منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

٣ ـ مراعاة الفروق الفردية

لا ينكر اختلاف الناس في ذكائهم ومواهبهم وفي ميولهم وقدرتهم ، فمنهم الذكي والغبي والنابه والغافل ... فإذا أهملنا الفروق التي بينهم ، وحاولنا تربية الجميع على صعيد واحد ، أدى ذلك إلى ضياع الجهد وعدم تحقيق الفائدة المتوخاة. وذلك أن الذكي المجد إذا لم نقدم له ما يحتاج إلى التفكير ، وإذا لم تتناسب دروسه مع مستوى ذكائه ، فإنه يشعر بالملل ، وينصرف عن الدرس ، أو يتبلد ذهنه ، ويصبح كمن هو أدنى ذكاء منه. كما إن متوسط الذكاء إذا قدم له ما يصعب عليه فهمه فإنه يشعر بالإحباط ، ويتعذر عليه متابعة التعلم.

وقد سبق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبار المربين إلى العمل بهذا المبدأ ، فكان يخاطب كل قوم على قدر عقولهم ، ويؤتيهم من الحكمة ما يتناسب مع أفهامهم ، وينهى عن تكليم الناس بما لا يفهمونه ولا يتصورون حقيقته. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم ، ونكلمهم على قدر عقولهم» (٤١)

«كلموا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله» (٤٢)

«ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان فتنة عليهم» (٤٣).

فالعلم جوهرة ثمينة لا يعلم قدرها إلا الخبير بالجواهر. وهو الذي يصونها ، ويزين بها من يستحقها وهذا ما عناه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : «قام أخي عيسى ـ عليه‌السلام ـ في بني اسرائيل فقال :

«لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (٤٥)

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب» (٤٦)

وقد أدرك مربونا الأفاضل هذا المبدأ ، ونصوا على وجود مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب :

قال الإمام الغرالي في بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق :

«فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطيب نفوس المريدين ، ويعالج قلوب المسترشدين ، ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم وكما إن الطبيب لو عالج جميع

١٨١

المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ، ويبني على ذلك رياضته» (٤٥)

وقال الشيخ عبد الباسط العلموي في بيان آداب المعلم مع طلبته :

«ويفهم كل واحد بحسب فهمه ، ولا يبسط له الكلام بسطا لا يضبطه حفظه ، ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة. ويخاطب كلا على قدر درجته وفهمه وهمته ، فيكتفي للحاذق بالإشارة ، ويوضح لغيره بالعبارة ، ويكررها لمن لا يفهمها إلا بتكرار (٤٦) ، «ومن ذلك إذا سلك الطالب فوق ما يقتضيه حاله ، وخاف ضجره ، أوصاه بالرفق في نفسه ، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر أمره بالراحة. ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنه ، ولا بكتاب يقصر عنه ذهنه. فإن استشاره من لا يعرف حاله في قراءة فن مشكل أو كتاب مشكل لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ، ويعلم حاله. فإن لم يحتمل الوقت التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب ؛ فإن رأى فهمه جيدا نقله إلى كتاب يليق بذهنه ، لأن نقل الطالب الذكي يزداد به فهمه واجتهاده وانبساطه ، ونقل الطالب غير الذكي يكل فهمه ونشاطه» (٤٦).

* * *

١٨٢

٤ ـ وسائل المعرفة

يتعلم الإنسان بوساطة حواسه وعقله. فالحواس هي منافذ العقل على الكون ، والعقل يدرك المعلومات التي تنقلها إليه الحواس ، ويرتبها ويستنتج ما بينها من صلات وارتباطات ، ويحتفظ بها ، ثم يتذكرها في الوقت المناسب. وحين يتعلم الطفل الكلام ، ويفهم معاني الألفاظ التي يسمعها ، يصبح بالإمكان نقل معارف الآخرين إليه ، وبذلك يكتسب خبرات غيره ، ويطلع على ما لديهم من علوم.

وبإمكان الإنسان إذا تأمل في الأشياء التي يراها ، وفكر في العلاقات التي تحكمها أن يستنتج قوانينها ، ويحسن الانتفاع بها.

وأهم مصادر المعرفة الخبر الصادق الذي يسمعه المرء من غيره ، والرؤية المتيقنة التي رآها ببصره ؛ غير أنه لا يصبح ما سمعه المرء من الأخبار وما رآه من الأشياء معرفة حتى يدركه عقله ، وينظم العلاقة بينه وبين ما تلقاه من قبل.

قد أشار القرآن الكريم إلى وسائل المعرفة في الآية :

(وَلا تَقْفُ (٤٧) ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). (٤٨)

فقد نهانا الله في هذه الآية عن اتباع ما لا نعلمه ، وبين أن العلم يأتي بطريق السمع والبصر والفؤاد. والفؤاد هو القلب ، ولا يقصد به في هذه الآية وأمثالها تلك العضلة الصنوبرية الشكل الموجود في الجانب الأيسر من الصدر ، والتي تدفع الدم إلى أنحاء الجسم ، وإنما يقصد به ماله صلة بالعقل ، وما هو مناط التفكير. وهو كما يقول الغزالي «لطيفة ربانية روحية ، لها بالقلب الجسماني تعلق. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. وهو المدرك العالم العارف من الإنسان. وهو المخاطب والمطالب والمعاقب والمعاتب» (٤٩).

ومسؤولية الإنسان عن عقله وحواسه تقتضي منه المحافظة عليها واستخدامها فيما خلق لأجله ، وتقتضي منه تنمية قواه الفكرية وتوجيهه نحو ما ينفعه. ومسؤوليته هذه تحتم عليه ألا يقبل شيئا بلا برهان ، ولا يتبع احدا بغير دليل. وبذلك تتسع معارف الإنسان ، ويصبح عالما. وقد سئل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بم نلت العلم؟ فقال : بلسان سؤول وقلب عقول (٥٠).

١٨٣

وقد ذم الله المعطلين عقولهم وحواسه ، وشبههم بالحيونات التي حرمت العقل ، وجعل جهنم جزاء لهم : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا (٥١) لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). (٥٢)

فتعطيل العقل والحواس يحرم الإنسان من العلم الذي استحق به التكريم ، ويجعله يتخبط في الظلمات لا يهتدي إلى الحق ، ولا يستجيب لمن يدعوه إلى الإيمان.

قال تعالى :

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ). (٥٣)

ويكونون بذلك شر الدواب وأرذل المخلوقات :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ). (٥٤)

ولقد أرشدت هذه الآيات المسلمين إلى المنهج العلمي التجريبي الذي كان له أثر كبير في تقدم الحضارة ورقي البشرية. إذ كان الفلاسفة من قبل يتناقلون أكداسا من المعارف ، لا يستطيعون أن يفرقوا بين غثها وسمينها ، ولا أن يميزوا بين حقائقها وأوهامها.

فلما تلقى المسلمون هذه الآيات استنبطوا منها هذا المنهج في كشف العلم واكتساب المعرفة ، ثم اطلعوا على علوم الأقدمين ، وأخضعوها للبحث والتجربة ، وفصلوا بين صوابها وخطئها ، وانطلقوا يلاحظون ويجربون ، ويضعون قوانين العلوم وقواعد الحضارة ، حتى كانت تلك النهضة الرائعة التي لم تعرف لها البشرية مثيلا من قبل.

ولم تشهد أوربا نهضتها المعاصرة إلا بعد أن اطلعت على علوم المسلمين ، وأخذت منهجهم في العلم والمعرفة ، وسارت على طريقهم في البحث والتجربة. لكنها لم تتمكن من السير على الطريق الذي خطه القرآن الكريم إلا بعد ضلال بعيد وتخبط أعمى. فبعد أن كان سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد يعتقد أن المعرفة موجودة لدى كل إنسان ، ولكنها في حاجة إلى أن تولد وتستنبط (٥٥) نادى أصحاب الحركة الواقعية الحسية في القرن السابع عشر بأن المعرفة تأتي أولا عن طريق الحواس ، وأن التربية يجب أن تؤسس على الإدراك الحسي أكثر مما تبنى على نشاط الذاكرة (٥٦) وأصبح طريق الملاحظة والبحث والتجربة هو الطريق الوحيد للوصول إلى المعرفة (٥٦).

١٨٤

ولعل رابليه (١٤٨٣ ـ ١٥٥٣ م) أول المربين الذين جعلوا للعلوم المكان الأول بين جميع الدراسات الجديرة بالإنسان ، بعد أن أهمل العصر الوسيط دراسة الطبيعة. وكان فن الملاحظة يجهله أولئك الجدليون الذين لم يكونوا يريدون معرفة عالم الطبيعة إلا من خلال نظريات" أرسطو" ولم يكونوا يقيمون أي وزن لدراسة العالم المادي الذي هو دار فناء تحتقرها النفوس الخالدة (٥٧).

ويرى" كومنيوس" أن المعرفة تأتي من ثلاثة طرق : الحواس والعقل والوحي الإلهي. وأن الخطأ يمتنع إذا راعينا التوازن بينها جميعا (٥٨) وقد ضاهى المربين المحدثين في اهتمامه بالمشاهدة وملاحظة الأشياء الحسية واعتبارها التمرين الفكري الأول ، ومما يقوله في هذا :

(لم لا نفتح بدلا من الكتب الميتة كتاب الطبيعة الحي؟ إن تدريس الشبيبة لا يعني أن نطبع في ذهنهم حشدا من الألفاظ والجمل والأحكام والآراء التي نلتقطها من الكتب ، وإنما يعني أن نفتح ذكاءهم عن طريق الأشياء ، إن أساس كل علم هو أن نحسن اطلاع حواسنا على الأشياء المحسوسة كما يسهل فهمهما. بل إني لأرى أن هذا المبدأ هو مبدأ كل الأعمال الأخرى ، إذ لا نستطيع العمل والكلام بسداد وحكمة ما لم نفهم جيدا ما نريد أن نعمل أو نقول. ومن الثابت أن لا شيء في العقل لم يكن من قبل في الحس ؛ الأمر الذي يجعلنا نضع بحق أساس كل حكمة وكل بلاغة وكل عمل رشيد طيب ، حين ندرب الحواس بعناية على أن تدرك جيدا الفروق بين الأشياء الطبيعية ولما كانت هذه الناحية على فرط أهميتها مهملة عادة في مدارسنا اليوم ، ولما كان المعلمون يذكرون للطلاب أشياء لا يفهمونها أبدا ، لأن حواسهم لم تتمثلها ، وخيالهم لم يتصورها ، رأينا النصب في التعليم من جهة ، والمشقة في التعلم من جهة ثانية ، يسيطران ويورثان الضيق ، ولا ينتجان إلا ثمرات قليلة .. ينبغي ألا نقدم للشبيبة ظلال الأشياء وأشباحها ، بل علينا أن نقدم لهم الأشياء نفسها التي تحدث أثرا في الحواس والخيال وتنطبع فيها. ينبغي أن تبتدئ الثقافة بالملاحظة للأشياء لا بالوصف اللفظي لها) (٥٩)

وكذلك أنكر هربارت فكرة اشتمال النفس على قدرات عقلية فطرية ، وبين أنها ترتبط بالعالم الخارجي أو بالبيئة عن طريق الجهاز العصبي ، وبهذا الاتصال يتزود العقل بمبادئه ومعلوماته الأولية ، وذلك بطريق الإدراك الحسي ؛ وعن هذا الطريق تتكون الحياة العقلية للطفل. وتفاعل هذه الظواهر يؤدي إلى المدركات العقلية

١٨٥

العامة ، ثم بطريق عمليات مشابهة لهذا الإدماج أو هذا التفاعل يتكون الحكم والتفكير. ولذلك كان كل ما يجب على المدرس عمله هو أن يحصر جهوده في البحث في هذه المجموعة من المعارف التي تأتي إلى العقل من مصدرين أسايين هما : الخبرة أو الاحتكاك بالطبيعة ، والتحادث أو الاحتكاك بالمجتمع (٦٠)

* * *

١٨٦

٥ ـ الزامية التعليم

أمر الله بنشر العلم ، وعد كتمانه ذنبا كبيرا ، يلعن مرتكبه ما لم يتب إلى الله ، وينشر العلم المنزل لهداية الناس :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (٦١)

وهدد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين يمتنعون عن تعليم الناس ما يحتاجون إليه بالعذاب الأليم فقال :

«من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» (٦٢).

وهم بعقاب من يقصر في التعليم أو طلب العلم.

عن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال :

خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فأثنى على طوائف المسلمين خيرا ، ثم قال :

«ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون! والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم ، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون. أو لأعاجلنهم العقوبة».

ثم نزل. فقال قوم : من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال : الأشعريين ، هم قوم فقهاء ، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب.

فبلغ ذلك الأشعريين ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله! ذكرت قوما بخير ، وذكرتنا بشر ، فما بالنا؟

فقال : «ليعلمن قوم جيرانهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم. وليتعلم قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون ، أو لأعاجلنهم العقوبة في الدنيا».

فقالوا : يا رسول الله! أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم.

فأعادوا قولهم : أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا. فقالوا :

أمهلنا سنة. فأمهلهم سنة ليفقهوهم ويعلموهم ويعظوهم (٦٣).

١٨٧

ورغب ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في طلب العلم ونشره ، وخاصة القرآن الكريم والسنة والفقه ، فقال :

«خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (٦٤)

«نضر الله امرءا سمع منا شيئا فبلغه كما سمع ، فرب مبلغ أوعى من سامع (٦٥)»

«من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» (٦٦)

وأمر بالسفر لطلب العلم إلى أقصى البلاد ، فقال :

«اطلبوا العلم ولو بالصين» (٦٧)

وجعله فرضا على كل المسلمين رجالا ونساء :

«طلب العلم فريضة على كل مسلم» (٦٨).

فما يحتاج إليه المسلم من أركان الدين وأحكام العبادات ونظام المعاملات هو فرض عين. وما لا يستغني عنه الناس في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما ، والأصول والفقه والنحو والتصريف واللغة ، وما يحتاجون إليه في قوام أمور الدنيا كالطب والرياضيات والفلك والفيزياء والكيمياء هو فرض كفاية ، إذا قام به بعضهم بما يكفل صلاحهم سقط الفرض عن الباقين. وإلا أثم الجميع.

أصول العلم :

وأهم العلوم : القرآن الكريم والحديث الشريف والفقه في الدين ، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«العلم ثلاثة ، فما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، وسنة قائمة ، وفريضة عادلة» (٦٩).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (تعلموا الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن) (٦٩).

وقال ابن عبد البر : (وأما أصول العلم فالكتاب والسنة) (٧٠).

وقال أيضا : (طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ... فأول العلم حفظ كتاب الله عزوجل وتفهمه. وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه .. والقرآن أصل العلم ، فمن حفظه قبل بلوغه ، ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان

١٨٨

العرب ، كان له ذلك عونا كبيرا علي مراده منه .. ثم ينظر في السنن المأثورة الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزوجل في كتابه ، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وفي سير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيه على كثير من الناسخ والمنسوخ في السنن. ومن طلب السنن فليكن معوله على حديث الأئمة الثقات الحفاظ الذين جعلهم الله خزائن لعلم دينه وأمناء على سنن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ..

ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون على كتاب الله ، وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها وأشعارها ومجازها ، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه وسائر مذاهبها إن قدر ، فهو شيء لا يستغنى عنه.

وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يكتب إلى الآفاق أن يتعلموا السنة والفرائض واللحن ـ يعني النحو ـ كما يتعلم القرآن ..

وعن عاصم الأحول عن أبي عثمان قال : كان في كتاب عمر : تعلموا العربية وعن عمر بن زيد قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أما بعد فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية» (٧١).

وعن الربيع بن سليمان قال : سمعت الشافعي محمد بن ادريس يقول :

«من حفظ القرآن عظمت قيمته ، ومن طلب الفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في النحو رق طبعه ، ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم» (٧٢)

وقال ابن عبد البر أيضا : (والعلوم عند أهل الديانات ثلاثة : علم أعلى وعلم أسفل وعلم أوسط. فالعلم الأعلى عندهم علم الدين الذي لا يجوز لأحد الكلام فيه بغير ما أنزله الله في كتبه وعلى ألسنة أنبيائه صلوات الله عليهم ـ نصا. والعلم الأوسط هو معرفة علوم الدنيا التي يكون معرفة الشيء منها بمعرفة نظيره ، ويستدل عليه بجنسه ونوعه كعلم الطب والهندسة. والعلم الأسفل هو أحكام الصناعات وضروب الأعمال مثل السباحة والفروسية والرمي والتزويق والخط وما أشبه ذلك من الأعمال) (٧٣) (٧٤).

وقال أيضا : والحساب علم لا يكاد يستغني عنه علم من العلوم (٧٥).

١٨٩

إلزامية التعليم في أوربا :

هذا في بلاد الإسلام ، أما في الغرب فبقي معظم الناس محرومين من العلم قرونا طويلة ، وأول من نادى بإلزامية التعليم وشموله عندهم هو المصلح الديني" مارتن لوثر" الذي عاش في سنوات (١٤٨٣ ـ ١٥٤٦ م) حين أعلن أن المدارس يجب أن تفتح أبوابها للجميع : النبلاء والعامة ، الأغنياء والفقراء ، وتضم البنين والبنات. وطالب بأن يكون اليوم المدرسي ساعتين ليهيء لكبار التلاميذ وشبابهم الفرصة في أن يساهموا في تأدية الواجبات الاقتصادية في الحياة دون عائق. وقال : (يجب علينا أن نرسل الأولاد إلى المدرسة ساعة أو ساعتين في اليوم ، وندعهم يتعلمون بقية اليوم مهنة ما أو حرفة في المنزل ، ويجب أن يسير هذان الأمران جنبا إلى جنب). وكان رأيه في السلطات الحاكمة أنه محتم عليها أن ترغم رعاياها على إرسال الأطفال إلى المدارس (٧٤).

ولم يوجد نظام تعليم لعامة الشعب قبل سنة ١٥٢٩ ، ففي تلك السنة وضع" دوق وتمبرج" نظاما تعليميا خاصا ، لم تعترف به الدول إلا سنة ١٥٦٥ ، وذلك بإنشاء مدارس أولية قومية في جميع القرى ، يتعلم فيها الأطفال القراءة والكتابة والدين والموسيقى الدينية.

وأول مرة طبق فيها مبدأ التعليم الإجباري لجميع الطبقات كان في ولاية" ويمار" سنة ١٦١٩ ، فقد نص قانونها على أن جميع الأطفال من بنين وبنات يجب أن يبقوا بالمدارس من السادسة إلى الثانية عشرة.

وفي سنة ١٧٢٤ نص القانون على اشتراك البنات مع الأولاد في الدراسة. وفي سنة ١٧٧٢ أصبح التعليم الإلزامي نافذا من سن الخامسة إلى سن الرابعة عشرة.

وكذلك نادى" ملكاستر" (١٥٣١ ـ ١٦١١ م) وهو من أشهر المدرسين الإنجليز أن التعليم ليس مقصورا على الفتى ، بل هو حق للفتاة أيضا (٧٥).

وأكد كومنيوس في كتابه" المرشد الأكبر" الذي ألفه سنة ١٦٣٢ وجوب ارسال الأطفال من الجنسين إلى المدارس.

ويعتبر" روسو" أول من نادى بحقوق الرجل العادي السياسية والاجتماعية ، وبحقه في التربية منذ ولادته. غير أنه رأى أن تكون تربية المرأة مقننة وفق ما يقتضيه مصيرها كزوج ، وأن إرضاء الرجل ونيل محبته واحترامه وتربية الأولاد

١٩٠

والعناية بهم هي واجبات النساء في كل العصور ، وأن زوجها وحده هو الذي يثقفها ويجعلها على صورته ملبية لفائدته الخاصة (٧٦)

وكان" فردريك" الأكبر ملك" بروسيا" (١٧٤٠ ـ ١٧٨٦ م) و" ماريا تريزا" امبراطورة" النمسا" (١٧٤٠ ـ ١٧٨٠ م) في مقدمة الملوك الذين اعتقدوا أن رفاهية الشعب واستقراره يتوقفان على تعميم التربية والتعليم.

ففردريك الأكبر قرر في قوانينه المدرسية المشهورة التي أصدرها سنة ١٧٦٣ أن واجب رجال الحكم يحتم عليهم أن يبذلوا جهودهم لتحقيق سعادة وطننا وجميع طبقات الشعب في بلادنا ، وذلك بوضع الأسس الصحيحة في مدارسنا لتربية صغار الجيل تربية فكرية ودينية سليمة لتعويدهم الخوف من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوجيههم نحو أهداف أخرى مفيدة ، وبذلك جعل التعليم إجباريا ، وقرر أن يمرن المدرسون تمرينا كافيا ، ويكافؤوا على مجهوداتهم ، كما قرر تهيئة الكتب المدرسية اللازمة وتحسين الطرق وضمان الإشراف على التعليم والتسامح الديني في التربية. ولم يتم الانتقال إلى النظم الجديدة إلا في سنة ١٧٩٤.

وفي" انجلترا" أصبح التعليم إجباريا لمن هم دون العاشرة بمقتضى قانون سنة ١٨٧٠ ، ثم رفع سن التعليم الإجباري إلى الثانية عشرة سنة ١٨٩٩ وأباح قانون سنة ١٩٠٠ للمجالس المالية أن ترفع السن إلى الرابعة عشرة (٧٧).

* * *

١٩١

٦ ـ مجانية التعليم :

لا تتحقق الغاية من الزامية التعليم إذا حالت تكاليفه دون حصول كل شخص عليه ، وكان عجز الفقراء عن تلك التكاليف عائقا لهم عن طلب العلم. ولذا جعل الإسلام التعليم مجانيا ، ووفر العلم لطلابه بدون مقابل. ودليل ذلك أن الرسل ـ وهم أعظم المربين ـ كانوا يعلمون أقوامهم ما فيه صلاح دينهم ودنياهم بدون أن يأخذوا أجرا منهم وقال الله تعالى على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام :

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٨)

وقال على لسان هود عليه‌السلام :

(يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ). (٧٩)

وقال على لسان محمد عليه الصلاة والسّلام :

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (٨٠)

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). (٨١)

وحذر الله سبحانه من الامتناع عن تعليم ما أنزله من الكتب بدون مقابل ، ومن جعل كتابه وسيلة للحصول على الكسب الرخيص فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ).

(سورة البقرة : ١٧٤ ـ ١٧٥)

ووفر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم التعليم لأصحابه بدون مقابل وذلك حين جعل فداء الرجل من أسرى بدر ـ إذا كان متعلما القراءة والكتابة ـ أن يعلم عشرة من أبناء الأنصار ، بدون أن يطالب أولياءهم بشيء.

وهذا ما جعل العلماء يحرصون على نشر العلم ، لا يبتغون بذلك أجرا إلا من

١٩٢

الله. وكان أحدهم يعمل في التجارة أو الزراعة أو في إحدى الحرف لينفق على نفسه وعياله ، ويقنع بالقليل من الكسب ، ثم يجلس إلى طلاب العلم ، يعلمهم مما علمه الله وهو يرى نفسه يقوم بأعظم القربات.

ولم يكونوا يعدون الذين يأخذون على العلم أجرا من العلماء ، إذ قالوا :

لا يكون العالم عالما حتى تكون فيه ثلاث خصال : لا يحتقر من دونه ، ولا يحسد من فوقه ولا يأخذ على العلم ثمنا (٨٢).

وكان العلماء يوصون بالتنزه عن جعل العلم وسيلة لشيء من الأغراض الدنيوية قال الإمام الشيخ بدر الدين ابن جماعة في بيان آداب العالم في نفسه :

(أن ينزه علمه عن جعله سلما يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خدمة أو تقدم على أقرانه.

وكذلك ينزهه عن الطمع في رفق من طلبته بمال أو خدمة أو غيرهما بسبب اشتغالهم عليه وترددهم إليه) (٨٣).

وكان الخلفاء والأمراء يخصصون لطلاب العلم ما يكفيهم من النفقات عن يحي ابن أبي كثير قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن أجروا على طلبة العلم الرزق وفرغوهم للطلب (٨٤)

وكان الأغنياء يوقفون لطلاب العلم المعاهد التي يتعلمون فيها والمهاجع التي يبيتون فيها ، ويقدمون لهم الطعام واللباس وكل ما يحتاجون إليه. ولا تزال بقايا تلك المعاهد ماثلة في كثير من المدن الإسلامية حتى الآن.

أما الأجور التي كان يتقاضاها المعلمون في الكتاتيب من أولياء الأولاد الذين يتعلمون فيها فلا تتناقض مع مبدأ مجانية التعليم ؛ لأن المعلمين كانوا يأخذون أجرة مقابل قيامهم بعمل محدد هو تعليم الولد ، وكانوا ينقطعون للتربية والتعليم ، ولا يشتغلون بغير ذلك.

قال محمد بن سحنون : (لا بأس أن يستأجر الرجل المعلم على أن يعلم أولاده القرآن بأجرة معلومة إلى أجل معلوم ، أو كل شهر ، وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سميا منه).

وقال أيضا : (ولا بأس بالرجل يستأجر الرجل أن يعلم ولده الخط والهجاء وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفادي بالرجل يعلم الخط) (٨٥).

وكانت تلك الأجور يسيرة لا ترهق أحدا من الناس. وكان المعلمون لا يطالبون

١٩٣

الفقراء واليتامى بشيء. وكان يساوون بين أبناء الأشراف والفقراء في التعليم ، قال الإمام سحنون : (يجب العدل في التعليم ، ولا يفضل فيه بعضهم على بعض ولو تفاضلوا في الجعل (٨٦) أي في الأجرة التي يدفعونها.

وهكذا كان كثير من الشيوخ والمعلمين يحرصون على نشر العلم بدون أجر ، وكان بعضهم لا يرى بأسا في قبول أعطيات من الولاة أو الحصول على أجور زهيدة من التلاميذ ، أو الاستفادة مما تدره المزارع والمحلات الموقوفة للمعلمين وطلبة العلم.

وقد بعث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ـ يزيد بن أبي مالك والحارث بن أبي محمد إلى البادية ليعلما الناس السنة ، وأجرى عليهما الرزق ، فقبل يزيد ، ولم يقبل الحارث وقال : (ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجرا) فذكر ذلك لعمر فقال : (ما نعلم بما صنع يزيد بأسا ، وأكثر الله فينا مثل الحارث) (٨٧).

مجانية التعليم في بلاد الغرب :

على الرغم من تقرير مجانية التعليم عند المسلمين ، فإن بلاد الغرب لم تعمل بهذا المبدأ حتى القرن التاسع عشر :

ففي الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن أي مدرسة مجانية حتى ١٨٠٥ ، حيث نظمت" جمعية المدارس الحرة" التي سميت فيما بعد جمعية المدارس الشعبية بزعامة عمدة مدينة نيويورك مدرسة مجانية. وكان الهدف منها فتح أبواب التعليم المجاني لأبناء الفقراء الذين لم يوفقوا في الالتحاق بمدارس الكنيسة الموجودة. ولم تستقر فكرة المدارس المجانية فيها حتى صدر قانون سنة ١٨٦٧ بالغاء دفع أجور التعليم في المدارس العامة. ولم يتم هذا في بعص الولايات (٨٨).

وفي ألمانيا جعل التعليم اجباريا سنة ١٧٦٣ وعدلت قوانين المدارس البروسية سنة ١٨٢٥ ، ١٨٥١ ، ١٨٧٢ لتنص على زيادة مساهمة الحكومات المركزية في مساعدة المدارس وإلغاء دفع الآباء أجورا على التعليم.

وفي فرنسا جعل التعليم مجانا سنة ١٨٨١ وبعد ذلك بسنة جعل إجباريا (٨٩).

وبذلك يتضح سبق الإسلام إلى مبدأ الزامية التعليم ومجانيته ، وكان ذلك في عصر غلبت فيه الأمية على الناس ، وكان العلم قاصرا على الأمراء والوجهاء فلما دخل الناس في هذا الدين أقبلوا على العلم ينهلون من معينه بدون تمييز بين شريف وحقير وغني وفقير ؛ مما أدى إلى تلك النهضة العلمية الرائعة التي نفخر بها على مر الزمن.

١٩٤

٧ ـ خطوات الدرس

رأينا أن السمع والبصر والعقل وسائل أساسية في الحصول على المعرفة وإذا ما رشحت المعرفة إلى العقل عن طريق الحواس كلها فإنها تستقر فيه أكثر من أن ترشح إليه عن طريق حاسة واحدة وما يتلقاه المرء بسمعه وبصره معا فإنه يرسخ في عقله أكثر مما يتلقاه بالسمع أو البصر وحده.

ولقد وضع المربون والعلماء خطوات للدرس الذي يتعلمه الطالب وللمعرفة التي يحصل عليها. فإذا ما أراد استنتاج القانون الذي ينظم بعض الظواهر الطبيعة ، وليكن قانون تمدد الأشياء بالحرارة مثلا ، فإن ذلك يبدأ بملاحظة أشياء متنوعة في درجات حرارة مختلفة ، كملاحظة انحناء أسلاك الكهرباء بين عامودين ، وأن الانحناء يكون في الصيف أشد من الشتاء فإذا ما انتبه إلى هذه الملاحظة ، ووضع فرضية أن الحرارة هي السبب في التمدد ، فإنه يجب أن يتأكد منها بالتجربة. وعندئد يدخل المخبر ليخضع أجساما عديدة صلبة ومائعة وغازية للحرارة ، ويتأكد من تمددها ، ثم يتحكم في ظروف التجربة ، فيثبت العوامل المختلفة ، ويقيس ما يطرأ على عامل واحد متغير فيتوصل إلى حساب عامل التمدد في كل مادة وبذلك يتأكد من صحة فرضيته ، ويستنتج القانون العلمي.

وبعد ذلك يأتي التطبيق العملي لهذا القانون ؛ فالسكك الحديدية التي تسير عليها القطارات يجب أن تكون طليقة في إحدى نهاياتها ، وأن تترك فواصل بين أجزائها ، لتتمدد بدون أن تتقوس. والجسور الكبيرة يجب أن يراعى عند بنائها إمكان تمددها بدون أن تتصدع.

ويمكن حساب ما يناسب ذلك بكل دقة. وهكذا تكون الخطوات. الملاحظة والفرضية ثم التجربة والقياس ، واستنتاج القانون وهو المعرفة المراد الحصول عليها. ثم التطبيق العملي.

وقد تدل التجربة على خطأ فرضيته ، فيضع فرضية أخرى ، ثم يجري التجارب عليها. وقد تدل التجربة على تأثير عوامل مختلفة على الظاهرة التي يدرسها ، فيضطر إلى الكشف عنها ؛ ففي مثالنا السابق يؤثر الضغط في حجم الأجسام كما تؤثر الحرارة ، لكن زيادة الضغط تؤدي إلى تقلص الحجم ، بينما يؤدي ارتفاع الحرارة إلى تمدده.

١٩٥

وقد تشذ بعض العناصر عن القانون العلمي ؛ فالماء حين تنخفض حرارته فإن حجمه ينقص بحسب القانون العام. ولكنه حين يتجمد يزداد حجمه ، على عكس المائعات التي يقل حجمها حين تتجمد. ولهذا فإن الجليد يطفو على سطح الماء ، فإذا ما تجمدت البحار ، فإن الماء في أعماقها يبقى محتفظا بحرارته التي تسمح ببقاء الكائنات البحرية حية فيه.

وإذا ما ارتفعت الحرارة في الصيف ذاب الجليد. ولو لا ذلك لترسب الجليد في القاع ، ولما حصل على الحرارة التي تميعه ثانية.

خطوات الدرس النظري :

وإذا ما أردنا تعليم الطلاب درسا نظريا ، فأول خطوة هي التمهيد ، لينتبه الطلاب ، ويدركوا أهمية الدرس ، ويرغبوا فيه ، فيصبحوا مصغين إليه مستعدين لفهمه. قال الله تعالى :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٩٠)

لما كان المشركون لا يرغبون في الاستماع للقرآن ، وكانوا يحاولون صرف الناس عنه برفع أصواتهم باللغط من القول ، ووصف الله محاولتهم هذه بقوله :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). (٩١)

لما كانوا غير مهيئين لسماع القرآن ، فقد تنزلت بعض السور مبتدئة بألفاظ لم يكونوا يبدؤون كلامهم بها وهي الحروف المتقطعة ، مما لفت انتباههم ، وجعلهم يعجبون من أسلوبه ، ويستمعون إلى آياته.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمهد للمسألة ، ويقربها من فهم السامع ، ويجعله في حالة مناسبة لتقبل حكمها قبل أن يبينه له ، بل كان يجعله يستنتج الحكم بنفسه.

١٩٦

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابيا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، وإني أنكرته

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل لك من إبل؟ قال : نعم.

قال : فما ألوانها؟ قال : حمر

قال : هل فيها من أورق (٩٢)؟ قال : إن فيها لورقا.

قال : فأنى ترى ذلك جاءها؟ قال : يا رسول الله عرق نزعها.

قال : ولعل هذا عرق نزعه. ولم يرخص له في الانتفاء منه (٩٣).

والخطوة الثانية هي عرض أفكار الدرس بشكل متسلسل بحيث ينتقل مما تتقبله العقول بالبداهة إلى ما يحتاج إلى نظر وبرهان. ومن المقدمة إلى النتيجة.

وينبغي على المدرس أن لا يسرد الكلام سردا بل يتمهل فيه ويكرره ، ليسهل فهمه واستيعابه.

وقد روي أن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فصلا ، يفهمه من سمعه وأنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه.

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :

«ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل ، يحفظه من جلس إليه (٩٤)»

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال :

«كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه» (٩٥)

وينبغي أن يكون صوت المدرس مناسبا ، فلا يرفعه زيادة على الحاجة ، ولا يخفضه خفضا يمنع طلابه من كمال الفهم فإن حضر ثقيل السمع ، فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه. ويشير إلى اعتدال الصوت قوله تعالى :

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (٩٦)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (٩٧)

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«إن الله يحب الصوت الخفيض ، ويبغض الصوت الرفيع» (٩٨)

١٩٧

وقد ذكر مربونا الكبار أن المدرس يجب أن يكون مرتاحا نشيطا على أحسن حال حين الدرس ، وأن مجلس الدرس يجب أن يكون مناسبا أيضا قال الشيخ عبد الباسط العلموي وهو يستعرض آداب المدرس :

(ومن الآداب أن لا يدرس وبه ما يزعجه ويذهب استحضاره كمرض أو جوع أو عطش أو مدافعة حدث ، أو شدة فرح أو غم أو غضب أو نعاس أو قلق ، ولا في حالة برده المؤلم وحره المزعج فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب ، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر. ولا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين ، بل يكون واسعا مصونا من الحر والبرد والريح والغبار والدخان ونحو ذلك) (٩٩)

(وأن يصون مجلسه عن اللغط وعن رفع الأصوات وسوء الأدب في المباحثة واختلاف جهات البحث .. وليزجر من تعدى في بحثه وظهر منه سوء أدب أو كدر (١٠٠).

أو ترك انصاف بعد ظهور الحق ، أو أكثر الصياح بغير فائدة ، أو أساء أدبه على غيره. أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه ، أو نام ، أو تحدث مع غيره ، أو ضحك ، أو استهزأ بأحد) (١٠١)

وكتابة الدرس أو أفكاره الأساسية تساعد على حفظه والرجوع اليه في كل حين وقد أقسم الله تعالى بالقلم وما يكتب به ، وفي هذا تنيبه إلى ضرورة الإمساك بالقلم وتعلم الكتابة وتقييد العلم. قال سبحانه :

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ. ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). (١٠٢)

ووردت أثار وأخبار تدل على فضل كتابه العلم :

فعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قيدوا العلم بالكتابة» (١٠٣).

وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (١٠٣).

وعن عطاء عن عبد الله بن عمرو قلت : (يا رسول الله : أأقيد العلم؟

قال : قيد العلم. قال عطاء : وما تقييد العلم؟ قال : الكتاب» (١٠٣).

وعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم في الرضا والغضب! فأمسكت عن الكتاب ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأومأ باصبعه إلى فيه وقال : «اكتب فو الذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق (١٠٣).

١٩٨

وبعد فتح مكة خطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهلها. فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله. فقال : " اكتبوا لأبي فلان" فكتبت له تلك الخطبة (١٠٣).

وعن معاوية بن قرة قال : (من لم يكتب العلم فلا تعدوه عالما) (١٠٣)

وعن أبي زرعة قال : سمعت أحمد بن حنبل ويحيى بن معين يقولان :

(كل من لا يكتب العلم لا يؤمن عليه الغلط) (١٠٣).

وأما ما ورد من كراهية كتابة العلم! فذلك كما يقول ابن عبد البر لوجهين :

أحدهما أن لا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهى به.

وثانيهما لئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ ، فيقل الحفظ كما قال الخليل :

ليس بعلم ما حوى القمطر (١٠٥)

ما العلم إلا ما حواه الصدر (١٠٦).

وطول الدرس يجب أن يكون معتدلا ، فلا يطول بحيث يؤدي إلى الملل والضجر ولا يقصر بحيث لا يتسع له. قال الشيخ بدر الدين ابن جماعة :

(وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلا يمل ، ولا يقصره تقصيرا يخل. ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة في التطويل) (١٠٧).

وطرق التدريس تختلف من مادة إلى أخرى. وقد ذكرنا في الفصل القادم أهم الطرق التي يشير إليها القرآن والسنة. ولا بد من الاستفادة من الكتب التي تبين أصول التدريس في كل مادة. ويتوقف نجاح المدرس على اختيار الطريقة المناسبة لدرسه.

والخطوة الثالثة هي مذاكرة الدرس : وذلك لحث الطلاب على الانتباه والفهم ، والتمييز بين الذكي منهم ومتوسط الذكاء ، وإعادة ما يحتاج من الدرس إلى شرح ، وتفهيم من لم يفهم. وآخر الدرس هو المناسب لمذاكرته وطرح أسئلة تتعلق به. ويمكن طرح مثل هذه الأسئلة في بدء الدرس للوقوف على معلومات الطلاب السابقة ، وفي أثناء الدرس لجعلهم يتابعونه ، وينتبهون إلى كل فكرة فيه. كما يمكن ذلك في وقت آخر ولقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطرح المسألة على أصحابه ، ليختبر ما عندهم من العلم ، فعن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، وإنها مثل المسلم. حدثوني ما هي؟ قال : فوقع الناس في شجر البوادي.

١٩٩

قال عبد الله : فوقع في نفسي إنها النخلة. ثم قالوا : حدثنا ما هي يا رسول الله قال : هي النخلة» (١٠٨)

ووجه شبه النخلة بالمسلم أن بركتها موجودة في جميع أجزائها ، ومستمرة في جميع أحوالها. فمن حين تطلع إلى أن تيبس ، تؤكل أنواعا. ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها ، حتى النوى في علف الدواب. ويصنع منها الليف والحبال وكذا بركة المسلم عامة في جميع الأحوال ، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته (١٠٩).

وعن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

«يا أبن المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟

قال : قلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...).

قال : فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر» (١١٠)

وعن معاذ بن جبل قال : كنت ردف (١١١) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال :

«هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.

أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم.

قال : حق الناس على الله أن لا يعذبهم.

قال : قلت : يا رسول الله! ألا أبشر الناس؟ قال : دعهم يعملون (١١٢)».

وقد نص كبار المربين على فائدة مذاكرة العلم. قال الشيخان العلموي المتوفى بدمشق سنة ٩٨١ ه‍. وبدر الدين محمد بن ابراهيم بن سعد الله بن جماعة المتوفى سنة ٧٣٣ ه‍.

«ينبغي على المعلم أن يطالب تلاميذه بإعادة محفوظاتهم ، فمن وجده حافظا مراعيا لمحفوظاته ومهماته وقواعده أثنى عليه وأشاع ذلك ، ومن وجده مقصرا عنفه وأعاده له ليحفظه حفظا راسخا ... وينبغي أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل ، ويختبر بذلك أفهامهم .. وإذا فرغ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة ، وإعادة ذكر ما أشكل منه ليمتحن بذلك فهمهم وضبطهم لما شرحه لهم. فمن ظهر استحكام فهمه شكره ، ومن لم يفهم تلطف في إعادته. وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافعة في الدروس ، وإعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه ليثبت في أذهانهم» (١١٣).

٢٠٠