الرواية حكميّة لا موضوعيّة. ويحتمل أن يكون التحرّي والاجتهاد في مستند الحكمين قبل تحقّق الحكم الاصطلاحي منهما ، بأن كان المراد الرجوع إلى المرجّحات عند اختلافهما في مستند الحكم عند مذاكرة الحكم الكلّي قبل صدور الحكم الاصطلاحي منهما ، كما يستحبّ للحاكم الشرعيّ إحضار جماعة عند المرافعة ليأمن به من الخطأ في الحكم ، فتأمّل.

وثانيها : اشتمال الرواية على تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، وهو مخالف للسيرة المستمرّة قديما وحديثا فيما بينهم.

والجواب عنه : ما أشار إليه بقوله : «إلّا أن يمنع ذلك». وتوضيحه : أنّ السيرة المذكورة إنّما تسلّم إذا كان المراد بالشهرة هي الشهرة بحسب الفتوى دون الرواية ، لخروج الخبر غير المشهور حينئذ من الحجّية كما لا يخف ، بخلاف ما لو كان المراد بها الشهرة بحسب الرواية ، إذ نمنع حينئذ تحقّق الإجماع على تقديم المشهور على ما اشتمل على صفات الراوي من المتعارضين.

وممّا يدلّ على كون المراد بها في مورد الرواية هي الشهرة بحسب الرواية دون الفتوى ، أنّ الفتوى المصطلح عليها لم تكن معروفة بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، لأنّ إفتاء أصحابهم كان على سبيل نقل الخبر بالمعنى ، وكان عمل المستفتين أيضا بأقوالهم لأجل حصول الوثوق بما ينقلونه عن أئمّتهم لا لأجل التعبّد بما ترجّح في نظرهم من الأدلّة والظنون الاجتهاديّة. مع أنّ الراوي فرض كون الخبرين مشهورين بعد تساويهما في صفات الراوي ، ومن المعلوم عدم إمكان تحقّق الشهرة بحسب الفتوى على طرفي المسألة في زمان واحد وفي واقعة واحدة ، وحينئذ فلا غرو في تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة ، والسرّ فيه يظهر ممّا أوضحه المصنّف رحمه‌الله من العلّة.

نعم ، يبقى في المقام أنّ الرواية مطلقة تقتضي تقديم الترجيح بالصفات مطلقا ، حتّى فيما لو كان بين رواة الخبر المشهور من هو أفقه من المتفرّد بالشاذ ، والعلّة

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المذكورة حينئذ لا تقتضي ترجيح الخبر الشاذّ الجامع للصفات على مثل هذا الخبر. مع أنّه قد يكون من عدا المتفرّد بالشاذّ من طبقات رواته مفضولا بالنسبة إلى رواة المشهور وإن كان هو أفقه منهم ، ولا تتأتّى فيه العلّة أيضا. اللهمّ إلّا أن تنزّل الرواية على غير هاتين الصورتين.

هذا غاية توضيح المقام. وهو بعد لا يخلو من نظر ، لأنّ عدم تقديم الشاذّ على المشهور في الصورتين المفروضتين ليس لأجل قصور في الترجيح بالصفات ، بل لأجل اشتمال المشهور على مزيّة اخرى سوى الشهرة ، ولا ريب أنّ دلالة الرواية على تقديم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة إنّما هي مع ملاحظة الشهرة من حيث هي ، لا مع اشتمال ذيها على مزيّة موجودة في معارضه أيضا ، فتنزيل الرواية على غير الصورتين المفروضتين حينئذ متعيّن.

وثالثها : أنّ ظاهر الرواية هو الترجيح بمجموع الصفات لا بكلّ واحدة منها ، وهو خلاف ما أطبقت عليه كلمة الأصحاب.

والجواب عنه ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من استظهار كون المراد بيان جواز الترجيح بكلّ منها لا بمجموعها ، ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض أو تعارض بعض الصفات مع بعض.

وأنت خبير بأنّ عدم سؤال الراوي من صورة وجود بعض الصفات كما يحتمل أن يكون لأجل فهمه جواز الترجيح بكل منهما ، كذلك يحتمل أن يكون ذلك لأجل فهمه لعدم جواز الترجيح ببعضها. ويؤيّد الثاني كون المذكور في الرواية هو الترجيح بالمجموع ، كما اعترف به المصنّف رحمه‌الله. ومن هنا يظهر الوجه في عدم السؤال عن صورة التعارض ، إذ بعد فرض كون المراد هو الترجيح بالمجموع خاصّة لا يبقى محلّ السؤال عن صورة التعارض ، لعدم إمكان اجتماع الصفات في كلّ من المتعارضين.

٣١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو كان جواز الترجيح بكلّ واحد منها مفروغا منه احتيج إلى السؤال عن صورة تعارض بعضها مع بعض ، إذ ليس فليس. فالأولى الاستناد في إثبات كون المراد جواز الترجيح بكلّ واحد منها إلى فهم الأصحاب ، أو بمنع ظهور الرواية في الترجيح بمجموع الصفات ، لأنّ غاية ما يدلّ عليه العطف بالواو هو الاشتراك في الحكم لا الاجتماع في الوجود ، لأنّك إذا قلت : جاءني زيد وعمرو ، فغاية ما يستفاد منه ثبوت المجيء لكلّ واحد منهما ولو في زمانين لا في زمان واحد. ويقال فيما نحن فيه أيضا : إنّ غاية ما يدلّ عليه العطف بالواو ثبوت حكم الترجيح لكلّ واحدة من الصفات لا لمجموعها من حيث الاجتماع ، فتدبّر.

وبقي في المقام أمر لا بدّ أن ينبّه عليه ، وهو أنّ قوله عليه‌السلام : «وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتا وإن كان حقّه ثابتا» يشمل الدين والعين ، والواقعة التي كانت الشبهة فيه حكميّة ، كما إذا اشترى أحدهما من الآخر شيئا بعقد فارسي ، واعتقد المشتري صحّته والبائع فساده ، أو موضوعيّة ، وهي واضحة. ونفي بعض أواخر المتأخّرين الخلاف عنه في الدين ، وادّعى الشهرة عليه في العين ، مصرّحا بعدم الفرق بين قضاة العامّة وغير الجامع لشرائط الاجتهاد من الشيعة ، فيحرم ما يؤخذ بحكمهم مطلقا. وعن الكفاية : أنّه يستفاد من الخبرين عدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّا وهو في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال ، لكن مقتضى الخبرين التعميم.

وقال في الجواهر : «وكأنّه فرّق بين الدين أو العين ، باحتياج الأوّل إلى تراض في التشخيص ، والفرض جبر المديون بحكمهم ، بخلاف العين. وفيه : أنّ الجبر وإن كان إثما فيه لكن لا ينافي تشخيص الدين بعد فرض كونه حقّا ، على أنّ في صدر أحد الخبرين المنازعة في دين أو ميراث ، فلا بدّ من حمل الخبر على الأعمّ من ذلك ، لكن على معنى أنّ أصل ثبوت الاستحقاق للدين أو العين قد كان بحكمهم الباطل ، لا أنّهما ثابتان بالحكم الحقّ وأخذهما قد كانا بحكم الطاغوت ، مع احتمال التزام

٣١٤

بل الإشكالات ـ من حيث ظهور صدرها في التحكيم لأجل فصل الخصومة وقطع المنازعة ، فلا يناسبها التعدّد ، ولا غفلة كلّ من الحكمين عن المعارض الواضح لمدرك حكمه ، ولا اجتهاد المترافعين وتحرّيهما في ترجيح مستند أحد الحكمين على الآخر ، ولا جواز الحكم من أحدهما بعد حكم الآخر مع بعد فرض وقوعهما دفعة ، مع أنّ الظاهر حينئذ تساقطهما والحاجة إلى حكم ثالث ـ ظاهرة بل صريحة في وجوب الترجيح بهذه المرجّحات بين الأخبار المتعارضة ، فإنّ تلك الإشكالات لا تدفع هذا الظهور بل الصراحة.

نعم يرد عليه بعض الإشكالات في ترتّب المرجّحات ؛ فإنّ ظاهر الرواية تقديم الترجيح من حيث صفات الراوي على الترجيح بالشهرة والشذوذ ، مع أنّ عمل العلماء قديما وحديثا على العكس على ما يدلّ عليه المرفوعة الآتية ، فإنّهم لا ينظرون عند تعارض المشهور والشاذّ إلى صفات الراوي أصلا.

اللهمّ إلّا أن يمنع ذلك (٢٨٥٣) ؛ فإنّ الراوي إذا فرض كونه أفقه وأصدق وأورع ، لم يبعد ترجيح روايته وإن انفرد بها على الرواية المشهورة بين الرواة ؛ لكشف اختياره إيّاها مع فقهه (*) وورعه عن اطّلاعه على قدح في الرواية المشهورة ، مثل صدورها تقيّة أو تأويل لم يطّلع عليه غيره ؛ لكمال فقاهته وتنبّهه لدقائق الامور وجهات الصدور. نعم ، مجرّد أصدقيّة الراوي وأورعيّته لا يوجب ذلك ، ما لم ينضمّ إليهما الأفقهيّة.

______________________________________________________

الحرمة فيهما أيضا في ذلك ، لكن على معنى حرمة التصرّف وإن كانا مملوكين ، فيكونان بحكم السحت في الإثم ولو باعتبار المقدّمة ، فتأمّل جيّدا ، والله العالم» انتهى.

وأقول : يمكن القول بالحرمة فيما كان الأخذ بعنوان الإطاعة والانقياد لهم كما هو المنساق من الأخبار ، دون ما لو كان بعنوان إنفاذ الحقّ ، كما يجوز له الاستعانة بالظالم في أخذ حقّه ، أو كان بقصد التقاصّ ، والله العالم.

٢٨٥٣. أي : إطلاق القول بكون عمل العلماء على تقديم الخبر المشهور.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «فقهه» ، فهمه.

٣١٥

هذا ، ولكنّ الرواية مطلقة ، فتشمل الخبر المشهور روايته بين الأصحاب حتّى بين من هو أفقه من هذا المتفرّد برواية الشاذّ ، وإن كان هو أفقه من صاحبه المرضيّ بحكومته. مع أنّ أفقهية الحاكم بإحدى الروايتين لا تستلزم أفقهية جميع رواتها ، فقد يكون من عداه مفضولا بالنسبة إلى رواة الاخرى ، إلّا أن ينزّل الرواية على غير هاتين الصورتين.

وبالجملة : فهذا الإشكال أيضا لا يقدح في ظهور الرواية بل صراحتها في وجوب الترجيح بصفات الراوي وبالشهرة من حيث الرواية وبموافقة الكتاب والسنّة ، ومخالفة العامة. نعم ، المذكور في الرواية الترجيح باجتماع صفات الراوي من العدالة والفقاهة والصداقة والورع. لكنّ الظاهر إرادة بيان جواز الترجيح بكلّ منها ؛ ولذا لم يسأل الراوي عن صورة وجود بعض الصفات دون بعض ، أو تعارض الصفات بعضها مع بعض ، بل ذكر في السؤال أنّهما معا عدلان مرضيّان لا يفضل أحدهما على صاحبه ، فقد فهم أنّ الترجيح بمطلق التفاضل. وكذا يوجّه الجمع بين موافقة الكتاب والسنّة ومخالفة العامة ، مع كفاية واحدة منها إجماعا.

الثاني : ما رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي عن العلّامة مرفوعا إلى زرارة : " قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، فقلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال : يا زرارة ، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر. فقلت : يا سيّدي ، إنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم. فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان. فقال : انظر ما وافق منهما العامّة ، فاتركه وخذ بما خالف ؛ فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت : ربّما كانا موافقين لهم أو مخالفين ، فكيف أصنع؟ قال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : فإنّهما معا موافقان للاحتياط (٢٨٥٤) أو مخالفان له ، فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما ، فتأخذ به وتدع الآخر" (٤).

______________________________________________________

٢٨٥٤. لعلّ المراد بموافقتهما له هو الموافقة في الجملة ولو من جهة ، وإلّا

٣١٦

الثالث : ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في حديث طويل ، قال فيه : " فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما كان في السنّة موجودا منهيا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة (٢٨٥٥) ثمّ كان الخبر خلافه ، فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما (٢٨٥٦) جميعا ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا" (٥).

الرابع : ما عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه" (٦).

______________________________________________________

فالموافقة من جميع الجهات غير ممكنة. نعم ، مخالفتهما له ممكنة ، كما لو ورد خبر على استحباب فعل ، وآخر على كراهته ، ووجد قول بالوجوب أو الحرمة.

٢٨٥٥. لعلّ المراد بنهي الإعافة ما وقع فيه الزجر عن ارتكاب المنهيّ عنه ببيان بعض خواصّه ، وبنهي الكراهة ما ورد النهي فيه مطلقا من دون تعرّض لخواصّه وآثاره. وفي القاموس : عاف الطعام والشراب ـ وقد يقال في غيرهما ـ كرهه فلم يشربه ، وعفت الطير أعيفها إعافة أي : زجرتها. وكيف كان ، فالمراد بهما هو النهي غير الإلزامي.

٢٨٥٦. أي : الموافق والمخالف.

٣١٧

الخامس : ما بسنده أيضا عن الحسين بن السرّي : قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : " إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم" (٧).

السادس : ما بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث : " قلت له ـ يعني العبد الصالح عليه‌السلام ـ (٢٨٥٧) : يروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام شيء ويروى عنه أيضا خلاف ذلك ، فبأيّهما نأخذ؟ قال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه" (٨).

السابع : ما بسنده أيضا عن محمّد بن عبد الله : " قال : قلت للرضا عليه‌السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : إذا ورد عليكم خبران مختلفان ، فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه" (٩).

الثامن : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا. قال : لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما. قال : خذ بما فيه خلاف العامّة" (١٠).

التاسع : ما عن الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ (٢٨٥٨) ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله. قال : ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّا والله لا ندخلكم إلّا فيما يسعكم" (١١).

______________________________________________________

٢٨٥٧. أي : الكاظم عليه‌السلام ، وقد يعبّر عنه بالحبر والعالم وأبي الحسن وأبي إبراهيم.

٢٨٥٨. الضمير المجرور عائد إلى الحديث الآخر لأقربيّته ، مضافا إلى دلالة الحديث العاشر والحادي عشر عليه. والمراد بالحيّ هو إمام العصر. وحاصله : أنّه إذا بلغ حديث من أوّل الأئمّة الماضين وآخر من آخرهم ، يجب الأخذ بما جاء من آخرهم حتّى يبلغ من صاحب العصر ما يخالفه ، فيجب الأخذ به وترك المأخوذ.

٣١٨

العاشر : ما عنه بسنده إلى الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام : " قال : أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله" (١٢).

الحادي عشر : ما عنه بسنده الصحيح ـ ظاهرا ـ عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام : " قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا عمرو ، أرأيتك لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه ، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى الله إلّا أن يعبد سرّا (٢٨٥٩) ، أمّا والله ، لئن فعلتم ذلك ، إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله لنا في دينه إلّا التقيّة" (١٣).

الثاني عشر : ما عنه بسنده الموثّق عن محمّد بن مسلم : " قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يتّهمون بالكذب ، فيجئ منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ (٢٨٦٠) كما ينسخ القرآن" (١٤).

الثالث عشر : ما بسنده الحسن عن أبي حيّون مولى الرضا عليه‌السلام عنه : " إنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها ، فتضلّوا" (١٥).

الرابع عشر : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد : " قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا (٢٨٦١) ، إنّ الكلمة

______________________________________________________

٢٨٥٩. الظاهر أنّ المراد تنظير الإفتاء بالحقّ سرّا ـ لأجل الخوف من إظهاره من المخالفين ـ بحسن العبادة سرّا ، كما يدلّ عليه آخر كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فيكون ما أفتى به أوّلا واردا في مقام التقيّة ، وما أفتى به أخيرا على خلافه لبيان الواقع.

٢٨٦٠. دلّ على وجوب الأخذ بالأحدث.

٢٨٦١. حاصل المراد : أنّ الكلام قابل لأن يراد به معاني مختلفة ، بعضها من ظاهره ، وبعضها من تأويله على اختلاف الموارد ، فلو شاء إنسان صرف كلامه كيف شاء وأراد ، لجواز إرادة الحقيقة أو المعاني المجازيّة ولا يكذب. وأنتم أفقه

٣١٩

لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب" (١٦). وفي هاتين الروايتين الأخيرتين دلالة على وجوب الترجيح بحسب قوّة الدلالة. هذا ما وقفنا عليه من الأخبار الدالّة على التراجيح.

إذا عرفت ما تلوناه عليك (*) ، فلا يخفى عليك أنّ ظواهرها متعارضة ، فلا بدّ من (**) علاج ذلك. والكلام في ذلك يقع في مواضع : الأوّل : في علاج تعارض مقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة ؛ حيث إنّ الاولى صريحة في تقديم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، والثانية بالعكس. وهي وإن كانت ضعيفة (٢٨٦٢) السند إلّا أنّها موافقة لسيرة العلماء في باب الترجيح ؛ فإنّ طريقتهم مستمرّة على تقديم المشهور على الشاذّ. والمقبولة وإن كانت مشهورة بين العلماء حتى سميّت مقبولة ، إلّا أنّ عملهم على طبق المرفوعة وإن كانت شاذّة من حيث الرواية ؛ حيث لم يوجد مرويّة في شيء من جوامع الأخبار المعروفة ، ولم يحكها إلّا ابن أبي جمهور عن العلّامة مرفوعة إلى زرارة. إلّا أن يقال : إنّ المرفوعة تدلّ على تقديم المشهور رواية على

______________________________________________________

الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، يعني : أنّه إذا ورد عليكم خبران متنافيان في بادي النظر ، فلا ينبغي أن تبادروا إلى طرح أحدهما ، بل لا بدّ أن يتأمّل في دلالتهما وما اكتنفها من القرائن العرفيّة أو الخارجة ، فربما يظهر أنّ تنافيهما إنّما كان في بادي النظر ويرتفع بعد التأمّل ، كالنصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر. وفيه حثّ على الجمع بين الخبرين مهما أمكن بحسب العرف والقرائن الخارجة.

٢٨٦٢. حاصله : أنّ لكلّ من المرفوعة والمقبولة جهة قوّة وضعف. أمّا الاولى فإنّها وإن ضعفت لرفعها ، وطعن من ليس من شأنه الطعن في الأخبار ـ كصاحب الحدائق ـ في ابن أبي جمهور وكتابه الغوالى ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله في

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : من الأخبار.

(**) فى بعض النسخ زيادة : التكلّم في.

٣٢٠