منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ (٦٢) فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ (٦٣) إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ. قالُوا : وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ. قالُوا : نَفْقِدُ صُواعَ (٦٣) الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٦٤). قالُوا : تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ. قالُوا : فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ. قالُوا : جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا (٦٥) لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). (٦٦)

فقد جعل المكيال في رحل أخيه دون أن يشعروا به ، ووجه إليهم تهمة السرقة ، وأعلن عن جائزة حمولة ناقة لمن جاء به. وقابلوا التهمة بإنكار البريء ، وأعلنوا عن استعدادهم لتسليم السارق ، وجعله عبدا لصاحب الشيء المسروق كما تقضي شريعتهم ولم يكن هذا الحكم في شريعة الملك. فأمر بتفتيش متاعهم وتم العثور على المكيال ، وانطلت عليهم الحيلة.

ولم يستطيعوا أن يخفوا استياءهم منه ومن أخيه من قبل حين وجهوا إليه التهمة. وحاولوا دون جدوى أن يبدلوه بواحد منهم. وأصر كبيرهم على البقاء حيث أخوه ، وأمرهم بالرجوع إلى أبيهم ليخبروه :

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ. قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قالَ : مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ

٢٢١

قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ). (٦٧)

وأنى يصدق الشيخ الضعيف أقوال الذين حالوا بينه وبين أحب أولاده إليه ، بل إن فقد ابنه الثاني ذكره بفقد أخيه من قبل ، وتضاعف حزنه حتى أظلمت الدنيا في عينيه ، فقد بصره. ومع ذلك لم ييأس من رحمة الله. وها هو يطلب من بنيه محاولة البحث عن يوسف وأخيه :

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ. قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا (٦٨) تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً (٦٩) أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ. قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٧٠).

وها هم يأتون بقلوب منكسرة ، ويعرفون أخاهم ، ويعترفون بفضله عليهم ثم يرجعون إلى أبيهم حاملين معهم البشرى التي ردت إليه بصره ، ويطلبون منه العفو والاستغفار :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ (٧١) فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. قالُوا : أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

٢٢٢

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ (٧٢) اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ. قالَ لا تَثْرِيبَ (٧٣) عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ. وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٧٤). قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قالُوا : يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٧٥)

ويتجلى في هذه المرحلة خلق العفو عن المسيء والصفح عن المخطئ ، كما يتجلى فيها معنى الإحسان والكرم ، وعاقبة الصبر والاستعانة بالله.

أما كيف شم يعقوب ريح يوسف منذ انفصال القافلة عن أرض مصر ، وقبل وصول البشير الحامل لقميصه ، وكيف ارتد بصيرا لما ألقاه على وجهه؟

فهذا من القضايا النفسية والمسائل الروحية التي يحدث ما يماثلها لكثير من الناس فضلا عن الأنبياء والصديقين. ولا يهمنا أن نثبته للماديين الذي ينكرون وجود ما لا يرونه.

اللقاء والختام :

تصور المرحلة الأخيرة من القصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ حين استقبل والديه ، وكرمهما بالجلوس على العرش ؛ فقابلاه هما وإخوته بالاحترام والتعظيم. كما تصوره وهو يشكر الله الذي أحسن إليه وإلى أهله ، ويسأله أن يحسن خاتمته ويلحقه بالصالحين :

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ : ادْخُلُوا مِصْرَ

٢٢٣

إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ (٧٦) الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). (٧٧)

ثم يسدل الستار ويبقى البطل متربعا على عرش العفة والفضيلة والجود والإباء والحلم والصبر والتواضع والشكر ويصبح المشاهدون واثقين بأن العسر يليه اليسر ، وأن الضيق يعقبه الفرج ، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين ، ولا يخيب أمل المتوكلين عليه.

وبانتهاء القصة تتحقق رؤيا يوسف التي رآها في صباه ؛ فالشمس والقمر رمز لأمه (*) وأبيه ، والكواكب الإحدى عشرة رمز لإخوته. كما تحققت من قبل رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا الملك.

وليس كل ما يراه النائم من هذا القبيل ، فمن الأحلام ما يكون أثرا للماضي الذي عاينه الرائي ، ومنها ما يكون ناتجا عن حالته الجسدية والنفسية ، ومنها ما يعبر عن آماله وتطلعاته. ولا يتمكن غير العلماء من تأويل الأحلام وحل رموزها.

وإن تلقي مثل هذه القصة عن رجل أمي ، لم يكن هو ولا قومه على علم بها ، لدليل عى أنها وحي أنزله الله إليه.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. (٧٨)

وإن العقلاء والحكماء ليستنبطون العبر من قصص الأنبياء ، ويجعلونها وسيلة من وسائل التربية وهداية الناس إلى الحق والفضيلة :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

٢٢٤

من قصص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

حديث الغار

لم يغفل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جعل القصة وسيلة من وسائل التربية.

ولقد اخترت من قصصه هذه القصة الطريفة لصحتها وأثرها التربوي الرائع :

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

(بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار ، فانطبق عليهم. فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق ؛ فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه (٨٠).

فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق (٨١) من أرز ، فذهب وتركه ، وأني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا. وأنه أتاني يطلب أجره ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فسقها. فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز. فقلت له : اعمد إلى تلك البقر ، فإنها من ذلك الفرق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساخت (٨٢) عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون (٨٣) من الجوع. وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن أدعهما ، فيستكنا لشربتهما (٨٤) فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. فانساخت عنه الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي ، وأني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن أتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت ، فأتيتها بها فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها. فلما قعدت بين رجليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فقمت وتركت المائة الدينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا. ففرج الله عنهم فخرجوا» (٨٥)

وفي الحديث فضل حفظ حق العامل ، وفضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما

٢٢٥

على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما. وفيه فضل العفة والكف عن الحرام والتقرب إلى الله تعالى بذكر صالح العمل. وفيه دلالة على أن ترك المعصية من خشية الله يمحو مقدمات طلبها ، وأن التوبة تجب ما قبلها. وفيه فضل أداء الأمانة ، وإثبات الكرامة للصالحين (٨٦).

ولقد استغل بعض الوعاظ والدعاة رغبة الناس في القصص ، فأصبحوا يكثرون من سردها دون النظر إلى الآثار التربوية التي تنتج عنها وقد يكون لقصصهم آثار سلبية ، حين لا تتفق مع الواقع والحقائق العلمية ولا تكون صحيحة. وذلك يجعل المعتادين لسماع هذا النوع من القصص يتقبلون كل ما يصدر عن الواعظ كأنه معصوم دون أن يكون لهم قدرة على المحاكمة والنقد والتمييز بين الغث والسمين. وكأن المتعة وزيادة التلاميذ هي المقصود من تلك القصص دون العبر التي تدل عليها. بل قد تدل بعض القصص على معاني لا تتفق مع أصول الدين وأحكامه الشرعية ، وتنسب مع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا وزورا مع أنه حذر من الكذب عليه بقوله

«من كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار». (٨٧)

* * *

٢٢٦

٣ ـ أسلوب الجدل والحوار

يعتمد هذا الأسلوب في التربية على مقابلة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة بقصد تغيير رأي المعارض ، وجعله يقتنع بما نراه من الحقائق.

ومع أنه قلما تخلو قصة في القرآن الكريم من ذكر الحوار بين أشخاصها حتى يخيل إلى القارئ أنه ينظر إلى أحداث القصة تقع أمام عينيه ، ويستمع إلى أشخاصها وهم يتحاورون ويتجادلون ؛ مما يعطيها صفة الحيوية ، ويجعلها أكثر متعة وأشد تأثيرا على النفس ، مع ذلك فإن الجدل والحوار يعتبر أسلوبا متميزا من أساليب التربية ونراه بارزا في كثير من آي الذكر الحكيم.

ولقد ندد الله سبحانه بمن يجادل بدون الاعتماد على الحقائق والأدلة الصحيحة ، فقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨٨)

وبين أن من يدفع الحق ويرفض الحقيقة هو متكبر مضل ، ومصيره الذل والعذاب

(ثانِيَ عِطْفِهِ (٨٩) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ). (٩٠)

وهو متبع للشيطان ، يجري وراء الأوهام :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ). (٩١)

ونهى الله أن يؤدي الجدال إلى الشحناء والبغضاء ، وأمر أن يكون بالحسنى ، وبقصد الهداية وقبول الحق :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٩٢).

والجدال بالتي هي أحسن يكون بالدعوة إلى ما التزمنا به دون تفريق بيننا وبين من نخاطبه :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (٩٣)

٢٢٧

ومن المجادلة بالتي هي أحسن ما جاء في دعوة نوح ـ عليه‌السلام ـ قومه إلى عبادة الله وحده ، ورده على اعتراضاتهم. قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا (٩٤) بادِيَ الرَّأْيِ (٩٥) وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها (٩٦) وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ. وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ، وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي (٩٧) أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ. قالُوا : يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٩٨)

ومنها ما جرى بين ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ وبين ملك متجبر كفر بالله وجعل لنفسه الحق في الحكم على الناس بالموت أو الحياة. فطلب منه ابراهيم أن يغير شيئا في سنن الكون ؛ فيجعل الشمس تطلع من الغرب ، فأصبح مبهوتا مذهولا لا يجد ما يرد به عليه :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ : فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ (٩٩) الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠٠)

٢٢٨

وكذلك دعا ابراهيم قومه إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن عبادة أصنام لا يوجد دليل على عبادتها ، ولا شيء يجعل الإنسان يخاف منها.

فالله القادر هو الذي يجب أن يخافه الناس إذا أشركوا به ، وأن يطمئنوا إذا عبدوه :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ، قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً (١٠١) فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا (١٠٢) إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١٠٣)

ومن ذلك الحوار بين موسى ـ عليه‌السلام ـ وفرعون الطاغية :

(قالَ فِرْعَوْنُ : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟

قال : رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين.

قال لمن حوله : ألا تستمعون؟

قال : ربكم ورب آبائكم الأولين.

قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.

قال : رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون.

قال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين. (١٠٤)

وتهديد العتاة بالسجن والتعذيب في مثل هذا الموقف ما هو إلا عجز عن الرد وهزيمة أمام الحق الذي يجب أن يتبع.

وأحيانا تروى القصة بكاملها بأسلوب الحوار ، كقصة صاحب الجنتين الكافر مع الفقير المؤمن الذي حذره من الكبر والكفر ومن الغرور بالمال والعشيرة ، وخوفه من سوء العاقبة ؛ فاستمر في ضلاله وعناده حتى وقعت الكارثة ، ولم تغن عنه عشيرته شيئا.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها (١٠٥)

٢٢٩

وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ، وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً. (١٠٦) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (١٠٧) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً. لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً (١٠٨) مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (١٠٩) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها (١١٠) وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً. هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً). (١١١)

وكذلك كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد إلى أسلوب الحوار والجدل في دحض الآراء الباطلة وجعل من يخاطبه يقبل بالحكم الشرعي : فقد جاءته امرأة فقالت إن أمي نذرت أن تحج ، فماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها؟

قال : نعم ، حجي عنها. أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟

قالت : نعم

قال : فاقضوا الذي له فإن الله أحق بالوفاء (١١٢)

وأتاه شاب فقال : يا محمد! ائذن لي في الزنى.

فأقبل عليه القوم فزجروه وقالوا : صه صه

فقال : ادنه

فدنا منه قريبا فجلس

قال : أتحبه لأمك؟

قال : لا والله ، جعلني الله فداك.

٢٣٠

قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. أفتحبه لابنتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك.

قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم. أتحبه لعمتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم. أتحبه لخالتك؟

قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك

قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم.

ثم وضع يده عليه وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه فلم يكن الفتى يلتفت بعد ذلك إلى شيء (١١٣).

أما إذا أدى الجدال إلى العناد والشقاق فهو حينئذ مذموم :

عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

«من ترك الكذب وهو باطل بني له قصر في ربض الجنة (١١٤) ومن ترك المراء وهو محق بني له في وسطها. ومن حسن خلقه بني له في أعلاها (١١٥)».

وعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة وبيت في وسط الجنة وبيت في أعلى الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا ، وترك الكذب وإن كان مازحا ، وحسن خلقه (١١٦)).

والجدال الذي يؤدي إلى الزيغ والضلال ونشر البدع منهي عنه :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ : «بل هم قوم خصمون» (١١٧).

وقال أبو عمر ، ابن عبد البر : (تناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد لأنه يؤدي إلى الانسلاخ من الدين) (١١٨).

٢٣١

٤ ـ أسلوب التشبيه وضرب الأمثال

يؤدي تشبيه المعاني الذهنية المجردة بالأشياء الحسية الملموسة إلى وضوحها ، ويؤدي ضرب الأمثال إلى تقريب الأفكار من العقل وجعلها مفهومة ، كما يؤدي التشبيه والتمثيل إلى إدراك المعنى وتكوين صورة له في المخيلة ؛ ويكون التأثر بتلك الصورة أشد وأقوى فعالية من الأفكار المجردة ، بالإضافة إلى ما في التصوير والتشخيص الحي من الإثارة والمتعة ، مما يطرد السأم عن المتعلم ، ويجعله متقد الذهن حاضر القلب.

ولذلك كثر الاعتماد على هذا الأسلوب في القرآن الكريم حتى ضربت فيه الأمثال بكثير من الأشياء الصغيرة وبعض الحشرات الحقيرة. قال تعالى :

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ). (١١٩)

ومن ذلك أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ شبه ضلال المشركين وضعف أوليائهم الذين يلجؤون إليهم من دون الله بالأنسجة التي تنسجها العناكب لقنص فريستها. فقال :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ (١٢٠) الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). (١٢١)

فالمشركون الذين يلتجؤون إلى غير الله كالذبابة التي علقت ببيت العنكبوت. وحبائل الشيطان التي أضلت هؤلاء المشركين ، ووسائل أوليائهم التي أدت إلى غوايتهم شبيهة بتلك الشبكة التي علقت بها الذبابة. وأولياء المشركين كالعنكبوت الذي يمتص دم فريسته. وأولئك الأولياء ووسائلهم في ضعف العنكبوت وبيته. وفي هذا المثل ما يكفي للتنفير من عبادة غير الله عزوجل.

ومنه تشبيه الأصنام والآلهة التي يعبدها المشركون بالذباب الضعيف الحقير :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (١٢٢)

٢٣٢

فأول صفات الله التي تجعله مستحقا للعبادة القدرة على الخلق. وكل ما عبد من دونه عاجز عن خلق حشرة حقيرة كالذباب. بل إن الأصنام التي يعبدها المشركون عاجزة عن استرداد ما قدم لها من الطعام إذا سلب منه الذباب شيئا. وسواء أكان الطالب هو الصنم والمطلوب هو الذباب ، أم كان الطالب هو المشرك والمطلوب هو الصنم ؛ لأن الجميع ضعاف ، والله هو القوي الخالق لكل شيء والمستحق للعبادة.

وأخبر الله عن عدم قبول أعمال الكافرين بقوله :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ). (١٢٣)

فكما أن الريح الشديدة والعاصفة القوية تبعثر الرماد ، ولا تبقى منه شيئا فإن أعمال الكافرين تبدد فتصبح هباء منثورا ، ولا ينفعهم شيء مما عملوه وكسبوه لأنهم لم يريدوا به وجه الله.

كما أخبر ـ سبحانه ـ عن هذا المعنى بقوله :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ (١٢٤) يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ (١٢٥) ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ .. أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ (١٢٦) يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١٢٧)

وإن الذهن حين يدرك هاتين الآيتين ليتخيل صورة مسافر في الصحراء تحت أشعة الشمس المحرقة ، وقد انقطع عن الماء ، وأشرف على الهلاك من الظمأ. وإذ به يتراءى له عن بعد ما يظنه ماء ، فيحاول الوصول إليه بما بقي لديه من جهد. ومهما اشتد في سيره يراه بعيدا أمامه ، حتى إذا تضيفت الشمس للغروب ، أو شاهد علامة في تلك الأرض المستوية ، فوصل إليها ، علم أنه كان يجري وراء سراب خادع ، وانقطعت أنفاسه.

ويتخيل صورة راكب سفينة في خضم بحر عميق متلاطم الأمواج ، وقد تراكم عليه الضباب وغشيته الظلمات ، فلم يعد يرى مسافة ذراع عنه ، ولم يدر كيف يتجه فأيقن بالهلاك.

وفي هذا ما يجعل كل عاقل يؤمن بالله ، ويخلص في عمله لوجهه الكريم.

٢٣٣

وشبه الله المنافقين في ضلالهم وحيرتهم بعد أن عرفوا الإسلام بمن أوقد نارا ، فلما سطع ضوؤها ، وأبصر ما حوله انطفأت ، فأصبح في ظلام دامس. وهم في خوفهم مما يحيط بهم شبيهون بالذين أصابهم إعصار فيه نار وانقضت عليهم الصواعق وسط ظلام شديد ، فصاروا يجعلون أصابعهم في آذانهم ، ويحاولون أن يمشوا على ضوء البرق الذي يخطف الأبصار ، وأصبحوا كمن فقد سمعه وبصره :

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ (١٢٨) مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٢٩)

وشبه الله ـ تعالى ـ مضاعفته ثواب الذين ينفقون أموالهم في سبيله بالحبة التي أنبتت سنابل كثيرة في كل منها حبات عديدة ، (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ). (١٣٠)

كما شبه ذلك بالجنة الطيبة الهواء التي تؤتي ثمارها مضاعفة حين ينزل عليها الماء. قال سبحانه وتعالى :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ (١٣١) وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). (١٣٢)

وكذلك كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتمد على هذا الأسلوب في توضيح المعاني وتقريب الأفكار إلى عقول السامعين. ومن ذلك قوله :

«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها نقية (١٣٣) قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب (١٣٤) الكثير. وكان منها أجادب (١٣٥) أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان (١٣٦) لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين اله ، ونفعه الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به (١٣٧)».

٢٣٤

فقد ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاء به من الدين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه ، وكذا كان حال الناس قبل مبعثهم ، وكما أن الغيث يحي البلد الميت ، فكذا علوم الدين تحي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض التي ينزل فيها الغيث : فمنهم العالم العامل المعلم ، فهو بمنزلة الأرض الطيبة التي شربت الماء فانتفعت في نفسها ، وأنبتت فنفعت غيرها ، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه ، غير أنه لم يعمل بنوافله ، أو لم يتفقه فيما جمع ، لكنه أداه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء ، فينتفع الناس به ، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ، ولا ينقله لغيره ، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.

وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما ، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم (١٣٨).

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحث على تلاوة كتاب الله :

«مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ، ريحها طيب وطعمها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة ، لا ريح لها ، وطعمها حلو.

ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب ، وطعمها مر.

ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة ، لا ريح لها ، وطعمها مر» (١٣٩) ومن ذلك تصويره للتعاون والتناصر بين المؤمنين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه» (١٤٠)

فكما أن البناء تتماسك أجزاؤه ، ويصبح كيانا واحدا ، لا يمكن فصل بعضه عن بعض ، فكذلك المؤمنون في اتحادهم وتعاونهم وتناصرهم. ولم يكتف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا البيان الرائع ، وإنما أضاف إليه التشبيك بين أصابعه ليدل على أن المؤمنين يشد بعضهم بعضا. والتمثيل بالحركات أوقع في النفس من الكلام المجرد.

ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسّلام :

«ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد ، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (١٤١).

فالمؤمنون يرحم بعضهم بعضا ، ويعطف بعضهم على بعض ، ويتوادون فيما بينهم ، فيصبحون كجسم واحد ، إن أصيب عضو منه بألم تألم له سائر الأعضاء.

٢٣٥

٥ ـ التربية بالعمل والعادة

يعد القيام بالعمل النافع أثرا من آثار التربية وغاية مرغوبا فيها. ولا قيمة لفكرة نظرية ما لم تؤد إلى نتيجة عملية. ولذلك كان من دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن دعاء لا يسمع ، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ...» (١٤٢)

وعن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا أصبح :

«اللهم إني أسالك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا» (١٤٣)

ويدل على أهمية العمل وعدم جدوى الأفكار النظرية ما لم تكن مصحوبة به اقتران العمل الصالح بالإيمان في كثير من آيات الذكر الحكيم :

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). (١٤٤)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا (١٤٥) إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (١٤٦)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى (١٤٧) لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (١٤٨) ولا يحصل طالب العلم على الثواب والأجر حتى يعمل بعلمه :

عن عبد الرحمن بن غنم قال : حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا :

كنا نتدارس العلم في مسجد قبا إذ خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال

«تعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يأجركم الله حتى تعملوا» (١٤٩).

ولا يرسخ العلم إلا بالعمل ، ولا يسمى عالما بحق من لم يعمل بعلمه :

عن علي رضي الله عنه قال : «يا حملة العلم! اعملوا به ، فإنما العالم من علم ثم عمل ، ووافق علمه عمله. وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف عملهم علمهم ، يقعدون حلقا فيباهي بعضهم بعضا ، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه. أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عزوجل» (١٥٠).

٢٣٦

ولا يتأثر الناس بقول العالم إلا إذا عمل بعلمه :

قال مالك بن دينار : (العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلب كما يزل الماء عن الصفا) (١٥١).

والعمل يمكن المرء من تعلم المزيد : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» (١٥٢).

ويبقى التعلم النظري باهتا ضعيف الأثر حتى يقترن بالتدريب العملي. فلتعلم قيادة السيارة مثلا لا يكفي أن تتعلم كيف تدير المحرك ، وكيف تجعلها تسير ، وكيف تغير السرعة ، ثم كيف توقف السيارة وتطفئ محركها نظريا ؛ بل لا بد من محاولة ذلك وتكراره عمليا لساعات طويلة حتى تكتسب المهارة المطلوبة.

ولقد اعتمد هذا الدين على التربية بالعمل من أول الدعوة ، فكان الواحد من الصحابة حين يعتنق الإسلام ، يدفعه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من يعلمه ما نزل من القرآن الكريم ، فيتعلم عشر آيات ، ويقول لمن يعلمه : دعني حتى أذهب وأعمل بهذه الآيات ، ثم أعود فأتعلم غيرها.

عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن).

وقال أبو عبد الرحمن السلمي : (حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل ، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا) (١٥٣).

وهكذا تلقوا القرآن بالعلم والعمل.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أصحابه أحكام الدين بطريقة عملية كلما كانت هذه الطريقة هي الأجدى في تعليمها :

فلتعليمهم الوضوء لم يجلسهم أمامه ويكلمهم عن أركانه وسننه وآدابه وشروطه وإنما توضأ أمامهم ، وأمرهم بأن يتوضؤوا مثله ؛ وأصبحوا هم يعلمون غيرهم الوضوء بهذه الطريقة العملية البسيطة".

عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء (١٥٤) فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كل رجل ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال

٢٣٧

«من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (١٥٥).

ولم تختلف طريقة تعليم الغسل عن ذلك :

قال أبو سلمة : (دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة ، فسألها أخوها عن غسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت ، وأفاضت على رأسها ، وبيننا وبينها حجاب) (١٥٦).

وعائشة ـ رضي الله عنه ـ هي خالة أبي سلمة من الرضاع ، أرضعته أختها أم كلثوم ، وقد اغتسلت أمامهما بعد أن سترت أسافل بدنها مما لا يحل للمحرم النظر إليه وظاهر الحديث أنهما رأيا عملها في رأسها وأعالي جسدها مما يحل نظره للمحرم.

والحديث يدل بشكل واضح على أن التربية العملية هي الطريقة المفضلة في التربية كلما كانت ميسورة. وقد قال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث : «وفي فعل عائشة دلالة على استحباب التعليم بالفعل ، لأنه أوقع في النفس. ولما كان السؤال محتملا للكيفية والكمية ثبت لهما ما يدل على الأمرين معا : أما الكيفية فبالاقتصار على إفاضة الماء ، وأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع (١٥٧).

وكذلك علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه الصلاة بأن صلى أمامهم وقال لهم :

«صلوا كما رأيتموني أصلي» (١٥٨).

وكان أصحابه يعلمون التابعين الصلاة بهذه الطريقة :

حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال : جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال إني لأصلي بكم ، وما أريد الصلاة ، أصلي كيف رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي. فقلت لأبي قلابة : كيف كان يصلي؟ قال : مثل شيخنا هذا (١٥٩). والشيخ هو عمرو بن سلمة.

وحج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه ، وهم يقومون بما يقوم به من الأعمال. وقال لهم بعد أن علمهم الحج بالطريقة العملية ، حين رمي الجمرة :

«خذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه. (١٦٠) وهكذا نجد الاعتماد على العمل في التربية بشكل واضح ملموس في هذا المنهج. وقد احترم الإسلام العلم وكرم العمال ، بينما كان" أرسطو" ينظر إلى كل ما ينزع إلى فائدة عملية ومادية نظرة ازدراء ، ويرى فيه عبودية لا تليق بالإنسان ، ولم يعرض سوى الدراسات الفكرية التي تهدف إلى السمو بالروح وتزويدها بالأفكار الرفيعة (١٦١).

٢٣٨

وبذلك كان للمنهج الإسلامي في التربية فضل السبق على" لوثر" الذي نادى بأن تكون التربية العملية والعمل في إحدى المهن إلى جانب التربية النظرية ، ورأى أن يرسل الفتيان إلى المدرسة ساعة أو ساعتين في اليوم ، وأن يعلموا مهنة في البيت فيما تبقى من الوقت (١٦٢) وعلى" كومنيوس" الذي أطلق عليه بعضهم لقب المبشر الأول بالتربية الحديثة ، وامتازت طريقته بالعناية بالتمرينات العملية ، ورأى أن لا يكرر الدرس ويعاد على نحو آلي حتى يحفظ عن ظهر قلب ، بل أن يعتاد الطالب العمل المثمر والجهد الشخصي ؛ وقد قال في هذا المعنى : (إن أصحاب الحرف يعرفون هذه الحقيقة تمام المعرفة ، فليس بينهم من يقدم للمبتدئ دروسا نظرية عن مهنته ، بل تراهم يدعونه يتأمل ما يفعله المعلم ، ثم يضعون الآلات بين يديه ، ويعلمونه استخدامها. وبطرق الحديد يصبح المرء حدادا) (١٦٢)

كما كان له هذا الفضل على" لوك" المربي الإنكليزي الذي أراد أن يعلم تلميذه مهنة من المهن كالنجارة أو الزراعة ليهيء عن طريق هذا العمل الجسدي سلوى للفكر وفرصة للراحة والاسترخاء ، ويقدم للجسد تمرينا مفيدا ، ووجه عام ١٦٩٧ تقريرا إلى الحكومة الإنكليزية دعا فيه الى تنظيم بيوتات العمل للأطفال او الفقراء الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة والرابعة عشر ، حيث يعملون ويقدم لهم الغذاء (١٦٢).

وعلى" روسو" الذي قال في القرن الثامن عشر : إني لا أمل تكرار تلك الحقيقة ، وهي : إن جميع دروس الأطفال يجب أن تكون بطريق العمل لا بطريق الألفاظ ، لا تعلمهم شيئا من الكتب يمكن أن يتعلموه بطريق الخبرة (١٦٣).

وعلى" فروبل" الذي قال في القرن التاسع عشر : (إن الوقت قد حان لأن نرفع أي عمل إلى منزلة النشاط الحر ، أي نجعله عملا يدل على الذكاء. وبذلك يصبح للعمل الإنشائي في المدرسة غرض أعظم وأعمق من مجرد التدريب الحسي أو نمو المهارة أو التمرين الجسمي أو التلقين بطريقة آلية أو اكتساب المهنة أو الحرفة ، بل يصبح أبرز صورة للتعبير عن الأفكار ، وأوضح طريقة لتكوين العادات أو تشكيل الأخلاق) (١٦٣)

وحين يكرر الإنسان الأعمال التي تعلمها مرات عديدة تصبح عادة متأصلة في نفسه. والإنسان يخضع لعادات كثيرة في حياته ، يقوم بها تلقائيا دون أن يعيرها كبير انتباه. ولذلك يحرص المربون على تكوين العادات الحسنة وترك العادات السيئة ولقد نظم الإسلام حياة الناس تنظيما شاملا ، سواء في شعائرهم التعبدية أو في شؤونهم اليومية ، فجعلهم يعتادون البدء بالجانب الأيمن من أعضائهم في كل أمر حسن

٢٣٩

ففي الوضوء يسن غسل اليد والرجل اليمنى قبل اليسرى ، وفي الغسل يسن صب الماء على الجانب الأيمن من الجسم قبل الأيسر ، وحين تمشيط شعر الرأس أو حلقه يستحب البدء بشقه الأيمن ، وحين لبس الثوب يستحب إدخال اليد اليمنى في الكم قبل اليسرى ، وكذلك إدخال الرجل اليمنى في السراويل أو الجوربين والحذاء قبل الأخرى. وعلى العكس حين النزع يستحب البدء باليسرى ، وحين دخول المسجد تقدم الرجل اليمنى ، بينما تقدم الرجل اليسرى حين الخروج منه أو دخول الخلاء. والمسلم يستعمل يده اليمنى لتناول الطعام والشراب والمضمضة والاستنشاق ، وللمصافحة والآخذ والعطاء والكتابة ، ويستعمل اليسرى لإزالة الأقذار كالاستنثار والاستنجاء.

قال الإمام النووي : «يستحب أن يبتدئ في لبس الثوب والنعل والسراويل وشبههما باليمنى من كميه ورجلي السراويل ، ويخلع الأيسر ثم الأيمن وكذلك الاكتحال والسواك وتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والسّلام من الصلاة ودخول المسجد والخروج من الخلاء ، والوضوء والغسل والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود ، وأخذ الحاجة من الإنسان ودفعها إليه وما أشبه ذلك ، فكله يفعله باليمنى وضده باليسار».

وقال أيضا : «قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمنى في كل ما كان من باب التكريم والتزين. وما كان بضدهما استحب فيه التياسر (١٦٤).

والأصل في هذه الأحكام ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله (١٦٥) وطهوره في شأنه كله (١٦٦)».

وعنها قالت : «كانت يد رسول الله اليمنى لطهوره وطعامه. وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان به من أذى (١٦٧)».

كان ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يربي أصحابه على هذه العادات الحسنة والآداب الرفيعة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«إذا لبستم وإذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم (١٦٨)».

وعن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنهما ـ قال :

(كنت غلاما في حجر (١٦٩) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصفحة (١٧٠) فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا غلام! سم الله وكل بيمينك ، وكل مما يليك» فما زالت تلك طعمتي (١٧١) بعد» (١٧٢).

٢٤٠