منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

٣ ـ التربية الإجتماعية

يقضي الإنسان حياته كلها في وسط اجتماعي ، ولا يمكنه أن يستغني عن الخدمات المادية والمعنوية التي يقدمها له الآخرون. ولا بد من احترام الناس ومعاملتهم بالحسنى ليتم التعاون فيما بينهم ، ولا يستطيع الفرد أن يتكيف مع المجتمع ويحصل على التقدير والإحترام فيه ما لم يتقبل آراء مجتمعه ومفاهيمه ونظرته إلى الحياة. ولا يبقى المجتمع محافظا على شخصيته وخصائصه وثقافته ما لم يطبع أفراده عليها.

وقد حرص الإسلام على تماسك المجتمع بكل مؤسساته الصغيرة والكبيرة وعني بتربية الأفراد تربية اجتماعية فاضلة.

وأول مؤسسة اجتماعية ينتمي الفرد إليها هي الأسرة. وقد شرع الإسلام الأحكام التي تجعلها متماسكة ، وتحقق الالفة والمودة بين أعضائها ، وتمكنها من القيام بدورها الاجتماعي على أكمل وجه ، فمع أن الله سبحانه وتعالى غرس في قلوب الزوجين ميل كل منهما نحو الآخر :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٨)

أمر الرجل الإحسان إلى امرأته وإكرامها حتى في حال كرهها :

(وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً). (٥٩)

وأمر المرأة بطاعة زوجها وحفظ ماله وعرضه :

(فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ). (٦٠)

كما إن الله ـ عزوجل ـ جعل في قلوب الوالدين العطف والحنان على أولادهما وأوصاهما بحسن تربيتهم. وأمر الأولاد في كثير من آيات الذكر الحكيم بالإحسان إلى والديهم ، وقرن الإحسان إليهم بعبادته ، وشكرهما بشكره. من ذلك قوله سبحانه

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ (٦١) وَفِصالُهُ (٦٢) فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٦٣)

وهذا الإحسان واجب في كل الحالات حتى الحالة التي يكون فيها الولد مؤمنا والوالد مشركا ، غير أنه لا يطيعه فما يخالف أحكام الشرع :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما

٤١

وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ (٦٤) إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٦٥)

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٦)

وجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوالدين أحق الناس بالصحبة. وحق الوالدة مقدم على حق الوالد في ذلك.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! من أحق بحسن صحابتي؟

قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : أمك قال : ثم من؟

قال : أبوك» (٦٧).

ثم تتسع الدائرة لتشمل الأقرباء والأصحاب.

عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قلت : يا رسول الله! من أبر؟

قال : أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم أباك ، ثم الأقرب فالأقرب» (٦٨)

وعن كليب بن منفعة عن جده أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

يا رسول الله! من أبر؟

قال أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ورحم موصولة» (٦٩)

والإحسان إلى أصحاب الوالدين نوع من الإحسان إلى نفسيهما.

عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» (٧٠).

والإحسان إلى الأقارب بالإنفاق على فقيرهم سبب للثراء في المال والبركة في الرزق ، ومساعدتهم وقضاء حاجاتهم سبب لطول العمر والتوفيق للأعمال الجليلة النافعة وبقاء الذكرى الحسنة والثناء الجميل.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

«من سره أن يبسط (٧١) له في رزقه ، وأن ينسأ (٧٢) له في أثره (٧٣) فليصل رحمه» (٧٤) وأمر الله بالإحسان إلى الأرحام وإلى الفئات الضعيفة في المجتمع كالفقراء

٤٢

والمساكين والمسافرين المنقطعين عن بلدهم. قال سبحانه :

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (٧٥)

واعتبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المحسن إلى المساكين والأرامل ـ وهن النساء اللاتي فقدن أزواجهن ـ كالمجاهد في سبيل الله ، والمتعبد الذي لا يفتر عن قيام الليل وصوم النهار.

عن صفوان بن سليم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ، أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل» (٧٦).

وأمر الله تعالى بالإحسان إلى الجيران القريب منهم وغير القريب ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ (٧٧) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (٧٨) وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (٧٩) إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً). (٨٠)

ورفع الإسلام الصلات بين الجيران إلى مستوى الصلات بين الأرحام.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلّي الله عليه وسلّم قال :

«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (٨١).

فمن كثرة هذه الوصايا ظن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الجار سيرث من جاره ، كما يرث الرجل مال أبيه وابنه وأخيه.

وإيذاء الجار يتعارض مع الإيمان :

عن أبي شريح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن. قيل : ومن يا رسول الله؟

قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه» (٨٢)

وحق الجار يشمل الإحسان إليه والامتناع عن إيذائه بكل الوسائل المادية والمعنوية. عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قالوا : يا رسول الله! ما حق الجار على الجار؟

قال : «إن استقرضك أقرضته ، وإن استعانك أعنته ، وإن مرض عدته ، وإن احتاج أعطيته ، وإن افتقر عدت عليه ، وإن أصابه خير هنيته ، وإن أصابته مصيبة عزيته ، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذيه بريح قدرك

٤٣

إلا أن تغرف له. وإن اشتريت فاكهة فاهد له ، وإن لم تفعل فأدخلها سرا ، ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده» (٨٣).

ويؤدي الإحسان إلى الأقارب والجيران إلى إعمار الديار وطول الأعمار.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلة الرحم وحسن الجوار وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار» (٨٤).

ولئن أصبح الناس يسكنون في بنايات ذات طوابق عديدة ، وشقق ملتصق بعضها ببعض ، فهم في أمس الحاجة إلى هذه التربية التي تجعلهم متراحمين متعاطفين ، وتنزع منهم كل ما يكدر صفاء الأخوة.

ولا يقتصر التراحم والتعاطف في الإسلام على الأسرة والقبيلة والجيران والمحتاجين ، بل يشمل كافة أفراد المجتمع المسلم. فقد جعل الله المؤمنين إخوة ، وأمرهم بأن يكونوا متحابين ، وأن يصلحوا بين كل فريقين أو فردين تنازعا. قال سبحانه :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ (٨٥) إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ (٨٦) إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا (٨٧) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٨٨)

ومن مستلزمات هذه الأخوة أن يعامل كل فرد إخوانه كما يحب أن يعاملوه ، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ، وللمحافظة على الأخوة بين المسلمين نهى الله عن السخرية من الآخرين ، وعن ذكر عيوبهم ، وعن التجسس عليهم والظن السيء بهم. ونهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التباغض والتحاسد والتقاطع والهجر الطويل.

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا تباغضوا ولا تحاسدوا (٨٩) ولا تدابروا (٩٠) وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» (٩١).

ولذلك أيضا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلقاء السّلام على من عرفت ومن لم تعرف :

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، لا تؤمنوا حتى تحابوا. أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السّلام بينكم» (٩٢).

٤٤

كما أمر بإطعام الطعام وتبادل الهدايا وتقديم النصح والمجاملة بين الناس.

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«حق المسلم على المسلم ست. قيل : ما هن يا رسول الله؟

قال : إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته ، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه» (٩٣).

ويتعدى هذا البر والإحسان المسلمين إلى غيرهم من المواطنين والمعاهدين والمتسأمنين. قال تعالى :

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (٩٤)

ولا يتسع المجال لاستعراض كل الأحكام والمبادئ والآداب والأخلاق التي تسهم في التربية الاجتماعية ، فهذا يستغرق كتابا كبيرا ، وسنعرض في فصل قادم شيئا مما يتعلق بهذا الموضوع. كما أن للعبادات في الإسلام آثارا اجتماعية على قدر كبير من الأهمية سنبينها في فصل مقومات التربية إن شاء الله تعالى.

وكما حرص الإسلام على تربية الفرد تربية اجتماعية تجعله ينسجم مع الآخرين ويحسن إليهم ، ويمتنع عن إيذائهم والعدوان عليهم ، فإنه حرص على تربيته بما يجعله يسهر على سلامة مجتمعه وأمنه ، ويسهم في رقيه وتقدمه ، ويعمل على توجيهه لما يرضى الله ، ومنعه من الانحراف والضلال ، ووقايته من الزيغ والفساد.

* * *

٤٥

٤ ـ التربية الجمالية

لقد أضفى الله على كثير من مخلوقاته جمالا وزينة يحس به كل ذي حس مرهف وشعور دقيق. فالسماء يزينها القمر والنجوم :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ). (٩٥)

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ). (٩٦)

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). (٩٧)

والإنسان مركب على أحسن صورة وأجمل هيئة :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ (٩٨) فَعَدَلَكَ (٩٩) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ). (١٠٠)

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (١٠١)

والحيوانات التي سخرها الله للناس ، وأصبحوا يربونها لينتفعوا من لحومها وألبانها ، أو ليجعلوها مطية للسفر ونقل الأمتعة ؛ يشعرون حين ينظرون إليها بالمتعة والبهجة لما يلمسون فيها من الجمال والزينة* والأرض تزينها الأنهار والأشجار والورود والأزهار حتى إن هذه الزينة كثيرا ما تغري الناس بالاستمتاع بها ، وتنسيهم الغاية التي خلقوا لأجلها ؛ فيحتاجون إلى ما ينبههم لذلك بأمر يقضي عليها. قال تعالى :

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها (١٠٢) وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا (١٠٣) لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ (١٠٤) بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (١٠٥)

والحسن والجمال يتصف به كل شيء خلقه الله :

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ). (١٠٦)

ولقد فطر الناس على حب الزينة والاستمتاع بالجمال ، حتى إنهم ليركنون إلى الدنيا التي يجب أن يجعلوها طريقا للدار الآخرة.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ

٤٦

الْمُقَنْطَرَةِ (١٠٧) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ (١٠٨) وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ (١٠٩) ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ). (١١٠)

والله سبحانه أحل لعباده الزينة وأباح لهم الطيبات من غير إسراف أو تجاوز للحدود ، وندبهم إلى التزين حين الذهاب إلى المساجد وإقام الصلاة واجتماع بعضهم ببعض ، وحثهم على تناول الحلال الطيب الذي يجعلهم يرغبون فيما أعده الله للمتقين في الآخرة.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١١)

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الرائحة الحسنة ويكره الروائح الكريهة ، ويطيب نفسه حتى يرى أثر الطيب على جسده ، وتبقى رائحته في الطريق الذي سار فيه أو المكان الذي جلس فيه. ويعرف بأنه كان هناك.

عن عائشة رضي الله عنها ـ قالت : «كنت أطيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأطيب ما يجد حتى أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته» (١١٢).

كما كان يربي أصحابه على العناية بزينتهم وحسن مظهرهم :

عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال (أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال : «أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره»! ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة قال : «أما كان هذا يجد ما يغسل به ثوبه» (١١٣)

وعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا ثائر الرأس واللحية فأشار إليه بإصلاح رأسه ولحيته (١١٤).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«ومن كان له شعر فليكرمه» (١١٥).

وأوصى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القادمين على غيرهم بإصلاح أحوالهم فقال «إنكم قادمون على إخوانكم ، فأصلحوا رحالكم (١١٦) وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس. فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» (١١٧).

ومن ذلك أمره بتقليم الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

٤٧

«الفطرة خمس. الختان ، والاستحداد ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، ونتف الآباط» (١١٨).

أما اللحية فقد حث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تركها وافرة والإبقاء عليها لأنها زينة للرجال ، وبها يتميزون عن النساء.

عن أبي عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«انهكوا الشوارب ، وأعفوا اللحى» (١١٩).

غير أن ما يباح التزين به له حدود ، من تجاوزها وقع في الحرام. فلا يجوز للرجال أن يتزينوا بالذهب والحرير.

عن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ حريرا وذهبا فقال :

«هذان حرام على ذكور أمتي ، حل لإناثهم» (١٢٠).

ولا يجوز الخلط بين لباس الرجال وزينتهم ولباس النساء وزينتهن.

عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال :

«لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ؛ والمتشبهات من النساء بالرجال» (١٢١).

ولا يقتصر الجمال على ما ذكرناه ، بل يشمل كل ما يجد فيه الإنسان لذة بعقله وحواسه. قال الإمام أبو حامد الغزالي :

«وللإنسان عقل وخمس حواس ، ولكل حاسة إدراك ، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ : فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضر والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة ، وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشم الروائح الطيبة ، وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة ، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة. وللمس لذة اللين والنعومة والملامسة ، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة. وللعقل لذة العلم والمعرفة ، وهي في مقابلة الجهل والبلادة. فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها» (١٢٢).

وقال أيضا : «إن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس ، وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة والأول يدركه الصبيان

٤٨

والبهائم ، والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ، ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا. وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال» (١٢٣).

وهكذا تهدف التربية الجمالية إلى المحافظة على مواضع الجمال والزينة ، وعدم تشويهها ، وإلى العناية بأجسامنا وبيوتنا وممتلكاتنا ، والمحافظة على نظافة الطرقات والحدائق والمرافق العامة ، وجعلها جميلة تسر الناظرين ، كما تهدف إلى زيادة المتعة والشعور بالبهجة بكل ما هو جميل ، وإلى ابتكار وصنع الأشياء الجميلة مما يريح النفس من عناء العمل ، ويجعلها تقوم بواجباتها بدون شعور بالتعب ، ويدفع عنها الهموم والأحزان ؛ وذلك ضمن حدود الشرع ، ودون تجاوز للحلال إلى الحرام.

* * *

٤٩

٥ ـ التربية الانفعالية

يطلق الانفعال على المشاعر القوية لدى الإنسان كاللذة والألم والفرح والحزن والقلق والغيرة. ويميز الباحثون بين أنواع ومستويات من الانفعال فهناك الهيجان والعاطفة والهوى ، ولكل منها طابعه وخصائصه وتأثيره في تفكير الإنسان وتصرفاته. وقد تنحرف هذه الانفعالات عن النضج والاستواء فتحتاح إلى التربية الملائمة.

والهيجان اضطراب نفسي جسدي ، يحدث إثر مواجهة المرء لمثير عنيف ولا يدوم طويلا. ومثاله الخوف والغضب والفرح ؛ حيث يضطرب الشعور والتفكير ، وتضعف المحاكمة ، ويتغير لون الوجه وقسماته ، ويرتفع ضغط الدم أو ينخفض ، وتتغير سرعة التنفس عن حالتها العادية ، وقد يبطؤ الهضم ، ويزداد الإفراز البولي ... ويرافق هذه التغيرات سلوك إقدامي أو إحجامي يقوم به المنفعل ، فيهجم ويقاتل في الغضب ويهرب في الخوف ويضحك في الفرح.

ويتغير الهيجان في مثيراته ومشاعره وتعابيره حسب مراحل العمر ، ويصل إلى مستوى مناسب من النضج بعد البلوغ ، وحينئذ يتميز بالاعتدال ، فلا يكون المرء ضعيف التأثر متبلدا ، ولا سريع التأثر ، يثور لأتفه الأسباب كما يتميز بالواقعية في مجابهة مشاكل الحياة ، فيصبح الفرد موضوعيا في إدراكه للعالم المحيط به ، متحررا من الذاتية العاطفية والعقلية ، ومن الاتكالية على الآخرين. ويتميز أيضا بالتوازن بين جميع الانفعالات والدوافع ، فلا يوجد بينها ما هو مسيطر متحكم في الجميع ، ولا يضعف بعضها لدرجة الكبت الشديد. ويصبح الشخص قادرا على ضبط النفس واحتمال الصعوبات والحرمان ، وعلى تأجيل اللذات العاجلة من أجل تحقيق أهداف أبعد. ويتسم بالرصانة وعدم التقلب بين المرح والانقباض ، والفرح والحزن ، أو الضحك والبكاء والتحمس والفتور.

والنضج الانفعالي عامل أساسي للتكيف الاجتماعي السوي والصحة النفسية السليمة. فاضطراب الصلاة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية ناشئ عن اضطراب الانفعالات الإنسانية. كما إن النجاح أو الإخفاق في الحياة يتوقف إلى حد كبير على عوامل انفعالية. ويتعلق النضج الانفعالي بعدة عوامل وراثية واجتماعية وتربوية. والتربية السليمة تكون في تعليم الطفل حل مشاكله ومعالجة أموره دون أن يطلق العنان لانفعالاته ، ودون إسراف في كبح جماحه أو تدليله. وتحرص التربية على

٥٠

توجيه الانفعالات نحو المثيرات الاجتماعية المناسبة ، وتخليصه من أسباب الإثارة الطفولية ، إذا كانت لا تناسب الانفعال الناضج ، ولا تتفق مع متطلبات التكيف الاجتماعي. فمثيرات الفرح أو الغضب أو الخوف عند الطفل والمراهق لا تكون جميعها مقبولة عند الراشدين. ولذا ينبغي جعلها ناضجة معتدلة.

أما العاطفة فهي حالة انفعالية تتميز بشعور معين نحو موضوع ما ، وتتصف بالاستمرار والثبات ، كما تتميز بنزعة للقيام ببعض الاستجابات والتصرفات ، وبقابلية لإثارة الهيجان بما يتضمنه من حدة الشعور والسلوك ومن أمثلتها : الحب والكره والحقد والاحترام والإعجاب والاحتقار.

قد تكون العاطفة هادئة معتدلة ، وقد تكون قوية جياشة تسيطر على بقية العواطف ، وتأسر الشخص في شعوره وسلوكه ، وتجعله منجرفا في تيارها ، عاجزا عن مقاومة قوتها الدافعة ، مسخرا لما تمليه عليه. وهذا المستوى من العاطفة يسمى هوى. ومن أمثلته هوى شرب الخمر الذي يجعل صاحبه مدمنا عليه ، وهوى الرياضة الذي يجعله مندفعا نحوها ، يقضي وقته في ألعابها ، وينشغل تفكيره وشعوره بها ، وهوى فتاة يراها أجمل النساء ، ويجعله مندفعا في حبها ، منشغلا به ، ضعيف المحاكمة والموضوعية والمقارنة إزاءه. مستعدا للتضحية واقتحام الأخطار في سبيله.

وتنمو الحياة العاطفية كغيرها من جوانب الحياة النفسية ، فتزداد غنى واكتمالا حتى تصل بعد البلوغ إلى نضج نسبي يتميز بالاستقرار والارتقاء إلى الموضوعات الأسمى. ويؤثر الوسط الإجتماعي في نشأة العواطف نحو بعض الأشخاص كالأم والأب والمعلم والزميل والزعيم ، أو نحو بعض الأشياء والأعمال والقيم ، ولمبادئ المجتمع وقيمه وتطلعاته دور كبير في توجيه دوافع الأفراد وتركيزها حول بعض المواضيع دون بعضها الآخر.

وللعوامل الشخصية تأثيرها في التوجيه العاطفي للفرد ، فالشخصيات الانفعالية تتجه عواطفهم نحو الأشخاص ، وأصحاب الاستعدادات الحركية تتكون لديهم ميول نحو الرياضة أو الأعمال التي تحتاج إلى نشاط جسدي غالبا ، والقابليات العقلية تسهم في تكوين الميول نحو الموضوعات التي تتطلب التعمق الفكري.

وقد يميل الفرد إلى موضوع دون أن يتوفر لديه الاستعداد أو القدرة فيه وللخبرات السابقة دورها في تكوين العواطف ، لا سيما خبرات الطفولة ، سواء أكانت سارة أو مزعجة.

٥١

وتعمل العواطف على تحريض السلوك باتجاه إرضائها ، ويترافق إرضاؤها أو إحباطها بحالات من هيجانات اللذة أو الألم والفرح أو القلق. ولهذا تأثير في عمليات التعلم ؛ فالتعلم يستلزم القيام بسلوك هادف ، وهو يحصل بفعالية أفضل عند ما ينفعل المتعلم انفعالا ملائما يسهل الإقبال على موضوع التعلم والفرح به ، وبالتالي استيعابه واكتساب السلوك المطلوب. والعواطف تثير في المتعلم نشاطا انفعاليا وتوجهه نحو اختيار الاستجابات الملائمة لحاجاتها ، والتي تنفع في إحداث التعلم ؛ وبذلك يتغلب المعلم على مواقف اللامبالاة أو السلبية لدى المتعلمين.

ومن وسائل توظيف العواطف في التعلم المدرسي تنظيم موضوعات التعلم وطرائقه بحيث ترتبط بعواطف الطلبة ، وترضيها عن طريق القيام بالسلوك المطلوب لحدوث التعلم. ولذا دعا بعض المربين إلى نوع من المناهج سموه مناهج النشاط القائم على ميول التلاميذ ، حيث تنظم محتويات المنهج وطرائقه وفقا لميول المتعلمين ، وهي تفيد في إثارة اهتمام المعلم لربط مادة التعليم وطريقته بميول التلاميذ حتى يحقق تعلما أفضل (١٢٤).

وقد حرص الإسلام على التربية الانفعالية السوية ، فوجه عواطف الإنسان وانفعالاته نحو ما هو جدير بها ، وجعلها معتدلة بالشكل المناسب فالمحبة الخالصة تكون لله ورسوله ، ولا يوجد من يستحق الحب الكبير سواهما ؛ فالله هو الخالق الرزاق والمنعم بكل النعم ، وهو المتفضل بكل شيء. والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي هدانا إلى الصراط المستقيم ولا يصح إيمان المرء إذا منح حبه لشيء أكثر من الله ورسوله. قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها (١٢٥) وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا (١٢٦) حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (١٢٧)

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (١٢٨) والمؤمنون الصالحون يحبهم المؤمن لوجه الله ، أي لصلاحهم لا ليحصل على نفعهم. ويريد لهم الخير الذي يريده لنفسه.

عن أنس رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

٥٢

«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (١٢٩).

ومن المؤمنين من يقدم لغيره ما يحتاج إليه ، ويصل بذلك إلى أسمى الفضائل وأنبل التضحيات. وهذا هو الإيثار الذي أثنى الله على المتصفين به من الأنصار وغيرهم بقوله :

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ (١٣٠) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ (١٣١) فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٣٢)

وقد نهى الله عن مغالاة المرء بعواطفه وانفعالاته ، وأرشد إلى ما يجعلها متوسطة الشدة متزنة. قال سبحانه :

(لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (١٣٣)

كما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفق والاعتدال في الحب والبغض

عن أبي هريرة رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (١٣٤)

وسيأتي في بحث الأخلاق بيان كيفية معالجة الغضب والحد من نزواته وغيره من الانفعالات ، فلا نطيل بذكرها الآن.

* * *

٥٣

٦ ـ التربية الروحية

تطلق الروح على معنيين :

أحدهما : ما يفارق به الحي الميت ، وما يجعل أعضاء الجسم وحواسه قادرة على الحركة والحس والقيام بوظائها. وليس هذا المعنى مقصودا في بحثنا ، فهو سر غامض ، لا يتمكن الإنسان من فهمه بعقله القاصر وعلومه المحدودة. قال تعالى :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً). (١٣٥)

وثانيهما : هو القوة اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان.

وقد يطلق هذا المعنى على القلب ، وقد يطلق على النفس(١٣٦).

فمن إطلاق هذا المعنى على القلب ما جاء من وصفه بالخشوع والاطمئنان في قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ (١٣٧) وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). (١٣٨)

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. (١٣٩)

ومن اطلاقه على النفس ما جاء في قوله سبحانه :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (١٤٠)

وهذه الروح ميز الله بها الإنسان على سائر خلقه ، وجعله مستحقا التكريم والتفضيل :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (١٤١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ). (١٤٢)

والتربية الروحية أرفع أقسام التربية وأكثرها أهمية. وبقدر حصول الإنسان على التربية في هذا المجال يرتفع شأنه وتسمو نفسه. والنظم المادية التي تغفل عن هذه التربية تحط من شأن الإنسان ، وتخفض من مقداره ؛ لأن الإنسان ما هو إلا قبضة من طين ونفخة من روح الله ، ومن عناصر الطين يتركب جسده ، والجسد لا يحيا بدون الطعام والشراب المستخرجين من الطين. فالماء يتفجر من ينابيع الأرض ، ويجري فوقها أو ينزل من السماء ويختلط بترابها. والطعام الذي يتناوله الإنسان يحصل عليه من

٥٤

النباتات التي تستمد عناصرها من الطين ، أو من الحيوانات التي تتغذى بالنباتات ، وتتركب منها لحومها وألبانها. وكذلك الروح لا تستغني عن الغذاء ، وغذاء الروح هو المناسب لطبعها والملائم لجوهرها. ولا يعلم ما يناسبها ويلائمها إلا الله الذي أودع الروح في الإنسان. ومن رحمة الله بعباده أنه لم يتركهم يتخبطون في هذه الأرض ، ويضلون في أرجائها ، وإنما أنزل إليهم ما يهديهم سواء السبيل ، ويقيهم من الغواية والضلال. قال سبحانه :

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً (١٤٣) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). (١٤٤)

ولقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يجعل ما يصلح الجسد معروفا للناس ، وفي أنفسهم دافع قوي للحصول عليه. أما ما يصلح الروح فهو غامض ومعقد ، يحتاج إلى علم وبصيرة لكشفه والانتفاع به ومن خبثت نفسه لا يطلبه ولا يحرص عليه بل يعرض عنه وينفر منه. ولذلك جعل الله الناس يضربون في الأرض ويأكلون من رزقه ، وأرسل الرسل وأنزل عليهم الوحي الذي يصلح الأرواح ويسعد الأحياء.

والتربية الروحية تعني ما يؤدي إلى تهذيب النفس وسمو الإنسان والتحلي بالفضائل والبعد عن الرذائل.

ويكون ذلك بالعقيدة والعبادات والأخلاق الحميدة وهو موضوع الفصل التالي.

* * *

٥٥

هوامش الفصل الثاني :

__________________

(١) سورة التين : ٤

(٢) سورة البلد : ٨ ـ ٩

(٣) سورة لقمان : ١٤ ، ومعنى فصاله : فطامه

(٤) أي إن الدم المنفصل عن جسم الذبيحة يحرم تناوله ، ولا حرج في القطرات المتبقية في العروق.

(٥) أي نجس. ومعروف أن الخنزير يلتهم طعامه ، ولا يتحاشى النجاسات ، ولحمه موبوء ببيوض الدودة الوحيدة التي تتعلق بجدار الأمعاء إذا أكل لحمه ، ويصعب العلاج منها.

(٦) أي ما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه. وهذا وثيق الصلة بالعقيدة.

(٧) يباح أكل شيء من المحرمات حين الضرورة ، وبالقدر الذي تتوقف الحياة عليه ، بدون تجاوز لهذا المقدار. والآية في سورة الأنعام : ١٤٥

(٨) سورة الأعراف : ٣١

(٩) سورة البقرة : ١٨٣.

(١٠) يستر عوراتكم

(١١) سورة الأعراف : ٢٦

(١٢) أي يمتنعوا عن النظر إلى عورات الآخرين وإلى النساء الأجنبيات.

(١٣) أي يستروها ويعفوا عن الفاحشة

(١٤) أطهر

(١٥) أي ما وجد حرج في ستره ، وهو الوجه والكفان بدون زينة.

(١٦) الخمر : جمع خمار ، وهو غطاء الرأس. والجيب : فتحة الثوب من الأعلى التي يدخل فيها الرأس. أمرت النساء بإسدال أغطية رؤوسهن على أعناقهن وصدورهن.

(١٧) أزواجهن

(١٨) عبيدهن

(١٩) أي البلهاء الذين لا يميلون إلى النساء

(٢٠) أي الصغار دون سن التمييز

٥٦

__________________

(٢١) سورة النور : ٣٠ ـ ٣١

(٢٢) سورة الأعراف : ٢٧

(٢٣) رواه الشيخان والترمذي عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف ، خ ٥٧٢٨ ، ٥٧٢٩.

(٢٤) رواه أصحاب السنن عن أسامة بن شريك

(٢٥) أحياء علوم الدين ج ١ ص ٨٥.

(٢٦) نشر

(٢٧) سورة البقرة : ١٦٤

(٢٨) لأصحاب العقول.

(٢٩) سورة آل عمران : ١٩٠ ـ ١٩١

(٣٠) سورة الروم : ٢٢ ـ ٢٤.

(٣١) وجدنا

(٣٢) سورة البقرة : ١٧٠

(٣٣) يكفينا

(٣٤) سورة المائدة : ١٠٤

(٣٥) سورة لقمان : ٢٠ ـ ٢١

(٣٦) سورة الفرقان : ٤٣ ـ ٤٤.

(٣٧) سورة الرحمن : ١ ـ ٤

(٣٨) خاشع متعبد

(٣٩) ساعاته واطرافه

(٤٠) سورة الزمر : ٩

(٤١) رواه أبو داود في كتاب العلم ، والترمذي وابن ماجه في المقدمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(٤٢) رواه الترمذي عن أبي أمامة الباهلي.

(٤٣) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.

(٤٤) سورة فاطر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٤٥) سورة آل عمران : ١٨ والقسط : العدل.

٥٧

__________________

(٤٦) يصرفون عن الحق والإيمان

(٤٧) سورة الروم : ٥٥ ـ ٥٦

(٤٨) أخرجه ابن ماجه

(٤٩) أخرجه الترمذي من حديث أنس في كتاب العلم.

(٥٠) فرطنا : تركنا ، والكتاب : اللوح المحفوظ

(٥١) سورة الأنعام : ٣٧ ـ ٣٨

(٥٢) قطعا

(٥٣) مقابلة وعيانا فنراهم.

(٥٤) ذهب

(٥٥) تصعد

(٥٦) سورة الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

(٥٧) سورة البقرة : ٢٤٧.

(٥٨) سورة الروم : ٣١

(٥٩) سورة النساء : ١٩

(٦٠) سورة النساء : ٣٤ ومعنى قانتات : مطيعات لأزواجهن.

(٦١) ضعفا على ضعف

(٦٢) فطامه

(٦٣) المصير : المرجع. والآية في سورة لقمان : ١٤

(٦٤) رجع

(٦٥) سورة لقمان : ١٥

(٦٦) سورة العنكبوت : ٨

(٦٧) رواه الشيخان : البخاري في كتاب الأدب ٧٨ برقم ٥٩٧١.

(٦٨) رواه أبو داود في كتاب الأدب والترمذي

(٦٩) رواه أبو داود في كتاب الأدب.

(٧٠) رواه مسلم وأبو داود والترمذي

(٧١) البسط : الزيادة.

(٧٢) النسأ : التأخير.

(٧٣) الأثر : الأجل

٥٨

__________________

(٧٤) رواه الشيخان وأبو داود. خ ٧٨ ـ ك الأدب رقم ٥٩٨٥

(٧٥) سورة الإسراء : ٢٦.

(٧٦) الشيخان والترمذي ، خ ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠٠٦

(٧٧) الجار ذي القربى : من كان قريبا في النسب ، والجار الجنب بخلافه

(٧٨) الرفيق في السفر ، والزميل في المهنة

(٧٩) الأرقاء المملوكين

(٨٠) سورة النساء : ٣٦

(٨١) أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي. خ ك ٧٨ الأدب رقم ٦٠١٤.

(٨٢) بوائقه : شره. الحديث أخرجه البخاري ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠١٦

(٨٣) أخرجه أبو الشيخ في كتاب التوبيخ ، والطبراني من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ، والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وألفاظهم متقاربة ، وأسانيدهم واهية. (فتح الباري ج ١٠ ص ٤٤٦).

(٨٤) أخرجه أحمد عن عائشة بنسد رجاله ثقات (فتح الباري ١٠ / ٤١٥) ورواه البيهقي عنها. وهو حديث حسن.

(٨٥) تعدت

(٨٦) ترجع

(٨٧) اعدلوا.

(٨٨) سورة الحجرات : ٩ ـ ١٠.

(٨٩) الحسد : تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها.

(٩٠) أي لا تتهاجروا ، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دبره إذا أعرض عنه حين يراه.

(٩١) رواه البخاري ك ٧٨ ـ الأدب رقم ٦٠٦٥

(٩٢) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.

(٩٣) رواه الخمسة : البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

(٩٤) سورة الممتحنة : ٨. والقسط : العدل.

(٩٥) سورة الصافات : ٦

٥٩

__________________

(٩٦) سورة الملك : ٥

(٩٧) سورة فصلت : ١٢

(٩٨) جعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء.

(٩٩) جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء

(١٠٠) سورة الإنفطار : ٦ ـ ٨

(١٠١) سورة غافر : ٦٤

(١٠٢) بهجتها

(١٠٣) قضاؤنا أو عذابنا

(١٠٤) لم تكن

(١٠٥) سورة يونس : ٢٤

(١٠٦) سورة السجدة : ٧

(١٠٧) الكثيرة

(١٠٨) الراعية والمطهمة الحسان

(١٠٩) الأرض المتخذة للغراس والزراعة

(١١٠) المآب : المرجع والثواب. والآية في سورة آل عمران : ١٤

(١١١) سورة الأعراف : ٣١ ـ ٣٢

(١١٢) الوبيص : البريق. والحديث أخرجه البخاري في كتاب ٧٧ ـ اللباس رقم ٥٩٢٣

(١١٣) رواه أبو داود في كتاب اللباس. وروى النسائي شطره الأول في كتاب الزينة.

(١١٤) أخرجه مالك في الموطأ. وهو مرسل صحيح الإسناد.

(١١٥) رواه أبو داود في كتاب الترجل بسند حسن.

(١١٦) الرحل للناقة كالسرج للفرس ، ما يوضع عليها لتركب وتحمل الأثقال

(١١٧) رواه أبو داود عن أبي الدرداء عن ابن الحنظلية في ك. اللباس

(١١٨) رواه البخاري ك ٧٧ ـ اللباس رقم ٥٨٩١.

(١١٩) رواه البخاري ك. اللباس ٧٧ / ٥٨٩٣

(١٢٠) رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم.

٦٠