فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

بالترجيح صار المخالف كالسليم عن المعارض ، فيصرف ظاهر الكتاب بقرينة الخبر السليم.

ولو لم يكن هناك مرجّح : فإن حكمنا في الخبرين المتكافئين بالتخيير ـ إمّا لأنّه الأصل (٢٩٩٥) في المتعارضين وإمّا لورود الأخبار بالتخيير ـ كان اللازم التخيير ، وأنّ له أن يأخذ بالمطابق وأن يأخذ بالمخالف ، فيخصّص به عموم الكتاب (٢٩٩٦) ؛

______________________________________________________

٢٩٩٥. كما إذا قلنا باعتبار الظواهر من باب السببيّة دون الطريقيّة.

٢٩٩٦. لا يذهب عليك أنّه إن قلنا بالتخيير لأجل أنّه الأصل في تعارض الخبرين ، فلا ريب أنّ المختار حينئذ يصير حجّة شرعيّة يجوز تخصيص الكتاب به إن كان المختار هو المخالف له. لكنّه خلاف التحقيق ، لما تقدّم من أنّ الأصل في تعارض الخبرين هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول.

وإن قلنا به من باب الشرع لأجل أخبار التخيير ، ففي جواز تخصيص الكتاب بالمختار وجهان مبنيّان على التدبّر في تلك الأخبار ، وأنّ مقتضاها كون التخيير كالترجيح ، بحيث يكون المختار حجّة شرعيّة تجري عليه جميع آثار الخبر السالم من المعارض التي منها تخصيص الكتاب به ، ولعلّه ظاهر الأخبار ، أو أنّ مقتضاها إثبات أصل التخيير ، بأن كان مفادها جواز العمل بمضمون أحدهما في الجملة ، من دون دلالة على تنزيل مؤدّاهما منزلة الواقع ، ليكون حجّة شرعيّة كي تجري عليه أحكامه؟ ولا ريب أنّ ثبوت التخيير بهذا المعنى لا ينافي ثبوت التعيين بالعرض بدليل خارجي ، نظير عدم منافاة الإباحة الأصليّة للوجوب أو الحرمة العرضيّة بدليل خارجي.

وحينئذ نقول : إنّ عموم الكتاب دليل اجتهاديّ حاكم على أصالة التخيير ، فلا يجوز معه اختيار الخبر المخالف له. اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مخالفة أحد الخبرين لعمومات الكتاب لو كانت مانعة من التخيير لم يبق لأخبار التخيير مورد إلّا نادرا ، لأنّ مرجع مخالفته لها إلى مخالفة ظاهرة لأصالة الحقيقة التي هي بمثابة الاصول العمليّة ،

٤٤١

لما سيجيء من أنّ موافقة أحد الخبرين للأصل (٢٩٩٧) لا يوجب رفع التخيير. وإن قلنا بالتساقط أو التوقّف ، كان المرجع هو ظاهر الكتاب. فتلخّص أنّ الترجيح بظاهر الكتاب لا يتحقّق بمقتضى القاعدة في شيء من فروض هذه الصورة.

الثانية : أن يكون على وجه لو خلّى الخبر المخالف له عن معارضه لكان مطروحا ؛ لمخالفته الكتاب ، كما إذا تباين مضمونهما كلّيّة. كما لو كان ظاهر الكتاب

______________________________________________________

فلو كانت تلك المخالفة مانعة من التخيير كانت المخالفة للاصول العمليّة أيضا مانعة منه ، وقلّما يوجد مورد لا يكون أحد الخبرين موافقا للأصل ، إذ الأغلب موافقته له ، إذ موارد دوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والحرمة ـ حتّى لا يجوز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما ـ قليل جدّا. مع أنّه إنّما يتمّ على تقدير حرمة المخالفة الالتزاميّة ، وهي ممنوعة كما تقدّم في أوّل الكتاب. ومع التسليم فلا حاجة في مثله إلى التمسّك بأخبار التخيير ، للاستغناء عنها باستقلال العقل به في مثله.

نعم ، يمكن أن يفرّق بين الأصلين بأنّ أصالة الحقيقة في الظواهر معتبرة من باب الظنّ النوعي ، فهي حاكمة على أصالة التخيير ، فتكون مرجّحة للخبر الموافق لها ، بخلاف الاصول العمليّة ، لاعتبارها من باب التعبّد في مقام الظاهر ، فتكون في مرتبة أصالة التخيير.

لا يقال : إنّ المعتبر في باب التراجيح هو الترجيح بالظنون الشخصيّة دون النوعيّة ، لأنّها في حكم التعبّد في عدم جواز الترجيح بها ، فلا تبقى أخبار التخيير حينئذ بلا مورد. نعم ، لو قلنا باعتبار الظواهر من باب الظنون الشخصيّة صحّ الترجيح بعموم الكتاب ، إلّا أنّه ضعيف ، والقائل به نادر.

لأنّا نقول : إنّا نمنع ـ لما صرّح به المصنّف رحمه‌الله عند بيان المرجّحات السنديّة ـ من كون المدار في باب التراجيح على الظنون النوعيّة دون الفعليّة ، فراجع.

٢٩٩٧. سواء كان لفظيّا أم عمليّا.

٤٤٢

في المثال المتقدّم وجوب إكرام زيد العالم. واللازم في هذه الصورة خروج الخبر المخالف عن الحجّية رأسا ؛ لتواتر الأخبار (٢٩٩٨) ببطلان الخبر المخالف للكتاب والسنّة ، والمتيقّن من المخالفة (٢٩٩٩) هذا الفرد ، فيخرج الفرض عن تعارض الخبرين ، فلا مورد للترجيح في هذه الصورة أيضا ؛ لأنّ المراد به (٣٠٠٠) تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه ، لا لما يسقط الآخر عن الحجّية. وهذه الصورة عديمة المورد فيما بأيدينا من الأخبار المتعارضة.

الثالثة : أن يكون على وجه لو خلّى المخالف له عن المعارض لخالف الكتاب ، لكن لا على وجه التباين الكلّي ، بل يمكن الجمع بينهما (٣٠٠١) بصرف أحدهما عن ظاهره. وحينئذ ، فإن قلنا بسقوط الخبر المخالف بهذه المخالفة عن الحجّية كان حكمها حكم الصورة الثانية ، وإلّا كان الكتاب (٣٠٠٢) مع الخبر المطابق بمنزلة دليل واحد عارض الخبر المخالف ، والترجيح حينئذ بالتعاضد وقطعيّة سند الكتاب.

______________________________________________________

٢٩٩٨. في بعضها أنّه زخرف ، وفي آخر أنّه باطل. وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما خالف كتاب الله فليس من حديثي ، أو لم أقله». وقال عليه‌السلام : «لا تقبلوا علينا خلاف القرآن ، فإنّا إن حدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة» إلى غير ذلك من الأخبار.

٢٩٩٩. قد تقدّم عند الاستدلال على عدم حجّية أخبار الآحاد بما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ، ما يندفع به ما يتوهّم من اختصاص ما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب ـ على ما ذكره هنا ـ بصورة معدومة.

٣٠٠٠. وهو فرع حجّية الخبرين في أنفسهما.

٣٠٠١. بأن كان بينهما عموم من وجه. ولم يعبّر بهذا اللفظ ليدخل فيه ما في حكمه ، مثل قوله : اغتسل للجمعة ، وينبغي غسل الجمعة.

٣٠٠٢. ممّا يشهد بعدم شمول الأخبار الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب لصورة المعارضة بالعموم من وجه ، أنّه على تقدير الشمول لا بدّ أن لا يفرّق فيه بين صورتي التعارض وعدمه ، بأن يقال بوجوب الطرح مطلقا حتّى في صورة

٤٤٣

فالترجيح بموافقة الكتاب منحصر في هذه الصورة الأخيرة. لكن هذا الترجيح مقدّم على الترجيح بالسند ؛ لأنّ أعدليّة الراوي في الخبر المخالف لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للخبر الآخر. وعلى الترجيح بمخالفة العامّة (٣٠٠٣) ؛ لأنّ التقيّة غير متصوّرة في الكتاب الموافق للخبر الموافق للعامّة ، وعلى المرجّحات الخارجيّة ؛ لأنّ

______________________________________________________

سلامة الخبر المخالف من معارضة مثله ، وهو خلاف طريقة الفقهاء ، كما هو واضح لمن تتبّع أبواب الفقه.

٣٠٠٣. لا يذهب عليك أنّ في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بمخالفة العامّة وجوها :

أحدها : تقديم الترجيح بالمخالفة لوجوه :

أحدها : غلبة صدور الأخبار تقيّة ، إذ لعلّ معظم اختلاف الأخبار نشأ من ذلك ، فيحمل الموافق للعامّة على التقيّة وإن كان موافقا للكتاب ، إلحاقا للمشكوك بالغالب.

وثانيها : أنّ الأخبار في تقديم الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة مختلفة ، والترجيح للثانية ، لكونها معلّلة بكون الرشد في خلافهم.

وثالثها : أنّ المراد بموافقة الكتاب ليس موافقة الخبر لألفاظه ، لامتناعه ، بل المراد موافقته لما هو المراد من الكتاب في الواقع ، وقد دلّت الأخبار على كون ما يخالف العامّة رشدا وصوابا وحقّا في الواقع ، فيكون موافقهم باطلا لا محالة. فلا بدّ أن يكون المراد بالكتاب في الواقع هو ما تضمّنه المخالف له ظاهرا ، إذا بعد قيام الدليل علي حقّية مضمونه في نفس الأمر كان هو مرادا بالكتاب لا محالة دون ما يوافقه ظاهرا ، فلا بدّ من حمل الموافق علي التقيّة لا محالة.

فان قلت : إنّ المراد بموافقة الكتاب لو كان الموافقة للمراد الواقعي تلغو الأخبار الدالّة علب طرح مخالف الكتاب ، لعدم إمكان العلم بالمراد الواقعي من الكتاب غالبا.

٤٤٤

الأمارة المستقلّة (٣٠٠٤) المطابقة للخبر الغير المعتبرة لا تقاوم الكتاب المقطوع الاعتبار ، ولو فرضنا الأمارة المذكورة مسقطة لدلالة الخبر والكتاب المخالفين لها عن الحجّية ـ لأجل القول بتقييد اعتبار الظواهر بصورة عدم قيام الظنّ الشخصيّ على خلافها ـ خرج المورد عن فرض التعارض.

ولعلّ ما ذكرناه هو الداعي للشيخ قدس‌سره في تقديم الترجيح بهذا المرجّح على جميع ما سواه من المرجّحات ، وذكر الترجيح بها بعد فقد هذا المرجّح.

إذا عرفت ما ذكرنا ، علمت توجّه الإشكال فيما دلّ من الأخبار العلاجيّة على تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب كمقبولة ابن حنظلة ، بل وفي غيرها ممّا

______________________________________________________

قلت : إنّ أصالة الحقيقة طريق إلى تعيين المرادات الواقعيّة ، إلّا أنّ العمل بها إنّما هو مع عدم تعيّن المراد الواقعي بدليل آخر ، وقد عرفت أنّ مخالفة العامّة من جملة ذلك ، ولأجل ما ذكرناه قد تفسّر الآيات في الأخبار بما هو خلاف ظاهرها.

الثاني : تقديم الترجيح بموافقة الكتاب كما هو ظاهر العلماء قدس‌سرهم ، وهو الأقوى ، لما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وحاصله : أنّ الترجيح بمخالفة العامّة فرع إمكان حمل الموافق لهم على التقيّة ، وهو ممتنع في المقام ، لأنّ التقيّة في الكتاب الموافق للخبر الموافق لهم غير متصوّرة ، فكيف يحمل عليها؟ وكون المخالفة من أمارات الرشد إنّما يتمّ على تقدير كون المخالفة من مرجّحات المضمون ، وهو خلاف ظاهر العلماء ، لأنّ ظاهرهم كونها من مرجّحات وجه الصدور ، بل هو خلاف مفروض كلام المصنّف رحمه‌الله ، وإن تأيّد بمعظم أخبار الباب.

الثالث : التخيير في الترجيح بينهما ، لفرض تعارضهما ، وعدم ثبوت تقديم الترجيح بإحداهما. وقد عرفت ضعفه.

٣٠٠٤. فإن قلت : إنّ عدم مقاومة الأمارة غير المعتبرة لظاهر الكتاب لا يستلزم تقديم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بسائر المرجّحات الخارجيّة ، لأنّ الترجيح بموافقة الكتاب إنّما هو لكون مضمون الخبر الموافق له أقرب مطابقة

٤٤٥

اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ؛ من حيث إنّ الصورة الثالثة (٣٠٠٥) قليلة الوجود في الأخبار المتعارضة ، والصورة الثانية أقلّ وجودا بل معدومة ، فلا يتوهّم حمل تلك الأخبار عليها وإن لم تكن من باب ترجيح أحد المتعارضين ؛ لسقوط المخالف عن الحجّية مع قطع النظر عن التعارض.

ويمكن التزام دخول الصورة الاولى في الأخبار التي اطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب ، فلا يقلّ موردها ، وما ذكر ـ من ملاحظة الترجيح بين الخبرين المخصّص أحدهما لظاهر الكتاب ـ ممنوع. بل نقول : إنّ ظاهر تلك الأخبار (٣٠٠٦) ولو بقرينة لزوم قلّة المورد بل عدمه ، وبقرينة بعض الروايات الدالّة على ردّ بعض ما ورد في الجبر والتفويض بمخالفة الكتاب مع كونه ظاهرا في نفيهما ـ أنّ الخبر المعتضد بظاهر الكتاب لا يعارضه الخبر الآخر وإن كان لو انفرد رفع اليد به عن ظاهر الكتاب.

______________________________________________________

للواقع من الآخر ، لكون موافقة الكتاب من المرجّحات المضمونيّة ، وربّما كان سائر الامور الخارجيّة أقوى ظنّا من ظاهر الكتاب. وكون ظاهره معتبرا شرعا دون ما يعارضه من الامور الخارجيّة ، إنّما يثمر في حجّيتهما في أنفسهما ، وإثبات الأحكام الشرعيّة بهما ، لا في مقام الترجيح غير المبتني على اعتبار المرجّح في نفسه شرعا.

قلت : إنّ الخبر المخالف للكتاب وإن تأيّد مضمونه بأيّ ظنّ فرض من الظنون غير المعتبرة ، إلّا أنّه لا يبلغ مرتبة الموافق للكتاب ، لأنّ الحاصل من الكتاب وإن فرض كونه من أضعف الظنون ، إلّا أنّه بعد فرض اعتباره شرعا كان كالقطع ، وبعد ملاحظة القطع بسنده واعتبار ظاهره كان الموافق له أقرب إلى الواقع شرعا من المخالف له لا محالة.

٣٠٠٥. هذا بيان للإشكال الثاني الوارد على ما أطلق فيه الترجيح بموافقة الكتاب.

٣٠٠٦. التي أطلق فيها الترجيح بموافقة الكتاب.

٤٤٦

وأمّا الإشكال المختصّ بالمقبولة من حيث تقديم بعض المرجّحات على موافقة الكتاب ، فيندفع بما أشرنا إليه سابقا من أنّ الترجيح بصفات الراوي فيها من حيث كونه حاكما ، وأوّل المرجّحات الخبريّة فيها هي شهرة إحدى الروايتين وشذوذ الاخرى ، ولا بعد في تقديمها على موافقة الكتاب (٣٠٠٧).

ثمّ إنّ الدليل المستقلّ المعاضد لأحد الخبرين حكمه حكم الكتاب والسنّة في الصورة الاولى. وأمّا في الصورتين الأخيرتين ، فالخبر المخالف له يعارض مجموع الخبر الآخر والدليل المطابق له ، والترجيح هنا بالتعاضد لا غير.

______________________________________________________

٣٠٠٧. لأنّ الخبر الموافق للمشهور إن كان موافقا للشهرة بحسب الفتوى ، يسقط الخبر المخالف لها عن درجة الاعتبار. وإن كان موافقا للشهرة بحسب الرواية ، فإن كانت الشهرة حينئذ بالغة حدّ الإجماع ، بأن كان جميع الروات أو إلّا الشاذّ منهم راوين لأحد الخبرين دون الآخر ، يخرج الآخر حينئذ من الحجّية أيضا ، لأنّ إجماعهم على نقل خبر يكشف عن كونه معمولا به عندهم ، وإلّا فلا داعي إلى إجماعهم على نقله من دون شهرة العمل به. وعلى التقديرين يقدّم الترجيح بموافقة الشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب ، وإن كان ذلك بمعنى خروج الموافق له من درجة الحجّية لأجل مخالفته للشهرة. نعم ، العلم بشهرة الرواية على ما عرفت متعذّر في أمثال زماننا ، لانتهاء الأخبار المدوّنة في الكتب المعروفة المعتبرة إلى المشايخ الثلاثة غالبا.

وإن كانت الشهرة غير بالغة إلى حدّ الإجماع ، بأن كان أحد الخبرين معروفا بين جماعة من الروات قلّوا أو كثروا ، وكان الآخر مختصّا براوي واحد ، فحينئذ وإن أمكن أن يقال : إنّ غاية ما تفيده رواية الجماعة حصول قوّة في سندها ، وهي لا تقاوم قطعيّة سند الكتاب الموافق للرواية الاخرى ، فيقدّم الترجيح بموافقة الكتاب على الترجيح بموافقة الشهرة ، إلّا أنّ المراد بالشهرة في المقبولة ـ على ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله في مسألة حجّية الشهرة ـ اشتهار الخبر بين الروات بحيث يعرفه كلّ أحد ، لا المعنى المذكور.

٤٤٧

وأمّا القسم الثاني وهو ما لا يكون معاضدا لأحد الخبرين ، فهي عدّة امور : منها : الأصل ، بناء على كون مضمونه حكم الله الظاهريّ ؛ إذ لو بني على إفادته الظنّ بحكم الله الواقعيّ كان من القسم الأوّل. ولا فرق في ذلك بين الاصول الثلاثة ، أعني أصالة البراءة ، والاحتياط ، والاستصحاب.

لكن يشكل الترجيح بها من حيث إنّ مورد الاصول ما إذا فقد الدليل (٣٠٠٨) الاجتهاديّ المطابق أو المخالف ، فلا مورد لها إلّا بعد فرض تساقط المتعارضين لأجل التكافؤ ، والمفروض أنّ الأخبار (٣٠٠٩) المستفيضة دلّت على التخيير مع فقد المرجّح ، فلا مورد للأصل في تعارض الخبرين رأسا ، فلا بدّ من التزام عدم الترجيح بها ، وأنّ الفقهاء إنّما رجّحوا بأصالة البراءة والاستصحاب في الكتب

______________________________________________________

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله مع ذلك كلّه لم يجزم بتقديم الترجيح بالشهرة على الترجيح بموافقة الكتاب. ولعلّ الوجه فيه أنّ ظاهر المقبولة هو الترجيح بموافقة شهرة الرواية من حيث هي ، مع قطع النظر عن كشفها عن شهرة الفتوى بمضمون الخبر المشهور ، بل مع فرض عدمه كما يدلّ عليه فرض كلّ من الخبرين مشهورين ، وحينئذ فغاية ما تدلّ عليه الشهرة هي قوّة الظنّ بصدور الخبر المشهور ، وهي لا تقاوم القطع بسند الكتاب.

ثمّ إنّ الإشكال المذكور إنّما يرد لو كان الترتيب بين المرجّحات المذكورة في المقبولة أو غيرها معتبرا في مقام الترجيح ، كما هو الظاهر على القول بالاقتصار على المرجّحات المنصوصة. وأمّا على المختار ـ وفاقا للمصنّف رحمه‌الله ، كما تقدّم سابقا ـ من كون المقصود منها الترجيح بكلّ مزيّة في أحد الخبرين مفقودة في الآخر ، من دون ملاحظة ترتيب ولا عدد خاصّ في المرجّحات ، فلا وقع لهذا الإشكال من أصله.

٣٠٠٨. فلا يكون الأصل مرجّحا.

٣٠٠٩. فلا يكون الأصل مرجعا أيضا.

٤٤٨

الاستدلاليّة ؛ من حيث بنائهم على حصول الظنّ النوعيّ بمطابقة الأصل. وأمّا الاحتياط ، فلم يعلم منهم الاعتماد عليه ، لا في مقام الاستناد ولا في مقام الترجيح (*).

وقد يتوهّم (٢٠) : أنّ ما دلّ على ترجيح التخيير مع تكافؤ الخبرين معارض بما دلّ على الاصول الثلاثة ، فإنّ مورد الاستصحاب عدم اليقين بخلاف الحالة السابقة ، وهو حاصل مع تكافؤ الخبرين.

ويندفع : بأنّ ما دلّ على التخيير حاكم على الأصل ؛ فإنّ مؤدّاه جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة والالتزام بارتفاعها ، فكما أنّ ما دلّ على تعيين (**) العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة مع سلامته عن المعارض حاكم على دليل الاستصحاب ، كذلك يكون الدليل الدالّ على جواز العمل بالخبر المخالف للحالة السابقة المكافئ لمعارضه حاكما عليه من غير فرق أصلا.

مع أنّه لو فرض التعارض المتوهّم كان أخبار التخيير أولى بالترجيح وإن كانت النسبة عموما من وجه ؛ لأنّها أقلّ موردا ، فيتعيّن تخصيص أدلّة الاصول ، مع أنّ التخصيص في أخبار التخيير يوجب إخراج كثير من مواردها بل أكثرها ، بخلاف تخصيص أدلّة الاصول. مع أنّ بعض أخبار التخيير ورد في مورد جريان الاصول مثل مكاتبة عبد الله بن محمّد الواردة في فعل ركعتي الفجر في المحمل ، ومكاتبة الحميريّ المرويّة في الاحتجاج الواردة في التكبير في كلّ انتقال من حال إلى حال من أحوال الصلاة.

وممّا ذكرنا ظهر فساد ما ذكره (٣٠١٠) بعض من عاصرناه في تقديم الموافق للأصل على المخالف ، من أنّ العمل بالموافق موجب للتخصيص فيما دلّ على حجّية

______________________________________________________

٣٠١٠. أمّا ظهور فساد الأوّل فلما تقدّم من حكومة ما دلّ على اعتبار الخبر المخالف على عموم ما دلّ على اعتبار الاصول ، فلا تعارض بينهما ، فعلى كلّ تقدير ليس هنا إلّا تخصيص واحد.

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «الترجيح» ، إلّا في مقام الاستناد ، لا في مقام الترجيح.

(**) فى بعض النسخ : بدل «تعيين» ، تعيّن.

٤٤٩

المخالف ، والعمل بالمخالف مستلزم للتخصيص فيما دلّ على حجّية الموافق وتخصيص آخر فيما دلّ على حجّية الاصول ، وأنّ الخبر الموافق يفيد ظنّا بالحكم الواقعيّ ، والعمل بالأصل يفيد الظنّ بالحكم الظاهريّ ، فيتقوّى به الخبر الموافق ، وأنّ الخبرين يتعارضان ويتساقطان ، فيبقى الأصل سليما عن المعارض (٢١).

بقي هنا شيء وهو أنّهم اختلفوا في تقديم المقرّر (٣٠١١)

______________________________________________________

وأمّا الثاني ، فإنّه مع فرض كون الخبر الموافق مفيدا للظنّ بالحكم الواقعي ، والأصل للظنّ بالحكم الظاهري ، لا يكون مضمون الخبر مؤيّدا بالأصل ، لاختلاف مرتبتهما ، فلا يترجّح به. ولذا جعل الاصول من المرجّحات الّتي لا تكون مؤيّدة لمضمون الخبر الموافق ، وجعل الكلام فيها على تقدير كون مضمونها هو الحكم الظاهري دون الواقعي.

وأمّا الثالث ، فإنّه مع تساقط الخبرين لا يكون الأصل مرجّحا بل مرجعا ، مع أنّك قد عرفت ما في كونه مرجعا أيضا. مضافا إلى استفاضة الأخبار بالتخيير كما تقدّم.

٣٠١١. لعلّ ذكر هذا بعد بيان حكم الترجيح بالأصل وعدمه من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ ، لكون المراد بالأصل هنا ما كان عقليّا لا شرعيّا كما سيصرّح به. والوجه في تخصيصه بالذكر كونه محلّ نزاع برأسه. ويحتمل كون المراد بالأصل هنا أعمّ من الاصول العمليّة واللفظيّة ، لكنّ المتيقّن من كلماتهم هي الاولى. وسمّي الموافق مقرّرا لتقريره الأصل على مقتضاه ، والمخالف بالناقل لنقله الحكم عن مقتضى الأصل.

وقد حكي بعض مشايخنا هنا أقوالا ستّة : أحدها : تقديم المقرّر ، وهو عزيز القائل. وثانيها : تقديم الناقل ، وهو المشهور. وثالثها : التوقّف. ورابعها : التفصيل بينما كان الخبران نبويّين وكانا معلومي التاريخ فيقدّم المتأخّر مطلقا ، سواء كان ناقلا أم مقرّرا ، وبينما كانا مجهولي التاريخ أو كانا صادرين عن أحد

٤٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الأئمّة عليهم‌السلام علم تاريخهما أو لا ، فقيل بالتوقّف ، وقيل بتقديم الناقل ، وقيل بالعكس.

والتحقيق عدم الترجيح في المقام لا بموافقة الأصل ولا بمخالفته ، سواء قلنا باعتبار الاصول من باب التعبّد كما هو الحقّ ، أم من باب الظنّ.

أمّا على الأوّل فأوّلا : للأصل ، لأنّ الترجيح كأصل الحجّية يحتاج إثباته إلى دليل ، وعدمه كاف في إثبات عدم جواز الترجيح بالاصول ، لما ستعرف من ضعف أدلّة المثبتين.

وثانيا : أنّ الاصول غير جارية في مقابل الأدلّة ، سواء وافقتها أم خالفتها ، كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله آنفا.

وثالثا : أنّ مرتبة الاصول مع الأدلّة مختلفة ، لاعتبار الاولى من باب التعبّد ، والثانية من باب الطريقيّة والكشف عن الواقع ، فلا يصحّ الترجيح بها.

وأمّا على الثاني ، فإنّ المراد بالاصول هنا هي الاستصحاب والبراءة والاحتياط. والأخير غير مفيد للظنّ ، لأنّ مقتضاه حصول العلم بحصول الواقع في ضمن المأتيّ به ، لا الظنّ بكونه نفس الواقع بالخصوص كما هو المعتبر في باب الترجيح.

وأمّا الثاني فهو إن قيس إلى الواقع فلا يفيد ظنّا ، إلّا أن تكون الواقعة كثيرة الابتلاء للمكلّف ، لأنّه مع عدم الوجدان حينئذ يحصل الظنّ بالعدم في الواقع ، لكنّه لا يفيد المدّعى كلّيا. وإن قيس إلى الظاهر فهو يفيد القطع دون الظنّ ، مع أنّه لا يصلح للترجيح كما عرفت.

وأمّا الأوّل فإن لوحظت إفادته للظنّ بالواقع ولو نوعا فلا دليل على اعتباره بهذا الاعتبار. وإن لوحظ اعتباره شرعا من باب التعبّد فلا يصلح للترجيح.

واحتجّ القائل بتقديم المقرّر بأنّ التأسيس أولى من التأكيد ، وحمل كلام الشارع على الأتمّ فائدة أولى وأتمّ. وتوجيهه : أنّه مع الحكم بتقديم المقرّر لا بدّ أن يفرض ورود الناقل قبله ، فيقع كلّ منهما في موضع الحاجة. أمّا الناقل فلوروده على خلاف الأصل. وأمّا المقرّر فلوروده على خلاف ما يستفاد من الناقل ، لكونه

٤٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

رافعا لما يستفاد منه ، بخلاف ما لو قدّم الناقل ، لاستلزامه ورود المقرّر قبله على وفق الأصل ، وهو تأكيد ، والتأسيس أولى منه كما عرفت.

وفيه أوّلا : أنّه يستلزم كون المقرّر ناسخا للناقل ، فلا يجري الدليل في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، لانسداد باب النسخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وثانيا : منع أولويّة التأسيس ، لعدم بلوغ هذه القاعدة إلى مرتبة الحجّية ، لعدم إفادتها الظنّ كي يصلح للترجيح.

وثالثا : أنّ ما ذكر من الدليل جمع بين الخبرين لا ترجيح لأحدهما ، لاستلزامه إعمال كلا الخبرين ، أمّا الناقل فإلى زمان صدور المقرّر ، وأمّا هو فبعد صدوره ، والكلام في المقام في الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رأسا لأجل الموافقة للأصل أو المخالفة له.

ورابعا : منع جريان الدليل فيما كان الخبران واردين في مقام الجواب عن سؤال الراوي ، لكون الخبر حينئذ مفيدا ومؤسّسا ، سواء وافق الأصل أو خالفه ، وإلّا لما احتاج إلى السؤال ، واقتنع بمقتضى الأصل.

وخامسا : منع كون ورود الخبر على وفق الأصل تأكيدا ، لأنّه إنّما يتمّ مع الالتفات إلى حكم العقل ، وأمّا مع عدم الالتفات إليه ـ كما هو الغالب في عوام الناس ـ فلا ، لكون الخبر حينئذ مفيدا ومؤسّسا بالنسبة إليه لا محالة.

واحتجّ القائل بتقديم الناقل بوجوه :

أحدها : ما نقله المصنّف رحمه‌الله من الغلبة.

وفيه : منع الغلبة على وجه يفيد الظنّ بكون الصادر مخالفا للأصل ، لأنّ بيان الشارع للمباحات والمستحبّات والمكروهات كثير أيضا.

وثانيها : ما ذكره في المعالم من أنّ التأسيس أولى من التأكيد ، حيث يستفاد من الناقل ما لا يستفاد إلّا منه ، بخلاف المقرّر ، فإنّه يستفاد من العقل ما يستفاد منه.

٤٥٢

ـ وهو الموافق للأصل ـ على الناقل وهو الخبر المخالف له. والأكثر من الأصوليّين ـ منهم العلّامة قدس‌سره وغيره ـ على تقديم الناقل ، بل حكي هذا القول عن جمهور الاصوليّين ، معلّلين ذلك : بأنّ الغالب فيما يصدر من الشارع الحكم بما يحتاج إلى البيان ولا يستغنى عنه بحكم العقل ، مع أنّ الذي عثرنا عليه في الكتب الاستدلاليّة الفرعيّة الترجيح بالاعتضاد بالأصل ، لكن لا يحضرني الآن مورد لما نحن فيه ـ أعني المتعارضين الموافق أحدهما للأصل ، فلا بدّ من التتبّع.

ومن ذلك كون أحد الخبرين متضمّنا للإباحة والآخر مفيدا للحظر ، فإنّ المشهور تقديم الحاظر على المبيح (٢٢) ، بل يظهر من المحكيّ عن بعضهم عدم الخلاف فيه. وذكروا في وجهه ما لا يبلغ حدّ الوجوب ككونه متيقّنا في العمل ؛ استنادا إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : " ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال".

وفيه : أنّه لو تمّ هذا الترجيح لزم الحكم بأصالة الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الإباحة ؛ لأنّ وجود الخبرين لا مدخل له في هذا الترجيح ؛ فإنّه من مرجّحات أحد الاحتمالين ، مع أنّ المشهور تقديم الإباحة على الحظر.

فالمتّجه ما ذكره الشيخ قدس‌سره في العدّة من ابتناء المسألة على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر أو التوقّف ، حيث قال : وأمّا ترجيح أحد الخبرين على الآخر من حيث إنّ أحدهما يتضمّن الحظر والآخر الإباحة ، والأخذ بما يقتضي الحظر أو الإباحة ، فلا يمكن الاعتماد عليه على ما نذهب إليه من الوقف ؛ لأنّ الحظر والإباحة جميعا عندنا مستفادان من الشرع ، ولا ترجيح بذلك ، وينبغي لنا التوقّف فيهما جميعا ، أو يكون الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء (٢٣) ، انتهى.

ويمكن الاستدلال لترجيح الحظر بما دلّ على وجوب الأخذ بما فيه (*) الاحتياط من الخبرين ، وإرجاع ما ذكروه من الدليل إلى ذلك ، فالاحتياط وإن لم يجب الأخذ به في الاحتمالين المجرّدين عن الخبر ، إلّا أنّه يجب الترجيح به عند تعارض الخبرين (**).

__________________

(*) فى بعض النسخ : بدل «بما فيه الاحتياط» : بما وافق الاحتياط.

(**) فى بعض النسخ : بدل «تعارض الخبرين» : التعارض.

٤٥٣

وما ذكره الشيخ قدس‌سره إنّما يتمّ لو أراد الترجيح بما يقتضيه الأصل ، لا بما ورد التعبّد به من الأخذ بالأحوط من الخبرين ، مع أنّ ما ذكره من استفادة الحظر أو الإباحة من الشرع لا ينافي ترجيح أحد الخبرين بما دلّ من الشرع على أصالة الإباحة ، مثل قوله عليه‌السلام : " كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي" ، أو على أصالة الحظر مثل قوله : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ، مع أنّ مقتضى التوقّف على ما اختاره لمّا كان وجوب الكفّ عن الفعل ـ على ما صرّح به هو وغيره ـ كان اللازم بناء على التوقّف العمل بما يقتضيه الحظر. ولو ادّعي ورود أخبار التخيير على ما يقتضيه التوقّف من الحظر جرى مثله على القول بأصالة الحظر.

ثمّ إنّه يشكل الفرق بين ما ذكروه من الخلاف في تقديم المقرّر على الناقل ـ وإن حكي عن الأكثر تقديم الناقل ـ وبين عدم ظهور الخلاف في تقديم الحاظر على المبيح. ويمكن الفرق بتخصيص المسألة الاولى بدوران الأمر بين الوجوب وعدمه (٣٠١٢) ؛ ولذا رجّح بعضهم الوجوب على الإباحة والندب لأجل الاحتياط.

______________________________________________________

وفيه : مع ما عرفت من منع الأولويّة ، أنّ قاعدة التأسيس إنّما تفيد تقديم المقرّر دون الناقل ، إذ تقديم المقرّر يستلزم تقديم الناقل عليه ، فيكون الناقل واردا على خلاف الأصل ، والمقرّر على خلاف ما يستفاد من الناقل ، فيقع كلّ في موضع الحاجة ، بخلاف ما لو قيل بترجيح الناقل ، لأنّه يستلزم ورود المقرّر على وفق الأصل ، وهو تأكيد على ما عرفت في تقرير حجّة القائل بتقديم المقرّر.

وثالثها : ما ذكره في المعالم أيضا من أنّ العمل بالناقل يقتضي تقليل النسخ ، لأنّه يزيل حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر ، فإنّه يوجب تكثيره ، لإزالته حكم الناقل بعد إزالة الناقل حكم العقل.

وفيه : مع ما في كون رفع حكم العقل نسخا ، أنّه لا يتمّ في أخبار الأئمة عليهم‌السلام ، لعدم النسخ فيها ، فيختصّ بأخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ إنّ أدلّة سائر الأقوال ضعيفة جدّا ، فلا حاجة إلى ذكرها بعد ما قرّرناه وحرّرناه.

٣٠١٢. أي : بين الوجوب وغير الحرمة ، فلا يشمل مورد دوران الأمر بين

٤٥٤

لكن فيه ـ مع جريان بعض أدلّة تقديم الحظر فيها ـ إطلاق كلامهم فيها وعدم ظهور التخصيص في كلماتهم ؛ ولذا اختار بعض سادة مشايخنا المعاصرين (٢٤) تقديم الإباحة على الحظر ؛ لرجوعه إلى تقديم المقرّر على الناقل الذي اختاره في تلك المسألة.

هذا ، مع أنّ الاتّفاق على تقديم الحظر غير ثابت وإن ادّعاه بعضهم. والتحقيق هو ذهاب الأكثر ، وقد ذهبوا إلى تقديم الناقل أيضا في المسألة الاولى ، بل حكي عن بعضهم تفريع تقديم الحاظر على تقديم الناقل.

ومن جملة هذه المرجّحات : تقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب عند تعارضهما. واستدلّوا عليه بما ذكرناه مفصّلا في مسائل أصالة البراءة عند تعارض احتمالي الوجوب والتحريم.

والحقّ هنا : التخيير وإن لم نقل به في الاحتمالين ؛ لأنّ المستفاد من الروايات الواردة في تعارض الأخبار على وجه لا يرتاب فيه هو لزوم التخيير مع تكافؤ الخبرين وتساويهما من جميع الوجوه التي لها مدخل في رجحان أحد الخبرين ، خصوصا مع عدم التمكّن من الرجوع إلى الإمام عليه‌السلام ، الذي يحمل عليه أخبار التوقّف والإرجاء ، بل لو بنينا على طرح أخبار التخيير في هذا المقام أيضا بعد الترجيح بموافقة الأصل لم يبق لها مورد يصلح لحمل الأخبار الكثيرة الدالّة على التخيير عليه ، كما لا يخفى على المتأمّل الدقيق.

فالمعتمد وجوب الحكم بالتخيير إذا تساوى الخبران من حيث القوّة ولم يرجّح أحدهما بما يوجب أقربيّته إلى الواقع ، ولا يلتفت إلى المرجّحات الثلاث الأخيرة الراجعة إلى ترجيح مضمون أحد الخبرين مع قطع النظر عن كونه مدلولا له ؛ لحكومة أخبار التخيير على جميعها ، وإن قلنا بها في تكافؤ الاحتمالين. نعم ، يجب الرجوع إليها في تعارض غير الخبرين (٣٠١٣)

______________________________________________________

الوجوب والحرمة ، لدخوله في الأمثلة الآتية دون مسألة المقرّر والناقل.

٣٠١٣. اعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله قد أشار هنا إلى تعارض غير الخبرين من الأدلّة

٤٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الظنّية عموما ، وإلى تعارض الإجماعين المنقولين خصوصا ، وكذا إلى تعارض الإجماع المنقول مع خبر الواحد ، فلا بدّ في تحقيق المقام من إيراد الكلام في مقامات.

المقام الأوّل : في بيان تعارض ما عدا الخبر الواحد والإجماع من الأدلّة الظنّية ، كالشهرة ونحوها بناء على القول باعتبارها. فإن قلنا باعتبارها من باب الظنون الخاصّة ، فالحقّ عند تعارضها هو التساقط والرجوع إلى مقتضى الاصول ، لأنّه الأصل عند تعارض ما هو معتبر من باب الطريقيّة كما تقدّم سابقا. اللهمّ إلّا أن يثبت الإجماع على إجراء أحكام تعارض الخبرين فيها. وإن قلنا باعتبارها من باب الظنون المطلقة ، فلا سبيل إلى فرض التعارض بينها حينئذ ، لأنّ المتعارضين منها إن لم يفد شيء منهما للظنّ لأجل التعارض يسقطان عن درجة الاعتبار ، وإلّا كانت الحجّة ما أفاد الظنّ منهما دون الآخر.

المقام الثاني : في بيان تعارض الإجماعات. والكلام فيه تارة في إمكانه ، واخرى في حكمه.

أمّا الأوّل فالأولى إيراد الكلام فيه على حسب اختلافهم في طريق إثبات الإجماع ، فنقول : أمّا على طريقة القدماء فيمكن فرض تحقّق إجماعين متعارضين في واقعة واحدة وفي زمان واحد ، لأنّ الإجماع عندهم عبارة عن اتّفاق جماعة يدخل قول الإمام عليه‌السلام في جملة أقوالهم ، ويمكن اتّفاق فريق على حكم وفريق آخر على نقيضه ، ويدخل قول الإمام عليه‌السلام في أقوال كلّ من الفريقين ، لكن في أحدهما من باب الرضا بما اتّفقوا عليه ، وفي الآخر من باب التقيّة أو غيرها من المصالح ، لعدم اشتراطهم في دخول قوله في جملة أقوالهم كونه من باب الرضا.

وهذا مع اختلاف الزمانين واضح. وأمّا مع اتّحاده فيمكن فرضه في زمان الحضور ، بأن يدخل قول أحد الحسنين عليهما‌السلام في أقوال أحد الفريقين ، وقول الآخر ، في أقوال الآخر ، لأنّه وإن لم يجز وجود إمامين في زمان واحد ، إلّا أنّ الأئمّة عليهم‌السلام معصومون قبل إمامتهم ، فيكفي دخول أحدهم ولو قبل إمامته في انعقاد الإجماع ،

٤٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فيكون تعارض الإجماعين كتعارض الآيتين أو الخبرين القطعيّين. وربّما يكون أحدهما عامّا والآخر خاصّا ، وربّما تباينا كلّيا.

وأمّا على طريقة الشيخ ، فلا يمكن تعارض الإجماعين على طريقته ، لأنّ الإجماع عنده مبنيّ على طريقة اللطف وإظهار الحقّ ، ومع تعارضهما يكون الحقّ بينهما مختفيا.

وأمّا على طريقة المتأخّرين المبنيّة على الحدس ، فلا بدّ حينئذ من تشخيص مرادهم ، لأنّهم إن أرادوا حصول الحدس من تتبّع الفتاوي برضا المعصوم عليه‌السلام ، فلا يعقل انعقاد الإجماع على طرفي المسألة ، لعدم إمكان رضاه بطرفي النقيض في الحكم. وإن أرادوا حصول الحدس بقول المعصوم عليه‌السلام على طبق فتاوي العلماء ، فيمكن تحقّقهما وتعارضهما ، كتعارض الخبرين القطعيّين. وإن أرادوا حصول الحدس بوجود دليل ظنّي قد وصل إلى العلماء على طبق فتاواهم ، فإمكان التعارض أوضح.

وإن أرادوا حصول الحدس بوجود أصل من عموم كتاب أو سنّة ، فإمكان تعارضه أيضا أوضح ، فيكون الإجماع حينئذ بمنزلة عامّ يجوز تخصيصه بدليل آخر ، أو إجماع آخر إن كان خاصّا.

وأمّا الثاني ، فاعلم أنّه حيث تعارض إجماعان ، فإن أمكن الجمع بينهما بحسب الدلالة فهو ، وإلّا فالحقّ عدم جريان شيء من المرجّحات فيهما ، لا من حيث الصدور ولا من حيث وجه الصدور ولا من حيث المضمون ، لأنّ الترجيح كالحجّية على خلاف الأصل فيقتصر على مورد ثبوته ، وهو الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام على طريق الحسّ دون الحدس ، لأنّها المتيقّنة من أخبار الترجيح ، وكذا من أخبار التخيير ، فلا يشمل المقام شيء من أخبارهما ، وإن كان الإخبار عن الإجماع إخبارا عن المعصوم عليه‌السلام ، إذ لا عموم فيها ، لأنّ التعليل الوارد في أخبار الترجيح بمثل قولهم : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» أو ما يقرب منه لا يشمل المقام ،

٤٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنّ المتيقّن منه عمومه على حسب مورده ، وهو الإخبار عن حسّ ، ولذا لا يتعدّى من تعارض الخبرين إلى تعارض الاحتمالين ، بأن تعارض احتمالان أحدهما مشهور أو مخالف للعامّة ، مع جريان عموم التعليل المذكور ـ وكذا قوله عليه‌السلام : «فإنّ الرشد في خلافهم» ـ فيه أيضا. ومنه يظهر ضعف ما ذكره المصنّف رحمه‌الله من التعدية إلى تعارض الإجماعين ، بل إلى تعارض كلّ ظنّيين كان اعتبارهما من باب الظنون الخاصّة.

نعم ، لو قلنا بكون اعتبار المرجّحات ثمّ التخيير من باب الأصل ، إمّا لأجل بناء العقلاء على ذلك في أخبارهم العرفيّة ، وإمّا لأجل أنّ المستفاد من الأخبار ـ بتنقيح المناط ـ كون المدار في الترجيح على تعارض دليلين مطلقا من دون مدخليّة المورد ، مؤيّدا بعموم التعليل ، أمكن إعمال المرجّحات في المتعارضين من الإجماعات المنقولة أيضا.

نعم ، لا بدّ أن يستثنى من ذلك الترجيح بوجه الصدور ، لانتفاء الخوف والتقيّة في دعوى الإجماع في الكتب الاستدلاليّة. وكذا الترجيح بالأعدليّة والأورعيّة ، لعلمنا بصدق المدّعين للإجماع من أرباب التصانيف من العلماء. فلا بدّ أن يلاحظ سائر المرجّحات الداخلة ، مثل كون أحد المدّعيين أضبط من الآخر ، أو أقلّ خطأ في حدسه ، أو كون مدّعي أحدهما أكثر عددا من الآخر ، أو نحو ذلك. أو الخارجة ، مثل كون أحد الإجماعين موافقا للشهرة دون الآخر ، أو لعمل الناس ، أو كان أحد المدّعيين مدّعيا لإجماع أهل العلم والآخر لإجماع الإماميّة خاصّة ، إذ لا شكّ أنّ الأوّل أقوى. اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ كثرة وقوع البدع والضلال بين العامّة يوهن الأوّل ، فيكون الثاني أقوى ، فتأمّل. ومثل دعوى إجماع كلّ من الاصوليّين والأخباريّين ، ودعوى إجماع الاصوليّين خاصّة. وربّما يقال بكون دخول الأخباريّين في المجمعين موهنا له ، لكثرة خطائهم في المسائل العلميّة. ومثل عدم وجود خلاف في زمان دعوى أحدهما ووجوده في زمان دعوى الآخر ، أو

٤٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عدم حدوث الخلاف بعد دعوى أحدهما وحدوثه بعد الآخر. ومثل كون أحد المدّعيّين من حذقة الفنّ دون الآخر. ومثل دعوى أحدهما انحصار القول في المسألة في قولين ، ودعوى الآخر انحصاره في الثلاثة مثلا فيما يدّعي فيه الإجماع المركّب ، والثاني أقوى ، لكون المثبت مقدّما على النافي في أمثال المقام.

وبالجملة ، لا بدّ من ملاحظة أمثال ما ذكر في ترجيح أحد الإجماعين المتعارضين ، فتكثر الحاجة إلى ضبط أمثال ما ذكرناه ، لعظم نفعها في الفروع.

المقام الثالث : في تعارض الإجماع المنقول مع خبر الواحد. وقد حكي عن الشهيد الثاني تقديم الإجماع ، لكونه عالي السند ، بخلاف الخبر. والحقّ تقديم الخبر عليه.

وعلّله في محكيّ الإشارات بكون خبر الواحد أقوى اعتبارا من الإجماع المنقول ، لكون اعتبار الأوّل متيقّنا ، بخلاف الثاني ، لأنّ اعتباره مظنون مستند إلى ظواهر الأدلّة مثل آية النبأ ونحوها ، وأدلّة خبر الواحد لا تنحصر فيها. ولأنّ كلّ من قال باعتبار الثاني قال باعتبار الأوّل أيضا من دون عكس ، فيكون اعتباره متيقّنا بالنسبة إليه.

وفيه نظر ، لأنّ الكلام في الترجيحات إنّما هو بعد الفراغ من اعتبار المتعارضين ، واعتبار كلّ دليل وحجّيته لا بدّ أن ينتهي إلى العلم دون الظنّ. وآية النبأ على تقدير شمولها للإجماع المنقول وإن كانت ظنّية بحسب الدلالة ، إلّا أنّها قطعيّة بحسب الاعتبار. مع أنّ الثابت من الأدلّة في ترجيح أحد المتعارضين على الآخر كونه أقرب إلى الواقع من حيث الصدور أو وجه الصدور أو من حيث المضمون ، وأمّا القرب إلى الواقع من حيث الاعتبار فلم يثبت الترجيح به من الأدلّة ، كما يظهر ممّا قدّمناه في إثبات وجوه الترجيح ، ولذا حصرها العلماء في هذه الثلاثة مع إضافة قوّة الدلالة ، ولم يتعرّض أحد منهم لاعتبار الترجيح من حيث قوّة الاعتبار ، وكيف لا ولو صحّ ذلك انفتح باب آخر للترجيح ، لاختلاف

٤٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مراتب اعتبار الأدلّة قوّة وضعفا ، وهو خلاف طريقتهم في الفقه.

والأولى أن يقال : إنّ الإجماع وإن كان عالي السند إلّا أنّ اعتباره مبنيّ على الحدس عن موافقة رضا المعصوم عليه‌السلام لفتاوى المجمعين ، والحدس ممّا يكثر الخطأ فيه ، بخلاف الخبر ، فإنّه مبنيّ على الحسّ من سماع الخبر من المعصوم عليه‌السلام أو من الوسائط إلى أن ينتهي إليه. والإجماعات المدّعاة في كتب المتأخّرين مبنيّة على الحدس ، بل وفي كتب القدماء أيضا ، لأنّها أيضا مبنيّة على الحدس عن دخول قول المعصوم عليه‌السلام في جملة أقوالهم. نعم ، لو فرض تحقّق الإجماع في زمان حضور المعصوم عليه‌السلام أمكن كون دعواه مبنيّة على الحسّ ، ولكنّي لم أطّلع على مثله في الإجماعات المدّعاة في كتب العلماء قديما وحديثا.

ثمّ إنّ الكلام هنا وفي المقام الثاني مبنيّ على القول باعتبار الإجماع المنقول من باب الظنون الخاصّة ، وإلّا فعلى القول باعتباره من باب الظنون المطلقة لا سبيل إلى فرض التعارض بينه وبين غيره من سنخه أو غيره ، كما عرفته في المقام الأوّل.

ثمّ إنّه ليس في الأدلّة الظنّية ما يمكن القول باعتباره من باب الظنون الخاصّة سوى خبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة. أمّا الأوّلان فواضحان. وأمّا الثالث فقد قيل باعتباره من باب الظنون الخاصّة ، لأجل التعليل في قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ، واترك الشاذّ النادر ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه». لكنّه ضعيف جدّا كما قرّرناه في محلّه. وأمّا مثل الغلبة والاستقراء والعادة فلم يظهر قول باعتبارها من باب الظنون الخاصّة من أحد ، وعلى تقديره تظهر الحال فيها أيضا ممّا قدّمناه في المقام الأوّل.

المقام الرابع : في تعارض القطعيّات. والكلام فيها تارة في الكتاب والسنّة النبويّة ، واخرى في الأخبار الإماميّة.

٤٦٠