منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وبعد ذلك يجب على الطلاب أن يراجعوا دروسهم ويذاكروها من حين إلى آخر حتى لا ينسوها. قال الشيخان العلموي وابن جماعة :

«ويجب على المتعلم أن يذاكر من يرافقه من مواظبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الأدب والفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك ، ويعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم. وينبغي الإسراع بها بعد القيام من المجلس قبل تفرق الأذهان وتشتت الخواطر.

قال بعض الحكماء : من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علمه».

وقال الشاعر :

إذا لم يذاكر ذو العلم بعلمه

ولم يستفد علما نسي ما تعلما

فكم جامع للكتب في كل مذهب يزيد

مع الأيام في جمعه عمى (١١٤)

وقال السيد محمد هاشم الندوي ناشر كتاب تذكرة السامع والمتكلم :

«ويذاكر طالب العلم بمحفوظاته من يشتغل بالفن الذي يحفظ ، سواء كان مثله في المرتبة أو فوقه أو تحته. فإن بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة المذاكرة.

ومذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعات بل أيام» (١١٥)

والليل هو الوقت المناسب لمذاكرة العلم ، فذلك يثبت العلم في الذهن ، ولا يمحوه شيء مما يطرأ بعده في وقت اليقظة. قال الشيخ العلموي : «وأجود الأوقات للمذاكرة الليل. وكان جماعة يبتدئون من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا آذان الصبح ، فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه ، فيعلق ذلك بخاطره إذا كرره ، فإن تكرار المعنى على القلب بتكرار اللفظ على اللسان.

ويجب على التلميذ أن يذاكر بمحفوظاته ويديم الفكر فيها ، ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد ، ويقسم أوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره. وأجود الأوقات للحفظ الأسحار ، وللبحث الأبكار ، وللكتابة وسط النهار ، وللمطالعة والمذاكرة الليل» (١١٦).

وقال الخطيب : «أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة. وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار. ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع» (١١٦)

ولا يستحسن الخروج إلى الطرقات والبساتين للحفظ ، فهذا يشتت الذهن. قال الشيخ العلموي : «وأجود أماكن الحفظ الغرف ، وكل موضع بعيد عن الملهيات. وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات ، لأنها تمنع من خلو القلب غالبا» (١١٦).

٢٠١

والخطوة الرابعة في التعلم هي العلم بالعلم ، وتعليمه لمن يجهله. فالعمل يثبت العلم ، ويمكن صاحبه من تعلم المزيد. والعلم يزكو بالإنفاق. ولا بد من العمل بالعلم قبل نشره وتعليمه. ولقد أحسن أبو الأسود الدؤلي في قوله :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وأبدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك تقبل إن وعظت ويقتدى

بالقول منك وينفع التعليم

تصف الدواء لذي السقام من الضنا

كيما يصح به وأنت سقيم

وأراك تلقح بالرشاد عقولنا

نصحا وأنت من الرشاد عديم (١١٧)

وقد ذكر علماؤنا هذه الخطوات في التعلم. فقال فضيل بن عياض وابن المبارك ومحمد بن النضر الحارثي : «أول العلم الإنصات والاستماع ، ثم الفهم والحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر (١١٧).

وقال الأصمعي : (أول العلم الصمت ، والثاني الاستماع ، والثالث الحفظ ، والرابع العمل ، والخامس نشره) (١١٨).

وأنشد الشيخ قوام الدين حماد بن ابراهيم بن اسماعيل الغفاري الأنصاري لشيخه القاضي الخليل بن أحمد السجزي الحنفي في بيان طريقة التعلم :

أخدم العلم خدمة المستفيد

وأدم درسه بفعل جهيد

وإذا ما حفظت شيئا أعده

ثم أكده غاية التأكيد

ثم عقله (١١٩) كي تعود إليه

وإلى درسه على التأبيد

وإذا ما أمنت منه فواتا

فانتدب بعده لشيء جديد (١٢٠)

مع تكرار ما تقدم منه

واقتناء لشأن هذا المزيد

ذاكر الناس بالعلوم لتحي

لا تكن من أولي النهى ببعيد

إن كتمت العلوم أنسيت حتى

لا ترى غير جاهل وبليد

ثم ألجمت في القيامة نارا

وتلهبت في العذاب الشديد (١٢١)

وهكذا كان لمربينا فضل السبق على هربارت الذي وضع أربع خطوات لاكتساب المعرفة ، وزاد فيها اتباعه فجعلوه خمسا هي :

المقدمة ، والعرض والمقارنة والتجريد ، والتعميم ، والتطبيق (١٢٢).

٢٠٢

هوامش الفصل الرابع

__________________

(١) سورة النحل : ٧٨

(٢) سورة البلد : ٨ ـ ١٠

(٣) أخلاط ، أي ماء الرجل وماء المرأة المختلطين.

(٤) نختبره

(٥) سورة الإنسان : ٢ ـ ٣

(٦) طهرها من الذنوب.

(٧) أي خسر من لطخها بالمعصية. والآيات في سورة الشمس : ٧ ـ ١٠

(٨) رواه ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية. وروى البزار نحوه من حديث ابن مسعود موقوفا. ورواه أبو نعيم الأصبهاني مرفوعا. ورواه البخاري معلقا بلفظ : " ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. وإنما العلم بالتعلم."

(٩) أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ. منقطع ورجاله ثقات

(١٠) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٥٥ ـ ٥٦.

(١١) أي يتعاهدنا

(١٢) الملل

(١٣) ، (١٤) أخرجه مسلم رقم ٨٢ ـ (٢٨٢١) ، ٨٣ ـ (...) والترمذي في كتاب الأدب.

(١٥) ،

(١٦) آداب المعلمين لمحمد بن سحنون ص ١٠٦ ، ١٤٧.

(١٧) المعيد في أدب المفيد والمستفيد للشيخ العلموي ص ٥٢.

(١٨) مقدمة ابن خلدون ص : ٦٢٦.

(١٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٣٠ ، ١٣٤.

(٢٠) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٦٦ ، ٢٢٨ ، ٢٥٦.

(٢١) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٢٧٤ ، ٢٨١ ، ٢٩٦ ، ٣٣٠.

(٢٢) سورة الإسراء : ٨٢

(٢٣) المفصل : السور التي تكثر فواصلها من سورة ق إلى آخر المصحف.

(٢٤) أي رجع.

(٢٥) رواه البخاري في كتاب فضائل القرآن رقم ٤٩٩٣.

(٢٦) سورة النحل : ٦٧

٢٠٣

__________________

(٢٧) الميسر : القمار. والآية في سورة البقرة : ٢١٩

(٢٨) سورة النساء : ٤٣

(٢٩) لم يقمها : لم يقرأها كما ينبغي بل خلط فيها. انظر أسباب النزول للواحدي ص : ٤٤ ، ١٠١ ـ ١٠٢.

(٣٠) حجارة كانوا يذبحون قرا بينهم عندها.

(٣١) عيدان ملساء كانوا يلعبون بها الميسر ، فتحدد الرابح والخاسر ومقدار الريح والخسارة بحسب ما عليها من كتابة.

(٣٢) سورة المائدة : ٩٠ ـ ٩١

(٣٣) الحش : البستان

(٣٤) رواه مسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، والواحدي في أسباب النزول ص ١٣٨.

(٣٥) الفضيخ : شراب يتخذ من البسر من غير أن تمسه النار والبسر : التمر قبل أن ينضج

(٣٦) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٩٣.

(٣٧) احياء علوم الدين ج ١ ص ٥٢.

(٣٨) المقدمة لابن خلدون ص ٦٢٤ ـ ٦٢٥.

(٣٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٣٨٥.

(٤٠) رواه أبو داود من حديث عائشة ، وأبو بكر بن الشخير من حديث عمر.

(٤١) رواه البخاري وابن عبد البر موقوفا على علي. ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم.

(٤٢) رواه العقيلي في الضعفاء ، وابن السني ، وأبو نعيم في الرياء من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف. ومسلم في مقدمة صحيحه وابن عبد البر موقوفا على ابن مسعود.

(٤٣) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله

(٤٤) رواه ابن عبد البر وابن ماجة وقال : ضعيف

(٤٥) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٦١.

(٤٦) المعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص : ٤٩ ، ٥٢. وانظر تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة ص : ٥٥ ـ ٥٧.

(٤٧) لا تتبع

٢٠٤

__________________

(٤٨) سورة الإسراء : ٣٦.

(٤٩) احياء علوم الدين ج ٣ ص ٣

(٥٠) تعليم المتعلم للزرنوجي ص ١٩

(٥١) خلقنا

(٥٢) سورة الأعراف ١٧٩

(٥٣) سورة البقرة : ١٧١

(٥٤) سورة الأنفال : ٢٢

(٥٥) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم : ٣١

(٥٦) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو : ١٣٣ ، ١٥٠.

(٥٧) تاريخ التربية ، عبد الله عبد الدائم : ٢٣٥ ، ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٥٨) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ص ١٦٤.

(٥٩) تاريخ التربية ، عبد الله عبد الدائم : ٢٣٥ ، ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

(٦٠) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ص ٣١٤.

(٦١) سورة البقرة : ١٥٩ ـ ١٦٠

(٦٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والبيهقي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي : حديث حسن.

(٦٣) رواه الطبراني في الكبير عن بكير بن معروف عن علقمة. ونقلناه عن الترغيب والترهيب للحافظ المنذري ج ١ ص ٧٤ ـ ٧٥.

(٦٤) رواه البخاري والترمذي وأحمد وأبو داود عن علي رضي الله عنه.

(٦٥) رواه الترمذي ٢ / ١٠٩ وابن عبد البر عن زيد بن ثابت وابن مسعود ، والجملة الأخيرة رواها البخاري من حديث أبي بكرة رقم ١٧٤١.

(٦٦) رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية ، وابن عبد البر عن معاوية وابن عمر.

(٦٧) أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب من حديث أنس وقال : متنه مشهور وأسانيده ضعيفة.

(٦٨) رواه ابن ماجه والبيهقي وابن عدي من حديث أنس ، ورواه الطبراني عن ابن عباس وابن مسعود. قال المناوي : أسانيده ضعيفة ، ولكن تقوى بكثرة طرقه.

(٦٩) رواه ابن عبد البر ـ مختصر جامع بيان العلم وفضله ص : ١٠٧ ـ ١١٤

(٧٠) مختصر جامع بيان العلم وفضله ص ١١٤.

(٧١) ،

(٧٢) ،

(٧٣) مختصر جامع بيان العلم وفضله (ص : ٢٠٥ ـ ٢٠٨ ، ١١٦ ـ ١١٧).

٢٠٥

__________________

(٧٤) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص : ٧٤ ، ٩٩ ـ ١٠٠ ، ١٣٩

(٧٥) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص : ٧٤ ، ٩٩ ـ ١٠٠ ، ١٣٩

(٧٦) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ١٧٣ ـ ١٧٤ ، ٢٣٠ ، تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم ص ٣٣٨

(٧٧) المرجع في تاريخ التربية ج ٢ ص ٤١١ ، ٤٣٣ ، ٤٣٧.

(٧٨) سورة الشعراء : (١٠٩ ، ١٢٧ ، ١٤٥ ، ١٦٤ ، ١٨٠)

(٧٩) سورة هود : ٥١

(٨٠) سورة سبأ : ٤٧

(٨١) سورة الفرقان : ٥٧

(٨٢) العقد الفريد لابن عبد ربه ـ اختيار الدكتور محمد يوسف زايد ق ص ٨٧

(٨٣) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لابن جماعة ص ١٩.

(٨٤) مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص : ٨٨

(٨٥) ،

(٨٦) آداب المعلمين لابن سحنون ص ١٢٩ ـ ١٣٠ ، ٤٩.

(٨٧) تذكر السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم حاشية ص ١٩ ، نقلا عن سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص ١٦٧.

(٨٨) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٤٣٠ ، ٤٤١.

(٨٩) المرجع في تاريخ التربية ـ بول منرو ج ٢ ص ٤٣٣ ـ ٤٣٥.

(٩٠) سورة الأعراف : ٢٠٤

(٩١) سورة فصلت : ٢٦

(٩٢) الأورق : ما كان أبيض مائلا إلى السواد

(٩٣) رواه البخاري برقم ٧٣١٤.

(٩٤) رواه البخاري برقم ٣٥٦٨ والترمذي.

(٩٥) رواه الترمذي

(٩٦) سورة الإسراء : ١١٠

(٩٧) سورة الحجرات : ٢

(٩٨) رواه الخطيب في الجامع.

(٩٩) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٩ ، ٤١ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص ٥٥ ـ ٥٦.

(١٠٠) خصومة شديدة

(١٠١) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٩ ، ٤١ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد للعلموي ص ٥٥ ـ ٥٦.

٢٠٦

__________________

(١٠٢) سورة القلم : ١ ـ ٢

(١٠٣) رواه ابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم وفضله ص : ٣٦ ـ ٣٨ ، ١٠٩ وانظر المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٧٥ ـ ٧٦.

(١٠٤) رواه البخاري في كتاب العلم برقم ١١٢ وابن عبد البر عن أبي هريرة

(١٠٥) القمطر : ما يصان فيه الكتب.

(١٠٦) مختصر جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص ٣٤.

(١٠٧) تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة ص ٣٨ ، وانظر المعيد في أدب المفيد والمستفيد : ٥٥.

(١٠٨) رواه البخاري في كتاب العلم رقم ٦٢ ومسلم وابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ٥٩

(١٠٩) فتح الباري لابن حجر ج ١ ص ١٤٥ ـ ١٤٦.

(١١٠) رواه مسلم وأبو داود وابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ١٠٩ ـ ١١٠ والآية هي آية الكرسي : سورة البقرة : ٢٥٥.

(١١١) الردف : الذي يركب خلف الراكب.

(١١٢) رواه ابن عبد البر : مختصر جامع بيان العلم : ٥٩

(١١٣) ،

(١١٤) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٥١ ، ٧٩ وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم ص ٥٣ ـ ٥٤ ، ١٤٣ ـ ١٤٥.

(١١٥) تذكرة السامع والمتكلم ، حاشية ص ٤١

(١١٦) المعيد في أدب المفيد والمستفيد ص ٧٤ ـ ٧٥ ، ٧٩.

(١١٧) يروى هذا الشعر للعزرمي أيضا : مختصر جامع بيان العلم وفضله : ص ٩٣ ـ ٩٤ ، ٥٩.

(١١٨) العقد الفريد لابن عبد ربه ـ اختيار د. محمد زايد ق ١ ص ٨٦.

(١١٩) أي اكتبه

(١٢٠) أي تعلم درسا جديدا بعد اتقان ما تعلمته ورسوخه في ذهنك.

(١٢١) تعليم المتعلم للزرنوجي : ١٨ ، والمعيد في أدب المفيد والمستفيد : ٨

(١٢٢) تاريخ التربية ـ عبد الله عبد الدائم : ٤٠٧.

٢٠٧
٢٠٨

الفصل الخامس

طرق وأساليب التربية

يمكننا التأثير على الإنسان وجعله يتقبل التربية المرغوبة ويستجيب لها بتغيير قناعته وآرائه ، وذلك بمخاطبة عقله ، أو بتوجيه انفعالاته وإثارة عواطفه ، وبتكوين عادات حسنة عنده. ولذلك يجب أن تتنوع أساليب التربية ، فتكون عقلية علمية ، تعتمد على طريقة العقل في المحاكمة والإدراك وتقبل المعلومات ، فتقدم له الدليل ، وتجعله يستنتج النتيجة ، وتضعه في بداية الطريق ليصل إلى الغاية. وتكون أيضا عاطفية ، تثير كوامن النفس ، وتشبع رغباتها وأشواقها ، وتستفيد من نزعتي الخوف والرجاء لديها ، فتعتمد على الترغيب والترهيب. وتكون كذلك بوضعه أمام بعض الأبطال والعظماء من الناس ، ليرقب حركاتهم ويلاحظ سلوكهم ويرى أخلاقهم ؛ فيعمل على مضاهاتهم والاقتداء بهم.

ولا ينبغي أن تقتصر التربية على الجانب النظري. بل يجب أن تكون تربية عملية ، تسعى لجعل الإنسان يقوم بالأعمال الصالحة ، ويستفيد من كل العلوم التي حصل عليها ، ويغير عاداته وطريقته في الحياة لتتفق مع ما هو حق وفضيلة. والتربية العملية أسهل من التربية النظرية وأشد تأثيرا.

وهناك أساليب كثيرة لتحقيق هذه التربية الشاملة للعقل والجسم والنفس والروح بجانبها النظري والعملي ، نجملها في التربية بالموعظة والإرشاد ، والتربية بالقصة والحوار ، والتربية بالتشبيه وضرب الأمثال ، والتربية بالعمل والعادة والقدوة واللعب ، وبالترغيب والترهيب (١)

٢٠٩

١ ـ التربية بالوعظ والإرشاد

إن الوعظ هو الأسلوب المباشر الصريح في التربية. ومن السهل الاعتماد على هذا الأسلوب ؛ فما على المربي إلا أن يتوجه بالمواعظ والنصائح إلى من يريد ، ويطلب منه الامتثال لها ، والانصياع لأوامره ونواهيه.

وخير مثال على ذلك من كتاب الله ما جاء في موعظة لقمان الحكيم لابنه ، وهو ينهاه عن الشرك بالله ، ويبين له علمه الشامل لكل شيء ، ويأمره بالصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويأمره بالصبر وينهاه عن الكبر. قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (٢)

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ).

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ (٣) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً (٤) إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ (٥) وَاغْضُضْ (٦) مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). (٧)

ومن التأمل في هذه الموعظة الغالية نجد أنها تتعلق بالعقيدة والعبادة والأخلاق وهي واضحة لا غموض فيها ، ومقبولة للنفس السوية ، ولا يجد أحد مسوغا لردها.

ومن ذلك ما جاء في دعوة هود ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، إذ خاطبهم بقوله :

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). (٨)

وهكذا ذكرهم بفضل الله عليهم وأمرهم بطاعته وتقوى الله ، وخوفهم من العذاب ولكنهم أصروا على الكفر ، فكان مصيرهم الهلاك :

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ (٩) الْأَوَّلِينَ ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ، فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٠)

٢١٠

ومثال ذلك من السنة الشريفة حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (١١).

وهكذا جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر أساسا في التربية وقاعدة للدعوة إلى مكارم الأخلاق ومعالي الأمور.

لكن الإسراف في هذا الأسلوب من التربية قد يجعله مملا ممقوتا ، ويؤدي إلى الإعراض والنفور ، ولذا يجب الاقتصاد فيه ، وملاحظة النتائج المترتبة عليه.

* * *

٢١١

٢ ـ التربية بالقصة

تعتبر القصة من أكثر أساليب التربية فعالية وأقواها أثرا وهي وسيلة مشوقة للصغار والكبار ، تحدث أثرها في النفس وهي تشعر بالمتعة وتجعل الإنسان ينجذب إليها ، وينتبه إلى كل أحداثها ؛ فلا يشرد بذهنه عمن يربيه. فإذا صدرت القصة عن الحكيم الخبير العليم ببواطن النفس وما يصحلها ، آتت ثمارها يانعة ، وحققت المرجو منها على أكمل وجه. ولهذا كثر الاعتماد على القصة في القرآن الكريم ، وكانت قصصه طويلة حينا وقصيرة أحيانا ، وهي دائما في القمة من حيث البلاغة والصور البيانية ، ومن الناحية الأدبية والفنية ، وبالنظر إلى مغزاها وآثارها التربوية :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ). (١٢)

واختار مثالا على ذلك قصة يوسف عليه‌السلام لشهرتها ، ولأنها مذكورة في موضع واحد ، هو السورة المسماة باسم هذا النبي الكريم ومعظم آيات السورة في بيان وقائع القصة وعبرها.

بدأت القصة بذكر رؤيا ، رآها يوسف في نومه وهو طفل صغير ، وأخبر بها أباه ففهم تعبيرها ، وبشره بما سينعم الله به عليه من العلم والفضل ، ونهاه عن إخبار إخوته بها لئلا يسيئوا إليه :

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ). (١٣)

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً (١٤) إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ (١٥) رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ (١٦) وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ (١٧) إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). (١٨)

ولعل يوسف كان يستأثر بقلب أبيه ، ولعل أباه كان يغمره بفيض حنانه لصغره ونجابته. ولعله زاد في تكريمه بعد تلك الرؤيا ؛ مما أوغر صدور إخوته عليه ، وجعلهم يمكرون به ، ويصممون على قتله أو تعريضه للهلاك بطرحه في أرض خالية مجهولة :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ

٢١٢

وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ (١٩) إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ (٢٠) وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ). (٢١)

لكن أحد اخوته تحركت في نفسه نوازع الرحمة والشفقه عليه ، فنهاهم عن قتله وأشار إلى وسيلة لإبعاده عنهم والتخلص منه :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ (٢٢) يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ (٢٣) إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٢٤)

وتم اتفاقهم على هذه المكيدة ، وشرعوا يدبرون وقوعها ، فانطلقوا يستأذنون أباهم ليرسله معهم ، ويغرونه بإرساله ، ويعدونه بأن يكونوا أمناء عليه حافظين له :

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ. أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ. قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (٢٥)

ولعلهم ازدادوا تصميما على فعلتهم الشنيعة بعد أن سمعوا جواب الأب بأنه يحزن لبعده عنه ولو لم يصبه مكروه ، وأنه يتخوف عليه كل أذى.

وبعد أن واروه في البئر راحو إلى أبيهم متباكين ، يزعمون أنه حدث ما كان يحذره. وجاؤوا بما حسبوه علامة على صدقهم.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ. قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (٢٦)

ومع أن الأب أدرك كذبهم ، وعلم أنه لم يكن هناك لعب ولا سباق ولا ذئب ، مع ذلك لم يقابلهم بغير الصبر والاستعانة بالله :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ (٢٧) لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ). (٢٦)

وبذلك تنتهي المرحلة الأولى من حياة يوسف ، وقد تعلمنا منها وجوب العدل بين الأبناء ، ورأينا نتيجة الحسد والغيرة بين الأقران. وأصبحنا في شوق لمعرفة تتمة القصة ، ونحن نتمنى السلامة لذلك الطفل البريء الذي غدر به الذين كان من واجبهم أن يحفظوه ويعطفوا عليه.

٢١٣

النجاه والتكريم :

لم تغفل عين الله لحظة عن الطفل ، إذ أوحى إليه ما يثبته ويشعره بالأمن ، وأرسل له من أخرجه من ذلك المكان المظلم العميق ، ونقله إلى بيت يجد فيه التكريم والنعيم :

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ (٢٨) فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ. وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ (٢٩). دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ (٣٠) عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣١)

محنة يوسف في القصر :

نشأ يوسف نشأة حسنة ، وظهر عليه ما يدل على علمه وذكائه ، بالإضافة إلى حسنه وجماله ؛ مما جعل سيدة القصر تفتن به ، وتحاول أن تغويه بنفسها ، لكنه قاوم كل الإغراء وصرف الله عنه السوء والفحشاء :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ (٣٣) لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ (٣٣) إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ). (٣٤)

ولم يكن امتناعه بسبب خوف أو عجز ، فهي التي طلبت منه صراحة بعد أن فشلت في محاولات الإغراء المقنعة ، وقد هيأت المخدع الآمن ، وأوصدت الأبواب ، وكشفت له عن شهوتها المستعرة. ومن الذي يمتنع عن تلبية دوافعه في ذلك الحين ، ومن يستطيع أن يتحكم في مشاعره ويضبط غريزته حينئذ؟

إنه لا يفعل ذلك إلا من عصمه الله ، وكان تقيا نقيا.

٢١٤

وهكذا يجب أن تصور القصة مشهد العفة والطهر ، وأن تمجد الفضيلة والشرف وأن تربي الناس على صون الأعراض والتحلي بالمكارم.

وبينما كانت تجذبه إليها وتشده ليقع عليها ، وكان يحاول التفلت منها والبعد عنها ، طرق الباب ، وجاءه المخلص ، فاتجه سريعا نحوه ، وقامت لتسبقه إليه ، إذ لم يبق مجال لفعل ما همت به ، وشقت قميصه وهي تتعلق به.

ووجدها زوجها متلبسة بفعلتها الشنيعة ، فسارعت إلى إلقاء التهمة على يوسف ، واقتراح العقاب المناسب له ، وهو عقاب لا خطر منه على حياته ، فهي ترغب في بقائه حيا ، لعلها تظفر بما تطلبه منه.

وتكلم يوسف بكلام صريح لا تلثعم فيه ، فقال : " هي راودتني عن نفسي" إذ لا تنفع التورية في رد التهمة ، وقيض الله حكما من ذويها يقول :

إن كان قميصه شق من الأمام فهي الصادقة ، لأنها تكون قد دفعته وهو يطلبها وإن كان قميصه شق من الخلف فهي الكاذبة ، لأنها تكون قد شدته وهو يفر منها.

وحين تبين صدق يوسف ، وظهرت براءته ، فإن الزوج لم يغضب على المرأة التي أرادت أن تدنس عرضه وتلطخ شرفه ، بل اكتفى بالعتاب الرقيق واللوم الخفيف ، وطلب من يوسف أن يعرض عن تلك المسألة ، ولا يبوح بها. وهذا يدل على ما كان عليه ذلك المجتمع من الميوعة والتحلل ويضفي مزيدا من الإجلال والإكبار لمن حافظ على الطهارة والعفة فيه :

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ (٣٥) قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها (٣٦) لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ. قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٣٧)

وما أسرع ما تنتشر مثل هذه الأخبار بين الناس ، وما أكثر ما يجعلونها أحاديث للتسلية والفكاهة ، وقد تضاعف اهتمامهم بها لأن المرأة لم تكن من عوام النساء ، بل كانت ذات مكانة مرموقة ، لأنها زوج أمير مصر. ولم تخجل السيدة الجليلة من تلك الأقاويل ، بل جمعت لداتها من النساء ، وقدمت لهن الفاكهة والمأكولات التي تحتاج إلى التقطيع بالسكين

٢١٥

وناولت كل واحدة سكينا ، ونادته ليخرج عليهن. فلما رأينه هالهن حسنه وأذهلهن بهاؤه ، فقطعن أيديهن ولم يشعرن ، وانطلقت منهن عبارات الإعجاب والثناء عليه. وحينئذ بينت أنه هو الذي دخل شغاف قلبها ، وأعلنت أنها ستأمر بسجنه وإهانته ما لم يستجب لها ، صراحة بلا مواربة ولا حياء.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ (٣٨) ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ (٣٩) وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ). (٤٠)

وقاوم يوسف الوعيد كما قاوم الإغراء ولم يؤثر فيه التهديد كما لم يؤثر فيه الترغيب. وما أقل النفوس التي تحافظ على استقامتها وصلاحها رغم كل هذا وذاك!

وفضل السجن على الانزلاق في حمأة الرذيلة ، والتجأ إلى الله ليثبته ويعينه :

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ (٤١) إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ (٤٢) لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٤٣)

وبذلك انتهت المرحلة الثانية من القصة. وأبرز ما فيها التمجيد بالشرف والعفة ، وإكبار من يتعالى على وسائل الترف والمدنية الزائفة ، ويترفع على دافع الشهوة ونزعة الغريزة.

٢١٦

يوسف السجين : الضيق والفرج

أودع يوسف السجن ظلما ، بدلا من عقاب السيدة التي دبرت له تلك المكيدة ولكن المجتمعات الفاسدة تعاقب البريء وتطلق المذنب ، وتضيق على التقي ، وتوسع على الفاجر ، ولعل الحكمة من سجنه أن يذوق مرارة العيش بعد أن ذاق حلاوته ، وأن يعاشر البؤساء بعد أن عاشر الأثرياء وبذلك يعتدل مزاجه ، ويعد للمهمة الكبيرة التي تنتظره ، ويصبح على علم بأحوال المظلومين الذين ينتظرون من ينصفهم.

ورأى السجناء صلاح يوسف وإحسانه ، فقص عليه اثنان منهم رؤيا رأياها ، ففسرها لهما بعد أن دعاهما إلى عبادة الله الواحد ، ونهاهما عن الشرك به :

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ (٤٤) قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ (٤٥) إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ (٤٦) خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤٧)

وهكذا يجب على المؤمن أن يكون داعية إلى الإيمان بلسان حاله ولسان مقاله في كل حين ، ولا يدع فرصة تفوته دون أن يغتنمها في الدعوة إلى الهدى والرشاد.

ولم ينس يوسف أن يطلب من الذي سيطلق سراحه أن يذكر قصته عند الملك. فلم يتذكره حتى رأى الملك رؤيا طلب من خواصه أن يفسروها له ، فلم يعلموا تأويلها فتذكر الفتى يوسف ، وطلب من الملك أن يرسله إليه ليأتيه بتعبير رؤياه :

٢١٧

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ (٤٨) وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ (٤٩) وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً (٥٠) فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ (٥١) فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ (٥٢) يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). (٥٣)

وهكذا لم يكتف يوسف بتعبير الرؤيا التي تقرر مستقبل البلاد طيلة خمس عشرة سنة ، وإنما أشار بالطريقة التي تؤدي إلى حفظ الغلال الفائضة عن الحاجة في سنوات الخصب ، وليجدوها في سنوات القحط ، فبقاء الحبوب في السنابل يقيها من الحشرات والرطوبة ، ويمنع تسوسها وتعفنها.

وهذا ما جعل الملك يدرك فضله وعلمه ، ويأمر باخراجه من السجن. ولكن يوسف أبى أن يخرج حتى تظهر براءته ، ويقطع مقالة السوء فيه. وبعد أن حقق الملك في قضيته ، ووثق بنقاء سريرته جعله من خواصه.

وكلمه يوسف ليعهد إليه بالإشراف على الخزينة العامة ، فهو خير من يتولى ذلك لأمانته وعلمه بحفظ الأموال والغلال ، وهو أعدل من يقوم بتوزيعها على مستحقيها.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قالَ ما خَطْبُكُنَ (٥٤) إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ

٢١٨

قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ (٥٥) الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ. (٥٦) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ (٥٧) مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٨)

وبذلك تنتهي المرحلة الثالثة من حياته ، مرحلة السجن والإهانة ، وقد احتملها بنفس أبية صابرة حتى خرج من السجن معززا مكرما. وأصبح أهلا ليتولى شؤون البلاد والعباد. ويوفر الغذاء للجائعين ، وينشر العدل بين المظلومين.

وطلبه الولاية لم يكن ليحقق مكاسب لنفسه ، ويستغل عمله كما يفعل الجشعون ، وإنما كان ليقوم بمهمة جسيمة لا يصلح لها غيره ، وليتمكن من دعوة الناس إلى الإيمان وهو حاكم مطاع ، يأتيه الناس ويصدرون عنه بما يصلح أرواحهم وأجسامهم وأبرز الآثار التربوية في هذه المرحلة أن يحتمل الإنسان الشدة ، وأن يصبر على البلاء ، فلا يجزع لضر يصيبه ، ولا يبطر لخير يناله. وأن يتصف بالحلم والأناة كما فعل يوسف حين دعي للملك ، وأن يحرص على شرفه أكثر مما يحرص على متاع الدنيا

يوسف العزيز : العفو والكرم

نرى يوسف ـ عليه‌السلام ـ في المرحلة الرابعة ، وهو يوزع الغلال على المعوزين خلال السنوات العجاف ، التي جعلت الناس يتوافدون عليه من كل حدب وصوب ليحصلوا على قوتهم. وحين أتاه إخوته عرفهم دون أن يعرفوه ، وأعطاهم ما جاؤوا لأجله ، ورد عليهم البضاعة التي قدموا بها ليجعلوها عوضا عما اشتروه. وطلب منهم أن يأتوه في المرة القادمة : بأخيهم الذي ضن أبوه عن إرساله معهم.

٢١٩

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ ، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ. وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (٥٩)

ولكن الأب الذي لا زال حزينا على يوسف لم يستجب لطلبهم حتى أخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يأتوه به ما لم يغلبوا على أمرهم ، وحتى أوصاهم بما يدفع عنهم العين والحسد ، وذكرهم بالله ، وأمرهم بالتوكل عليه :

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ (٦٠) أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦١)

ولم يطلب يوسف شقيقه إلا ليخلصه من كيد إخوته ، وليشاركه فيما أنعم الله به عليه من الفضل. فلما دخل عليه ضمه إليه ، ودبر حيلة لا بقائه عنده.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِ نَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

٢٢٠