فرائد الأصول - ج ٦

الشيخ مرتضى الأنصاري

فرائد الأصول - ج ٦

المؤلف:

الشيخ مرتضى الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: سماء قلم
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-8536-63-8
ISBN الدورة:
978-964-8536-63-8

الصفحات: ٤٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الضمان في حال الصغر ، ولا يمكن حمل فعله على الصحّة من جهة ذلك ، لعدم ظهور فعله في الصحّة لذلك ، إلّا أنّ حمل فعل المضمون له على الصحّة يقتضي صحّة العقد ، لفرض صدور فعله في حال البلوغ والعقل والرشد ، وصحّة العقد من جهته تستلزم صحّته من جهة الضامن أيضا لا محالة ، لعدم الانفكاك بينهما. وسنشير إلى كون اعتبار القاعدة من باب الظهور النوعي لا التعبّد حتّى يصحّ التفكيك بينهما.

لا يقال : يعارض ذلك ظهور فعل الضامن في الفساد ، لدعواه وقوعه في حال الصغر. لأنّا نقول : إنّ غاية الأمر عدم ظهور فعله في الصحّة ، لأجل دعواه وقوعه في حال الصغر ، لا ظهوره في الفساد. ويدلّ على ما ذكرناه استمرار السيرة على ترتيب آثار الصحّة بحيث لا ينكر ، كيف لا ولو فرض موت المتعاقدين واحتمل وصيّهما وقوع العقد في حال صغر أحدهما لا يلتفت إلى ذلك أصلا ، ولا أظنّ الخصم ينكر ذلك ، وليس الوجه فيه إلّا ما ذكرناه من السيرة المستمرّة. وممّا ذكرناه يظهر حكم القسم الثاني بالأولويّة.

الثانية : أن لا يعلم استجماع أحدهما لجميع ما يعتبر فيه ، بأن ادّعى أحدهما وقوع العقد في حال صغر كلّ منهما أو جنونهما ، وأنكره الآخر وادّعى وقوعه في حال بلوغهما أو إفاقتهما. وهذه الصورة لا تخلو أيضا من الأقسام الثلاثة المتقدّمة. والظاهر جريان القاعدة هنا أيضا مع ظهور التسالم منهما بعد العقد مدّة ، للسيرة المستمرّة. وأمّا مع عدم ظهور ذلك فيشكل الحمل على الصحّة حينئذ ، لعدم تحقّق السيرة هنا ولو للشكّ فيه ، وحينئذ فأصالة عدم البلوغ وأصالة براءة ذمّة منكر وقوع الفعل في حال البلوغ ترجّح قول مدّعي الفساد ، سيّما أنّه منكر حقيقة. فظهر أنّ الأقوى هو الحكم بالصحّة فيما عدا هذا القسم. والعلّامة أيضا إن أراد بمنع صحّة التمسّك بالقاعدة في المقام هذا القسم فهو ، وإلّا فقد عرفت ضعف تعميم المنع. ومن هنا يظهر أيضا ضعف ما يظهر من المصنّف رحمه‌الله

١٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

من إطلاق القول بالموجب ، فتدبّر.

نعم ، على ما احتمل المصنّف رحمه‌الله في كلام العلّامة في التذكرة من إرادة صورة وقوع الضمان من الضامن من غير إذن من المديون ولا قبول من الغريم ، لا يكون ما ذكره مخالفا لما ذكرناه ، وصحّ ما ذكره بقوله : «فليس مع من يدّعي الأهليّة ظاهر يستند إليه ، ولا أصل يرجع إليه».

وأمّا قول الكركي قدس‌سره فهو بظاهره ظاهر الفساد ، إذ لا وجه لمنع الظهور فيما اختلفا في بعض ما يعتبر في العوضين مع تسالمهما على أهليّة المتعاقدين ، إذ لا ريب أنّ ظاهر حال العاقل البالغ الرشيد أنّه لا يتصرّف تصرّفا باطلا. والسيرة أيضا مستمرّة على الحمل على الصحّة في مثله ، بل جميع الأدلّة التي أقاموها على اعتبار القاعدة جارية في المقام.

والذي يمكن أن يكون مستندا لما ذكره وجهان :

أحدهما : أن يكون مبنى قاعدة الحمل على الصحّة عنده قاعدة إحراز المقتضي والشكّ في المانع ، التي ربّما يدّعى بناء العقلاء فيه على عدم المانع المشكوك فيه ، لرجوع الشكّ حينئذ في بعض ما يعتبر في أركان العقد إلى الشكّ في المقتضي ، فينحصر موردها حينئذ فيما كان الشكّ فيه في المانع ، كاشتراط شرط مفسد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا المبنى بنفسه ضعيف ، لعدم الدليل عليه ، سيّما مع استمرار السيرة على الحمل على الصحّة ولو مع رجوع الشكّ إلى المقتضي.

وثانيهما : أن يكون مستند القاعدة عنده في العقود عموم وجوب الوفاء بالعقود ، كما تقدّم عند بيان الأدلّة على اعتبار أصل القاعدة. والتقريب فيه يتوقّف على بيان مقدّمتين : إحداهما : صحّة التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة ، لوضوح كون الشبهة في موارد القاعدة في الموضوع. والثانية : أن تكون عمومات العقود متنوّعة بالنسبة إلى ما يعتبر فيها من الشروط دون الموانع ، بأن يقال : إنّ الشارع بعد أن اعتبر في البيع مثلا شروطا لصحّته ، فذلك يوجب

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

تقيّد موضوع البيع ، فيكون المحمول عليه الحليّة في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) هو المستجمع لهذه الشروط ، فيكون غير الجامع لها خارجا منه موضوعا لا حكما ، فيكون مقتضاه حينئذ حلّية ما جامع الشرائط مطلقا ، سواء وجد فيه بعض الموانع أيضا أم لا. وما دلّ على عدم ترتّب الأثر عليه لأجل وجود بعض الموانع فيه قد خرج من عموم الحلّ ، فيكون خروج فاقد بعض الشروط حينئذ من العموم خروجا موضوعيّا ، وواجد بعض الموانع خروجا حكميّا.

والسرّ في ذلك أنّ الشروط من جملة أجزاء المقتضي ، فاقتضاء البيع مثلا للحليّة لا بدّ أن يكون بعد استجماعه لجميع شرائط الصحّة ، وحكم الشارع عليه بالحلّية لا بدّ أن يكون بعد اعتبار هذه الشروط فيه ، وحينئذ يختصّ موضوع الحليّة بالجامع للشرائط ، فيكون الفاقد لها خارجا من موضوعها لا محالة ، بخلاف الموانع ، لأنّها مانعة من ترتّب الأثر بعد صلاحيّة المؤثّر للتأثير ، فلا يلزم حينئذ اعتبار عدم المانع في موضوع الحكم ، بل لا بدّ أن يكون ذلك معتبرا في ترتّب الحكم على موضوعه ، فيكون خروج الواجد للمانع من الحكم لا محالة.

لا يقال : إنّ عدم المانع من جملة الشرائط. لأنّا نقول : هذا مسامحة ، وإلّا فالشرط ما كان لوجوده تأثير في وجود المشروط ، فالوجود مأخوذ في مفهومه. مع أنّ عدم المانع لا تأثير له في وجود الممنوع منه ، وإنّما المعتبر مقارنة عدمه مع وجوده ، والفرق بينهما واضح ، لكون المقارنة أعمّ من التأثير.

ووجه توقّف صحّة الحمل على الصحّة على هذه المقدّمة أنّه قد ثبت بالمقدّمة الاولى جواز التمسّك بالعمومات ، مثل عموم الوفاء وحليّة البيع في الشبهات الموضوعة ، سواء كانت الشبهة في الصحّة ناشئة من الشكّ في وجود بعض شرائط الأركان ، ككون البائع بالغا عاقلا أو المبيع ملكا أو طاهرا ، أو من الشكّ في وجود بعض الموانع ، كاشتراط شرط مفسد. ولكن بهذه المقدّمة يثبت

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التفصيل بين الشروط والموانع ، لأنّه إذا كان الشكّ في صحّة العقد ناشئا من الشكّ في وجود بعض الشرائط ، مع فرض كون وجود الشرط معتبرا في موضع الحكم العامّ لا يصحّ التمسّك بالعموم ، لأنّه إنّما يجدي بعد إحراز موضوعه ، فكما أنّه إذا شكّ في كون الواقع بيعا أو غيره لا مسرح للتمسّك بعموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) في إثبات حليّته ، كذلك لا مسرح للتمسّك به مع الشكّ في كون الواقع واجدا للشرط وعدمه ، بعد فرض أخذ وجوده في موضوع البيع في الحكم بحليّته ، بخلاف ما لو كان الشكّ في صحّته ناشئا من الشكّ في وجود المانع وعدمه ، لفرض عدم اعتبار عدمه في موضوع البيع في الحكم بحليّته ، فمع تحقّق الموضوع مع الشكّ في وجود المانع يدفع احتمال وجوده بإطلاق الحكم بحليّة البيع ، على ما هو الفرض بالمقدّمة الاولى من صحّة دفع احتمال وجود المانع بالعموم والإطلاق ، مضافا إلى أصالة عدمه.

لا يقال : إنّ أصالة عدمه لا تثبت وجود الممنوع منه إلّا على القول بالاصول المثبتة. لأنّا نقول : هذا إنّما يتمّ في الموانع العقليّة والعادّية ، وإلّا فالموانع الشرعيّة كما أنّ إثباتها بحكم الشرع وكذا نفيها ، فإذا ثبت نفيها بحكم الأصل ثبت وجود الممنوع منه لا محالة.

ومن هنا ربّما يفصّل فيما حصل الشكّ في كون اللباس حريرا وعدمه ، بين القول بكون الحرير مانعا من صحّة الصلاة ، وبين القول بكون عدمه شرطا فيها ، بالحكم بالصحّة على الأوّل دون الثاني ، إذ على الأوّل يدفع وجود المانع بأصالة عدمه ، بخلافه على الثاني ، لعدم إمكان إحراز وجود الشروط بالأصل ، كيف والأصل عدم الشرط. وأمّا الموانع العقليّة والعادّية ، فحيث لم يكن إثباتها بجعل الشارع ، تكون ـ وجودا وعدما ـ تابعة للواقع لا محالة ، فلا يمكن نفيها بالأصل في موارد احتمال وجودها.

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وهذا غاية ما يمكن من توجيه كلام المحقّق الثاني. ومن التأمّل فيما ذكرناه يظهر أنّ مراده بعدم وجود العقد قبل استكمال أركانه ليس وجوده الشرعيّ ، حتّى يورد عليه بأنّه فرع إحراز صحّته ، ولا وجوده العرفي كي يورد عليه بمنع عدمه حينئذ ، كما أورده المصنّف رحمه‌الله عليه ، بل المراد وجوده المعتبر في تعلّق الحكم ، أعني : الملحوظ موضوعا للحكم في الأدلّة ، وهو وجوده العرفي المقرون بالشرائط ، سواء جامع بعض الموانع أم لا ، وهو أعمّ من الوجود الشرعيّ ، وأخصّ من الوجود العرفي ، كما يظهر ممّا أسلفناه.

ولكن يرد عليه مع ذلك أوّلا : منع صحّة التمسّك بالعمومات في الشبهات الموضوعيّة مطلقا ، سواء كانت الشبهة في صحّة العقد ناشئة من الشكّ في فقد شرط أو وجود مانع ، كما قرّر في محلّه.

وثانيا : أنّ نفي احتمال المانع بالأصل فاسد جدّا ، لأنّه إن اريد به أصالة عدم المانع الخاصّ في هذه الواقعة فهو غير مسبوق بالحالة السابقة ، لعدم العلم بخلوّ هذا العقد من هذا المانع الخاصّ المشكوك فيه في زمان حتّى يستصحب عدمه. وإن اريد به عدم عروض المانع المطلق لهذه القضيّة ، ففيه : أنّه لا يثبت عدم المانع الخاصّ المشكوك فيه إلّا على القول بالاصول المثبتة. مع أنّ التفصيل بين الموانع فاسد ، لأنّ وجود الممنوع منه إن كان مرتّبا شرعا على مجرّد عدم المانع فأصالة عدمه تثبت وجوده مطلقا ، سواء كان المانع شرعيّا أم عقليّا أم عاديّا ، وإن لم يكن مرتّبا عليه كذلك فأصالة عدمه لا تجدي في إثبات وجود الممنوع منه إلّا على القول بالاصول المثبتة من دون فرق بين الموانع. وما تقدّم من عدم إمكان دفع احتمال وجود المانع العقلي أو الشرعيّ بالأصل على إطلاقه ممنوع ، كما يظهر ممّا عرفت.

هذا كلّه بحسب الكبرى. وأمّا بحسب الصغرى ، أعني : بيان الميزان في الفرق بين الشروط والموانع ، فاعلم أنّ الشرط ما كان له دخل في وجود المشروط ، وإليه يرجع تعريفهم له بأنّه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوده. فأشاروا بالفقرة الاولى إلى مدخليّة وجوده في وجوده ، وبالثانية إلى الاحتراز عن العلّة التامّة.

ولا يلزم النقض على طرده بعدم المانع ، حيث يلزم من عدم عدم المانع عدم الممنوع منه ، ولا يلزم من نفس عدمه وجود الممنوع منه ، فيكون في معنى الشرط ، إذ المستلزم فيه لعدم الممنوع منه هو عدم عدم الشرط ـ أعني : وجوده ـ ولعدمه عدمه لا وجوده ، والأمر في الشرط على عكسه. مع أنّه لا تأثير لعدم المانع في وجود الممنوع منه وتحقّقه كما تقدّم.

والمانع ما كان صادما في وجود الممنوع منه ، ففي الشرعيّات يكون صادما في حصول الامتثال وترتّب الأثر على المأتيّ به ، فيكون مصادما في الصحّة بمعنييها.

والأمر ربّما يتردّد بين كون وجود شيء مانعا وعدمه شرطا ، وبالعكس. والأوّل كالصلاة في الحرير ، فإنّه ربّما يتردّد بين كون وجوده مانعا كما هو الظاهر ، وبين كون عدمه شرطا في صحّتها. والثاني كما إذا قال الشارع : لا تبع ما ليس بملك لك ، لأنّ ظاهر النهي كما ستعرفه كون عدم الملك مانعا من صحّة البيع ، مع احتمال كون الملك شرطا كما هو المحقّق.

وميزان التمييز بينهما عند اشتباههما على وجوه :

أحدها : أن يحصل ذلك من مذاق الشرع ، كما أنّا قد علمنا بكون البلوغ والعقل والرشد ومعلوميّة العوضين وكونهما ملكا شرطا في صحّة البيع ، بل جميع ما يعتبر في أركان البيع من قبيل ذلك ، وكذا قد علم بكون جميع الشروط المفسدة ـ كاشتراط اتّخاذ العنب خمرا في ضمن العقد ـ من قبيل الموانع.

وثانيها : تنصيص الشارع بأنّه يشترط كذا في كذا ، ويمنع كذا من كذا ، أو ما يقرب منهما. وثالثها : أنّ ما يرد على طريق الأمر بالإتيان بشيء في شيء أو له ، كقوله : استقبل في الصلاة أو تطهّر لها ، يستفاد منه غالبا كونه شرطا فيه ، وما يرد على طريق النهي ، كقوله : لا تصلّ في الحرير ولا تتكلّم ولا تضحك فيها ، يستفاد

١٠٦

أنّ أصالة الصحّة إنّما تجري في العقود بعد استكمال العقد للأركان. قال في جامع المقاصد ، فيما لو اختلف الضامن والمضمون له ، فقال الضامن : ضمنت وأنا صبيّ ـ بعد ما رجّح تقديم قول الضامن ـ ما هذا لفظه :

فإن قلت : للمضمون له أصالة الصحّة في العقود ، وظاهر حال العاقد الآخر أنّه لا يتصرّف باطلا. قلنا : إنّ الأصل في العقود الصحّة بعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد ، أمّا قبله فلا وجود له ، فلو اختلفا في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، حلف منكر وقوع العقد على العبد ، وكذا الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور ، لا مطلقا ، انتهى.

وقال في باب الإجارة ما هذا لفظه : لا شكّ في أنّه إذا حصل الاتفاق على حصول جميع الامور المعتبرة في العقد ـ من حصول الإيجاب والقبول من الكاملين ، وجريانهما على العوضين المعتبرين ـ ووقع الاختلاف في شرط مفسد ، فالقول قول مدّعي الصحّة بيمينه ؛ لأنّه الموافق للأصل ، لأنّ الأصل عدم ذلك المفسد ، والأصل في فعل المسلم الصحّة. أمّا إذا حصل الشك في الصحّة والفساد في بعض الامور المعتبرة وعدمه ، فإنّ الأصل لا يثمر هنا ؛ فإنّ الأصل عدم السبب الناقل. ومن ذلك ما لو ادّعى أنّي اشتريت العبد فقال بعتك الحرّ ، انتهى. (١٣)

ويظهر هذا من بعض كلمات العلّامة رحمه‌الله ، قال في القواعد : لا يصحّ ضمان الصبيّ ولو أذن له الوليّ ، فإن اختلفا قدّم قول الضامن ؛ لأصالة براءة الذمّة وعدم البلوغ ، وليس لمدّعي الصحّة أصل يستند إليه ، ولا ظاهر يرجع إليه. بخلاف ما لو ادّعى شرطا فاسدا ؛ لأنّ الظاهر أنّهما لا يتصرّفان باطلا ، وكذا البحث فيمن عرف له حالة جنون ، انتهى. (١٤)

______________________________________________________

منه كونه مانعا. وربّما يظهر من بعضهم في الفقه اطّراد ذلك. ولكنّ الظاهر كونه علّامة غالبة ، إذ قد يرد بيان الشرطيّة على طريق النهي ، كما تقول : لا تبع ما ليس لك بملك ، مع أنّ الملك شرط في صحّة البيع ، وكذا قد يرد بيان المانعيّة على طريق الأمر ، كما تقول : صلّ بغير رياء ، مع كون الرياء مانعا من صحّة الصلاة. ولعلّ المتتبّع في الأخبار يجد شاهدا على صدق ما ادّعيناه ، وإن لم يحضرني الآن منها ما يناسبه.

١٠٧

وقال في التذكرة : لو ادّعى المضمون له : أنّ الضامن ضمن بعد البلوغ ، وقال الضامن : بل ضمنت لك قبله. فإن عيّنا له وقتا لا يحتمل بلوغه فيه قدّم قول الصبيّ ـ إلى أن قال ـ : وإن لم يعيّنا وقتا ، فالقول قول الضامن بيمينه ، وبه قال الشافعيّ ؛ لأصالة عدم البلوغ. وقال أحمد : القول قول المضمون له ؛ لأنّ الأصل صحّة الفعل وسلامته ، كما لو اختلفا في شرط مبطل. والفرق : أنّ المختلفين (٢٦٨٦) في الشرط المفسد يقدّم فيه قول مدّعي الصحّة ؛ لاتفاقهما على أهليّة التصرف ؛ إذ من له أهليّة التصرّف لا يتصرّف إلّا تصرّفا صحيحا ، فكان القول قول مدّعي الصحّة ، لأنّه مدّع للظاهر ، وهنا اختلفا في أهليّة التصرّف ، فليس مع من يدّعي الأهليّة ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه. وكذا لو ادّعى أنّه ضمن بعد البلوغ وقبل الرشد ، انتهى موضع الحاجة. (١٥)

ولكن لم يعلم الفرق بين دعوى الضامن الصغر وبين دعوى البائع إيّاه ، حيث صرّح العلّامة والمحقّق الثاني بجريان أصالة الصحّة (٢٦٨٧) ، وإن اختلفا بين من عارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبين من ضعّف هذه المعارضة.

______________________________________________________

٢٦٨٦. هذه التفرقة جواب من العلّامة عن قول أحمد ، حيث سوّى بين حكم الاختلاف في الركن وبين حكمه في الشرط المفسد.

٢٦٨٧. فيما لو ادّعى البائع وقوع البيع في حال الصغر ، والمشتري وقوعه في حال البلوغ. قال في القواعد : «يحتمل تقديم قول البائع مع يمينه ، لأنّه مدّع للصحّة ، وتقديم قول المشتري ، لأصالة البقاء» انتهى.

وفي جامع المقاصد : «أنّ الاحتمال الثاني في غاية الفساد ، لأنّ أصالة البقاء مندفعة بالإقرار بالبيع المحمول على البيع الصحيح شرعا ، فإنّ صحّته تقتضي عدم بقاء الصبوة ، فلا يعدّ معارضا ، كما لا يعدّ احتمال الفساد معارضا لأصالة الصحّة في مطلق الأفراد في وقوع العقد البيعي.

فإن قلت : إنّهما أصلان قد تعارضا ، للقطع بثبوت وصف الصبوة سابقا.

قلت : قد انقطع الأصل بالاعتراف بصدور البيع المحمول على الصحيح ، كما

١٠٨

وقد حكي عن قطب الدين أنّه اعترض على شيخه العلّامة في مسألة الضمان بأصالة الصحّة ، فعارضها بأصالة عدم البلوغ ، وبقي أصالة البراءة سليمة عن المعارض.

أقول : والأقوى بالنظر إلى الأدلّة السابقة من السيرة ولزوم الاختلال : هو التعميم. ولذا لو شكّ المكلّف أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره؟ بنى على الصحّة. ولو قيل : إنّ ذلك (٢٦٨٨) من حيث الشكّ في تمليك البائع البالغ ، وأنّه كان في محلّه أم كان فاسدا ، جرى مثل ذلك في مسألة التداعي أيضا.

______________________________________________________

يحكم بانقطاع أصالة بقاء ملك البائع بالاعتراف بصدور البيع لو اختلفا في صحّته وفساده. ولو ثبت في هذه المسألة تعارض الأصلين لثبت تعارضهما فيما لو قال : تبايعنا وادّعى أحدهما الفساد ، والفرق غير واضح. وكون الصبوة مستمرّة لا دخل له في الفرق» انتهى.

وقد حكي عن المصنّف رحمه‌الله منع دلالة كلامه على تسليم جريان أصالة الصحّة في المقام ، بناء على أنّ مقصوده الاعتراض على العلّامة في فرض التعارض بينها وبين استصحاب عدم البلوغ ، بناء على فرض المقام من موارد أصالة الصحّة ، لا أنّه يسلّم كونه من جملة مواردها ، فتدبّر فإنّه بعيد جدّا.

٢٦٨٨. فيكون الحكم بصحّة العقد لأجل حمل فعل البائع ـ الذي تسالما على بلوغه حين العقد ـ على الصحّة ، فإنّ صحّة العقد من جهته تستلزم صحّته من جانب المشتري أيضا لا محالة. وهذا مبنيّ على ما هو ظاهر الأكثر من كون اعتبار القاعدة من باب الظهور ، وإلّا فإن قلنا باعتبارها من باب التعبّد ، فالحكم بصحّته من جانبه لا يستلزم الحكم بصحّته من جانب المشتري أيضا إلّا على القول بالاصول المثبتة ، بل لا معنى للحمل على الصحّة من جانب البائع خاصّة حينئذ ، لعدم ترتّب أثر شرعيّ على الصحّة من جانبه خاصّة. وسيجيء الكلام في ذلك.

وربّما يقال بأنّ بناء المكلّف على صحّة فعله فيما فرضه المصنّف رحمه‌الله لعلّه مبنيّ على قاعدة الشكّ بعد الفراغ ، لا على قاعدة الحمل على الصحّة. وفيه : أنّ المشهور

١٠٩

ثمّ إنّ ما ذكره (٢٦٨٩) جامع المقاصد من أنّه لا وجود للعقد قبل استكمال أركانه ، إن أراد الوجود الشرعيّ فهو عين الصحّة ، وإن أراد الوجود العرفيّ فهو يتحقّق مع الشكّ ، بل مع القطع بالعدم.

وأمّا ما ذكره من الاختلاف في كون المعقود عليه هو الحرّ أو العبد ، فهو داخل في المسألة (٢٦٩٠) المعنونة في كلام القدماء والمتأخّرين ، وهي ما لو قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ ، فراجع كتب الفاضلين والشهيدين.

______________________________________________________

لا يقولون بجريان قاعدة الفراغ فيما عدا العبادات ، بل فيما عدا أبواب الصلاة والطهارات.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه‌الله لو استشهد بما لو شكّ المكلّف في أنّ هذا الذي اشتراه هل اشتراه في حال صغره ، أو صغر البائع ، أو في حال صغرهما؟ لم يرد عليه الاعتراض بما أشار إليه بقوله : «ولو قيل إنّ ذلك ...». اللهمّ أن يزعم عدم قيام الدليل على الحمل على الصحّة في هذه الصورة ، لأنّ عمدة الأدلّة في المقام هو الإجماع والسيرة ، والمتيقّن منهما غيرها. وتحقيق المقام في ذلك يظهر ممّا أسلفناه سابقا.

٢٦٨٩. قد تقدّم ما يصحّحه ويزيّفه.

٢٦٩٠. يعني : أنّ ما جعله مقيسا عليه فهو داخل في عنوان هذه المسألة ، وعدم جريان الحمل على الصحّة فيهما غير مسلّم ، فراجع كتب الفاضلين والشهيدين حتّى تعرف عدم كونه وفاقيّا. قال في الشرائع : «إذا قال : بعتك بعبد ، فقال : بل بحرّ ، أو قال : فسخت قبل التفرّق وأنكره الآخر ، فالقول قول من يدّعي الصحّة». وقال في المسالك : «نبّه بقوله «فالقول قول مدّعي الصحّة» على علّة الحكم ، وهو أصالة الصحّة في العقود ، فإنّ الظاهر من العقود الجارية بين المسلمين الصحّة ، فيكون مدّعي الصحّة موافقا للأصل. وهذا يتمّ في المسألة الاولى. وأمّا الثانية فمدّعي الفسخ لا ينكر صحّة العقد ، بل يعترف به ويدّعي أمرا آخر ، لكن لمّا كان الأصل عدم طروّ المبطل الموجب لاستمرار الصحّة ، أطلق عليه الصحّة مجازا وأراد به بقائها» انتهى.

١١٠

وأمّا ما ذكره من أنّ الظاهر إنّما يتمّ مع الاستكمال المذكور لا مطلقا ، فهو إنّما يتمّ إذا كان الشكّ من جهة بلوغ الفاعل ، ولم يكن هناك طرف آخر معلوم البلوغ يستلزم صحّة فعله صحّة فعل هذا الفاعل ، كما لو شكّ في أنّ الإبراء أو الوصيّة هل صدر منه حال البلوغ أم قبله؟ أمّا إذا كان الشكّ في ركن آخر من العقد ، كأحد العوضين ، أو في أهليّة أحد طرفي العقد ، فيمكن أن يقال : إنّ الظاهر من الفاعل في الأوّل ومن الطرف الآخر في الثاني ، أنّه لا يتصرّف فاسدا. نعم ، مسألة الضمان يمكن أن يكون من الأوّل (٢٦٩١) إذا فرض وقوعه بغير إذن من المديون ، ولا قبول من الغريم ؛ فإنّ الضمان حينئذ فعل واحد شكّ في صدوره من بالغ أو غيره ، وليس له طرف آخر ، فلا ظهور في عدم كون تصرّفه فاسدا. لكنّ الظاهر أنّ المحقّق لم يرد خصوص ما كان من هذا القبيل ، بل يشمل كلامه الصورتين الأخيرتين ، فراجع. نعم ، يحتمل ذلك في عبارة التذكرة.

ثمّ إنّ تقديم قول منكر الشرط المفسد ليس لتقديم قول مدّعي الصحّة ، بل لأنّ القول قول منكر الشرط ، صحيحا كان أو فاسدا ؛ لأصالة عدم الاشتراط ، ولا دخل لهذا (٢٦٩٢) بحديث أصالة الصحّة وإن كان مؤدّاه صحّة العقد فيما كان الشرط المدّعى مفسدا. هذا ، ولا بدّ من التأمّل والتتبّع.

الثالث : أنّ هذا الأصل إنّما يثبت (٢٦٩٣)

______________________________________________________

٢٦٩١. أي : من قبيل الإبراء والوصيّة.

٢٦٩٢. أنت خبير بأنّ هذا إنّما يتمّ إن قلنا بتقدّم أصالة عدم الاشتراط على القاعدة ، وإلّا فلو عكسنا كما إذا قلنا باعتبار القاعدة من باب الظهور النوعي ، فلا ريب في عدم جريان الأصل في المقام ، وإن كان مؤدّاه موافقا لمؤدّاها. وتحقيق الحال في ذلك يظهر من التأمّل في المقام الثالث.

٢٦٩٣. توضيح الحال في المقام يحتاج إلى بسط في الكلام ، فنقول : إنّ مورد القاعدة كلّ فعل له نوعان :

صحيح وفاسد ، واحتمل الواقع في الخارج لكلّ منهما. والمراد بالصحّة

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

المحمول عليها هي الصحّة بحسب وسع نفس الفعل بحسب مرتبته ، مع قطع النظر عن صحّة اخرى طارئة عليه بسبب انضمامه إلى فعل آخر. وبعبارة اخرى : إنّ صحّة الفعل عبارة عن ترتّب آثاره الشرعيّة عليه ، ولكلّ فعل شرعيّ بحسب وسعه ومرتبته أثر شرعيّ سوى الأثر المرتّب عليه باعتبار انضمام فعل آخر إليه. فللإيجاب مثلا صحّة ، وللقبول صحّة اخرى ، وللمركّب منهما صحّة ثالثة.

وصحّة الأوّل مع تحقّق شرائطه ـ من وقوعه عن بالغ عاقل باللفظ العربي فيما يعتبر فيه ، مع العلم بالعوضين ، وكونهما ملكا لهما ، أو نحو ذلك ممّا يعتبر في ترتّب الأثر عليه ـ عبارة عن ترتّب النقل والانتقال عليه على تقدير تحقّق القبول على الوجه المعتبر ، مع تحقّق الامور المتأخّرة عنهما ممّا يعتبر في ترتّب الأثر عليه في مورد يعتبر فيه ذلك ، كالقبض في بيع الصرف مثلا.

وصحّة الثاني ـ مع تحقّق شرائطه ـ عبارة عن ترتّب أثره عليه على تقدير تقدّم الإيجاب عليه على الوجه المعتبر ، مع ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه من الامور المتأخّرة.

وصحّة الثالث ـ مع تحقّق شرائطه ممّا عرفت ـ عبارة عن ترتّب الأثر عليه ، وهو النقل والانتقال علي تقدير ما يعتبر فيه من الامور المتأخّرة في مورد يكون ذلك معتبرا فيه.

فإذا شكّ في صحّة الإيجاب لأجل الشكّ في تحقّق بعض ما يعتبر في صحّته بالمعنى المذكور ، كما إذا شكّ في وقوعه عن غير بالغ مثلا فمعنى حمله على الصحّة فرضه على وجه لو تعقّبه القبول على الوجه المعتبر ـ مع سائر ما يعتبر في ترتّب الأثر من الامور المتأخّرة ـ ترتّب عليه الأثر من النقل والانتقال ففيما إذا شكّ في صحّة الإيجاب مع عدم العلم بتعقّبه للقبول ، أو مع ما يعتبر فيه من الامور المتأخّرة ، فحمله على الصحّة لا يقضي بتحقّق القبول أو مع ما يعتبر من الامور المتأخّرة ، لعدم توقّف صحّته على ذلك كما عرفت. وكذا حمل القبول على الصحّة فيما يشكّ فيه لا يقضي بتقدّم الإيجاب عليه. وكذا حمل العقد على الصحّة لا يقضي

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بتحقّق ما يعتبر في ترتّب الأثر عليه من الامور المتأخّرة ، كالقبض في بيع الصرف الهبة والرهن بناء على اعتباره في صحّتها ، وإجازة المالك في الفضولي إذا شكّ في صحّته من جهة اخرى. بل إن علم تعقّبه للقبول في الأوّل ، وتقدّم الإيجاب في الثاني ، والامور المتأخّرة في الثالث وفي الأوّلين ، حكم بحصول النقل والانتقال ، وإلّا يحكم بالبطلان فيما عدا الفضولي ، وبالجواز فيه.

والمعيار الذي يمكن التعويل عليه : أنّ كلّ فعل يشكّ في صحّته إن كان بسبب الشكّ في الإخلال ببعض أجزائه أو شروطه المتقدّمة عليه أو المقارنة له ، أو في وجود بعض موانعه كذلك ، يحمل على الصحّة ، بمعنى فرضه كالجامع للأجزاء والشرائط والفاقد للموانع المذكورة وحينئذ إن ترتّب عليه أثر شرعيّ بنفسه من النقل والانتقال كما في الإيقاعات فهو ، وإلّا فإن توقّف ترتّب الأثر التامّ عليه على انضمام فعل آخر إليه أو شرط متأخّر كالقبض في الصرف ، لا يحكم بترتّب ذلك على حمل المشكوك فيه على الصحة ، بل المرتّب عليه حينئذ هو الأثر الناقص ، وهو كون الفعل بحيث لو انضمّ إليه الفعل الآخر مع الشروط المتأخّرة حصل الأثر التامّ ، لأنّ هذا المقدار هو الذي تفيده القاعدة. فالمقدار الذي يتلبّس الفعل بسببها بلباس الصحّة هو قابليّة الاستعداد لترتّب الأثر التامّ عليه في بعض الموارد وفعليّته في بعض آخر.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه لو اختلف المتبايعان ، فادّعى المشتري كون المبيع ملكا للبائع حتّى يكون العقد أصليّا ، وادّعى البائع كونه ملكا لثالث ، وأنّه باعه من دون وكالة منه في بيعه ، حتّى يكون فضوليّا موقوفا على الإجازة ، لا يجوز بمجرّد الحمل على الصحّة الحكم بكون العقد أصليّا لا فضوليّا متعقّبا بالإجازة ، كما حكي عن بعضهم ، ليترتّب عليه انتقال المبيع إلى المشتري لزوما لا متزلزلا ، إذ مقتضى الحمل على الصحّة ليس كون المبيع ملكا للبائع أو كون البائع وكيلا في البيع ، لصحّته بدونهما كما في الفضولي ، ولا كون البيع فضوليّا مع تعقّب الإجازة. بل

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لا معنى للحمل على الصحّة هنا ، لاتّفاقهما على صحّة العقد ، واختلافهما إنّما هو في أمر خارج منها.

وكذا لو اختلفا في السلف ـ بعد اتّفاقهما على حصول القبض في الجملة ـ في حصوله في مجلس العقد حتّى يصحّ أو بعد التفرّق حتّى يبطل ، فأصالة الصحّة لا تقتضي بحصوله قبل التفرّق ، لأنّه شرط في ترتّب الأثر التامّ لا في صحّة العقد من حيث هو كما تقدّم. وكذا لو اختلفا في تحقّق أصل القبض الصحيح. نعم ، لو حمل نفس القبض في الأوّل على الصحيح منه ترتّب على العقد أثره التام. ومن هنا يفرّق بين ما لو اختلفا في صحّة العقد لأجل الاختلاف في تحقّق القبض في مجلس العقد ، وبين ما لو اختلفا في صحّته من جهة الاختلاف في وقوعه بالعربي ، حيث يعتبر فيه ذلك ، لتوقّف صحّة العقد من حيث هو على العربيّة ، فحمله على الصحيح يقضي بوقوعه بها ، بخلاف الحمل على الصحيح على الأوّل كما عرفت.

وممّا قدّمناه يظهر سقوط ما أورده المحقّق القمّي رحمه‌الله في سؤاله وجوابه ـ في مسألة إنكار الزوجة وكالة العاقد عنها بعد مضيّ مدّة من زمان العقد وهو في بيت الزوج ـ على الشهيد الثاني.

وتوضيحه يتوقّف على نقل عين عبارتهما ، قال الشهيد الثاني في شرح قول المحقّق في بيع السلف : «إذا اختلفا في القبض هل كان قبل التفرّق أو بعده؟ فالقول قول من يدّعي الصحّة». «إنّما قدّم مدّعي الصحّة ، مع أنّها معارضة بأصالة عدم القبض قبل التفرّق ، لأنّ هذه الأصالة معارضة بأصالة عدم التفرّق قبل القبض المتّفق على وقوعه ، فيتساقط الأصلان ، ويحكم باستمرار العقد. وفي الحقيقة لا نزاع بينهما في أصل الصحّة ، وإنّما النزاع في طروّ المفسد ، والأصل عدمه. وهذا بخلاف ما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فإنّ القول قول منكر القبض وإن تفرقا واستلزم بطلان العقد ، لأنّه منكر لقبض ماله الذي هو الثمن الثابت عند المسلم ، لما قلناه من اتّفاقهما على صحّة العقد في الحالين ، وإنّما الخلاف في طروّ المفسد ، و

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

حيث كان الأصل عدم القبض كان المقتضي للفساد قائما ، وهو التفرّق قبل القبض. فلا يقدح فساد العقد به ، حيث إنّه مترتّب على ما هو الأصل مع تحقّق الصحّة سابقا. وليس هذا من باب الاختلاف في وقوع العقد صحيحا أو فاسدا. ومثله ما لو اختلفا في قبض أحد عوضي الصرف قبل التفرّق» انتهى.

وقال المحقّق القمّي رحمه‌الله بعد نقل كلامه : ظاهره أنّه يقول بكون العقود أسامي للأعمّ من الصحيحة ، ومقتضاه أنّ بعد صدق تحقّق عقد السلف يحتاج بطلانه إلى دليل ، والدليل في الصورة الثانية هو الأصل ، بخلاف الصورة الاولى ، لتعارض الأصلين وتساقطهما.

وأنت خبير بأنّ شرط الصحّة هو القبض قبل التفرّق ، وثبوت الصحّة إنّما هو بالعلم بتحقّق الشرط لا عدم العلم بانتفائه. ولا ينفع معارضة أصالة عدم التفرق قبل القبض في إثبات القبض قبل التفرّق. وإنّما يتمّ كلامه لو اريد من طروّ المفسد الإفساد المتأخّر عن الصحّة النفس الأمريّة ، مثل الفسخ قبل التفرّق في المثال الذي نقلناه عن المحقّق.

وأمّا لو اريد من ذلك طروّ الحكم بالفساد بإثبات المفسد في أصل العقد ، وإن كان يحكم عليه بالصحّة ظاهرا حينا ما ، لكونه صادرا من المسلم ، فلا ريب أنّه إذا كان وقوعه من المسلم وتلبّسه به دليلا على الحكم بالصحّة ، فيحتاج بطلانه إلى دليل ، فكما أنّ ثمّة الشكّ في تحقّق الشرط وهو القبض قبل التفرّق ، ولا يوجب الحكم ببطلان فعل المسلم ، فكذلك هاهنا الشكّ في تحقّق أصل القبض لا يوجب الحكم ببطلان فعل المسلم.

وإن كان النظر في أصل تحقّق العقد (*) مع قطع النظر عن فعل المسلم وتلبّسه به ، فالأصل عدم تحقّق الشرط بالنسبة إليهما جميعا. فالتحقيق فيه أيضا أنّ ترك

__________________

(*) كذا في الطبعة الحجريّة ، والظاهر أنّه تصحيف : القبض ، سيّما بملاحظة قوله في السطر التالي : فالتحقيق أنّ ترك القبض ....

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

القبض مطلقا أو قبل التفرّق لا يلزم أن يكون معصية ، إذ قد يكون سهوا أو جهالة أو اضطرارا ، فلا يبقى إلّا الغلبة حتّى يحكم بأنّ الظاهر من المسلم أنّه لا يفعل المعاملة إلّا جامعة لشرائط الصحّة. وسيجيء عليه الكلام السابق الذي ذكرنا أنّه تابع لحصول الظنّ ، فربّما لا يكون المسلم ممّن يحصل به الظنّ أو الوقت لا يقتضيه.

ثمّ استشهد لكون نظر الشهيد إلى حكاية الغلبة بكلام له في تمهيد القواعد في تعارض الأصل والظاهر ، ولا حاجة لنا في نقله.

وأقول : إنّ ما أورده المحقّق القمّي رحمه‌الله على ظاهر ما استدلّ به الشهيد وإن كان متّجها ، إلّا أنّ الشهيد مصيب في أصل دعواه من التفرقة بين الحكم بصحّة العقد فيما لو كان اختلافهما في تقدّم القبض على التفرّق وتأخّره عنه ، وعدمه فيما كان اختلافهما في أصل تحقّق القبض وعدمه. ويظهر الوجه في ذلك ممّا قدّمناه. ولو كان قد تمسّك بالقاعدة في الأوّل من دون فرض معارضتها بالأصل كما صنعناه لم يرد عليه شيء ، لتقدّمها على الأصل في الأوّل ، وعدم جريانها في الثاني ، فتبقى أصالة عدم الشرط فيه المقتضية للفساد سليمة من المعارض.

ثمّ إنّه وقع الوهم لبعض الشّراح ، ويظهر وجهه أيضا ممّا قدّمناه. قال المحقّق : «إذا زوّج الأجنبيّ امرأة ، فقال الزوج : زوّج العاقد من غير إذنك ، فقالت : بل أذنت ، فالقول قولها مع يمينها على القولين ، لأنّها تدّعي الصحّة» انتهى. قال الشهيد الثاني : «أراد بالقولين القول ببطلان العقد الفضولي ، والقول بصحّته موقوفا على الإجازة» انتهى. وحيث كان مرجع النزاع على الأوّل إلى بطلان العقد وصحّته ، وعليه فحمل العقد على الصحّة وتقديم قول الزّوجة لذلك ظاهر. وإنّما الإشكال على الثاني ، لأنّ دعوى الزّوجة للإذن إجازة منها للعقد ، فلا يحتاج تقديم قولها والحكم بصحّة العقد ولزومه إلى الحمل على الصحّة. فوجّهه الشهيد الثاني بأنّه «يمكن أن تظهر فائدته على تقدير أن يكون قد سبق منها بعد العقد ، بلا فصل ما يدل على كراهة العقد وبعد ذلك اختلفا في الإذن وعدمه ، فإنّ

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إجازتها الآن لا تؤثّر في لزوم العقد بعد كراهتها له قبل ذلك ، فيرجع الأمر إلى دعوى الصحّة والبطلان على القولين» انتهى.

وأخرج بعض شرّاح قول المحقّق وجها آخر للحمل على الصحّة على القول بصحّة الفضولي موقوفا على الإجازة ، وهو أنّ الصحّة المحمول عليها العقد هي الصحّة التنجيزيّة لا التعليقيّة. ولم أتحقّق معنى لهذا الكلام ، لما عرفت من كون دعوى الإذن من الزّوجة إجازة للعقد من دون حاجة إلى الحمل على الصحّة في إثبات تنجّز العقد. مع أنّك قد عرفت ممّا حقّقناه سابقا أنّه مع دوران العقد بين كونه أصليّا وفضوليّا لا يمكن إحراز كونه أصليّا بقاعدة الحمل على الصحّة ، بل قد عرفت عدم جريان القاعدة حينئذ.

فما يخطر ببالي ويخالج فيه أنّ نظر المحقّق في الحكم بتقديم قول مدّعي الصحّة ـ وهي الزّوجة ـ إلى أنّ دعوى الزوج لعدم الإذن من الزّوجة متعلّقة بفعل الغير ، لكون الإذن فعلا لها دونه ، وهو ممّا لا يعلم إلّا من قبلها غالبا ، فتقديم قولها إنّما هو لأجل دعواها لمّا لا يعلم إلّا من قبل نفسها غالبا. ومثله ما لو انقلبت الدعوى فأنكرت الزّوجة إذن الزّوج ، وادّعاه ، فيقدم قول مدّعي الصحّة ـ أعني : الزوج ـ هنا أيضا ، لما ذكرناه.

وقد ذكر الشهيد لتقديم قول المدّعي لما لا يعلم إلّا من قبل نفسه خمسة وعشرين موضعا. وأضاف إليها بعضهم مواضع أخر. ولا يختلف ذلك على القول بصحّة الفضولي وبطلانه. ولا دخل لما ذكره المحقّق في قاعدة الحمل على الصحّة ، ولا حاجة إلى تجشّم التوجيه في كلامه. ولا ينافيه قوله : «لأنّها تدّعي الصحّة» لجواز أن يريد به دعوى الصحّة ، لأجل دعواها لما لا يعلم إلّا من قبل نفسها. نعم ، إطلاق الصحّة في العلّة ربّما أشعر بكون المناط في الحكم بها هي قاعدة الحمل عليها ، إلّا أنّ هذا الإشعار لم يبلغ مبلغا يصحّ الاستناد إليه في نسبة ذلك إلى المحقّق ، فتدبّر.

١١٧

صحّة الفعل إذا وقع الشكّ في بعض الامور المعتبرة شرعا في صحّته ، بمعنى ترتّب (٢٦٩٤) الأثر المقصود منه عليه ، فصحّة كلّ شيء بحسبه. مثلا : صحّة الإيجاب عبارة عن كونه بحيث لو تعقّبه قبول صحيح لحصل أثر العقد في مقابل فاسده الذي لا يكون كذلك ، كالإيجاب بالفارسيّة بناء على القول باعتبار العربيّة ، فلو تجرّد الإيجاب عن القبول لم يوجب ذلك فساد الإيجاب.

فإذا شكّ في تحقّق القبول من المشتري بعد العلم بصدور الإيجاب من البائع ، فلا يقضي أصالة الصحّة في الإيجاب بوجود القبول ؛ لأنّ القبول معتبر في العقد لا في الإيجاب. وكذا لو شكّ في تحقّق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقّق الإيجاب والقبول ، لم يحكم بتحقّقه من حيث أصالة صحّة العقد. وكذا لو شكّ في إجازة المالك لبيع الفضوليّ ، لم يصحّ إحرازها بأصالة الصحّة (٢٦٩٥). وأولى بعدم الجريان (٢٦٩٦) ما لو كان العقد في نفسه لو خلّي وطبعه مبنيّا على الفساد ، بحيث يكون المصحّح طارئا عليه ، كما لو ادّعى بائع الوقف وجود المصحّح له ، وكذا الراهن أو المشتري من الفضوليّ إجازة المرتهن والمالك.

______________________________________________________

وممّا قرّرناه تظهر الحال في العقود التي يعتبر القبض بعدها في صحّتها ، إذا وقع التنازع في تحقّقه مطلقا أو على الوجه المعتبر ، كبيع الصرف حيث يعتبر تقابض العوضين فيه في المجلس ، وكذا السلف حيث يعتبر قبض الثمن فيه في المجلس ، ومثله الرهن والوقف والهبة. وإن قلنا بكون القبض شرطا في اللزوم كان الحال فيه كالفضولي حيث تعتبر الإجازة في لزومه. وبالتأمّل فيما قدّمناه تظهر الحال في سائر الفروع التي أشار إليه المصنّف رحمه‌الله ، فتدبّر.

٢٦٩٤. متعلّق بقوله : «يثبت».

٢٦٩٥. يعني : في العقد.

٢٦٩٦. لأنّ أصالة عدم الصحيح في سائر الفروع معارضة بأصالة عدم وجود المفسد ، بخلافها هنا.

١١٨

وممّا يتفرّع على ذلك أيضا أنّه لو اختلف المرتهن الآذن في بيع الرهن والراهن البائع له ـ بعد اتّفاقهما على رجوع المرتهن عن إذنه ـ في تقدّم الرجوع على البيع فيفسد ، أو تأخّره فيصح ، فلا يمكن أن يقال ـ كما قيل ـ : من أنّ أصالة صحة الإذن تقضي بوقوع البيع صحيحا ، ولا أنّ أصالة صحّة الرجوع تقضي بكون البيع فاسدا ، لأنّ الإذن والرجوع كليهما قد فرض وقوعهما على الوجه الصحيح ، وهو صدوره عمّن له أهليّة ذلك والتسلّط عليه. فمعنى ترتّب الأثر عليهما أنّه لو وقع فعل المأذون عقيب الإذن وقبل الرجوع ترتّب عليه الأثر ، ولو وقع فعله بعد الرجوع كان فاسدا ، أمّا لو لم يقع عقيب الإذن فعل بل وقع في زمان ارتفاعه ، ففساد هذا الواقع لا يخلّ بصحّة الإذن. وكذا لو فرض عدم وقوع الفعل عقيب الرجوع فانعقد صحيحا ، فليس هذا من جهة فساد الرجوع ، كما لا يخفى.

نعم ، أصالة بقاء الإذن إلى أن يقع البيع قد يقضي بصحّته ، وكذا أصالة عدم البيع قبل الرجوع ربّما يقال : إنّها تقضي بفساده ، لكنّهما لو تمّا (٢٦٩٧) لم يكونا من أصالة صحّة الإذن ـ بناء على أنّ عدم وقوع البيع بعده يوجب لغويّته ـ ولا من أصالة صحّة الرجوع التي تمسّك بها بعض المعاصرين تبعا لبعض.

والحقّ في المسألة ما هو المشهور : من الحكم بفساد البيع وعدم جريان أصالة الصحّة في المقام ، لا في البيع ـ كما استظهره الكركي ـ ولا في الإذن ، ولا في

______________________________________________________

٢٦٩٧. فيه إشارة إلى كون الأصلين مثبتين فلا يعتدّ بهما. فإن قلت : لا إشكال في أنّه إن أذن المرتهن في البيع ، وشكّ الراهن قبل إيقاع البيع في رجوعه عن إذنه ، يجوز له استصحاب الإذن وإيقاع البيع بعده وترتيب الآثار عليه ، فما وجه الفرق بينه وبين ما لو شكّ في الرجوع بعد إيقاع البيع ، حيث حكم بكون الأصل في الثاني مثبتا؟ قلت : إنّ معنى استصحاب الإذن قبل إيقاع البيع هو جواز إيقاع البيع في هذه الحالة ، وهذا أثر شرعيّ مرتّب على المستصحب من دون واسطة. والمقصود منه في الثاني ترتيب الآثار على البيع الواقع بواسطة إثبات كونه واقعا في حال بقاء الإذن ، فيكون الأصل حينئذ مثبتا لا محالة.

١١٩

الرجوع. أمّا في البيع ، فلأنّ الشكّ إنّما وقع في رضا من له الحقّ وهو المرتهن ، وقد تقدّم أنّ صحّة الإيجاب والقبول لا يقضي بتحقّق الرضا ممّن يعتبر رضاه ، سواء كان مالكا كما في بيع الفضولي أم كان له حق في المبيع كالمرتهن.

وأمّا في الإذن ، فلما عرفت من أنّ صحّته تقضي بصحّة البيع إذا فرض وقوعه عقيبه لا بوقوعه عقيبه ، كما أنّ صحّة الرجوع تقضي بفساد ما يفرض وقوعه بعده ، لا أنّ البيع وقع بعده. والمسألة بعد محتاجة إلى التأمّل بعد التتبّع في كلمات الأصحاب.

الرابع : أنّ مقتضى الأصل ترتيب (٢٦٩٨)

______________________________________________________

٢٦٩٨. توضيحه : أنّ الفعل المشكوك الصحّة والفساد لا بدّ أن يكون له نوعان : صحيح وفاسد ، حتّى يفرض التردّد في الفرد المشتبه بينهما. وما يترتّب على الصحيح منهما من الآثار الشرعيّة لا يخلو : إمّا أن يكون ترتّبها عليه من حيث كونه فعلا للفاعل ، وإمّا أن يكون أعمّ من ذلك ، بأن كانت للفعل جهتان : جهة صدور عن الفاعل ، وجهة وقوع عن الغير ، إمّا بالتسبّب والنيابة ، كالنيابة في الحجّ عن العاجز والصلاة عن الميّت ، أو بالآليّة كالموضّئ للعاجز عن المباشرة في الوضوء. وتختلف الآثار باختلاف الجهتين كما يظهر ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله ولا إشكال في خروج ما لم يكن له صحيح ـ كالغسل بالفتح من حيث هو ـ من محلّ النزاع.

ولكن في التمثيل به للمقام نظر ، إذ صحيح الفعل من المعاملات ما ترتّب عليه أثره الشرعيّ ، وفاسده ما لم يترتّب عليه ذلك. ولا ريب أنّ الغسل ـ بالفتح ـ إن وقع على الوجه المعتبر شرعا ترتّب عليه أثره ، سواء كان الإتيان به بعنوان التطهير أم لا ، وإن لم يقع كذلك لم يقع عليه ذلك ، فلا وجه لإخراجه من محلّ النزاع ، وإدخال ما كان بعنوان التطهير ، لعدم مدخليّة قصد العنوان في تنوّع الغسل على نوعيه من الصحيح والفاسد ، لأنّ ملاقاة النجس مع الرطوبة كما أنّها سبب للتنجّس ، من دون مدخليّة قصد التنجيس كذلك الغسل المعتبر شرعا سبب

١٢٠