فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

المفروض الفرديّة عن العموم ، وجب الحكم بعدم فرديّته ، ولم يجز رفع اليد عن العموم ، لأنّ رفع اليد حينئذ عنه يتوقّف على شمول العام لذلك الشيء المفروض توقّف فرديّته على رفع اليد عن العموم ، وهو دور محال.

وإن شئت قلت : إنّ حكم العام من قبيل لازم الوجود للشكّ السببي ، كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ، فلا يوجد في الخارج إلّا محكوما ، والمفروض أنّ الشكّ المسببي أيضا من لوازم وجود ذلك الشكّ ، فيكون حكم العام وهذا الشكّ (٢٧٤٤) لازمان لملزوم ثالث (٢٧٤٥) في مرتبة واحدة ، فلا يجوز أن يكون (٢٧٤٦) أحدهما موضوعا للآخر ؛ لتقدّم الموضوع طبعا ، فالأولى أن يقال : إنّ ثبوت الحكم لكلّ يقين سابق ينحلّ الى رفع اليد عن اليقين السابق بما يضادّ لوازمه ، لأنّ الشيء إذا توقّف منعه على عدم ثبوت المقتضى للمقتضي ـ بالكسر ـ لم يصلح أن يكون مانعا له للزوم الدور.

الثالث : أنّه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشكّ السببي كان الاستصحاب قليل الفائدة (٢٧٤٧) جدّا ، لأنّ المقصود من الاستصحاب غالبا ترتيب الآثار الثابتة للمستصحب ، وتلك الآثار إن كانت موجودة سابقا أغنى استصحابها عن استصحاب ملزومها ، فتنحصر الفائدة في الآثار التي كانت معدومة ، فإذا فرض معارضة الاستصحاب

______________________________________________________

من جملة أفراده بإخراج الشكّ السببي منه ، لأنّه بعد فرض كون هذا من جملة مصاديق العامّ وأفراده لا يجوز صرف اليد عن شموله له إلّا بعد إدخال الأوّل في موضوع الحكم ، والفرض أنّ دخوله فيه فرع خروج الثاني من حكمه ، وهو دور ظاهر.

٢٧٤٤. يعني : المسبّب.

٢٧٤٥. هو الشكّ السببي.

٢٧٤٦. لأنّ ملزوما واحدا إذا ترتّب عليه لا زمان ، فلو كان أحد اللازمين مع ذلك موضوعا للآخر لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ فرض لزومها لملزوم ثالث تساويهما في مرتبة الوجود ، وقضيّة كون أحدهما موضوعا للآخر تقدّمه عليه ولو طبعا.

٢٧٤٧. لأنّ أغلب موارد الاستصحاب من قبيل الموضوعات التي يراد باستصحابها ترتيب لوازمها عليها ، لقلّة مورده في الأحكام.

١٨١

في الملزوم باستصحاب عدم تلك اللوازم والمعاملة معها على ما يأتي في الاستصحابين المتعارضين ، لغى الاستصحاب في الملزوم وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفية التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في الزمان اللاحق.

ويرد عليه : منع عدم الحاجة إلى الاستصحاب (٢٧٤٨) في الآثار السابقة ؛ بناء على أنّ إجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار (٢٧٤٩) موقوف على إحراز الموضوع لها وهو مشكوك فيه ، فلا بدّ (*) من استصحاب الموضوع ، إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار ، فلا يحتاج إلى استصحاب أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا ، كما حقّقنا سابقا في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ، وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار ، كما توهّمه بعض فيما قدّمناه سابقا من أنّ بعضهم تخيّل أنّ موضوع المستصحب يحرز بالاستصحاب فيستصحب. والحاصل أنّ الاستصحاب في الملزومات محتاج إليه على كلّ تقدير.

______________________________________________________

٢٧٤٨. أي : الحاجة إلى استصحاب الملزوم في إثبات لوازمها الموجودة سابقا.

٢٧٤٩. كالثوب المستصحب النجاسة إذا لاقى طاهرا في زمان الشكّ في نجاسته ، لأنّ جملة من آثاره كانت موجودة في زمان العلم بنجاسته ، مثل حرمة لبسه في الصلاة وإدخاله في المسجد مع سراية نجاسته أو مطلقا ، وجملة منها قد حدثت في زمان الشكّ في نجاسته ، كتنجّس ملاقيه ، لفرض حدوث الملاقاة في زمان الشكّ ، فاستصحاب اللوازم الموجودة مغن عن استصحاب ملزومها ، واستصحاب لوازمه المعدومة ـ بمعنى استصحاب عدمها ـ معارض باستصحاب ملزومها ، فإذا فرض الجمع بينهما أو رجّحنا الثاني لمرجّح خارجي ـ على القولين في المسألة ـ لغي استصحاب الملزوم حينئذ ، لعدم ترتّب أثر عليه ، وانحصرت الفائدة في استصحاب الأحكام التكليفيّة التي يراد بالاستصحاب إبقاء أنفسها في الزمان اللاحق.

وأنت خبير بأنّه يمكن منع الانحصار ، إذ قد يكون استصحاب عدم بعض الآثار

__________________

(*) فى بعض النسخ زيادة : فيه.

١٨٢

الرابع : أنّ المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في مورد الشكّ المسبّبي. بيان ذلك : أنّ الإمام عليه‌السلام علّل وجوب البناء على الوضوء السابق في صحيحة زرارة بمجرّد كونه متيقّنا سابقا غير متيقّن الارتفاع في اللاحق. وبعبارة اخرى : علل بقاء الطهارة المستلزم لجواز الدخول في الصلاة بمجرّد الاستصحاب. ومن المعلوم أنّ مقتضى استصحاب الاشتغال بالصلاة عدم براءة الذمّة بهذه الصلاة ، حتّى أنّ بعضهم جعل استصحاب الطهارة وهذا الاستصحاب من الاستصحابين المتعارضين ، فلو لا عدم جريان هذا الاستصحاب ، وانحصار الاستصحاب في المقام باستصحاب الطهارة لم يصحّ تعليل المضيّ على الطهارة بنفس الاستصحاب ؛ لأنّ تعليل تقديم أحد الشيئين على الآخر بأمر مشترك بينهما قبيح ، بل أقبح من الترجيح (٢٧٥٠) بلا مرجّح.

وبالجملة : فأرى المسألة غير محتاجة إلى إتعاب النظر ؛ ولذا لا يتأمّل العامي بعد إفتائه باستصحاب الطهارة في الماء المشكوك ، في رفع الحدث والخبث به وبيعه وشرائه وترتيب الآثار المسبوقة بالعدم عليه.

هذا كلّه إذا عملنا بالاستصحاب (*) من باب الأخبار. وأمّا لو عملنا به من باب الظنّ ، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا ؛ لأنّ الظنّ بعدم اللازم مع فرض الظنّ بالملزوم محال عقلا. فإذا فرض حصول الظنّ بطهارة الماء عند الشكّ ، فيلزمه عقلا الظنّ

______________________________________________________

معارضا باستصحاب آخر ، فيبقى استصحاب الملزوم مفيدا لإثبات بعض الآثار الأخر ، وذلك مثل استصحاب حياة المفقود لتوريثه من مورّثه الميّت ، لأنّ استصحاب عدم الانتقال من المورّث إليه معارض باستصحاب عدم الانتقال إلى وارث آخر ، وبعد تساقطهما يبقى استصحاب الحياة المفيد للانتقال بلا معارض.

٢٧٥٠. لوجود ما يقتضي التساوي بين الشيئين هنا ، بخلاف الموارد التي يقال فيها إنّه ترجيح بلا مرجّح ، لأنّه لعدم المقتضي للترجيح لا لوجود المقتضي لعدم الترجيح.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «بالاستصحاب» ، باستصحاب الطهارة.

١٨٣

بزوال النجاسة عن الثوب. والشكّ في طهارة (٢٧٥١) الماء ونجاسة الثوب وإن كانا في زمان واحد ، إلّا أنّ الأوّل لما كان سببا للثاني ، كان حال الذهن في الثاني تابعا لحاله بالنسبة إلى الأوّل ، فلا بدّ من حصول الظنّ بعدم النجاسة في المثال ، فاختصّ الاستصحاب المفيد للظنّ بما كان الشكّ فيه غير تابع لشكّ آخر يوجب الظنّ ، فافهم ؛ فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ويشهد لما ذكرنا أنّ العقلاء البانين على الاستصحاب في امور معاشهم ، بل معادهم لا يلتفتون في تلك المقامات إلى هذا الاستصحاب أبدا ، ولو نبّههم أحد لم يعتنوا ، فيعزلون حصّة الغائب من الميراث ، ويصحّحون معاملة وكلائه ، ويؤدّون عنه فطرته إذا كان عيالهم ، إلى غير ذلك من موارد ترتيب الآثار الحادثة على المستصحب.

ثمّ إنّه يظهر الخلاف في المسألة (٢٧٥٢) من جماعة ، منهم : الشيخ والمحقّق والعلّامة في بعض أقواله وجماعة من متأخّري المتأخّرين. فقد ذهب الشيخ في المبسوط إلى عدم وجوب فطرة العبد إذا لم يعلم خبره ، واستحسنه المحقق في المعتبر ، مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء ، بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة ، بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اخرى.

______________________________________________________

٢٧٥١. هذا دفع لما يمكن أن يقال : إنّه مع الظنّ بالملزوم وإن استحال حصول الظنّ بعدم لازمه ، إلّا أنّه في مورد حصل الظنّ بالملزوم قبل حصول الظنّ بعدم لازمه ، وإلّا فلو فرض حصول الظنّ بعدم اللازم قبل حصول الظنّ بوجود ملزومه استحال أيضا حصول الظنّ بوجود الملزوم. ولا دليل على فرض حصول الظنّ بوجود الملزوم أوّلا ، لفرض حصول الشكّ في كلّ من الملزوم واللازم في زمان واحد ، فيتساويان في الاندراج تحت قاعدة الاستصحاب.

٢٧٥٢. لا يخفى أنّ ظاهر الشيخ والمحقّق قدس‌سرهما تعارض الاستصحابين وتساقطهما ، فلا بدّ من نقل كلام المعتبر ليتّضح به الحال ، قال : «لو كان له مملوك لا نعلم حياته ، قال الشيخ في الخلاف : لا تلزم فطرته. وللشافعي قولان ، أحدهما : تلزمه ، لأنّ الأصل بقائه. واحتجّ آخرون لذلك أيضا بأنّه يصحّ عتقه في الكفّارة

١٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا لم يعلم له موتا. واحتجّ الشيخ بأنّه لا يعلم أنّ له مملوكا ، فلا تجب عليه زكاته وما ذكره الشيخ حسن ، لأنّ الزكاة انتزاع مال يتوقّف على العلم بسبب الانتزاع ، ولم يعلم. وقولهم : الأصل البقاء معارض بأنّ الأصل عدم الوجوب. وقولهم : يصحّ عتقه في الكفّارة ، عنه جوابان ، أحدهما : المنع ولا يلتفت إلى من يقول الإجماع على جواز عتقه ، فإنّ الإجماع لا يتحقّق من رواية واحدة وفتوى اثنان أو ثلاثة. والجواب الآخر : الفرق بين الكفّارة ووجوب الزكاة ، بأنّ العتق إسقاط ما في الذمّة من حقّ الله ، وحقوق الله مبنيّة على التخفيف ، والفطرة إيجاب مال على المكلّف ، ولم يثبت سبب وجوبه» انتهى.

وقال في اصول المعتبر : «الثالث ـ يعني : من أقسام الاستصحاب ـ استصحاب حال الشرع ، كالمتيمّم يجد الماء في أثناء الصلاة ، فيقول المستدلّ على الاستمرار : صلاة مشروعة قبل وجود الماء ، فيكون كذلك بعده. وليس هذا حجّة ، لأنّ شرعيّتها بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه. ثمّ مثل هذا لا يسلم عن المعارضة بمثله ، لأنّك تقول : الذمّة مشغولة قبل الإتمام ، فتكون مشغولة بعده» انتهى. وليعلم أنّ ما نقله المصنّف رحمه‌الله عن الشيخ في المبسوط نقله في المعتبر عن الخلاف ، والأمر فيه سهل.

وكيف كان ، فظاهر المحقّق ـ بل صريحه ـ في اصول المعتبر تعارض الاستصحابين وتساقطهما. وأمّا الشيخ فيحتمل في كلامه أيضا ذلك ، وترجيح استصحاب عدم الوجوب لمرجّح خارجي. وقد تقدّم سابقا أنّ هذا أحد الأقوال في المسألة. فتكون المسألة ذات أقوال أربعة :

أحدها : تقديم الشكّ السببى. وهو الأقوى ، وفاقا للمصنّف رحمه‌الله وجماعة من محقّقي المتأخّرين.

وثانيها : الجمع بين الأصلين. واختاره جماعة منهم صاحب الرياض والمحقّق القمّي قدس‌سرهما.

١٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وثالثها : الحكم بالتعارض والتساقط. وقد عرفته من المحقّق قدس‌سره.

ورابعها : الحكم بالتعارض وملاحظة المرجّحات الخارجة ، ومع عدمها التخيير. وقد تقدّمت حكايته عن الفاضل الكلباسي في آخر مبحث التعادل والترجيح.

وقد استوفي المصنّف رحمه‌الله الكلام في بيان القول المختار ، ومن التأمّل فيه يظهر سقوط القول بالسقوط للتعارض. وأمّا القول بالجمع فسيشير المصنّف رحمه‌الله إلى ضعفه ، وسنشير أيضا إلى تتمّة الكلام فيه.

وأمّا القول الرابع ، فليعلم أنّ المرجّح إمّا أن يكون اجتهاديّا ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه ، أو فقاهتيّا مأخوذا في موضوعه الجهل بالواقع ، مثل تعاضد أحد الأصلين المتعارضين بأصل آخر. وعلى الأوّل : إمّا أن يكون مثبتا لحكم فرعي ، كموافقة الشهرة في المسألة الفرعيّة ، أو لحكم اصولي ، كموافقة الشهرة في المسألة الاصوليّة ، مثل شهرة تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي والوجودي على العدمي.

وأمّا المرجّح الاجتهادي المثبت لحكم فرعي ، ففيه : أنّ الاستصحاب معتبر من باب التعبّد في مورد الجهل بالواقع ، بمعنى أخذ الجهل في موضوعه ، والشهرة كاشفة عن الواقع ، فتختلف مرتبتهما ، فلا يصلح أحدهما مرجّحا للآخر. مع أنّ هذا قول بحجّية الشهرة في نفسها ، لا ترجيح لأحد الأصلين بها الذي هو فرع عدم حجّيتها في نفسها ، لأنّ العلم إجمالا بارتفاع الحالة السابقة في مورد أحد الأصلين يوجب خروج كلّ واحد من المتعارضين من عموم قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله عند بيان حكم القسم الثاني ، أعني : ما كان التعارض فيه ناشئا من أمر ثالث ، فالترجيح بالشهرة في الحقيقة عمل بالشهرة الموافقة لأحدهما لا بأحدهما الموافق لها ، بخلاف الترجيح في متعارضات الأخبار ، لأنّه فرع اعتبار المتعارضين منها كما قرّر في محلّه.

١٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا المرجّح الاجتهادي المثبت لحكم اصوليّ ، فيرد عليه : ـ مضافا إلى ما عرفته في سابقه من عدم اتّحاد مرتبتهما ـ أنّ الترجيح بالشهرة في متعارضات الأخبار إمّا لكشفها ظنّا عن وجود دليل دالّ على تقديم الخبر الموافق لها ، فتكون مؤيّدة لاعتباره ، وإمّا عن وجود دليل آخر مثبت لما أثبته الخبر الموافق له ، وهما منتفيان فيما نحن فيه. أمّا الأوّل فإنّ المظنون عدم وجود خبر يدلّ على تقديم الأصل الموافق للشهرة أو الإجماع المنقول مثلا على القول بعدم حجّيته ، ولذا ترى أنّ الأخبار العلاجيّة مع كثرتها ليس فيها من الترجيح في متعارضات الاصول عين ولا أثر. وأمّا الثاني فلعدم أصل آخر لنا سوى الاصول المعروفة بأيدينا حتّى نكشف الشهرة مثلا عنه ، لكون انحصار الاصول في الأربعة عقليّا.

وأمّا المرجّح الفقاهتي ، كتعدّد الاصول من جانب دون آخر ، فليعلم أنّ مراتب الاصول مختلفة ، فإن كان الأصلان المتعارضان مرتبتهما دون مرتبة الأصل المعاضد لأحدهما لحكومته عليهما ، كأصالتي البراءة إذا كانت إحداهما موافقة للاستصحاب مثلا ، فلا وجه لعدّه من المرجّحات ، لفرض عدم جريانهما مع وجوده.

وإن كانت مرتبتهما فوق مرتبته لحكومتهما عليه ، كالاستصحابين إذا كان أحدهما موافقا لأصالة البراءة ، فلا وجه لعدّه أيضا من المرجّحات ، لفرض عدم جريانه مع وجودهما. وإن كانت مرتبتهما متّحدة مع مرتبته ، كتعارض استصحابين مع استصحاب وبراءتين مع براءة ، فالأقوى فيه أيضا عدم صحّة الترجيح ، لأنّ كلّ مورد تعارض فيه أصلان قد علم بخروج أحدهما من عموم دليلهما ، للعلم إجمالا بمخالفة أحدهما للواقع لا محالة ، فمع تعدّد المتعارضين من طرف دون الآخر يدور الأمر بين قلّة الخارج وكثرته ، ومعه لا دليل على الترجيح بالكثرة ، نظير ما لو علم بورود مخصّص على قولنا : أكرم العلماء ، إلّا أنّه دار الأمر بين كون الخارج فردا أو فردين ، بأن كان المخصّص قولنا : لا تكرم عمرا العالم ، أو قولنا : لا تكرم الزيدين العالمين ، لصيرورة العامّ مجملا بالنسبة إليهما ، وعدم ظهوره في خصوص أحد المحتملين.

١٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

نعم ، لو دار الأمر في الخارج بين الأقلّ والأكثر ، بحيث كان الأقلّ مندرجا تحت الأكثر يؤخذ بالأقلّ ، لكونه متيقّنا ، ويدفع المشكوك فيه بظهور العامّ ، لأنّ العامّ ظاهر في الشمول للجميع ، والمتيقّن من خروج الخارج ما كان خارجا على كلّ تقدير ، وهو الأقلّ ، بخلاف ما لو كان المحتملان من قبيل المتباينين ، لإجمال العامّ بالنسبة إليهما كما عرفت ، وإن دار الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر. وما نحن فيه من تعارض الاصول مع التعدّد من أحد الجانبين من قبيل ذلك بالنسبة إلى العمومات المثبتة لها إن كان اعتبارها بأدلّة لفظيّة ، وإن كان اعتبارها بغير دليل لفظيّ فأولى بعدم الترجيح بالكثرة والعدد ، لفرض عدم ظهور لفظيّ لدليلها حينئذ.

وليس ما نحن فيه أيضا من قبيل ما دار الأمر فيه بين قلّة التخصيص وكثرته ، حتّى يدفع التخصيص الزائد المشكوك فيه بأصالة عدمه ، بل من قبيل ما دار الأمر فيه بين قلّة المخصّص ـ بالفتح ـ وكثرته مع اتّحاد التخصيص ، كما عرفته من مثال : أكرم العلماء ولا تكرم عمروا ولا تكرم الزيدين ، لأنّ الخارج من عموم أدلّة الاصول هو أحد الاصلين مع معاضده بتخصيص واحد ، أو معارضه العاري عن المعاضد ، وقد عرفت إجمال العامّ في مثله. وبالجملة ، إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا عدم صحّة الترجيح في متعارضات الاصول بالكثرة والعدد.

وقد زاد صاحب الإشارات بعد التصريح بجواز الترجيح بالشهرة والكثرة وجها آخر في الترجيح ، وهو قوّة دليل أحد الأصلين بالنسبة إلى دليل الآخر ، فيرجّح ما هو أقوى دليلا منهما.

وفيه ما لا يخفى ، لأنّ أدلّة الاصول الأربعة كلّها قطعيّة ، سواء قلنا باعتبارها من باب العقل أو الشرع ، فهذه من حيث الاعتبار والسند في مرتبة واحدة ، نظير المتعارضين من الكتاب ، فلا وجه لملاحظة القوّة بحسب السند.

وأمّا التخيير بعد عدم صحّة الترجيح بالوجوه المتقدّمة أو مع فرض عدمها ففيه أيضا إشكال ، لأنّ الحكم بالتخيير إمّا يستفاد من نفس دليل اعتبار الاستصحاب ،

١٨٨

وقد صرّح في اصول المعتبر بأنّ استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة. وقد عرفت أنّ المنصوص في صحيحة زرارة العمل باستصحاب الطهارة على وجه يظهر منه خلوّه عن المعارض ، وعدم جريان استصحاب الاشتغال.

وحكي عن العلّامة في بعض كتبه الحكم بطهارة الماء القليل الواقع فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرمي ، لكنّه اختار في غير واحد من كتبه الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه عليه الشهيدان وغيرهما. وهو المختار ؛ بناء على ما عرفت تحقيقه ، وأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة التي منها انفعال الماء الملاقي له. نعم ربما قيل : إنّ تحريم الصيد إن كان لعدم العلم بالتذكية فلا يوجب تنجيس الملاقي ، وإن كان للحكم عليه شرعا بعدمها اتّجه الحكم بالتنجيس.

______________________________________________________

أو من العقل. وكلاهما فاسدان. أمّا الأوّل فلأنّ أخبار الاستصحاب إنّما تدلّ على اعتباره في موارده تعيينا لا تخييرا. مع أنّه لا إشكال في دلالتها على الوجوب التعييني في الموارد السالمة عن المعارض ، فلو دلّت على العمل به تخييرا في موارد المعارضة لزم استعمال اللفظ في المعنيين. وأمّا الثاني فإنّ حكم العقل بالتخيير فرع اعتبار المتعارضين بالذات ، كما سيصرّح به المصنّف رحمه‌الله في خاتمة الكتاب عند بيان حكم التعادل ، وقد أشرنا آنفا إلى عدم شمول أدلّة الاصول للمتعارضات منها.

فإن قلت : إنّ جميع ما ذكرت جار في متعارضات الأخبار أيضا ، لظهور أدلّتها في العمل بها تعيينا لا تخييرا ، مع أنّه لا إشكال في ظهورها في ذلك في الموارد الخالية من المعارض ، فلو دلّت على العمل بها تخييرا في موارد التعارض لزم استعمال اللفظ في معنيين. وكذا العقل إنّما يدلّ على التخيير في العمل بالمتعارضات منها على تقدير اعتبارها من حيث هي ، ولا دليل عليه بعد قصور أدلّتها عن الشمول لها ، فكيف حكموا بالتخيير فيها مع عدم المرجّح؟

قلت : لو لا أخبار الترجيح الناصّة بالتخيير مع عدم المرجّح لقلنا بالتساقط فيها أيضا ، وقد استرحنا فيه إليها. نعم ، لو قلنا باعتبارها من باب السببيّة دون الطريقيّة

١٨٩

ومرجع الأوّل إلى كون حرمة الصيد مع الشكّ في التذكية للتعبّد ؛ من جهة الأخبار المعلّلة لحرمة أكل الميتة بعدم العلم بالتذكية. وهو حسن لو لم يترتّب عليه من أحكام الميتة إلّا حرمة الأكل ، ولا أظنّ أحدا يلتزمه ، مع أنّ المستفاد من حرمة الأكل كونها ميتة ، لا التحريم تعبّدا ، ولذا استفيد بعض ما يعتبر في التذكية (٢٧٥٣) من النهي عن الأكل بدونه.

ثمّ إنّ بعض من يرى التعارض بين الاستصحابين في المقام صرّح بالجمع بينهما (٢٧٥٤) ، فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا. ويردّ عليه أنّه لا وجه (*) للجمع في مثل هذين الاستصحابين ؛ فإنّ الحكم بطهارة الماء إن كان بمعنى ترتيب (**) آثار الطهارة من رفع الحدث والخبث به ، فلا ريب أنّ نسبة استصحاب بقاء

______________________________________________________

كان المتّجه فيها الحكم بالتخيير أيضا.

والحاصل : أنّ حكم العقل بالتخيير ـ كما سيجيء عند بيان حكم تعادل الخبرين ـ إنّما هو فرع اعتبار المتعارضين ، وحيث قد عرفت عدم اعتبار الاصول المتعارضة فلا سبيل حينئذ إلى الحكم للعقل بالتخيير فيها. وأمّا الأخبار ، فإن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة ، فمقتضى القاعدة لو لا أخبار التخيير هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول. وإن قلنا باعتبارها من باب السببيّة والموضوعيّة فمقتضى القاعدة هو التخيير ، فتخرج الأخبار حينئذ شاهدة له. وسيجيء توضيحه في باب التعادل والترجيح.

٢٧٥٣. كاشتراط التسمية المستفادة من قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

٢٧٥٤. أنت خبير بأنّ اللوازم الموجودة مع الملزوم في السابق ، وكذا المعدومة إذا فرض كونها بأنفسها موردا للأصل ، بمعنى استصحاب وجود الاولى و

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «لا وجه» ، لا معني.

(**) فى بعض النسخ : بدل «ترتيب» ، ترتّب.

١٩٠

الحدث والخبث إلى استصحاب طهارة الماء ، بعينها نسبة استصحاب طهارة الماء إلى استصحاب عدم التذكية. وكذا الحكم بموت الصيد ، فإنّه إن كان بمعنى انفعال الملاقي له بعد ذلك والمنع عن استصحابه في الصلاة ، فلا ريب أنّ استصحاب طهارة الملاقي واستصحاب جواز الصلاة معه قبل زهاق روحه ، نسبتهما إليه كنسبة استصحاب طهارة الماء إليه.

وممّا ذكرنا يظهر النظر فيما ذكره في الإيضاح ـ تقريبا للجمع بين الأصلين ـ في الصيد الواقع في الماء القليل ، من أنّ لأصالة الطهارة حكمين : طهارة الماء وحلّ الصيد ، ولأصالة الموت حكمان : لحوق أحكام الميتة للصيد ونجاسة الماء ، فيعمل بكلّ من الأصلين في نفسه لأصالته ، دون الآخر لفرعيّته فيه ، انتهى. وليت شعري! هل نجاسة الماء إلّا من أحكام الميتة؟ فأين الأصالة والفرعيّة؟

وتبعه في ذلك بعض من عاصرناه (٢٧٥٥) ، فحكم في الجلد المطروح بأصالة الطهارة وحرمة الصلاة فيه. ويظهر ضعف ذلك ممّا تقدّم. وأضعف من ذلك حكمه في الثوب الرطب المستصحب النجاسة المنشور على الأرض ، بطهارة الأرض ؛ إذ لا دليل على أنّ النجس بالاستصحاب منجّس. وليت شعري! إذا لم يكن النجس بالاستصحاب منجّسا ولا الطاهر به مطهّرا ، فكان كلّ ما ثبت بالاستصحاب لا دليل على ترتيب آثار الشيء الواقعي عليه ؛ لأنّ الأصل عدم تلك الآثار ، فأيّ فائدة في الاستصحاب؟!

قال في الوافية في شرائط الاستصحاب : الخامس : أن لا يكون هناك استصحاب آخر في أمر ملزوم لعدم ذلك المستصحب. مثلا : إذا ثبت في الشرع أنّ الحكم بكون الحيوان ميتة يستلزم الحكم بنجاسة الماء القليل الواقع ذلك الحيوان فيه ، فلا يجوز الحكم باستصحاب طهارة الماء ولا نجاسة الحيوان في مسألة من رمى صيدا فغاب ، ثمّ

______________________________________________________

عدم الثانية ، فأيّ ثمرة لاستصحاب نفس الملزوم ، بل الاستصحاب غير جار فيه حينئذ ، لأنّ معنى استصحاب الملزوم ترتيب آثاره عليه في زمان الشكّ ، فإذا فرض كون نفس الآثار موردا للأصل وجودا وعدما فلا معنى لاستصحاب الملزوم. فمآل القول بالجمع إلى إلغاء الاستصحاب في الملزوم ، وترجيح استصحاب اللوازم عليه.

٢٧٥٥. هو المحقّق القمّي رحمه‌الله.

١٩١

وجده في ماء قليل ، يمكن استناد موته إلى الرمي وإلى الماء". وأنكر بعض الأصحاب ثبوت هذا التلازم وحكم بكلا الأصلين : بنجاسة الصيد ، وطهارة الماء ، انتهى.

ثمّ اعلم : أنّه قد حكى بعض مشايخنا المعاصرين عن الشيخ علي في حاشية الروضة : دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي. ولعلّها مستنبطة حدسا من بناء العلماء واستمرار السيرة على ذلك ، فلا يعارض أحد استصحاب كريّة الماء باستصحاب بقاء النجاسة فيما يغسل به ، ولا استصحاب القلّة باستصحاب طهارة الماء الملاقي للنجس ، ولا استصحاب حياة الموكّل باستصحاب فساد تصرّفات وكيله. لكنّك قد عرفت (٢٧٥٦) فيما تقدّم من الشيخ والمحقّق خلاف ذلك.

هذا ، مع أنّ الاستصحاب في الشكّ السببي دائما من قبيل الموضوعي بالنسبة إلى الآخر ؛ لأنّ زوال المستصحب بالاستصحاب الآخر من أحكام بقاء المستصحب بالاستصحاب السببي ، فهو له من قبيل الموضوع للحكم ، فإنّ طهارة الماء من أحكام الموضوع الذي حمل عليه زوال النجاسة عن المغسول به ، وأيّ فرق بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب كريّته؟ هذا كلّه فيما إذا كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث ، فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين لا بعينه وشكّ في تعيينه : فإمّا أن يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعيّة عملية لذلك العلم الإجمالي ـ كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الطاهرين ـ وإمّا أن لا يكون. وعلى الثاني : فإمّا أن يقوم

______________________________________________________

٢٧٥٦. أراد بذلك القدح في الإجماع المذكور بوجهين : أحدهما : أنّه ينافيه خلاف الشيخ والمحقّق في مثال الفطرة واشتغال الذمّة. الثاني : أنّ الشكّ السببى والمسبّب من قبيل الموضوع والحكم دائما ، وقد عرفت الخلاف في تقديم الاستصحاب في السببى عليه في المسبّب.

١٩٢

دليل من الخارج (*) على عدم الجمع ـ كما في الماء النجس المتمّم كرّا (٢٧٥٧) بماء طاهر ؛ حيث قام الإجماع على اتّحاد حكم الماءين ـ أو لا.

وعلى الثاني : إمّا أن يترتّب أثر شرعيّ على كلّ من المستصحبين في الزمان اللاحق ـ كما في استصحاب بقاء الحدث وطهارة البدن فيمن توضّأ غافلا بمائع مردّد بين الماء والبول ، ومثله استصحاب طهارة كلّ من (٢٧٥٨) واجدي المنيّ في الثوب المشترك ـ وإمّا أن يترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، كما في دعوى

______________________________________________________

٢٧٥٧. إلى قوله : «دون الترجيح والتخيير» في بعض النسخ (**) بدله قوله : أوّلا ، فالأوّلان يحكم فيهما بالتساقط ، والثالث يحكم فيه بالجمع ، كما إذا شكّ في تعيين السابق موتا من زيد وعمرو الحيّين ، أو شكّ في تعيين الباقي من النجاسة والطهارة في الماء النجس المتمّم كرّا بطاهر ، أو شكّ في تعيين النجس من أحد الإنائين المعلوم طروّ النجاسة على أحدهما. والأقوى في هذا هو التساقط ، وفرض الأصلين كأن لم يكونا ، سواء كان مع أحدهما مرجّح أم لا. فليس في تعارض الاستصحابين الترجيح ولا التخيير بعد فقد المرجّح ، بل الحكم من أوّل الأمر طرحهما. نعم ، هذا كلّه إذا لم يمكن الجمع بينهما ، بأن يكون الجمع مستلزما لمخالفة تكليف معلوم. أمّا إذا لم يكن كذلك وجب العمل بكليهما إن ترتّب على كلّ من المستصحبين أثر شرعيّ ، وإلّا اختصّ العمل بما له الأثر ، لأنّ مرجع الاستصحاب إلى ترتيب الآثار. فهنا صور ثلاث ، الاولى : ، ولا بدّ أن يكون على هذه النسخة بدل قوله بعد ذلك : وأمّا الصورة الثالثة وأمّا الصورة الرابعة ، هكذا : وأمّا الصورة الثانية وأمّا الصورة الثالثة.

٢٧٥٨. قد حكى بعض مشايخنا عن شيخه صاحب الجواهر أنّ جواز الجمع

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «من الخارج» ، عقلي أو نقلي.

(**) الأمر كما ذكره المحشّي قدس‌سره ، وللاستزادة انظر فرائد الاصول (طبعة مجمع الفكر الاسلامي) ج ٣ : ص ٤٠٧ ، كما استفدنا كثيرا من هذا التحقيق.

١٩٣

الموكّل التوكيل في شراء العبد ودعوى الوكيل التوكيل في شراء الجارية.

فهناك صور أربع : أمّا الاوليان ، فيحكم فيهما بالتساقط ، دون الترجيح والتخيير ، فهنا دعويان : إحداهما : عدم الترجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات خلافا لجماعة. قال في محكيّ تمهيد القواعد : إذا تعارض أصلان عمل بالأرجح منهما ؛ لاعتضاده بما يرجّحه ، فإن تساويا خرج في المسألة وجهان غالبا (٢٧٥٩). ثمّ مثّل له بأمثلة ، منها : مسألة الصيد الواقع في الماء ... إلى آخر ما ذكره. وصرّح بذلك جماعة من متأخّري المتأخّرين.

والحقّ على المختار ـ من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ـ هو عدم الترجيح (٢٧٦٠) بالمرجّحات الاجتهاديّة ؛ لأنّ مؤدّى الاستصحاب هو الحكم الظاهري ، فالمرجّح الكاشف عن الحكم الواقعي لا يجدي في تقوية الدليل الدالّ على الحكم الظاهري ؛ لعدم موافقة المرجّح لمدلوله حتّى يوجب اعتضاده.

وبالجملة : فالمرجّحات الاجتهادية غير موافقة في المضمون للاصول حتّى

______________________________________________________

بين الأصلين هنا إنّما هو من جهة عدم حجّية الاستصحاب الجاري في حقّ أحد في حقّ الآخر ، فاستصحاب عدم جنابة أحدهما لا يثبت جنابة الآخر ، ولا العكس ، حتّى يقع التعارض بينهما.

وفيه : أنّ أحدهما قد يحتاج إلى استئجار الآخر لكنس المسجد أو لفعل الصلاة أو الحجّ عن ميّت ، بل الحيّ أيضا في الأخير مع عجز المستأجر بعد الاستطاعة ، أو نحو ذلك ممّا يتوقّف صحّة الإجارة فيه على طهارة الأجير ولو في الظاهر عند الموجر ، فلا وجه لمنع حجّية الاستصحاب الجاري في حقّ أحدهما في حقّ الآخر مطلقا.

٢٧٥٩. لعلّ المراد بهما تساقط الأصلين كما في الصورة الاولى والثانية ، والجمع بينهما كما في الصورة الثالثة. ولعلّ قيد الغلبة احتراز عن الرابعة ، نظرا إلى ندرتها.

٢٧٦٠. بالمراجعة إلى ما علّقناه على القسم الأوّل عند بيان القول بتعارض الأصل المزيل والمزال ، وملاحظة المرجّحات والتخيير مع عدمها ، تتبصّر هنا.

١٩٤

تعاضدها. وكذا الحال بالنسبة إلى الأدلّة الاجتهادية ، فلا يرجّح بعضها على بعض لموافقة الاصول التعبّدية. نعم ، لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن الترجيح بالمرجّحات الاجتهادية ، بناء على ما يظهر من عدم الخلاف في إعمال التراجيح بين الأدلّة الاجتهادية ، كما ادّعاه صريحا بعضهم. لكنّك عرفت فيما مضى عدم الدليل على الاستصحاب من غير جهة الأخبار الدالّة على كونه حكما ظاهريّا ، فلا ينفع ولا يقدح فيه موافقة الأمارات الواقعية ومخالفتها.

هذا كلّه مع الإغماض عمّا سيجيء من عدم شمول" لا تنقض" للمتعارضين ، وفرض شمولها لهما من حيث الذات ، نظير شمول آية النبأ من حيث الذات للخبرين المتعارضين وإن لم يجب العمل بهما فعلا ؛ لامتناع ذلك بناء على المختار في إثبات الدعوى الثانية ، فلا وجه لاعتبار المرجّح أصلا ؛ لأنّه إنّما يكون مع التعارض وقابليّة المتعارضين في أنفسهما للعمل.

الدعوى الثانية : أنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التساقط دون التخيير ، لا لما ذكره بعض المعاصرين من أنّ الأصل في تعارض الدليلين التساقط ؛ لعدم تناول دليل حجّيتهما لصورة التعارض ـ لما تقرّر في باب التعارض من أنّ الأصل في المتعارضين التخيير إذا كان اعتبارهما من باب التعبّد لا من باب الطريقية ـ بل لأنّ العلم الإجمالي هنا بانتقاض أحد اليقينين (*) يوجب خروجهما عن مدلول" لا تنقض" ؛ لأنّ قوله : " لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين مثله" يدلّ على حرمة النقض بالشكّ ووجوب النقض باليقين ، فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين ، فلا يجوز إبقاء كلّ منهما تحت عموم حرمة النقض بالشكّ ؛ لأنّه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله ، ولا إبقاء أحدهما المعيّن ؛ لاشتراك الآخر معه في مناط الدخول من غير مرجّح ، وأمّا أحدهما المخيّر فليس من أفراد العام ؛ إذ ليس فردا ثالثا غير الفردين المتشخّصين في الخارج ، فإذا خرجا لم يبق شيء. وقد تقدّم نظير ذلك في الشبهة المحصورة ، وأنّ قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام" لا يشمل شيئا من المشتبهين.

وربّما يتوهّم أنّ عموم دليل الاستصحاب نظير قوله : " أكرم العلماء" ، و" أنقذ

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «اليقينين» ، الضدّين.

١٩٥

كلّ غريق" ، و" اعمل بكلّ خير" ، في أنّه إذا تعذّر العمل بالعام في فردين متنافيين لم يجز طرح كليهما ، بل لا بدّ من العمل بالممكن ـ وهو أحدهما تخييرا ـ وطرح الآخر ؛ لأنّ هذا غاية المقدور ، ولذا ذكرنا في باب التعارض أنّ الأصل في الدليلين المتعارضين مع فقد الترجيح التخيير بالشرط المتقدّم (٢٧٦١) لا التساقط. والاستصحاب أيضا أحد الأدلّة ، فالواجب العمل باليقين السابق بقدر الإمكان ، فإذا تعذّر العمل باليقينين من جهة تنافيهما وجب العمل بأحدهما ، ولا يجوز طرحهما.

ويندفع هذا التوهّم بأنّ عدم التمكّن من العمل بكلا الفردين إن كان لعدم القدرة على ذلك مع قيام المقتضي للعمل فيهما فالخارج هو غير المقدور ، وهو العمل بكلّ منهما مجامعا مع العمل بالآخر ، وأمّا فعل أحدهما المنفرد عن الآخر فهو مقدور فلا يجوز تركه. وفيما نحن فيه ليس كذلك ؛ إذ بعد العلم الإجمالي لا يكون المقتضي لحرمة نقض كلا اليقينين موجودا منع عنهما عدم القدرة.

نعم مثال هذا في الاستصحاب أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما (*) من دون علم إجمالي بانتقاض أحد المستصحبين بيقين الارتفاع ، فإنّه يجب حينئذ العمل بأحدهما المخيّر وطرح الآخر ، فيكون الحكم الظاهري مؤدّى أحدهما. وإنّما لم نذكر هذا القسم في أقسام تعارض الاستصحابين ؛ لعدم العثور على مصداق له ؛ فإنّ الاستصحابات المتعارضة يكون التنافي بينها من جهة اليقين بارتفاع أحد المستصحبين ، وقد عرفت (٢٧٦٢) أنّ عدم العمل بكلا الاستصحابين ليس مخالفة لدليل الاستصحاب سوّغها العجز ، لأنّه نقض اليقين باليقين ، فلم يخرج عن عموم (٢٧٦٣) " لا تنقض" عنوان ينطبق على الواحد التخييري.

______________________________________________________

٢٧٦١. أي : كون اعتبار الدليلين من باب التعبّد والسببيّة دون الطريقيّة.

٢٧٦٢. حاصله : بيان الفرق بين ما نحن فيه والمثال المذكور ، الذي من قبيل قوله : أكرم العلماء وأنقذ كلّ غريق.

٢٧٦٣. كما هو كذلك فيما ذكره من مثال الاستصحاب ، لأنّ الخارج فيه

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «امتنع شرعا أو عقلا العمل بكليهما» ، ورد المنع تعبّدا عن الجمع بينهما.

١٩٦

وأيضا ، فليس المقام من قبيل ما كان الخارج من العام فردا معيّنا في الواقع غير معيّن عندنا ليكون الفرد الآخر الغير المعيّن باقيا تحت العام ، كما إذا قال : أكرم العلماء وخرج فرد واحد غير معيّن عندنا ، فيمكن هنا أيضا الحكم بالتخيير العقلي في الأفراد ، إذ لا استصحاب في الواقع حتّى يعلم بخروج فرد منه وبقاء فرد آخر ؛ لأنّ الواقع بقاء إحدى الحالتين وارتفاع الاخرى. نعم ، نظيره في الاستصحاب ما لو علمنا بوجوب العمل بأحد الاستصحابين المذكورين ووجوب طرح الآخر بأن حرم نقض أحد اليقينين بالشك ووجب نقض الآخر به. ومعلوم أنّ ما نحن فيه ليس كذلك ؛ لأنّ المعلوم إجمالا فيما نحن فيه بقاء أحد المستصحبين ـ لا بوصف زائد ـ وارتفاع الآخر ، لا اعتبار الشارع لأحد الاستصحابين وإلغاء الآخر.

فتبيّن أنّ الخارج من عموم" لا تنقض" ليس واحدا من المتعارضين ، لا معيّنا ولا مخيرا ، بل لمّا وجب نقض اليقين باليقين وجب ترتيب آثار الارتفاع على المرتفع الواقعي ، وترتيب آثار البقاء على الباقي الواقعي ، من دون ملاحظة الحالة السابقة فيهما ، فيرجع إلى قواعد أخر غير الاستصحاب ، كما لو لم يكونا مسبوقين بحالة سابقة. ولذا لا نفرّق في حكم الشبهة المحصورة بين كون الحالة السابقة في المشتبهين هي الطهارة أو النجاسة ، وبين عدم حالة سابقة معلومة ، فإنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى الاحتياط فيهما ، وفيما تقدّم من مسألة الماء النجس المتمّم كرّا الرجوع إلى قاعدة الطهارة ، وهكذا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في التساقط بين أن يكون في كلّ من الطرفين أصل واحد ، وبين أن يكون في أحدهما أزيد من أصل واحد. فالترجيح بكثرة الاصول بناء على اعتبارها من باب التعبّد لا وجه له ؛ لأنّ المفروض أنّ العلم الإجمالي يوجب خروج جميع مجاري الاصول عن مدلول" لا تنقض" على ما عرفت. نعم يتّجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما يعمل فيه بالاستصحابين ، فهو ما كان العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين فيه غير مؤثّر شيئا ، فمخالفته لا توجب مخالفة عمليّة لحكم شرعي ، كما لو توضّأ اشتباها بمائع مردّد بين البول والماء ، فإنّه يحكم ببقاء الحدث وطهارة الأعضاء استصحابا لهما. وليس العلم الإجمالي بزوال أحدهما مانعا من

١٩٧

ذلك ؛ إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد (*) لا يترتّب عليه حكم شرعي حتّى يكون ترتيبه مانعا عن العمل بالاستصحابين ، ولا يلزم من الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الأعضاء مخالفة عملية لحكم شرعي أيضا. نعم ، ربّما يشكل ذلك في الشبهة الحكمية. وقد ذكرنا ما عندنا في المسألة في مقدّمات حجّية الظن عند التكلّم في حجّية العلم.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ، فهو ما كان أحد المستصحبين المعلوم ارتفاع أحدهما ممّا يكون موردا لابتلاء المكلّف دون الآخر ، بحيث لا يتوجّه على المكلّف تكليف منجّز يترتّب أثر شرعي عليه. وفي الحقيقة هذا خارج عن تعارض الاستصحابين ؛ إذ قوله : " لا تنقض اليقين" لا يشمل اليقين الذي لا يترتّب عليه في حقّ المكلّف أثر شرعي بحيث لا تعلّق له به أصلا ، كما إذا علم إجمالا بطروّ الجنابة عليه أو على غيره ، وقد تقدّم أمثلة ذلك. ونظير هذا كثير ، مثل : أنّه علم إجمالا بحصول التوكيل من الموكّل ، إلّا أنّ الوكيل يدّعي وكالته في شيء ، والموكّل ينكر توكيله في ذلك الشيء ، فإنّه لا خلاف في تقديم قول الموكّل ، لأصالة عدم توكيله فيما يدّعيه الوكيل ، ولم يعارضه أحد بأنّ الأصل عدم توكيله فيما يدّعيه الموكّل أيضا.

وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا ، فإنّ الأصل عدم النكاح الدائم من حيث إنّه سبب للإرث ووجوب النفقة والقسم. ويتّضح ذلك (٢٧٦٤) بتتبّع كثير من فروع التنازع في أبواب الفقه.

ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات والرجوع إلى الاصول الأخر الجارية في لوازم المشتبهين ، إلّا أنّ ذلك إنّما يتمشّى في استصحاب الامور الخارجيّة ، أمّا مثل أصالة الطهارة في كلّ من واجدي المني فإنّه لا وجه للتساقط هنا.

______________________________________________________

كالباقي هو الواحد التخييري.

٢٧٦٤. أي : إجماع العلماء على العمل بالاستصحاب الذي يترتّب عليه أثر شرعيّ ، دون ما لم يترتّب عليه ذلك.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «اليد» ، البدن.

١٩٨

ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ، دخل في القسم الأوّل إن كان الجمع بينه وبين الاستصحاب مستلزما لطرح علم إجمالي معتبر في العمل ، ولا عبرة بغير المعتبر ، كما في الشبهة الغير المحصورة. وفي القسم الثاني (٢٧٦٥) إن لم يكن هناك مخالفة عملية لعلم إجمالي معتبر. فعليك بالتأمّل في موارد اجتماع يقينين سابقين مع العلم الإجمالي من عقل أو شرع أو غيرهما بارتفاع أحدهما وبقاء الآخر.

والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتفاق على عدم وجوب الفحص في إجراء الاصول في الشبهات الموضوعية ، ولازمه جواز إجراء المقلّد لها بعد أخذ فتوى جواز الأخذ بها من المجتهد ، إلّا أنّ تشخيص سلامتها عن الاصول الحاكمة عليها ليس وظيفة كلّ أحد ، فلا بدّ إمّا من قدرة المقلّد على تشخيص الحاكم من الاصول على غيره منها ، وإمّا من أخذ خصوصيّات الاصول السليمة عن الحاكم من المجتهد ، وإلّا فربّما يلتفت إلى الاستصحاب المحكوم من دون التفات إلى الاستصحاب الحاكم. وهذا يرجع في الحقيقة إلى تشخيص الحكم الشرعي ، نظير تشخيص حجّية أصل الاستصحاب وعدمها. عصمنا الله وإخواننا من الزلل في القول والعمل ، بجاه محمّد وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين إلى يوم الدين.

______________________________________________________

٢٧٦٥. معطوف على قوله : «في القسم الأول». والمراد دخوله في الشقّ الثاني من القسم الثاني.

قد تمّ الجزء الثالث بيد مصنّفه الجاني موسى بن جعفر بن أحمد بن لطف علي بن محمّد صادق التبريزي ، يوم الثلاثاء من شهر جمادى الثانية ، من شهور السنة الثانية بعد ألف ومائتين وتسعين قد مضين من الهجرة المصطفويّة ، علي هاجرها آلاف ثناء وتحيّة. واسأل الناظرين فيه أن يغمضوا عمّا اطّلعوا عليه من الزلل والخطأ ، وأن يصلحوا ما استطاعوا ، وما توفيقي إلّا بالله ، وله الحمد أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ، وصلّى الله على أشرف المرسلين وعترته المعصومين ، سنة ١٢٩٢.

١٩٩

المصادر

(١) البقرة (٢) : ٨٣.

(٢) الكافى ، ج ٢ ، ص ١٦٤ ، الباب الاهتمام بامور المسلمين ، الحديث ٩.

(٣) الحجرات (٤٩) : ١٢.

(٤) المائدة (٥) : ١.

(٥) النساء (٤) : ٢٩.

(٦) جامع المقاصد : ج ٥ ، ص ١٦٢.

(٧) الكافى ، ج ٢ ، ص ٣٦٢ ، الباب التهمة وسوء الظن ، الحديث ٣.

(٨) الوسائل ، ج ٨ ، ص ٦٠٩ ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ٤.

(٩) الوسائل ، ج ٨ ، ص ٥٠١ ، الباب ١٠٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث ١.

(١٠) نهج البلاغة ، قصار الحكم : ١١٤.

(١١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٦٣.

(١٢) مدارك الأحكام ، ج ٧ ، ص ٣١٥.

(١٣) قواعد الأحكام ، ج ٢ ، ص ١٥٦.

(١٤) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(١٥) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٨٧.

٢٠٠