منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ). (٢٥٤)

وتبدأ أحداث اليوم الآخر بالنفخ في الصور نفخة تؤدي إلى فناء الأحياء ، فلا يبقى سوى الملك الموكل بالصور وملك الموت الذي يقبض الأرواح وجبريل لفضله عند الله. ثم يأمر الله ملك الموت بقبض روح من بقي حيا ، ثم يميته ، فلا يبقى غيره جل جلاله.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (٢٥٥)

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (٢٥٦)

وبعد ذلك يحيي الله إسرافيل ويأمره بالنفخ ثانية فتحيا الخلائق ، ويخرج الأموات من قبورهم ، ويجتمعون للحساب :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ). (٢٥٧)

ويكون البعث بالروح والجسد بدليل قوله سبحانه :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٢٥٨)

ويعلم المجرمون يومئذ صدق الرسل الذين دعوهم إلى الإيمان :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٢٥٩) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٦٠)

ويطرأ تغيير هائل على الكون في ذلك اليوم ، إذ تنشق السماء ، وتنطمس النجوم ، وتجمع الشمس والقمر ، وتمد الأرض ، وتزول الجبال ، وتفجر البحار ، قال الله تعالى :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٢٦١).

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (٢٦٢) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢٦٣) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ). (٢٦٤)

١٠١

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٢٦٥)

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ). (٢٦٦)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (٢٦٧) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ). (٢٦٨)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها (٢٦٩) وَحُقَّتْ (٢٧٠) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٢٧١)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ. وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (٢٧٢) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٢٧٣)

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٢٧٤). وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ (٢٧٥) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) (٢٧٦)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً. فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (٢٧٧) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً). (٢٧٨)

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٢٧٩) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٢٨٠)

ويتفاقم الخطب على الناس في ذلك اليوم ، ويعظم الأمر ، حتى يتمنوا أن يذهبوا إلى النار ، ولا يبقوا يعانون من أهواله :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ (٢٨١) كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). (٢٨٢)

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً). (٢٨٣)

وذلك اليوم طويل جدا على الكافرين والظالمين ، ويتراوح الشعور بطوله بحسب حال المرء :

(وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). (٢٨٤)

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). (٢٨٥)

١٠٢

أما المؤمنون الصالحون فلا يشعرون بطول ذلك اليوم ، ولا يخافون كغيرهم من الناس. بل تنزل عليهم الملائكة تبشرهم ، وتبعد عنهم الهم والحزن :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ). (٢٨٦)

ويتمنى الإنسان في ذلك اليوم أن ينجو بنفسه ، ولا يهتم بمصير أقرب الناس إليه

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). (٢٨٧)

ويومئذ تنقطع الصلات بين الناس إلا ما كان منها لله تعالى ، فالأصدقاء يصبحون أعداء ، ما لم يكن حب الله هو سبب صداقتهم :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ). (٢٨٨)

بل يتمنى المذنب أن يفتدي نفسه من العذاب بأعز الناس عليه :

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ (٢٨٩) الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ). (٢٩٠)

ولو حاول المسيء أن يدفع عن نفسه العذاب بالتماس الشفاعة من غيره أو بدفع الفدية ، فلا يقبل منه :

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ). (٢٩١)

ولو بذل الكافر كل ما في الأرض لما نجا من العذاب

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ). (٢٩٢)

ولا ينفع الإنسان في ذلك اليوم إلا إيمانه وعمله :

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). (٢٩٣)

وبعد الحشر هناك الحساب على كل صغيرة وكبيرة.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً (٢٩٤). وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ (٢٩٥) مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما

١٠٣

خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً. وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ (٢٩٦) مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). (٢٩٧)

ثم يوضع ميزان الأعمال ، ويجازى الإنسان على كل ذرة من خير أو شر :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). (٢٩٨)

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٢٩٩)

ويناول كل إنسان كتاب أعماله ، فالصالح يعطى كتابه بيمنه ، ويحاسب حسابا سهلا. والمسيء يعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، فيخسر خسرانا كبيرا :

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ) (٣٠٠) اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. قُطُوفُها دانِيَةٌ) (٣٠١)

كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية. وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه. (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ). (٣٠٢)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ (٣٠٣) إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (٣٠٤) وَيَصْلى سَعِيراً). (٣٠٥)

وحينئذ يدعو الكافر على نفسه بالهلاك ، ويتمنى أن لا يكون له وجود :

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). (٣٠٦)

ومن ثقلت حسناته كان من السعداء ومن ساء عمله كان من الأشقياء :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ. تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ). (٣٠٧)

١٠٤

والصالحون يدخلون الجنة ، ويجتمعون فيها بأزواجهم وذرياتهم وأصحابهم الصالحين ، وينعمون فيها أبدا. أما المجرمون فيدخلون النار ، ويعذبون فيها أبدا.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٣٠٨) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ (٣٠٩) وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ. إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ (٣١٠) عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٣١١) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٣١٢) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). (٣١٣)

الآثار التربوية :

للإيمان باليوم الآخر أعظم الآثار التربوية بعد الإيمان بالله ، فهو يجعل الإنسان صالحا طيلة حياته ، يفعل الخير في جميع أحواله ، ويريده لكل الناس حتى الذين يقابلونه بالشر ، لعلمه بأن كل واحد يجازى على عمله.

وهو يجعل الشخص يتحمل المسؤولية ، ويقوم بالواجب على أكمل وجه ويجعله يصبر على الشدائد ، ويحتمل المشاق لتحقيق ما يعود عليه وعلى غيره بالنفع. ثم إنه يوجه إرادته نحو ما هو خير ، ويضبط غرائزه ويتحكم في دوافعه ؛ فلا يفعل إلا ما يرضي الله عزوجل.

والإيمان باليوم الآخر يجعل المرء حريصا على قول الحق وتأييد العدل ونصرة المظلوم ومساعدة الضعيف ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن الله أمره بهذه الأعمال ، ووعده بالمثوبة عليها.

ويجعل المؤمن ـ يجاهد بماله ونفسه في سبيل الله لرد العدوان وقمع الظلم ونشر الدين ، لإيمانه بأن ما ينفقه من ماله يجده أحوج ما يكون إليه ، وأنه إذا جاد بنفسه في سبيل الله فإن روحه تصعد إلى بارئها ، وتكون جنات الفردوس مثواها.

وهذا ما يجعل المجتمع في غاية القوة والصلاح ، ويجعل الأمة في أوج العزة والمنعة

١٠٥

٦ ـ الإيمان بالقضاء والقدر

القضاء هو حكم الله الأزلي في الكون والإنسان والحوادث على النحو التي ستوجد عليه المخلوقات وتقع فيه الحوادث.

والقدر هو وجود الأشياء ووقوع الحوادث وفق حكم الله فيها.

فقد قرر الله ـ سبحانه ـ كل ما سيخلقه ، وكل ما سيطرأ على مخلوقاته وما سيقع من حوادث. ولا يخلق شيء ، ولا يوجد كائن ، ولا يولد إنسان أو يموت ، وما تحمل من أنثى أو تضع حملها ، وما يمد من الأجل لكل حي ، أو ينقص منه إلا هو مكتوب من قبل :

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣١٤)

حتى البذرة التي توضع في الأرض والورقة الساقطة من الشجر وجميع ما في البر والبحر والأرض والسماء ، كل ذلك لا يوجد إلا وفق قضاء الله تعالى ولا يقع إلا كما هو مكتوب. قال تعالى :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣١٥)

والآيات الدالة على القضاء والقدر كثيرة منها :

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). (٣١٦)

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً). (٣٠٧)

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ). (٣١٨)

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ). (٣١٩)

فقد دلت هذه الآيات على أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قدر كل شيء بحجمه وشكله ومقداره. ولا يوجد شيء إلا حسبما هو مقدر ، ووفق المقادير الموضوعة له في الوقت المحدد.

وما يقع لإنسان من خير أو شر مقدر أيضا. قال تعالى :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (٣٢٠) وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). (٣٢١)

١٠٦

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها (٣٢٢) إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (٣٢٣)

أي إن الله تعالى قدر وقوع المصيبة ، وأمر بكتابتها من قبل وقوعها ومن قبل خلق الأرض والأنفس.

وتوجد أحاديث نبوية كثيرة تدل على القضاء والقدر ، منها :

١ ـ عن علي ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع : بالله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله ، وبالبعث بعد الموت ، والقدر» (٣٢٤)

٢ ـ وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (٣٢٥)».

٣ ـ وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» (٣٢٦).

٤ ـ وقال عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ لابنه :

«يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب فقال : رب وما ذا أكتب؟ فقال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة».

يا بني إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات على غير هذا فليس منى» (٣٢٧).

٥ ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة (٣٢٨)»

أي أمر بكتابة المقادير في اللوح المحفوظ كما علم وأراد قبل خلق الأشياء بتلك المدة.

٦ ـ وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين

١٠٧

يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك. ثم ينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد. فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها. وإن أحدكم ليعلم بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها (٣٢٩)».

والإيمان بالقضاء والقدر لا يجعل الإنسان فاقدا للقدرة والإرادة ، ولا يسلبه حريته في اتخاذ قراراته وتحديد مواقفه. فقد ترك الله للإنسان حرية الاختيار بين الكفر والإيمان :

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ). (٣٣٠)

وليس لأحد من رسول أو غيره سلطة لإجبار الناس على الإيمان ، فلو شاء الله لجعل الناس جميعا مؤمنين ، ولكنه تركهم وشأنهم ليلقى كل واحد جزاءه :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). (٣٣١)

ولا يجوز لأحد أن يتعلل بالقضاء والقدر ، ويحتج بمشيئة الله في الشرك به وارتكاب المحرمات ، كما فعل المشركون من قبل :

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا (٣٣٢) قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (٣٣٣) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ. فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). (٣٣٤)

فقولهم هذا بعيد عن الحقيقة ، مجرد من البرهان وما هو إلا رجم بالغيب وتقليد للسابقين ومصير كل من قال به العذاب الشديد. وليس لأحد أن يحتج بمثله ؛ فقد أقام الله الحجة على عباده ، وبلغهم الرسل ما نزل إليهم من الحق.

ومشيئة الإنسان من مشيئة الله ، فهو الذي منحة القدرة على العمل والحرية في أقواله وأفعاله ، ومشيئته ـ تعالى ـ مطلقة ، وعلمه لا يحد ، ورحمته وسعت كل شيء (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً). (٣٣٥)

وعلى هذا فإن كل ما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة يصح نسبته إلى الله

١٠٨

تعالى ، لأنه هو المقدر له ، وهو الذي ألهم الإنسان ما يعمله ، ومنحه القدرة التي تمكنه من العمل. وقد ندد الله ـ سبحانه ـ بالمنافقين الذين كانوا يعتبرون الخير من الله ، ويجعلون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سببا في الشر الذي يصيبهم وبين أنهما من عند الله. فقال :

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً). (٣٣٦)

ومع ذلك فليس من الأدب أن تنسب السيئة إلى الله عزوجل ، لأن الإنسان هو الذي سعى إليها ، وكان سببا في وقوعها :

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٣٣٧)

والمصائب تنزل على الإنسان بسبب ذنوبه وتقصيره في واجباته ، أو بسبب إهماله وقلة احتياطه. ولو لا عفو الله عنا لأصابنا كثير منها.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٣٨)

والنتيجة أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يعفي الإنسان من المسؤولية عن عمله ، غير أن مسؤوليته لا تتعلق بالجوانب الخارجة عن إرادته كطول قامته ولون بشرته ، وإنما يسأل عن الواجبات الشرعية والتكاليف الملقاة عليه. فإن قام بواجباته وأخلص في عمله استحق الثواب ، وإن ضيع الأمانة وغش في عمله ، وفعل ما نهي عنه ، وترك ما أمر به استحق العقاب.

آثار الإيمان بالقضاء والقدر :

إن لهذا الركن من أركان الإيمان آثارا نفسية وتربوية على غاية الأهمية ، إذ أنه

١ ـ يمنع اليأس والحسرة حين يحاول الإنسان تحقيق شيء ، ويفشل فيه. ويجعله يرضى بالنتيجة التي قدرها الله ، فهو أعلم منه بمصلحته :

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٣٣٩)

١٠٩

وهذا ما يجعل الإنسان يبذل جهده ويستعين بربه لتحقيق ما ينفعه.

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجر. وإذا أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل. فإن" لو" تفتح عمل الشيطان» (٣٤٠)

٢ ـ يقضي على الغرور والاختيال حين النجاح : فإذا أراد المؤمن تحقيق شيء ، ووفق فيه ، فإنه يعلم أن الفضل لله في تقدير ذلك ، وفي عونه عليه ؛ فيبقى متواضعا شاكرا لأنعم الله الذي قال :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلا تَأْسَوْا (٣٤١) عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ). (٣٤٢)

٣ ـ يطهر القلب من الحسد : فحين تعلم أن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق ليبلوهم فيما آتاهم ، فإنك لا تحسد من هم أحسن حالا منك ، وإنما نرضى بما قسم لك ، وتحمد الله على فضله.

٤ ـ يؤدي إلى الإقدام والشجاعة : فالأعمار مقدرة ، والآجال محتومة ، وهذا يجعل المؤمن يجاهد بشجاعة لنصرة الحق وإزهاق الباطل ، لا يهاب الموت ، ولا يفر من لقاء العدو :

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً). (٣٤٣)

٥ ـ يجعل الإنسان قوي الإرادة ماضي العزيمة : فهو يعلم أن مصيره بيد الله وحده ، فيتوكل عليه ، ويسير بخطوات ثابتة إلى غايته ، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ). (٣٤٤)

٦ ـ يجعل النفس راضية مطمئنة : وكيف لا ترضى وتطمئن وهي تعلم أن الله هو الذي يعطي ويمنع ، ويعز ويذل ، والخير بيده ، وهو على كل شيء قدير! وأي جوار يلجأ إليه الضعيف أمنع وأعز من اللجوء إلى الله القوي العزيز والتوكل عليه :

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

١١٠

قَدِيرٌ. تُولِجُ (٣٤٥) اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (٣٤٦)

وبذلك يكون الإيمان بالقدر بلسماء لشفاء الجروح التي يصاب بها المرء حين يقوم بالمهام الصعبة ، وبرءا للنفوس حين يصيبها الإعياء والسقم وهي تتصدى للمخاطر الجسيمة ، وكابحا لنزوات الفرد من أن تجعله يخرج عن الطريق. فبينما ينهار الكافر إذا أصابه مكروه ، ويختال إذا أصابه خير ، وينقطع عن العمل مدة طويلة بسبب يأسه وتحسره في الحالة الأولى ، أو بسبب فرحه وسروره الذي يجعله يميل إلى الملذات ، ويقيم الاحتفالات في الحالة الثانية ؛ فإن المؤمن يستمر في العمل المجدي الذي يعود بالنفع عليه وعلى أمته :

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٣٤٧)

وبينما يمتلئ قلب الكافر بالحسد إذا رأى من فضل عليه في الرزق ، وتطير نفسه شعاعا إذا سيق إلى ساحة الوغى ، وتجده ضعيفا خائرا في ساعة العسرة ، وشاكيا ناقما حين المصيبة ؛ فإن المؤمن طاهر القلب ثابت الجنان ، مطمئن النفس ، صابر شاكر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير وليس ذلك لغير المؤمن إذا أصابه سراء شكر فكان خيرا له ، وإذا أصابه ضراء صبر فكان خيرا له» (٣٤٨)

وهذا ما يؤدى إلى سعادة الفرد وفلاحه ورقي الأمة وتقدمها.

وهكذا يتجلى أن الإيمان بالله ليس وهما ولا خرافة ، بل هو حقيقة ثابتة وقضية مسلمة ، لا يماري فيها أي عاقل : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣٤٩)

وليس الإيمان سببا للجمود ولا عائقا عن الرقي ، وليس صلة خاصة بين الإنسان وربه دون أن يكون لها علاقة بالحياة ؛ فالإيمان أساس في التربية ومنطلق في الإصلاح ودعامة لكل خير وفضيلة.

وليس العمل بالتعاليم التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مانعا من مسايرة العصر والتقدم ، بل مانعا من الزيغ والضلال ومن الانحراف والفساد.

واتباع الرسل يصون جهود الإنسان من التبعثر ، ويقيه شر التخبط بالسير على الطرق التي يحسب أن فيها نجاته ؛ فيوفر جهده ووقته لإنجاز ما يعود عليه بالنفع ،

١١١

وهو مطمئن النفس ، واثق من حصوله على حقوقه ، ومن درء الظلم والعدوان ، ونشر العدل والأمن.

وليس الإيمان باليوم الآخر صارفا للإنسان عن تحسين أحواله في الدنيا ولا يوجد تعارض بين العمل للآخرة والعمل لإصلاح الحياة الدنيا ، فطريقهما واحد ، والسعي لهما مشترك :

(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ). (٣٥٠)

ولا يمكن إصلاح الدنيا وتحقيق سعادة الناس فيها ما لم يؤمنوا بأنها طريق يسافرون عليه للوصول إلى الدار الآخرة ، وما لم يتزودوا بالزاد الذي ينفعهم لذلك السفر الطويل قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ). (٣٥١)

وليس الإيمان بالقدر سببا لجعل الإنسان مستسلما للمصادفات ، ولا لجعله ضعيفا خاضعا للأقوياء ، ولا لجعله هائما حائرا كالريشة في مهب الريح ؛ بل يجعله قويا صامدا وشجاعا صابرا ومطمئنا راضيا ، ينصر الحق ويقاوم الظلم ، ويعمل الخير ، ويقمع الشر وبذلك تكون العقيدة الإسلامية أكبر عامل في التربية الروحية ، ويكون من الواجب الاعتماد عليها في كل تربية هادفة وفي كل إصلاح منشود.

* * *

١١٢

ثانيا : العبادات

العبادة هي طاعة الله تعالى والخضوع المطلق له ، وهي تشمل فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه. ولكنا نقتصر في هذا البحث على العبادات التي فرضها الله علينا ، وجعلها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أركان الإسلام بقوله :

«بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع له سبيلا» (٣٥٢).

والعبادة مظهر للعقيدة : فالشهادتان تعبير باللسان عن الإيمان بالله ورسوله ، والصلاة تعبير عن الإيمان بأقوال وأفعال معينة ، والصوم تعبير عنه بالامتناع عن المفطرات ، يرمز إلى اجتناب المحرمات.

والزكاة عبادة مالية ، والحج عبادة بدنية ومالية. وكل هذه العبادات تدل على وجود الإيمان في قلب من يقوم بها بشرط أن تكون خالصة لوجه الله تعالى ، أما إذا لم تصحبها النية الخالصة لله ، فتكون مجرد أعمال ظاهرية لا تنفع صاحبها شيئا عند ربه ويكون مثلها مثل شجرة اجتثت من فوق الأرض لا تعطي شيئا من الثمار ، ولا يستقر لها قرار ، فسرعان ما تعصف بها الريح.

وبالمقابل فإن العبادة تؤدي إلى ترسيخ العقيدة وزيادة الإيمان ، إذ أن الإيمان يبقى فكرة ضعيفة باهتة حتى يدفع الى العبادة ، فإذا فعلت العبادات قوي الإيمان ، واستقر في القلب. ولذلك اقترن الإيمان بالعبادات في كثير من أي الذكر الحكيم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (٣٥٣)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ). (٣٥٤)

وللعبادة أعظم أثر تربوي ، إذ أنها تبعث على الاستقامة ، وتقوي الشعور بمراقبة الله تعالى ، حتى يصل العبد إلى درجة الإحسان التي أخبر عنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٣٥٥).

١١٣

والإنسان الذي يوقن بأن عين الله لا تغفل عنه هو صالح في السر والعلانية ، يقوم بكل ما أمر به ، ويترك ما نهي عنه. هذا هو الأساس في تقدم الأمم ورقي الشعوب.

كما إن العبادات تنشئ الإنسان المعتدل المتوازن في تصوره وسلوكه الذي يعطي كل جانب من جسمه وعقله وروحه حقه ، ويعمل لدنياه وآخرته ، وبذلك تنسجم العلاقة بينه وبين نفسه ، وبينه وبين الناس الآخرين ، كما يحصل الانسجام بينه وبين هذا الكون الذي يعيش فيه ، والذي لا يخرج على النواميس التي وضعها الله له ، فهو مطيع عابد لله :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣٥٦)

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣٥٧)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ). (٣٥٨)

وتسبيح الكائنات وسجودها لله إما أن يكون بكيفية مناسبة لها ، يعلمها الخالق سبحانه وإن خفيت علينا ، أو يحمل على خضوعها له ، وعدم امتناعها عن القيام بما خلقت لأجله.

وبذلك يكون الإنسان العاصي لله المستنكف عن عبادته شاذا في هذا الوجود. وهذا ما يجعله على شقاق مع نفسه التي بين جنبيه وعلى شقاق مع الناس والأشياء كلها. وأنى يجد السعادة من كانت هذه حاله!

أما المؤمن المطيع لله فهو الذي يفوز برضاه ، ويسعد بجواره ، ويتلاءم مع مخلوقاته ، لأنه يحقق الغاية التي خلق من أجلها ، ويحسن الاستفادة من الأشياء التي سخرت له.

ولكل من العبادت المفروضة آثار تربوية خاصة بها ، نجملها فيما يلي :

١١٤

١ ـ الصلاة

تعتبر الصلاة أعظم صلة للإنسان بربه. وهي لغة بمعنى الدعاء. وشرعا : أقوال وأفعال محددة بنية عبادة الله تعالى ، تبدأ بالتكبير وتختتم بالتسليم. ولقد شرعت الصلاة من أول الدعوة إلى الإسلام ، إذ أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بقيام الليل في أوائل السور التي أنزلت عليه ، وذلك في قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (٣٥٩) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٣٦٠)

ولقد علم الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإيمان لا يكون بغير عبادة الله ، فكانوا يقومون الليل معه من قبل أن يؤمروا بذلك ، حتى نزلت الآية في الثناء عليهم والتخفيف عنهم :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى (٣٦١) مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ (٣٦٢) يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ (٣٦٣) وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ). (٣٦٤)

ثم فرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج لتكون معراجا للمؤمن بروحه كلما وقف بين يدي ربه. ومع أنها كسائر التكاليف الشرعية تفرض على المسلم من سن البلوغ ، فإن الطفل يؤمر بها من أول سن التمييز لقوله عليه الصلاة والسّلام :

«مروا أولادكم بالصلاة ، وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها ، وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع» (٣٦٥)

والمقصود من هذا الأمر في تلك السن المبكرة أن ينشأ المسلم معتادا لها ، وأن يبقى محافظا عليها طيلة عمره. إذ أن الصلاة لا تسقط عن المسلم بأي حال سواء أكان فقيرا أم غنيا ، مريضا أم معافى ، عاجزا أم قادرا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب» (٣٦٦).

١١٥

فهي بحق أم العبادات وعماد الدين. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«الصلاة عماد الدين ، فمن تركها فقد هدم الدين» (٣٦٧).

ويقدر ما للصلاة من أهمية فإن لها آثارا تربوية عظيمة في النواحي الجسمية والروحية والخلقية والاجتماعية :

أ) ـ فمن الناحية الجسمية : تتجلى فائدة الصلاة في جعل الجسم نظيفا نشيطا ، إذ أن الطهارة شرط لصحتها ، فتبقى ثياب المسلم طاهرة نظيفة ؛ وهو يحافظ على طهارة جسمه ، ويزيل ما يعلق عليه من النجاسات ، ويغسل الأعضاء والأطراف المكشوفة منه كل وضوء ؛ مما يقيه شر الجراثيم والأوساخ التي تلوث الجلد : والمضمضة والسواك وسيلتان لتنظف الفم ووقاية الأسنان.

والاستنشاق والاستنثار يؤديان إلى طرح الأوساخ من الأنف والمحافظة على صحة جهاز التنفس ومنع الإصابة بالحميات الراشحة إلى حد كبير. وغسل الوجه يجعله في غاية النضارة والإشراق ، ويقي العيون مما يتجمع حولها من الأوساخ ، والتخليل بين أصابع اليدين والقدمين يمنع أسباب العفونة ، وينشط الدورة الدموية.

والصلاة رياضة خفيفة مناسبة لكل الأعمار وكل الناس علي اختلاف قدراتهم ، تؤدي إلى حركة معظم أعضاء الجسم ، وتجعل مفاصله لينة سهلة الحركة ؛ ولولاها لتصلبت الأعضاء والمفاصل التي لا يحركها الإنسان أثناء قيامه بأعماله المعتادة. ثم إن كثيرا من الناس يقضون وقتا طويلا حين عملهم في حالة الوقوف أو الجلوس ؛ مما يعرقل رجوع الدم من الساقين إلى القلب ، ويعرضهم للإصابة بالدوالي ، ومما يلقي على القلب حملا ثقيلا ليدفع الدم إلى الدماغ الذي يحتاج إلى الغذاء والأكسجين بمقدار خمس حاجة الجسم كله.

وحين الركوع يصبح الرأس في مستوى القلب ، فيسهل دفع الدم إليه. وحين السجود يصبح القدمان في مستوى القلب ، فيسهل رجوع الدم منهما. وهكذا تؤدي الصلاة إلى تنشيط الدورة الدموية والوقاية من الإصابة بتصلب المفاصل ودوالي الساقين كما إن الاستيقاظ باكرا لصلاة الصبح يجعل الجسم سليما نشيطا.

ب) ـ ومن الناحية الروحية والنفسية والخلقية : تؤدي الصلاة إلى تكفير السيئات ومغفرة الذنوب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (٣٦٨).

وهذا يؤدي إلى سمو الروح واطمئنان النفس لفوزها برضا الله وجنته. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١١٦

«خمس صلوات كتبهن الله على العباد ، فمن جاء بهن ، ولم يضيع منهن شيئا استخفاقا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة.

ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة» (٣٦٩).

كما تؤدي إلى تهذيب النفس والبعد عن الفواحش والمنكرات ، فكيف يفعل الفواحش من يتضرع إلى ربه ويناجيه ، ويعلم أنه مطلع عليه ومراقبه ، قال الله تعالى :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ). (٣٧٠)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا (٣٧١)».

ثم إن الصلاة تعين على مجابهة الصعاب وتحمل المشاق. قال الله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). (٣٧٢)

ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى. (رواه أحمد وأبو داود عن حذيفة).

والصلاة تريح الإنسان مما يعانيه من هموم الحياة ، وتضع عن كاهله ما ينوء بحمله من الأثقال ؛ لأنه يفوض الأمر إلى الله ، ويستمد منه العون والتوفيق ، فيصبح قرير العين مسرور الفؤاد. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حبب إليّ الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة (٣٧٣)».

وكان يقول لمؤذنه حين يدخل وقتها : «أرحنا بها يا بلال» (٣٧٤).

وهي تعين على تركيز الذهن ، لأن المصلي يصرف وساوس الشيطان عن نفسه ويطرد هموم الدنيا من قلبه ، ويركز ذهنه على التفكير في معاني الآيات التي يقرؤها أو يسمعها من إمامه ، ويحصر نشاطه العقلي في مناجاة الله والتضرع إليه. وتركيز الذهن وحصر القوى العقلية في موضوع يؤدي إلى وضوحه وفهمه. وبدون ذلك لا يكون هناك إبداع ولا اختراع.

ويمكننا أن نضيف إلى هذه الناحية أيضا أن الصلاة تعلم النظام واتقان العمل فحين يحافظ المسلم على الصلوات في أوقاتها ، ويقيم الصلاة بدون إخلال بشيء من أركانها وسننها فإنه يتعلم أن يقوم بواجباته كلها في الأوقات المحددة له وعلى أحسن وجه. ولهذا الأثر أهميته في إعداد النفوس وبناء الحضارة.

ج) ـ وتتجلى آثار الصلاة الاجتماعية حين يجتمع المسلمون في بيوت الله ،

١١٧

ويجلس الفقير إلى جانب الغني ، والصغير إلى جانب الكبير والضعيف إلى جانب الشريف ، ويقفون في صفوف متراصة ، ويتابعون الإمام في القيام والركوع والسجود والجلوس كجسم واحد ؛ فتتحقق بينهم المساواة ، وتنشأ بينهم الألفة ، ويتعارفون فيما بينهم ، ويتعاونون على ما فيه صلاحهم.

والإنسان يميل إلى الاجتماع بالآخرين. والصلاة تمكنه من أن يجتمع بأبناء حيه أو بلده عدة مرات في اليوم ؛ فيعرف بعضهم بعضا ، ويتفقدون الغائب منهم ، فيعودونه إن كان مريضا ، ويعينونه إن كان محتاجا إلى العون ، ويهنئونه إن أصابه خير ، ويواسونه إن أصابه شر.

وفي بيوت الله يلتقي الأمير بالرعية ، وهو في الغالب يؤمهم في الصلاة ، وهم يقتدون به ؛ فيتعلمون طاعته والاستماع إليه ، وينصحونه ولا يبخلون عليه بالرأي السديد ، ويرفعون إليه مظالمهم ؛ وبذلك ينتشر العدل ويقضى على الظلم ، وتنهض البلاد.

ولهذا كانت «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة (٣٧٥)»

* * *

١١٨

٢ ـ الزكاة

الزكاة لغة : الطهارة والنماء ، فهي طهارة معنوية للنفس البشرية ، ونماء للمال والعلاقات الإجتماعية ،

وشرعا : إخراج مال معلوم إلى مستحقيه بشروط معينة.

والمال الذي تجب فيه الزكاة هو المعد للاستثمار كالنقود والمزروعات والأنعام وعروض التجارة. أما المعد للانتفاع الشخصي كالألبسة ودار السكن فلا زكاة فيها.

ومن شروط وجوب الزكاة أن يبلغ المال نصابا ، فإذا نقص عن قدر معين فلا زكاة فيه. وتقوم النقود المتداولة وعروض التجارة بالذهب أو الفضة ، لأنهما الأساس في قيمة الأشياء ، وقد غلب التقويم بالذهب في هذا العصر. ونصابه عشرون مثقالا ، تعادل ستة وسبعين غراما. وتختلف قيمته من عام إلى آخر.

ونصاب الفضة مائتا درهم ، يبلغ وزنها خمسمائة وأربعين غراما.

ويشترط أيضا أن يحول الحول ، أي أن تمضي سنة قمرية على ملك النصاب ، فلا تجب الزكاة سوى مرة كل عام ، وهذا في النقود وعروض التجارة والأنعام. أما المزروعات فتجب زكاتها مرة واحدة عند جمع محصولها لقوله تعالى :

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ). (٣٧٦)

ونسبة الزكاة الواجبة في الذهب والفضة والنقود وعروض التجارة هي ٥ ، ٢% ، وفي المزروعات المسقية بكلفة ، كأن تحتاج إلى مضخة أو حيوان أو جهد لإخراج الماء ، تجب بنسبة ٥% ، وفي المزروعات البعلية أو المروية بدون كلفة ١٠% لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا (٣٧٧) العشر ، وما سقي بالنضج نصف العشر» (٣٧٨).

وقد جعل الله ـ جل شأنه ـ بعض الناس قادرين وبعضهم ضعفاء ، وجعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، ليمتحنهم فيما منحهم : يمتحن الغني هل يشكر لله ويعطي الفقير حقه أم لا ، ويمتحن الفقير هل يرضى بما قسمه الله له ويتصف بالعفة أم يسخط ويحسد الغني. قال تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ

١١٩

دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). (٣٧٩)

ومما يدل على أهمية الزكاة أنها اقترنت بالصلاة في كثير من الآيات. قال تعالى في صفات المتقين :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ). (٣٨٠)

وقال سبحانه في وصف المؤمنين :

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٣٨١)

وقال في غاية قتال المشركين : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٨٢)

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (٣٨٣)

وقال آمرا بهما :

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ). (٣٨٤)

وقال آمرا بالإخلاص في العبادة :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ). (٣٨٥)

وقال مرغبا في العبادات ، والأعمال الصالحة :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٣٨٦)

وللزكاة آثار تربوية من الناحية النفسية والاجتماعية كبيرة :

١) فهي تستأصل من نفس الغني الشح وتجعله سخيا كريما. قال تعالى :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). (٣٨٧)

٢) ـ وهي تستأصل من نفس الفقير الحسد والطمع ، وتجعله عفيفا راضيا. فالفقير يسخط حين يرى نفسه محروما ، ويرى غيره موسعا عليه في الرزق ، ويتمنى زوال نعمة الغني ليصير مثله. أما حين يرى الغني يعطيه جزءا من ماله ، فإنه يقنع بما رزقه الله ، ويصبح عفيف النفس.

١٢٠