منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

٣) ـ والزكاة كفارة للذنوب ، تطهر النفوس من أدرانها ، وتسمو بها في مدارج الكمال الإنساني. قال تعالى :

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها). (٣٨٨)

٤) وهي تجعل المجتمع متعاونا متآلفا ، فلا يبقى نزاع بين الأغنياء والفقراء ، فالغني يعطي الفقير بدلا من أن يستغله ، والفقير يعين الغني بدلا من أن يحاول نهب ماله ، ويصبح الجميع إخوة متحابين كما قال تعالى :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً). (٣٨٩)

٥) وهي تسهم في تحقيق التكافل الاجتماعي ، فلا يبقى جائع لا يجد الطعام ، ولا يبقى مريض لا يجد العلاج ، ولا يبقى أحد لا يجد اللباس والمسكن اللائق به. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم ما يسع فقراءهم ، فإن جاعوا أو عروا فبما يصنع أغنياؤهم. ألا وإن الله محاسبهم حسابا شديدا ، ومعذبهم عذابا أليما.» (٣٩٠).

٦) وهي فوق ذلك تصون المال وتؤدي إلى زيادته والبركة فيه. فإذا احتاج الغني إلى مساعدة الفقير لجمع محصوله ولدرء الفيضان والأخطار عنه ، فلا يقف متفرجا عليه شامتا به ، بل يندفع إلى تقديم ما يحتاجه من عون ، ما دام يعلم أن له حصة في ماله. ولا يسعى الفقير إلى سرقة مال الغني أو أخذه بدون حق ، إنما يحافظ عليه ويصونه من العبث ، ويرده إليه إن وجده. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«حصنوا أموالكم بالزكاة» (٣٩١).

وقد وعد الله المتصدقين بالتعويض عليهم :

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (٣٩٢)

١٢١

٣ ـ الصوم

الصوم لغة : الامتناع والإمساك. وشرعا : الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية طاعة الله تعالى :

وقد فرض صيام رمضان في السنة الثانية للهجرة. وخص هذا الشهر بهذه العبادة لنزول القرآن فيه. قال تعالى :

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). (٣٩٣)

ورخص الله للمريض والمسافر بالفطر في رمضان لما في الصوم من المشقة ، ولأن حالهما يستدعي التخفيف. وهذا يدل على يسر الإسلام وسهولة أحكامه.

ويطالب المريض بالقضاء بعد تمام الشفاء ، ويطالب المسافر بالقضاء بعد رجوعه إلى بلده ، لئلا يحرما من ثواب الصوم وآثاره التربوية.

والصوم هو العبادة التي لا يدخلها الرياء ، لأنه لا يعلم حقيقة المرء هل هو صائم أم لا إلا علام الغيوب. وهذا ما يجعل المسلم نقي السريرة مخلصا في عمله ، لا يظهر خلاف ما يخفيه. ولهذا وعد الله الصائمين بجزيل الثواب ، فقال ـ سبحانه ـ في الحديث القدسي :

«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به : يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (٣٤٩)».

وللصوم آثار جسيمة في النواحي الجسمية والنفسية والخلقية والاجتماعية :

أ ـ الآثار الجسمية : يؤدي الصوم إلى راحة المعدة وجهاز الهضم بعض الوقت كل يوم من أيامه ، وبذلك تطرح ما فيها من بقايا الطعام المتراكمة ، التي تسبب عسر الهضم ، والتي تفسد وتتفسخ وتضر بالجسم. كما يخلص الصوم الدم مما ينحل فيه من الدهون التي تعيق حركته ، وتترسب على جدران الأوعية الدموية فتسبب تصلبها. ويخلص الجسم مما يتراكم فيه من الشحوم التي تؤدي إلى زيادة الوزن ، وتجعل الرجلين تنوآن بحمل الجسم ، وتجعل القلب ينوء بضخ الدم إلى كل أعضائه ، فالصوم إذن يؤدي إلى حفظ الصحة ويجعل الجسم قويا سليما. وإلى هذا يشير الحديث الشريف :

١٢٢

«صوموا تصحوا» (٣٩٥).

ب ـ الآثار النفسية والخلقية :

إن الصوم أفضل وسيلة لتهذيب النفس وتحسين الخلق ، لأنه يجعل الإنسان في عبادة مستمرة معظم الوقت الذي يكون فيه مستيقظا. وهو يؤدي إلى إضعاف الشهوات واجتناب المحرمات ، لأن الذي يمتنع عن الطعام والشراب وهما أمامه ، لا يأكل أموال الناس بالباطل ولا يعتدي عليهم. ويمنع الصوم من اللغو في الكلام ومن البذاء في اللسان.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصيام جنة. فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم ، إني صائم» (٣٩٦).

أي إن صومه يمنعه من الشتم والخصام ، ويقيه الشرور والآثام كما يمنع الصوم الوقوع في الفواحش ، ويعين على العفة. ولهذا أوصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشباب الذين لا يجدون نفقات الزواج بالصوم ، وبين أنه يقيهم من الانزلاق في الحرام ، فقال :

«يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة (٣٩٧) فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له به وجاء (٣٩٨)».

فالصوم وسيلة للتقوى ، تجعل الإنسان يفعل ما أمره به الله ، ويترك ما نهاه عنه ، ويخشاه ويطلب مرضاته ، ولهذا فرضه الله على كل الأمم ، وجعله كفارة لكثير من الذنوب كالقتل خطأ والظهار والحنث في اليمين ، والصيد أثناء الإحرام. فهذا يدل على أن الصوم يجعل النفس رقيقة مهذبة ، لا تدفع إلى فعل شيء غير مشروع.

أما الذي لا يكف عن الكذب والغيبة والنميمة وأكل الحرام والعدوان على الناس فلا يعتبر صائما بالمعنى الحقيقي ، ولا يؤجر على صومه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» (٣٩٩).

وقال : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (٤٠٠).

ثم إن الصوم يؤدي إلى سمو الإنسان ، وترفعه فوق شهواته وحاجاته المادية ، ويجعله شبيها بالملائكة في الاستغناء عن الطعام والشراب وعدم معصية الله في شيء كما يعلم الصوم الصبر والنظام ، فالذي يصبر على الجوع والعطش يصبر على الصعاب ، ويتحمل المشاق : والذي لا يتناول الطعام والشراب إلا في أوقات محددة ، يتعلم أن يقوم بأعماله كلها في حينها.

١٢٣

ويؤدي الصوم إلى قوة الإرادة ، فالذي يقاوم دوافعه الفطرية إلى الطعام والشراب والملذات ، يصبح قوي الإرادة ، يملك نفسه ، ويسيرها على طريق الشرع. وكذلك يغير الصوم من عادات الإنسان في طعامه وشرابه ؛ وكثير من الناس يصبحون أسرى لعاداتهم في كثير من الأشياء ، بدون أن تكون هذه العادات ضرورية لحياتهم أما الصائم فيضطر إلى تغيير عاداته في مواعيد تناول طعامه وشرابه ، وبذلك يعيش حرا طليقا. وقد نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صوم الدهر حتى لا يصبح الصوم عادة ، وليبقى عبادة لها وقتها وأحكامها التي تجعل الإنسان يختلف في صومه عن إفطاره.

عن أبي قتادة أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! كيف بمن يصوم الدهر كله؟ قال : «لا صام ولا أفطر ، أو لم يصم ولم يفطر». (رواه أبو داود)

وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صام من صام الأبد»

وعن عبد الله بن الشخير قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام الأبد فلا صام ولا أفطر». (رواهما ابن ماجه)

ج ـ الآثار الإجتماعية :

يجعل الصوم المسلمين كأسرة واحدة ، يجلسون إلى الطعام في وقت واحد ، ويستوي غنيهم وفقيرهم في الامتناع عن المفطرات طيلة النهار. كما يدفع الصوم إلى الاحسان ؛ لأن الإنسان حين يكون شبعانا لا يحس بجوع أحد ، أما حين يشعر بالجوع فإنه يتذكر الذين لا يجدون قوت يومهم ، ويندفع إلى قضاء حاجاتهم والاحسان إليهم. وهكذا يسهم الصوم في تحقيق التكافل الاجتماعي.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم» (٤٠١).

ولهذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل ـ عليه‌السلام ـ يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. فإذا لقيه جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (٤٠٢).

١٢٤

٤ ـ حج البيت الحرام

الحج لغة : القصد إلى معظم

وشرعا : القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة في أشهر الحج.

وقد تأخر فرض الحج إلى السنة التاسعة للهجرة حتى أمكن تطهير البيت من الأوثان ، وتطهير الحرم من المشركين. ففرض حين دخلت قبائل العرب في الإسلام ، وأصبحوا بحاجة إلى مؤتمر يجمعهم وقيل : فرض سنة ست ، لأنه نزل فيها قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (٤٠٣) والأول أرجح ، لأن الأمر باتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهما لا يقتضي وجوب الإبتداء. وقد نزل فرضه في صدر سورة آل عمران ، والذي نزل عام الوفود ، حين قدم وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصالحهم على الجزية ، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع (٤٠٤).

ولما كانت هذه العبادة تحتاج إلى سفر طويل ونفقات كثيرة ، فإنها لم تفرض على غير المستطيع. قال الله تعالى :

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٤٠٥)

ويجب الحج على المكلف مرة واحدة في العمر فمن زاد على ذلك فهو تطوع يؤجر عليه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما ـ أن الأقرع بن حابس ـ رضي الله عنه ـ قال : يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟

قال : «بل مرة واحدة ، فمن زاد فهو تطوع» (٤٠٦)

وللحج أهم الآثار التربوية في النواحي الروحية والخلقية والاجتماعية :

١) فهو كفارة للذنوب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«من حج فلم يرفث (٤٠٧) ولم يفسق (٤٠٨) رجع كيوم ولدته أمه (٤٠٩)».

وحين يضع المسلم ذنوبه عن كاهله فإنه يستأنف حياة نظيفة «لا يدنسها بشيء من الخطايا ، فتسمو نفسه درجات في سلم الكمال.

٢) ويؤدي الحج إلى ترسيخ الإيمان ، وذلك بالطواف بأول بيت وضع لعبادة الله في الأرض. قال تعالى :

١٢٥

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٤١٠)

كما أن الحاج يتذكر الجهود التي قام بها إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ وهما يبنيان الكعبة.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (٤١١)

ويتذكر تصميم إبراهيم على ذبح ابنه اسماعيل امتثالا لرؤياه ، ورضا الابن بذلك :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). (٤١٢)

وبذلك تهون عليه التضحية بماله ، فينفقه في سبيل الله ، ويتصدق به على المحتاجين ، وينحر الإبل ويذبح الأضاحي ليطعم الجائعين.

ثم يتذكر سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طفولته وشبابه ، حين يزور البقاع التي نشأ فيها ، فيتصف بفضائله ويتخلق بأخلاقه. ويرى الساحات التي وقعت فيه بعض غزواته ، ويتذكر ما عاناه في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، فيتمسك بهذا الدين ، ويصبح داعية له ، يضحي بنفسه لنصرته.

وحين يخلع الحاج ثيابه المخيطة ، ويلبس ثوبين غير مخيطين للإحرام ، يتصور نفسه حين يموت ، وتنزع عنه ثيابه ، ويلبس كفنه ، فيزهد في الدنيا ، ويقبل على عبادة ربه.

وحين يسعى بين الصفا والمروة يتذكر أم إسماعيل وهي تبحث عن الماء لتسقيه ، بعد أن كاد الظمأ يقتله ، وكيف صعدت الصفا ونظرت حولها فلم تجد ماء ، ثم سعت إلى المروة ، ونظرت فلم تجد ماء ، فعادت الكرة سبع مرات حتى تفجر الماء تحت قدميه ؛ فيوقن بفضل الله ورحمته ، وأنه لا يتخلى عن عباده المؤمنين ، بل يرعاهم ويكلؤهم بفضله.

وفي يوم عرفة يغدو الحجاج إلى عرفات ليقفوا جميعا على صعيد واحد ، فيتصوروا يوم الحشر حين يقومون للحساب والجزاء ؛ وهذا ما يجعلهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، ويقضون بقية عمرهم في الطاعات وفعل الخيرات ويترفعون عن الدنايا ويجتنبون الأذى والإضرار بالناس.

١٢٦

ويرمز رمي الجمار إلى القضاء على الشر ودحر الشيطان الذي ظهر لابراهيم ـ عليه‌السلام ـ حين ذهب بابنه ليمتثل ما رآه في نومه ، وحاول أن يثنيه عن عزيمته ، فرماه بحصيات من الأرض. وما زالت الأماكن الثلاثة التي ظهر فيها ترمى بالجمار ؛ ليكون ذلك تصميما على محاربة الشيطان ودحره ومقاومة الشر واستئصال الفساد.

٣) ـ ويتعرض الحاج للمشاق في سفره ، فيتعلم الصبر. ويحرم عليه أثناء الإحرام حلق الشعر وقلم الأظافر والطيب وصيد البر ؛ فيتعلم الزهد والعفة ، وينقطع للعبادة والتلبية. كما يحرم عليه الكلام البذيء والتسبب في إيذاء الناس حتى بالجدال قال الله تعالى :

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (٤١٣)

وهذا يعلمه الحلم ، ويعوده على طيب الكلام ومحاسن الأخلاق.

٤) وتتجلى الآثار الاجتماعية في اجتماع أكبر عدد من المسلمين في مكان واحد ، فتمحى الفوارق من بينهم ، ويتساوى الغني والفقير والشريف والوضيع والأمير والرعية ، وتزول الشارات التي تميز بعضهم عن بعض. ويظهر الجميع بأبسط مظهر وأبعده عن التكلف والاختيال. ثم يطوفون حول الكعبة باتجاه واحد ، ويتجهون إليها في صلاتهم ؛ فيعلمون أنهم أبناء أمة واحدة ، وأنه لا يجوز أن يبقوا متفرقين. قال الله تعالى :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٤١٤)

والحكمة من وقوف جميع الحجاج في عرفات في التاسع من ذي الحجة أن يشعروا بالرابطة التي تجمعهم ، وأن يتعارفوا فيما بينهم ، وأن يعملوا على مقاومة الطغيان ونشر الإسلام والنهوض بالمسلمين. كما إن اجتماعهم هناك يمكنهم من الاطلاع على ما قام به العلماء والمفكرون من التجارب والأبحاث ، وعلى ما يقع في الشرق والغرب من الأحداث ، وهذا الاطلاع الشامل يؤدي إلى مزج الثقافات وتلقيح الأفكار وتقدم العلوم ، ويمكن من التخطيط الشامل للقضاء على أسباب التخلف ، وللنهوض بالأمة ورفع شأنها.

ولهذا يعد الوقوف بعرفة أهم أركان الحج ، ومن لم يقف ولو لحظة بين ظهر يوم عرفة وفجر اليوم التالي في عرفات ، فقد فاته الحج. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٢٧

«الحج يوم عرفة ، ومن جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع (٤١٥) فتم حجة (٤١٦)»

وهكذا يبدو أن العبادات ليست مجرد طقوس يقوم بها المرء ، وليست صلة خاصة بين العبد وربه بمعزل عن مسرح الحياة ، وإنما هي وسيلة فعالة لإصلاح النفوس ، وجعلها تشعر بالبهجة والسعادة في دنياها ، وتفوز بالجنة في أخراها ، ولا يمكن للتربية أن تكون متكاملة ، وأن تؤدي ثمارها ما لم تعتمد على العبادة في المقام الأول بعد الاعتماد على عنصر الإيمان.

* * *

١٢٨

ثالثا الأخلاق

تعتبر الأخلاق أبرز مقومات التربية ، بل هي مظهر التربية وثمرتها المباشرة. ويقدر ما تكون أخلاق الإنسان حسنة ، فإنه يدل على التربية الرفيعة التي حصل عليها أما إذا كانت أخلاقه سيئة فإنه يدل على فشل تربيته ، أو إنه لم ينل منها ما يجعله إنسانا صالحا جديرا بالاحترام.

ولا تتكون الأخلاق في معزل عن المقومين السابقين ، إذ أنها ثمرة لكل من العقيدة والعبادة. فالعقيدة السليمة الراسخة تثمر الأخلاق الحميدة المتأصلة في فطرة الإنسان ، كما إن الأخلاق الفاضلة تدل على كمال الإيمان ودليل ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (٤١٧)

وكذلك فإن العبادة الصحيحة التي يقوم به المسلم تجعل أخلاقه حميدة كما بينا في البحث السابق. وقد ربط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين العقيدة والعبادة من جهة ، وبين الأخلاق من جهة ثانية بقوله :

«المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (٤١٨)

فقد أوضح ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في هذه الحديث أن المسلم الذي يقيم أركان الإسلام ، ويؤدي العبادات المفروضة ، يصبح مسالما ، لا يتعرض لأذى أحد بلسانه أو يده ، وأن المؤمن يصبح أمينا على نفوس الناس وممتلكاتهم ، فلا يعرض أحدا للقتل ، ولا يعرض مال أحد للضياع.

أما إذا ادعى أحد الإيمان ورآه الناس يقوم بفروض الإسلام ، وكانت معاملته سيئة وصفاته قبيحة ، فيكون منافقا يظهر خلاف حقيقته ، أو تكون عبادته مجرد طقوس غير مقبولة في ميزان الحق. فقد ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن امرأة كثيرة الصوم والصلاة ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال : «هي في النار» (٤١٩).

والأخلاق تستمد من الشرع ، فما حسنه الشرع كان حسنا وفضيلة ، وما قبحه الشرع كان قبيحا ورذيلة وليست رد فعل لغريزة في الإنسان ، أو انعكاسا لوضع المجتمع ، وليست من وضع الطبقة المستغلة فيه. ولهذا فإن الأخلاق ثابتة وليست

١٢٩

متغيرة من عصر إلى آخر ، فالحق لا يصبح باطلا ، والفضيلة لا تنقلب رذيلة. وفطرة الإنسان وخصائصه الأساسية لم تتغير منذ أن وجد في الأرض. وما نشاهده من اختلاف بين القيم الخلقية عند الأمم المختلفة أو في العصور المتعاقبة ، يرجع إلى اختلاف الناس في معتقداتهم وفي النظم التي يحتكمون إليها. وليس كل ما تعارفه الناس في أي عصر أو مصر يكون حقا في ميزان العدل الإلهي. أما الجماعات التي تقوم على أساس الإسلام ، فإن الأخلاق التي ترتضيها وتربي أبناءها عليها ، لا تتبدل من عصر إلى آخر ، ولا تختلف بين شعب وغيره ؛ لأنها تستمد مبادئها الخلقية ونظام حياتها من الحق الأزلي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهذا لا يدل على جمود المجتمع ، ولا يمنع من الرقي والتقدم ، ففي هذا الدين ما يؤدي إلى تقدم المجتمع الذي يحسن العمل به ، وما يدفع الى رقي الأمة التي تقوم على أساسه. ولكن هذا الرقي والتقدم يكونان ضمن إطار من التعاليم التي تمنع الزيغ والضلال ، وتوجه طاقات الإنسان نحو ما يفيده ، ويرفع من شأنه.

ولقد جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدعوة إلى مكارم الأخلاق هدفا أسهم كل الرسل في تحقيقه فقال :

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (٤٢٠).

وهذا يدل على اتفاق الرسل على القيم الخلقية رغم اختلاف الأمم التي أرسلوا إليها واختلاف العصور التي بعثوا فيها.

وليس أدل على مكانة ذي الخلق القويم من جعله محبوبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريبا من مجلسه يوم القيامة :

إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون (٤٢١) والمتفيهقون. قالوا يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما المتفيهقون؟

قال : المستكبرون» (٤٢٢).

أما ذو الخلق السيء فهو شر الناس. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره (٤٢٣)»

ولا بد من أن يكون المربي والداعية إلى الإصلاح حسن الخلق حتى يحبه الناس ويستجيبوا له. قال الله تعالى مخاطبا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (٤٢٤).

ولهذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أحسن الناس خلقا ، وقد أثنى الله عليه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ). (٤٢٥)

ومن واجب كل المربين وكل الناس أن يقتدوا به ، ليحققوا أهداف التربية

١٣٠

ويفوزوا برضى ربهم. وسبيل ذلك أن يعملوا بكتاب الله ، وأن يقتبسوا منهجه التربوي ، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها ـ عن خلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «كان خلقه القرآن» (٤٢٦).

ولا أريد أن أستعرض كل الفضائل الخلقية التي أمر بها الله ورسوله ، ولكني أقتصر خشية الإطالة على أهمها كالصدق والوفاء والأمانة والعفو والحلم والصبر والشكر ، كما احذر مما نهى الشرع عنه كالغيبة والنميمة والسخرية والكبر.

* * *

١٣١

١ ـ الصدق

الصدق هو القول الموافق للواقع. وله أثر كبير على المجتمع ، إذ يؤدي إلى الثقة بين الناس والتعاون بينهم. وقد أمر به الله بقوله

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٤٢٧)

وحذر من الكذب ، وأخبر أنه من صفات الكافرين بقوله :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ). (٤٢٨)

ويعتبر الكذب خيانة لمن يحدث به. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق ، وأنت له به مكذب» (٤٢٩)

ومهما ارتكب المؤمن من الذنوب فإنه لا يتصف بالكذب. فعن عبد الله بن جراد قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله! هل يزني المؤمن؟

قال : قد يكون ذلك. قلت : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا» (٤٣٠)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب» (٤٣١)

وقالت عائشة رضي الله عنها : «ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكذب. ولقد كان الرجل يحدث عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكذبة ، فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة» (٤٣٢)

ولا يجوز الكذب في المزاح لإضحاك الناس. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ، ويل له ويل له» (٤٣٣).

ويجب تربية الطفل على الصدق منذ نعومة أظفاره ، وقد حذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكذب على الطفل ؛ لأن ذلك قد يجعله يتصف بهذه الصفة الممقوته. قال عبد الله بن عامر : «جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير ، فذهبت لألعب ، فقالت أمي : يا عبد الله ، تعال حتى أعطيك. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما أردت أن تعطيه؟ قالت : تمرا. فقال : أما إنك لو لم تفعلي لكتب عليك كذبة» (٤٣٤).

والصدق يوصل إلى الجنة ، والكذب يوصل إلى النار. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١٣٢

«عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار.

وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (٤٣٥)

والله تعالى يترك الكاذب في الضلال ثم يضل الكاذب ، ويعذبه العذاب الأليم قال سبحانه :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ). (٤٣٦)

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ). (٤٣٧)

(إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٣٨)

والكذب على الله بالافتراء عليه والشرك به ، والتكذيب بآياته هو ظلم شديد. قال تعالى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (٤٣٩)

ومن أشد أنواع الكذب شهادة الزور التي تؤدي إلى سفك الدماء وأكل المال بالباطل. قال تعالى :

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ). (٤٤٠)

وعن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى يا رسول الله.

قال ثلاثا : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس : فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يقولها حتى قلت : لا يسكت» (٤٤١).

ولا يباح الكذب إلا في إصلاح ذات البين ، وفي خداع العدو ، وفي حديث الزوجين عن حب أحدهما للآخر وتقديره له. فعن أم كلثوم بنت عقبة قالت : (سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ، ويقول خيرا وينمي خيرا (٤٤٢)».

قالت : ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث :

الحرب والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها (٤٤٣).

١٣٣

٢ ـ الوفاء بالعهد

يعتبر الوفاء بالعهد نوعا من الصدق ، لأن المعاهد يكون قد التزم بفعل شيء في المستقبل ، فإذا أنجز ما وعد به كان وفيا صادقا. ويؤدي الوفاء بالعهد إلى الثقة وإلى الاستفادة من الوقت ، وإلى تقدم المجتمع وازدهاره.

قد أمر الله بالوفاء بالعهد ، وبين أنه سيسأل كل إنسان عن عهده بقوله :

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً). (٤٤٤)

وحذر من مخالفة العهد ، ومن نقض المواثيق ، فقال :

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ). (٤٤٨)

ونهى عن أن يكون الطمع سببا في نقض العهد :

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٤٤٦)

وجعل نقض العهد من صفات الكافرين :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ). (٤٤٧)

والوفاء بالعهد من صفات المؤمنين العقلاء :

(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ). (٤٤٨)

وهو من وجوه الخير وأنواع البر :

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا). (٤٤٩)

وكما أمر الله بالوفاء بالعهد بين الأفراد ، فإنه أمر بالوفاء بالمعاهدات والمواثيق التي تعقد بين الدول ، حتى إنه منع نصرة المؤمنين الذين يقع عليهم عدوان في بلد غير إسلامي ، إذ أدى نصرهم إلى الإخلال بالمعاهدات التي التزم به المسلمون. قال تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٥٠)

١٣٤

أما إذا ظهر للمسلمين من الذين عاهدوهم تبييت الغدر والخيانة فلا يجوز أن يقابلوهم بمثل ذلك ، وإنما يعلنون إنهاء المعاهدة بصراحة ودون مواربة. قال تعالى :

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ). (٤٥١)

وحينئذ يجوز للمؤمنين أن يقاتلوا الكافرين الذين نقضوا المعاهدة :

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). (٤٥٢)

* * *

١٣٥

٣ ـ الأمانة

تعتبر الأمانة من مستلزمات الإيمان ، كما يعتبر الوفاء بالعهد دليلا على صحة العقيدة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» (٤٥٣).

وقد ذكر هذان الخلقان بين صفات المؤمنين في أي الذكر الحكيم :

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ). (٤٥٤)

وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يخون الأمانة وينقض العهد ، ويكذب في الحديث من المنافقين :

«آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان (٤٥٥)»

ولا تجوز مقابلة الخيانة بمثلها ، بل تجب الأمانة في معاملة كل الناس

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك (٤٥٦)».

ولا تقتصر الأمانة على حفظ الوديعة وإعادتها إلى صاحبها ، بل تشمل كل ما كلف به الإنسان من الواجبات ، وما عهد إليه من المسؤوليات ، ومن ذلك أن يحفظ أعضاءه وحواسه ، وأن يستعملها في طاعة الله ، وأن يقوم بالعبادات المفروضة على أحسن وجه ، وأن يخلص في عمله ويتقنه ، وأن يكتم سر صاحبه ولا يفشيه ؛ ولذلك لم توكل الأمانة لغير الإنسان العاقل. قال الله تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ (٤٥٧) مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً). (٤٥٨)

وأعظم الأمانات ما كان متعلقا بالعقيدة والعبادة. وما ترتب على تلاوة القرآن الكريم وفهمه والعمل بأحكامه ، وعلى طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخلق بأخلاقه والاقتداء به. قال الله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٤٥٩)

ثم ما تعلق بنظام الحكم والإمارة وتولي أمور الناس. قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم محذرا الأمراء من التقصير في واجباتهم نحو الرعية :

١٣٦

«إنها ـ أي الإمارة ـ أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها ، وأدى الذي عليه فيها» (٤٦٠).

وحق الإمارة النصح للرعية ، وقضاء حوائجهم ، وتولية الأكفياء عليهم.

عن معقل بن يسار قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة (٤٦١)».

وعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«من ولي من أمر المسلمين شيئا ، فأمر عليهم أحدا محاباة ، فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم» (٤٦٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من استعمل رجلا على عصابة ، وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (٤٦٣).

فالرجل القوي الأمين المخلص هو الجدير بحمل الأمانة والقيام بالأعمال الهامة قال الله تعالى : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ). (٤٦٤)

ويلي ذلك في سلم الأمانات ما يتعلق بالمعاملات بين الناس ، وبحفظ حقوقهم ووفاء ديونهم. قال الله تعالى :

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ). (٤٦٥)

* * *

١٣٧

٤ ـ الحلم والعفو

الحلم هو ضبط النفس ، ومنعها من الانفعال والثوران عند الغضب.

وهو يدل على قوة الإرادة ومضاء العزيمة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الشديد بالصرعة (٤٦٦) ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (٤٦٧) ويقصد بالعفو الصفح عن المسيء ، والتجاوز عن المعتدي. وقد أمر الله بالعفو فقال سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). (٤٦٨)

وعده من صفات المتقين فقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى). (٤٦٩)

وجعله من صفات العقلاء الذين يفوزون بجنات الخلود :

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ). (٤٧٠)

كما امتن الله ـ سبحانه ـ على المتصفين بالعفو والحلم ، وأخبر عن حبه لهم فقال (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ (٤٧١) وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). (٤٧٢) وأشار إلى مغفرته لذنوبهم ورحمته بهم فقال :

(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤٧٣)

وهو لا يضيع أجرهم ، ولا يحب من ظلمهم :

(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). (٤٧٤)

ويؤدي الحلم والعفو عن المسيء ومقابلته بالإحسان إلى طرح ما في صدره من عداوة ، وجعله صديقا مخلصا. قال تعالى :

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). (٤٧٥)

ويرفع العفو من شأن صاحبه ، ويعلي من منزلته ، ويجعل له مهابة وجلالا.

فإذا ظن أنه بالانتقام يعظم ويصان جانبه ، وأن الإغضاء والعفو لا يحصل به ذلك فهو واهم ؛ لأن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر بأنه يزداد بالعفو عزا بقوله : «ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى» (٤٧٦).

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عن الغضب ، فقد جاء إليه رجل وقال له : أوصني. فقال : «لا تغضب ، فأعاد الرجل طلب الوصية ثلاثا ، وفي كل مرة يقول له : «لا تغضب» (٤٧٧).

١٣٨

ويزول الغضب بالوسائل التالية :

١ ـ الاستعاذة : قال الله تعالى :

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ (٤٧٨) فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٧٩)

وذلك لأن الغضب من الشيطان ، وهو يريد أن يوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين. فالالتجاء إلى الله والاستعانة به يذهبان وسوسته.

٢ ـ الوضوء أو الغسل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن الغضب من الشيطان ، وإن الشيطان خلق من النار ، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحد فليتوضأ (٤٨٠)»

وكذلك فإن الماء يؤدي إلى تبريد الدم وهدوء الأعصاب.

٣ ـ السكوت : حتى لا يتكلم أثناء انفعاله بالقبيح من الكلام ، ولا تصدر عنه كلمة تسيء إلى غيره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضبت فاسكت». (٤٨١)

٤ ـ الجلوس والاضطجاع : لأن القائم مهيأ للبطش ، والجالس بعيد عن خصمه ، والمضطج أكثر بعدا عنه. وذلك يؤدي إلى هدوء الأعصاب ومنع الانفعال الشديد. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه غضبه وإلا فليضطجع» (٤٨٢).

٥ ـ تعويد النفس على الحلم : قال أبو الدرداء رضي الله عنه :

«إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم. ومن يتحر الخير يعطه ، ومن يتوق الشر يوقه (٤٨٣).

والغضب مذموم حين يقع عدوان على النفس والمال ، أما إذا وقع عدوان على الدين والعرض ، فيصبح الغضب محمودا. فلا يجوز الطعن في الدين ولا انتهاك الأعراض. ومن لم يغضب في هاتين الحالتين فهو فاقد للشرف والمروءة.

عن الحسن بن علي عن خاله هند بن أبي هالة قال :

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها. فإذا تعدي الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها (٤٨٤)

وهكذا اهتم منهج الإسلام بتربية الانفعالات والعواطف ، كما اهتم بتربية الأبدان والأرواح.

١٣٩

٥ ـ الصبر

لا بد من أن يتصف الإنسان بالصبر ليتغلب على الصعاب ويجتاز العقبات التي يلاقيها في طريقه ، ويصل إلى غايته. وبدون الصبر لا تحقق التربية أهدافها ؛ إذ لا بد من صبر المربي على ما يجده في طلابه من العنت والعوج ، ولا بد من صبر الطالب ليدرك مغزى التربية ويتأثر بها ، وليفهم دروسه ويعمل بها.

ويكون الصبر في إمساك النفس عن الانزلاق إلى حمأة الشهوات المحرمة ، والوقوف بها في دائرة الطيبات المباحة ، ومنعها من تعدي الحدود التي نهى الله عنها. كما يكون في ترويض النفس على القيام بالواجبات والتكاليف الموكلة إليها ، وفي تحمل الأعباء وبذل الجهود اللازمة للقيام بها. وبذلك يشمل الصبر القيام بالصلاة وغيرها من العبادات. قال سبحانه وتعالى :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً (٤٨٥) مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٤٨٦)

وقال جل شأنه : (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ). (٤٨٧)

ويشمل معاشرة الأهل بالمعروف ، وتعويدهم على القيام بالفروض.

قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى). (٤٨٨)

وأحوج الناس إلى الصبر هم المصلحون والدعاة إلى الخير والمجاهدون في سبيل الله. قال تعالى في وصية لقمان لابنه :

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (٤٨٩)

والله ـ سبحانه وتعالى ـ يمتحن الناس بالأعداء والمصائب والأمراض ونقص الرزق ليثيب الصابرين ويزيد في حسناتهم :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ (٤٩٠) حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا (٤٩١) أَخْبارَكُمْ (٤٩٢)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ

١٤٠