منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

وهي لا تنام ولا تنقطع عن عبادة الله وتسبيحه.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١١٤) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١١٥)

والملائكة لا يتزوجون ولا يتناسلون ، وليسوا ذكورا ولا إناثا.

وقد ندد الله بالمشركين لزعمهم أن الملائكة إناث :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى. وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً). (١١٦)

فقد جعل الله الناس ذكورا وإناثا ليتزوجوا ويتناسلوا ، أما الملائكة فلم يجعلهم الله مثلنا. وقد خلقهم جميعا قبل خلق أبينا آدم عليه‌السلام ، بدليل قوله سبحانه :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). (١١٧) وعدد الملائكة كثير لا يعلمهم إلا الله :

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). (١١٨)

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون. إن السماء أطت ، وحق لها أن تئط. ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله» (١١٩).

وليس في الملائكة من يعصي الله ويمتنع عن طاعته :

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١٢٠)

وأعمال الملائكة كثيرة ومتنوعة أهمها :

١ ـ تسجيل أعمال الناس وأقوالهم. قال تعالى :

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢١)

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (١٢٢)

٢ ـ تبليغ الوحي إلى الرسل :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ). (١٢٣)

وملك الوحي هو جبريل عليه‌السلام :

٨١

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). (١٢٤)

وهو المسمى بالروح الأمين :

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٢٥)

كما سماه الله روح القدس ، أي الروح الطاهرة المقدسة ، وذلك في قوله :

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). (١٢٦)

٣ ـ قبض الأرواح. والمكلف بذلك عزرائيل عليه‌السلام

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٢٧)

٤ ـ النفخ في الصور والمكلف بذلك اسرافيل عليه‌السلام :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١٢٨)

٥ ـ حمل العرش والتسبيح بحمد الله والدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). (١٢٩)

٦ ـ تثبيت المؤمنين حين يقاتلون في سبيل الله. ففي غزوة بدر استغاث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته بالله فأمدهم بالملائكة :

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). (١٣٠)

والملائكة جميعهم مطيعون لله خائفون منه :

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (١٣١)

٨٢

الآثار التربوية للإيمان بالملائكة :

١ ـ يؤدي الإيمان بالملائكة إلى سمو الإنسان وترفعه عن الشهوات. فحين يعلم بوجود مخلوقات لا تأكل ولا تشرب ولا تنقطع عن عبادة الله ، لا يجعل الطعام والشراب وسائر الملذات غاية حياته ، بل يرتفع فوق الحاجات المادية ، ويهتم بمعالي الأمور. وهذا ما يجعله أكثر صلاحا وأحسن تربية.

٢ ـ كما إن الإيمان بالملائكة يجعل الإنسان مستقيما مخلصا في عمله بعيدا عن الغش والخداع وعن الأذى والعدوان ، وذلك لعلمه بوجود من يحصي عليه أنفاسه ويكتب كل ما يقوله ويفعله.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والتعري ، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل الى أهله ، فاستحيوهم وأكرموهم (١٣٢)»

والحياء من الملائكة يكون بستر العورة والامتناع عن القول الفاحش والأعمال السيئة. وإكرامهم يكون بالستر الجميل والطيب والطاعات والذكر وتلاوة القرآن وحضور مجالس العلم.

٣ ـ وحين يعلم المؤمنون بأن الله يمدهم بمن يقاتل معهم حين يجاهدون في سبيله إذا استعدوا للقاء عدوهم ما استطاعوا ، وتجهزوا بما في وسعهم وتوكلوا على الله حق التوكل ، فإنهم يصبحون أكثر شجاعة وأشد جرأة وهذا يؤدي إلى قوتهم المعنوية وعزتهم ونصرهم.

٨٣

الجن

والجن أيضا مخلوقات خفية لا ترى على حقيقتها. ولكنهم يأكلون ويشربون ، وهم يتزوجون ويتناسلون ولقد خلقهم الله قبل آدم من نار :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (١٣٣) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ). (١٣٤)

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ). (١٣٥)

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم (١٣٦)»

ونار السموم هي أحسن النار وأقواها ، وهي نار لا دخان لها تنفذ من المسام. ومارج من نار : أي ألسنة النار ولهبها الخالص من الدخان.

والجن كالإنس مكلفون بعبادة الله ، وفيهم المؤمن الصالح والكافر الفاجر ، بدليل قوله تعالى على لسان الجن :

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ ، كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً). (١٣٧)

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ (١٣٨) فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً. وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). (١٣٩)

والكفرة الفجرة منهم هم الشياطين الذين حذرنا الله من غوايتهم وعلى رأسهم إبليس ـ عليه اللعنة ـ الذي بدأت عداوته لآدم منذ امتناعه عن السجود له ، وطرده من رحمة الله بسببه :

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً). (١٤٠)

والإيمان بالملائكة والتصديق بوجود الجن يوسع من مدارك الإنسان ومن الآفاق التي يفكر فيها. فيعلم أنه ليس المخلوق الوحيد الذي يقوم بعبادة الله في هذا الكون ويعلم أن الوجود لا يقتصر على الأشياء التي يراها ويحس بوجودها ، فهناك عالم الغيب وعالم الشهادة. وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة

٨٤

الإيمان بالكتب السماوية

أنزل الله كتبا على بعض رسله لتبين لهم ما يحتاجون إليه من أمور العقيدة ، وعالم الغيب ، ولتدلهم على كيفية العبادة ، وتشرع لهم نظاما للمعاملات ومبادئ لتحقيق العدل ومنع الظلم ، ولتكون سجلا لأحكام الدين ، يرجع إليه المؤمنون بعد وفاة الرسول الذي أنزل عليه الكتاب ، فلا يلتبس عليهم شيء من أحكامه ، ولا يختلفون على شيء من تعاليمه. قال الله تعالى :

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤١)

وأنزل الله عددا من الصحف وجميع الكتب والصحف المنزلة تضمنها حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ إذ قال :

«قلت يا رسول الله! كم كتابا أنزل الله تعالى؟

قال : مائة صحيفة وأربعة كتب : على آدم عشر صحائف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى ابراهيم عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (١٤٢)»

وذكرت الصحف في قوله تعالى :

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (١٤٣)

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٤٤)

والتوراة هي كتاب موسى عليه‌السلام. قال تعالى :

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ). (١٤٥)

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ (١٤٦) بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي

٨٥

ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١٤٧)

والزبور أنزل على داود عليه‌السلام. قال تعالى :

(وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٤٨)

والإنجيل أنزل على عيسى عليه‌السلام ، وهو مكمل للتوراة ، وناسخ لبعض أحكامها. قال تعالى :

(وَقَفَّيْنا (١٤٩) عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ). (١٥٠)

والقرآن الكريم أنزل على محمد عليه الصلاة والسّلام. وهو مصدق لما قبله من الكتب وحاكم عليها.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ). (١٥١)

وقد سمي القرآن الكريم بهذا الاسم في قوله تعالى :

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ). (١٥٢)

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (١٥٣)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ). (١٥٤)

وسمي الفرقان في قوله تعالى :

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ). (١٥٥)

كما سميت التوراة بهذا الإسم في قوله سبحانه :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (١٥٦)

وهذه التسمية تدل على أنه يفرق بين الحق والباطل ، ويميز بين الحلال والحرام.

وسمي القرآن بالذكر في قوله تعالى :

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ). (١٥٧)

ولقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (١٥٨)

وساعد على حفظه في الصدور وعلى كتابته في السطور نزوله مفرقا. كما ساعد ذلك على فهمه والعمل بأحكامه. قال تعالى :

٨٦

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٥٩)

فكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلما نزلت عليه آيات يأمر كتاب الوحي بكتابتها ، ويقرؤها على الصحابة فيحفظونها. وتم جمع القرآن في مصحف واحد إثر وفاته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم نسخ في مصاحف عديدة وزعت على البلاد الإسلامية في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ونقل من جيل إلى جيل كتابة وحفظا. وحملة القرآن هم بفضل الله في كل عصر كثيرون بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب. وبهذا لم يحصل في القرآن شيء من التحريف والضياع أو الزيادة والنقص. بل نقل إلينا كما أنزل.

أما الكتب السماوية السابقة فلم يتكفل الله بحفظها ، بل وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار ، وهم العلماء في كل أمة. ولم يتيسر كتابتها حين نزولها ، ولم يوجد من يحفظها عن ظهر قلب ، فلم تبق على حالها ، بل ضاع قسم منها ، وحرف قسم آخر. قال تعالى عن بني اسرائيل والنصارى :

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). (١٦٠)

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ). (١٦١)

وهذا لأن الكتب الأولى كانت خاصة بأمم معينة في العصور القديمة أما القرآن الكريم فهو كتاب الله الخالد الذي يجب على الناس كافة أن يقتبسوا من نوره ، وأن يهتدوا بهديه ، ويتربوا بمنهاجه ، ويعملوا بتعاليمه إلى يوم القيامة. فقد جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصحيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله : ما هذه؟ فقال : صحيفة رأيت يهوديا يقرأ بها فأعجبتني فجئتك بها. فقال : «دعها فلو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» (١٦٢).

٨٧

٤ ـ الإيمان بالرسل

الحاجة إلى الرسل :

احتاج الناس إلى هدي رب العالمين من أول وجودهم على ظهر هذه الأرض. ولم يترك الله خلقه يتخبطون في الظلام ، بل أنزل على المصطفين منهم ما يهديهم إلى الإيمان الصحيح والعقيدة الراسخة ، ويجعلهم يفعلون الخير ، ويتصفون بالخلق الفاضل ويقيهم من الفساد والضلال. قال تعالى :

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١٦٣)

واحتاج الناس إلى الرسل ليعرفوا صفات ربهم ، ويعلموا مصيرهم بعد موتهم ، وليقوموا بعبادة الله على الوجه الذي يرضيه ، وينظموا حياتهم وعلاقاتهم على أساس الحق والعدل. قال تعالى :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (١٦٤) وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ (١٦٥) وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). (١٦٦)

واحتاجوا إليهم لتبليغهم هدي رب العالمين وتوضيحه وتبيينه وتفسيره :

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (١٦٧)

واحتاجوا إلى الرسل أيضا ليجعلوهم قدوة لهم في سلوكهم ، وليتصفوا بصفاتهم ويتخلقوا بأخلاقهم قال الله تعالى آمرا بالاقتداء برسله :

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). (١٦٨)

والرسل هم أعظم المربين للجنس البشري ، وهم أفضل المصلحين وأحسن المعلمين لأنهم يجتثون من النفوس ما علق بها من الأدران ، ويستأصلون من القلوب ما ران عليها من الخطايا ، ويغرسون فيها الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة. وبالاقتباس من النور الذي جاؤوا به يصبح الناس علماء صالحين وحكماء مخلصين. قال تعالى :

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ

٨٨

لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ). (١٦٩)

وبإرسال الرسل أقام الله الحجة على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ). (١٧٠)

ولم يبق للناس عذر عند ربهم إن كفروا به وعصوه :

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (١٧١)

فقد حذرهم الله برسله من الغرور بالدنيا ومن غواية الشيطان ، وعهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ). (١٧٢)

تعريف الرسل وصفاتهم :

الرسل بشر يوحى إليهم ، ويكلفون بهداية الناس. وليس في الرسل طبيعة إلهية ، وليسوا من الملائكة ، ولا يختلفون عن البشر الآخرين في شيء من صفاتهم الجسمية. غير أنهم أفضل المخلوقات لصلاحهم وحسن أخلاقهم. ولذلك اصطفاهم الله وخصهم بالوحي. قال تعالى :

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ). (١٧٣)

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). (١٧٤)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (١٧٥)

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ). (١٧٦)

ولا بد من أن يكون الرسول صادقا ، حتى يصدقه الناس فيما يبلغهم إياه ويثقوا به. قال الله تعالى في بيان اتصاف الرسل بالصدق :

٨٩

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). (١٧٧)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا). (١٧٨)

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا). (١٧٩)

وقد حذر الله من الكذب عليه فقال :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). (١٨٠)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ). (١٨١)

وقال سبحانه مبينا مصير من يفتري عليه :

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (١٨٢) (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ). (١٨٣)

كما لا بد من أن يكون الرسول أمينا ، ليتعلم الناس منه الأمانة ، ويتلقوا ما يبلغهم إياه عن ربهم بالرضى والتسليم. قال الله تعالى مشيدا بأمانة رسله :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٤)

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٥)

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٦)

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٧)

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (١٨٨)

٩٠

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (١٨٩)

ويتصف الرسل أيضا بالفطنة والذكاء ، والحكمة وسرعة البديهة والفصاحة والبلاغة ليتمكنوا من تفنيد حجج المبطلين ، ومن الرد على المعاندين ، ومن هداية الضالين ، والفصل بين المتنازعين. قال الله تعالى في اتصاف رسله بالعلم والحكمة ، وتوفيقهم للحجة المقنعة والدليل الواضح :

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ. وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ (١٩٠) وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ). (١٩١)

وقال سبحانه في تعليم رسله أصول الفصل في المنازعات (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ (١٩٢) إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ (١٩٣) وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ). (١٩٤)

كما قال في داود عليه‌السلام :

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (١٩٥)

وقال سبحانه في فضل الرسل وصلاحهم وقوة بصيرتهم وسداد رأيهم :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ (١٩٦) الْأَخْيارِ. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (١٩٧)

والرسل معصومون عن ال معاصي لأنهم قدوة لغيرهم ، فلو ارتكبوا المعصية ، لجعلهم الناس حجة في فعلها.

٩١

وكذلك لا يصاب الرسل بعاهة أو مرض منفر ، ليبقوا محبوبين من الناس.

والرسل جميعا من الرجال ، لأن المرأة لا تقدر على تحمل أعباء الرسالة بما ركب فيها من ضعف ، ولا يمكنها أن تصبر على ما تلاقيه من إيذاء الكافرين ولذلك اختص الرجال بالنبوة والإمامة العظمى. قال تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١٩٨)

وهم من أهل القرى والمدن وليسوا من البدو والرحل.

عدد الرسل وأفضلهم ووجوب الإيمان بهم :

والرسل كثيرون ، بلغ عددهم عدد الأمم التي وجدت منذ وجود الإنسان على الأرض إلى عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بدليل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (١٩٩)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٠٠)

ولم يخبرنا الله بأسماء كل الرسل :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (٢٠١)

ولقد قص الله علينا أسماء خمسة وعشرين رسولا : أو لهم أبو البشر آدم عليه‌السلام ، وكانت رسالته إلى زوجه وأولاده. قال تعالى :

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢٠٢)

وآخر الرسل سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال سبحانه :

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً). (٢٠٣)

وقد أتينا على ذكر من قصهم الله في كتابه من الرسل فيما سبق من الآيات في هذا الفصل.

ولا يصح إيمان من أنكر نبوة واحد من الرسل المذكورين. قال تعالى :

٩٢

(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (٢٠٤) وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٢٠٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٢٠٦)

وعدم التفريق في الإيمان بينهم لا يعني أنهم سواء في الفضل عند الله :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ). (٢٠٧)

ولا يجوز لنا أن نفضل بعض الرسل على بعض من تلقاء أنفسنا ، ولكن نثبت الفضل لمن فضلهم الله في كتابه. وأفضلهم هم أولو العزم المذكورون في قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً). (٢٠٨)

وأفضلهم على الإطلاق هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ قال :

«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (٢٠٩) فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل (٢١٠) وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» (٢١١)

ولقد كان كل رسول يبعث إلى قومه خاصة في العصور الغابرة لصعوبة الاتصال بين الأمم ، وللاختلاف في ظروف معيشتها ؛ فلم يكن من المناسب أن يبعث رسول لكل الناس ولم يكن بالإمكان حفظ تعاليم الرسل ، كما إن أحوال الأمم كانت تتغير من عصر إلى عصر ؛ ولهذا بعث الله رسلا كثيرين على مر العصور.

فلما وصلت البشرية إلى مستوى من الرقي والنضج يؤهلها لحمل رسالة الإسلام وأصبح بالإمكان الاتصال بين الأمم المختلفة ، وبين الأجيال المتعاقبة ، كانت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل الناس إلى يوم القيامة :

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (٢١٢)

٩٣

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (٢١٣)

تعاليم الرسل ومعجزاتهم :

يتفق الرسل في توحيد الله عزوجل والتوجه إليه بالعبادة :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). (٢١٤)

كما يتفقون في سائر أمور العقيدة وفي أسس الدين ومبادئه وفي الأخلاق والفضائل.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ). (٢١٥)

ولكنهم يختلفون في الشرائع التي تنظم الحياة ، وتحدد العلاقات بين الناس ؛ لتكون شريعة كل رسول صالحة لأمته وعصره. قال تعالى :

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) (٢١٦)

ولما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بشريعة صالحة لكل زمان ومكان بما اتصفت به من مرونة وشمول ، فهي تحدد الأسس والمبادئ فيما يتغير بتوالي العصور وفيما يختلف بين الشعوب ، ولا تذكر الأحكام الفرعية التفصيلية إلا فيما يبقى على حاله ، ويكون مناسبا لكل الناس في جميع العصور. وضرب الأمثلة يخرجنا عن موضوع البحث الذي نعالجه ، فنكتفي بهذا القول المقتضب.

ولقد جاء بعض الرسل بمعجزات تجعل أقوامهم يصدقونهم فيما دعوهم إليه. والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة الذي يفوق طاقات البشر ، ويتحدى بها الرسول قومه.

ومن هذه المعجزات الناقة التي جاء بها صالح عليه‌السلام ، إذ طلب منه قومه أن يأتيهم بآية على صدقه ، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها

٩٤

بأنفسهم ناقة عشراء تمخض. فأخذ عليهم صالح ـ عليه‌السلام ـ العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم ليؤمنن به وليتبعنه ؛ فلما أعطوه عهودهم ومواثيقهم قام إلى صلاته ، ودعا الله عزوجل ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء ، يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم ومن كان معه على أمره ، وأصر بعضهم على الكفر.

وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب ماء البئر يوما ، وتدعه لهم يوما. وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم. ثم تسرح في أوديتهم يوم شربهم. فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لنبيهم عزموا على قتلها ، فعقروها ، فأخذتهم الرجفة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين (٢١٧)

قال تعالى في تكذيبهم لرسولهم وطلبهم المعجزة وهلاكهم : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ. ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢١٨).

ولما دعا موسى ـ عليه‌السلام ـ فرعون إلى الإيمان لم يصدقه واتهمه بالجنون ، وهم بسجنه وتعذيبه ، فجاءه موسى بمعجزة تدل على صدقه وهي مبينة في قوله تعالى :

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ). (٢١٩)

أما عيسى ـ عليه‌السلام ـ فقد جاء بمعجزات تضمنها قول الله سبحانه :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ (٢٢٠) وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). (٢٢١)

وهكذا نجد أن هؤلاء الرسل جاؤوا بكائن حي من شيء لا حياة فيه : ناقة تخرج من صخرة ، وعصا تنقلب إلى ثعبان ، وطين يتحول إلى طير. وكان رد الكافرين عليهم واحدا ، وهو اتهامهم بالسحر بدلا من تصديقهم والإيمان بهم.

وكانت معجزات الرسل السابقين مادية حسية ، لتكون مناسبة للناس في سذاجة

٩٥

تفكيرهم وقلة إدراكهم في قديم الزمان ، فلما اتسعت المدارك ، وتفتحت العقول كانت معجزة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكبرى التي اعتمد عليها في دعوته معجزة عقلية باقية ، يستطيع كل عاقل أن يتملاها ، ويدرك نواحي الإعجاز التي فيها ، وهي القرآن الكريم.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢٢٢).

وفوق ذلك فقد جاء ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بمعجزات حسية كثيرة للدلالة على أن رسالته لا تختلف في أصلها عن رسالات الذين سبقوه ، ولكنه لم يكن يعتمد عليها في دعوته. وهي مبينة في كتب السيرة.

غير أن الرسول لا يستطيع أن يفعل شيئا من الخوارق إلا ما أذن الله له فيه وسلطه عليه ، فالفاعل الحقيقي هو الله تعالى. وما المعجزة إلا دليل على أن من جاء بها هو رسول الله.

ولئن كنا نجهل تفاصيل حياة الرسل الأولين ، ولا نعلم منها إلا ما قصه الله في كتابه المنزل على خاتمهم ، وغالب ما ذكر فيه يتعلق بالدعوة ومواقف أقوامهم منها ، فإن حياة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معروفة بكل دقائقها منذ ولادته حتى وفاته واضحة وضوح الشمس. ومن واجبنا أن ندرس السيرة النبوية ، ونجعل صاحبها قدوة لنا في أخلاقنا وأعمالنا :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً). (٢٢٣)

وهو الرسول الذي أخذ الله العهد على النبيين من قبله أن يؤمنوا به حين يرسل وأن يتبعوه وينصروه ، وأن يدعوا أتباعهم إلى ذلك :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي (٢٢٤) قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢٢٥)

ومن واجب كل من آمن برسول من قبله أن يؤمن به وأن يتبعه :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ

٩٦

الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٢٢٦)

الآثار التربوية :

يقدم الإيمان بالرسل للإنسان النموذج الصالح ليقتدي به ، والتربية بالقدوة لها أثر كبير لا يقل عن آثار التربية الناتجة عن القناعة العقلية أو الإثارة العاطفية نحو الخير والحق.

ويجد الإنسان في تعاليم الرسل وشرائعهم والكتب المنزلة عليهم أعظم المناهج والأسس التربوية ، بل يجد فيها نظاما للحياة بكل جوانبها ، وهو النظام الوحيد المناسب للناس ، لأنه وضعه من خلق الكون وأبدعه على أكمل وجه.

كما يجد الإنسان في سير الرسل المتعة والفائدة الجمة ، ويجد فيها أحسن الطرق والوسائل في التربية.

* * *

٩٧

٥ ـ الإيمان باليوم الآخر

يعتبر الإيمان باليوم الآخر أهم أركان الإيمان بعد الإيمان بالله تعالى ، لأن المؤمن لا يفعل ما أمر به ولا يترك ما نهي عنه ، ولا يندفع إلى عبادة الله ، ولا يقوم بواجبه ، ما لم يأت عليه يوم يحاسب فيه ويجازى على فعله. ولا بد من مجيء هذا اليوم ليتحقق العدل بين الناس ، ويصل كل واحد إلى حقه ؛ لأننا إذا تأملنا حياة الناس وجدنا فيهم الصالح التقي الذي يظلم ويعتدى عليه ، ويحرم من حقه في هذه الدنيا ، ووجدنا الفاجر الشرير الذي يظلم الناس ويأكل أموالهم ، ويعتدي على الضعفاء ، ولا ينال عقابه ، فلو انتهت الحياة بالموت لكانت اقرارا للظلم ، والله حرم الظلم ؛ فلا بد من عودة إلى الحياة لينصف المظلوم ، ويلقى كل واحد جزاء عمله. قال تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). (٢٢٧)

ولا بد من بعث الناس ليعاقب الظالمون ويقتص منهم :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٢٢٨)

ولا بد من اليوم الآخر ليتحقق العدل الإلهي :

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ). (٢٢٩)

ثم إن الإنسان قد يقضي حياته دون أن يكمل تدريبه وتحصيله من أجل حياة أفضل ، ويتأتيه الموت وفي نفسه آمال كثيرة يريد أن يحققها. وتبقى فيه قوى كامنة لا يصرفها في شيء ؛ وهو لا يستنفذ طاقاته ، ولا يتمكن من استغلال ما أودع فيه من قدرات ، ولا يستفيد مما حصل عليه من علوم على الوجه الأكمل في هذه الحياة. فلو انتهت حياته بالموت لكانت عبثا لا معنى لها. والله ـ سبحانه ـ منزه عن العبث :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ). (٢٣٠)

فلا بد من عودة إلى الحياة ، يحقق فيها الإنسان سعادته ، ويجد فيها عزته

٩٨

وكرامته. ومن غير المعقول أن يسخر الله للإنسان كل ما في الكون من الأشياء ، وأن يفضله على كثير من المخلوقات ، وأن يجهزه بهذه الأعضاء والحواس ويودع فيه تلك المواهب والقدرات ، ويزوده بالعلم والمعرفة ، ويهذبه بالخلق والتربية ، ثم تنتهي حياته بهذه المدة القصيرة التي يقضيها على ظهر الأرض.

وليست إعادة خلق الناس صعبة على الله ، فإعادة الخلق أهون من بدئه ، وليس على الله شيء صعب :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (٢٣١)

وإن الذي خلق السموات والأرض لا يصعب عليه إحياء الناس يوم القيامة :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ). (٢٣٢)

كما إن الذي خلق الإنسان من نطفة وجعله كائنا سويا قادر على إحيائه :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ (٢٣٣) مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٢٣٤) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢٣٥)

وإحياء الموتى شبيه بإحياء الأرض الميتة ، وبعودة الحياة إلى الأشجار اليابسة ، مما هو مشاهد أمام أعيننا. وقد استدل الله ـ عزوجل ـ على بعث الموتى بخلق الناس من تراب ، وبإحيائه الأرض الميتة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (٢٣٦) لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ (٢٣٧) لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ (٢٣٨) وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ). (٢٣٩)

٩٩

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ (٢٤٠) فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ). (٢٤١)

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ (٢٤٢) سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). (٢٤٣)

وهناك موتى أحياهم الله في هذه الدنيا ليكونوا مثالا على الإحياء في الآخرة. كالذي مر على قرية خربة مات أهلها ولم يبق فيها سوى الأطلال والآثار الدالة عليهم فتعجب من قدرة الله على إحيائهم. فأماته الله مئة عام ثم بعثه ليجعله عبرة لغيره. وأمات حماره أيضا ، ثم أراه كيف تتجمع عظامه التي كانت بالية متفرقة ، ثم تكسى لحما ، ويعود كما كان ، بينما بقي طعامه وشرابه على حاله ، لم يفسد طيلة هذه المدة قال سبحانه :

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها (٢٤٤) قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ : بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ (٢٤٥) وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها (٢٤٦) ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (٢٤٧)

وكأهل الكهف الذين بعثهم الله بعد أن لبثوا في كهفهم ثلاثة قرون :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها). (٢٤٨)

ولا يعلم أحد إلا الله موعد يوم القيامة :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها) (٢٤٩) لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً (٢٥٠) يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌ (٢٥١) عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (٢٥٢)

وقد أخبر الله تعالى أنها قريبة منا :

(يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً). (٢٥٣)

١٠٠