منهج التربية في القرآن والسنّة

عمر أحمد عمر

منهج التربية في القرآن والسنّة

المؤلف:

عمر أحمد عمر


المحقق: الدكتور وهبة الزحيلي
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

__________________

(١٢١) رواه البخاري ك. اللباس ٧٧ / ٥٨٨٥

(١٢٢) إحياء علوم الدين : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١ ، ج ٤ ص ٣٠٣

(١٢٣) إحياء علوم الدين : ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٧١ ، ج ٤ ص ٣٠٣

(١٢٤) التربية العامة (٢) للدكتور انطون حبيب رحمة ص ١٩١ ـ ٢١٩

(١٢٥) اكتسبتموها

(١٢٦) انتظروا

(١٢٧) سورة التوبة : ٢٤.

(١٢٨) رواه الشيخان والنسائي.

(١٢٩) رواه الشيخان والترمذي والنسائي. خ. ك الإيمان ٢ / ١٣

(١٣٠) حاجة

(١٣١) حرصها على المال

(١٣٢) سورة الحشر : ٩

(١٣٣) سورة القصص : ٧٦

(١٣٤) رواه الترمذي والبيهقي ، والطبراني عن ابن عمر.

(١٣٥) سورة الإسراء : ٨٥

(١٣٦) إحياء علوم الدين : ج ٣ ص ٤

(١٣٧) خافت

(١٣٨) سورة الأنفال : ٢

(١٣٩) سورة الرعد : ٢٨

(١٤٠) سورة الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

(١٤١) المراد بالصلصال : التراب اليابس ، والحمأ : الطين ، والمسنون : الأملس الصقيل.

(١٤٢) سورة الحجر : ٢٨ ـ ٢٩

(١٤٣) بمعنى ضيقه

(١٤٤) سورة طه : ١٢٣ ـ ١٢٤.

٦١
٦٢

الفصل الثالث

مقومات التربية

تقوم التربية في القرآن والسنة على مقومات تجعلها تمتد عميقا في جذور النفس البشرية ، وتسمو بها إلى أعلى المراتب ؛ فتصفيها من كل ما يعلق بها من الأدران ، وتزيل عنها كل ما يتراكم عليها من الران ، وتجعلها تسير بخطوات هادئة مستقيمة على أرض الواقع البشري ، وتحلق في جو الكمال الإنساني.

وهذه المقومات هي : العقيدة التي يفيض بها القلب ، فتجعل النفس نقية مطمئنة ، والعبادة التي يقوم بها المرء ، فتزيده صفاء وإشراقا ، والأخلاق التي يتحلى بها فترفعه إلى عليين.

أولا العقيدة

تطلق العقيدة على الفكرة التي اقتنع بها المرء قناعة تامة ، فقبلها عقله واستقرت في قلبه ، واطمأنت بها نفسه ، وامتزجت بروحه.

وهي تشمل في هذا الدين أركان الإيمان الستة التي ذكرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

«الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره» (١) وبينها الله سبحانه وتعالى في قوله :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). (٢)

وحذر من الكفر بها في قوله :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً). (٣)

أما الإيمان بالقضاء والقدر فقد ورد في آيات أخرى ، نبينها بعد تناول ما سبقه من الأركان بالأدلة والتفصيل ، ونذكر الآثار التربوية لكل منها إن شاء الله تعالى ، وبه التوفيق.

٦٣

١ ـ الإيمان بالله

إن الإيمان بالله جل جلاله أهم قضية في الدين ، وأعظم أساس في التربية. ولا يحتاج الإيمان بالله إلى أدلة فلسفية وبراهين معقدة رغم كثرة الأدلة التي تدل على وجوده ووضوحها. ومنها :

١ ـ دليل وجداني :

إن الإنسان مهما كان بعيدا عن الله في حياته ، ومهما جادل وعائد في وجوده فإنه يلتجئ إلى الله حين المصيبة ، ويدعوه حين الشدة قال سبحانه :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). (٤)

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً). (٥)

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً (٦) إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ (٧) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً (٨) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). (٩)

ولو بقي الإنسان على الحالة التي خلقه الله عليها لكان مؤمنا بالله مائلا عن الشرك ، كما قال سبحانه :

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً (١٠) فِطْرَتَ اللهِ (١١) الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (١٢)

ولكن التأثير السيء للمجتمع ، والتربية المنحرفة للأسرة يجعل الإنسان يتردى في مهاوي الشر والوثنية.

٢ ـ دليل اجتماعي تاريخي :

إن البشرية منذ أن كفرت في عهد نوح ـ عليه‌السلام ـ وما بعده ، لم تنكر وجود الله عزوجل ، ولم تخل أي لغة من لغاتها من كلمة تدل عليه. وإنما كان كفرهم يتجلى في شركهم بالله وعبادتهم الأصنام وكانوا لا يتصورون حقيقة الإلهية تصورا صحيحا ، ولا يجعلون علاقتهم بالله وبالكون الذي يعيشون فيه. مستمدة من شريعة الله.

٦٤

ولم ينكر الكافرون في أي عصر عدا قلة من الذين تمادوا في طغيانهم وشذوا في تفكيرهم وجود الله سبحانه ، وإنما كانوا يعترضون على شخص الرسول وعلى دعوته ، ويرفضون ترك آلهتهم واتباعه :

فقوم نوح اعترفوا بوجود الله ، ولكنهم لم يصدقوا بأنه أرسل إليهم رسولا من البشر مثلهم ، وظنوا أن رسل الله يكونون من الملائكة لا من البشر. قال تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ). (١٣)

وقوم عاد أصروا على الشرك بالله ، وعلى عبادة ما كان يعبد آباؤهم

(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ (١٤) ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (١٥)

وقوم ثمود اعترضوا على الرسالة ، وكفروا بما جاء به الرسول :

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ). (١٦)

والمشركون من العرب أقروا بأن الله هو الخالق لكل شيء :

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ). (١٧)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (١٨)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً (١٩) لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٢٠)

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). (٢١)

٦٥

وعبادة الأصنام تدل على أن الإنسان لا يستغني عن إله يعبده ويتقرب إليه ، فإذا لم يعبد الإله الحق عبد آلهة زائفة ، وإذا لم يهتد إلى العبادة الصحيحة قام بطقوس يعتبرها عبادة.

والكفر عارض في تاريخ البشرية ، والإيمان هو الأصل وكلمة الكفر نفسها تدل على وجود الله ، لأنها بمعنى التغطية ، فهي محاولة لإخفاء شيء موجود ، ولو كشف الغطاء لظهر وجوده لكل ذي بصيرة ، وكل شيء غطى شيئا فقد كفره ، ومنه سمي الكافر لأنه يستر نعم الله عليه. والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب والكفار : الزراع (٢٢)

٣ ـ دليل الوجود :

إن وجود هذا الكون الذي نعيش فيه يدل على وجود الله عزوجل ذلك أن الكون وما فيه من مجرات وشموس وكواكب لم يكن موجودا من الأزل وإنما وجد من العدم. ولقد كان الفلاسفة المسلمون يستدلون على ذلك بما يطرأ على الكون من تغير وتبدل ، وبما أن كل متغير حادث ؛ لأن القديم يبقى على حال واحدة ، فالكون حادث مخلوق. قال الإمام الغزالي رحمه‌الله :

«كل جسم فلا يخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فيلزم منه إن كل جسم فهو حادث إذ لا يستريب عاقل قط في ثبوت الأعراض في ذاته من الآلام والأسقام والجوع والعطش وسائر الأحوال ولا في حدوثها ، وكذلك إذا نظرنا إلى أجسام العالم لم نسترب في تبدل الأحوال عليه ، وأن تلك التبديلات حادثة (٢٣)».

والعلماء في هذا العصر متفقون على حدوث الكون ، ويحسبون عمره بما يتراوح بين خمسة آلاف إلى عشرين آلف مليون سنة. وتعليل وجوده لا يتعدى ثلاثة افتراضات هي :

أ ـ وجد بدون موجد : وهذا الافتراض لا يقبله عقل ، لأن المادة تتصف بالعطالة فلا توجد بدون موجد ، ولا تتحرك بدون محرك. وقانون السببية الذي هو من بديهيات العقل ، يجعل الإنسان يسأل عن موجد الكون ، ولا يصدق بإمكان وجوده بدون موجد.

ب ـ أوجد نفسه بنفسه : وهذا الافتراض لا يقل في تهافته عن السابق ، لأن المعدوم لا وجود له ، فلا يمكن أن يوجد نفسه ، ولا بد له من موجد.

ج ـ هناك قدرة عظيمة أوجدت الكون. وصاحب هذه القدرة لا يمكن أن يكون أحد أجزاء هذا الكون ، لأن الإنسان أعظم الكائنات لا يستطيع أن يوجد ذرة رمل من العدم فضلا عن خلق نفسه وخلق هذا الكون الهائل.

٦٦

قال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٢٤)

ومن صنع شيئا بدقة وإحكام فإنه لا يسمح لغيره بأن ينسب لنفسه ما صنعه. فصاحب القدرة العظيمة الذي خلق الكون هو الله ، وهو الذي أرسل الرسل وأنزل الكتب إلى الناس ليؤمنوا به ويعبدوه.

٤ ـ دليل الحكمة والنظام :

ليس هذا الكون موجودا بشكل عشوائي ، بل منظم تنظيما دقيقا يدل على اتصاف خالقه بالقدرة والعلم والحكمة. وآيات القرآن الكريم تلفت أنظار الناس إلى هذا الكون ونظامه العجيب ، ليكون إيمانهم بالله نتيجة للنظر والتفكير في بديع صنعه.

قال تعالى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٢٥).

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (٢٦) يَطْلُبُهُ حَثِيثاً (٢٧) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). (٢٨)

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ (٢٩) وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ (٢٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (٣٠)

والله هو الذي سخر الشمس والقمر والنجوم والبحار والليل والنهار والجبال والأنهار للناس.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَما ذَرَأَ (٣١) لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ (٣٢) وَلِتَبْتَغُوا (٣٣) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى

٦٧

فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ (٢٩) أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣٤)

وتوالي الليل والنهار ، ونقصان أحدهما وطول الآخر ، بما يتناسب مع فصول السنة ، وبما يتفق مع دورة الحياة لدى النباتات شاهد على وجود الله وحكمته.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ (٣٥) وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). (٣٦)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً (٣٧) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا (٣٣) مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٨)

ودوران الشمس والقمر والنجوم والكواكب بسرعة منتظمة ، وبدون أن تنحرف عن أفلاكها المرسومة لها منذ آلاف السنين دليل على قدرة الله وعلمه :

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). (٤٠) وكلما تقدم العلم اكتشف العلماء في الكون الفسيح وفي الأنفس البشرية مزيدا من الأدلة الشاهدة علي وجود الخالق والناطقة بالحق الذي يقوم عليه هذا الدين ، والذي جاء به الكتاب المنزل :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). (٤١)

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). (٤٢)

٥ ـ دليل الحياة :

لم يكن أي شكل من الحياة على ظهر الأرض عند بدء تكوينها فقد كانت حرارتها مرتفعة إلى درجة لا تتحملها الكائنات الحية ، ولم يكن هواؤها مناسبا للحياة كما يقول العلماء. ثم ظهر عليها النباتات والحيوانات والإنسان بعد عصور مديدة.

٦٨

وسواء أكان الكائن الحي بسيطا أو معقدا ، وبدائيا أو راقيا فلا يمكن أن يوجد بنفسه. إذ لا يمكن للمادة الميتة أن تدب فيها الحياة بدون خالق. ولقد أجرى علماء الشرق والغرب تجارب طويلة استغرقت عشرات السنين ، حاولوا فيها أن يحولوا المادة الميتة إلى أبسط أجزاء الخلية الحية فلم يستطيعوا وباؤوا بالفشل الذريع.

ولا يمكن أن يكون أصل الحياة هبط إلى الأرض من الكواكب والنجوم الأخرى ، لأن كواكب المجموعة الشمسية التي هي أقرب إلى الأرض من غيرها لم يكتشف العلماء وجود كائنات حية عليها. وهي بسبب قربها من الشمس أو بعدها عنها ، وبسبب تركيب جوها المختلف في نسبة عناصره عن جو الأرض لا تصلح للحياة الموجودة على هذا الكواكب. ولو وجدت حياة على الكواكب التابعة للشموس الأخرى فلا يمكن أن تقطع مسافات تقدر بالسنين الضوئية (٤٣) لتهبط على كوكبنا. ولو أمكن ذلك لعدنا نسأل عن سبب نشوء الحياة فيها.

وبعد انبثاق الحياة لا يمكن استمرارها وتكاثرها بالانقسام أو التوالد بدون خالق جعل فيها هذه الخاصية ، وأوجد لها ما تحتاج من عناصر للغذاء والنمو والبقاء إلى أجل مسمى.

ولترسيخ الإيمان بالخالق أمرنا بالتفكير في خلق الحيوانات ، كما أمرنا بالتفكير في خلق السموات والأرض ، وجعلها ممهدة لعيش الانسان.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ). (٤٤)

وأمرنا بالتفكير في خلق أنفسنا وأصل تكويننا :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ). (٤٥)

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٤٦) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٤٧) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ). (٤٨)

وأمرنا بالتفكير في أعضائنا وحواسنا :

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٤٩)

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٥٠) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٥١). أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٥٢).

٦٩

وأمرنا بالنظر في المراحل التي يمر بها الإنسان منذ أن يكون نطفة حتى يصبح جنينا سوي الخلق ، ثم حتى يدركه الموت ، ويبعث يوم القيامة :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً (٥٣) فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ). (٥٤)

فالله ـ جل جلاله ـ هو خالق الأحياء ، وهو الذي يحفظ حياتهم ولا يمكن لغيره أن يخلق أتفه الحشرات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). (٥٥)

٦ ـ دليل القدرة والطاقة :

لقد اكتشف العلماء في هذا الكون ملايين المجرات ، وفي كل منها مئات الألوف من النجوم ، وهذه النجوم تنطلق منها طاقات هائلة على شكل ضوء وحرارة منذ آلاف الملايين من السنين. ولا يمكن لهذه الطاقة أن تنطلق بنفسها ؛ فالعلماء يعملون سنوات طويلة لبناء مصنع يولد الطاقة من الفحم أو النفط أو نتيجة لانفجار الذرة أو التحام الذرات أو غير ذلك ، ومهما كان هذا المصنع من الضخامة فإن الطاقة التي يولدها تكون محدودة ، ولا يصلح للعمل أكثر من سنوات لا تبلغ مدة حياة الإنسان على هذه الأرض ولا بد من إله خلق الشموس والنجوم ، وجعلها تشع الضوء وتنشر الدفء بالمقدار اللازم للحياة

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (٥٦)

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً). (٥٧)

٧ ـ دليل الوحي :

ورغم وضوح الأدلة والبراهين العقلية والعلمية المنتشرة في هذا الكون الفسيح على وجود الخالق ، فإنه سبحانه أوحى إلى بعض عباده ليدلوهم على ربهم ، ويهدوهم إلى الإيمان به. وسنبين ذلك في موضوع الإيمان بالكتب والرسل.

٧٠

وحدانية الله تعالى

مع اعتراف معظم الناس بوجود الله عزوجل ، فإن أكثرهم يشركون به في الاعتقاد والتصور ، أو في الوجدان والمشاعر ، أو في الطقوس والعبادات :

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٥٨).

والشرك قد يكون في صورة سافرة أو خفية ، في القلب أو في الجوارح. فشرك القلب يكون في اعتقاد وجود إلهين أو أكثر :

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ). (٥٩)

وليس لله والد ولا ولد ، وليس له مثيل :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ (٦٠) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٦١)

وكيف يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ، وهو الخالق لكل شيء ، وليس له شريك.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا (٦٢) لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). (٦٣)

ولو كان مع الله آلهة كما يزعم المشركون لطلبوا الرفعة والعزة ، ولنازعوا الله سبحانه في علوه وسلطانه :

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً). (٦٤)

ويستحيل وجود آلهة مع الله بدون أن يحصل بينهم نزاع وخلاف ، ولو حصل ذلك لأدى إلى اضطراب الكون وفساد السموات والأرض.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ). (٦٥)

٧١

أو لأدى إلى تقسيم الكون بين الآلهة ، واختصاص كل إله بقسم ، وتنظيمه بشكل مختلف عن غيره :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٦٦)

ولكن دراسة الكون والتأمل في تركيبه ونظامه يدل على وحدانية خالقه. فمن حيث البنية تنقسم الكائنات إلى أشياء ميتة وأجسام حية. والأجسام الحية تشمل الإنسان والحيوان والنبات ؛ والناس جميعا متشابهون في أجسامهم ، ومتماثلون في تكوينهم مما يدل على أن خالقهم واحد. والحيوانات كذلك تتشابه في أعضائها وأجهزتها الأساسية : الرأس والجذع والإطراف وجهاز القلب والدوران وجهاز الهضم والجملة العصبية وغير ذلك. والتشابه الأكبر يكون في تركيب خلاياها ، إذ أن كل الأجسام الحية تنقسم إلى خلايا صغيرة ، وهذه الخلايا تتشابه في بنيتها وصفاتها ، وكذلك النباتات تتشابه في بنيتها العامة وفي تركيب خلاياها. وبمقارنة الخلية الحيوانية مع الخلية النباتية من حيث احتواؤها على غلاف ونواة تسبح ضمن سائل يسمى بالهيولى ، واشتمالها على مورثات وعناصر معينة يتبين لنا وحدة البنية والتركيب الدالة على وحدانية الخالق.

وإذا حللنا الأجسام الحية تحليلا كيميائيا فلا نجد فيها غير العناصر الموجودة في التربة. وكذلك لا يوجد في النجوم والكواكب والشمس والقمر ـ كما اكتشف العلماء ـ سوى العناصر الموجودة على الأرض وهذا يدل على أن خالق الكون بجميع أجزائه واحد لا شريك له.

وبعد أن توصل الإنسان إلى تفجير الذرة ، ووقف على الكثير من أسرارها ، تبين أن العناصر تتشابه جميعها في بنيتها ، لأن ذرات كل العناصر تتألف من نواة والكترونات تدور حولها.

والنواة تتألف من بروتونات ونوترونات تختلف في عددها من عنصر إلى آخر ، وتتفق في بنيتها بين كل العناصر. ففى ذرة الحديد مثلا / ٢٦ / الكترونا ، وفي نواته مثل هذا العدد من البروتونات وفي ذرة الأكسجين / ٨ / الكترونات وفي نواته مثل ذلك من البروتونات بدون أن تختلف الكترونات وبروتونات ونوترونات الحديد عن الأكسجين أو غيره من العناصر سوى في العدد. كما تبين أن الطاقة التي تنبعث من الذرات حين انشطارها أو التحامها بعضها

٧٢

مع بعض هي وجه آخر للمادة. والالكترونات تدور حول النواة في ذرات كل العناصر بنصف سرعة الضوء تقريبا ، وكل واحد له مداره القريب أو البعيد من النواة ، كما تدور الكواكب حول الشمس ، ويدور القمر حول الكوكب التابع له ، والنجوم حول مركز المجرة التي تضمها. وهذا كله يدل بما لا يدع مجالا للشك على وحدانية الله عزوجل.

وليس لغير الله سلطة على أي جزء من هذا الكون ، وقدرة على التصرف المطلق فيه :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً). (٦٧)

ولكن مع الاعتقاد بوحدانية الله تعالى قد يشرك المرء في وجدانه ومشاعره ، وذلك حين يخشى غير الله على حياته ، أو يطلب رزقه من غير خالقه وبغير الوسائل التي شرعها لطلبه ، أو يرجو النفع ودفع الضر من غيره.

فقد قدر الله الأعمار للأمم والأفراد :

(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) (٦٨)

والأجل لا يحول دونه أمنع الحصون :

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (٦٩) وخروج الرجل إلى الجهاد لا يعرضه للوفاة إن لم تكتب له الشهادة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٠)

وليس لأحد قدرة على منح الحياة أو سلبها إلا الله :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً). (٧١)

وإذا تمكن الإنسان من قتل غيره فإنه في الحقيقة يقوم بفعل قدر له أن يؤدي

٧٣

إلى نهاية حياة المقتول. وكثيرا ما لا تؤدي تلك الأفعال إلى القتل ، وذلك حين يكون في الأجل بقية.

والاعتقاد بوحدانية الله يقتضي التصديق بأن الله هو الرزاق لعباده :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). (٧٢)

وهو الذي يوسع الرزق على بعض الناس ويضيقه على بعضهم الآخر ، فيمنح كل واحد ما يتناسب مع حاله :

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٣)

وهو ينزل رزقه بمقدار معين ، حتى لا يطغى الناس ويفسدوا في الأرض.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى). (٧٤)

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). (٧٥)

وليس الذي وسع عليه رزقه أفضل عند الله من غيره إلا إذا آمن وعمل صالحا وأنفق ماله في سبيل الله تعالى :

(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ (٧٦) وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى (٧٧) إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ). (٧٨)

وتوحيد الله يقتضي الاعتقاد بأن النفع والضر بيد الله وحده :

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (٧٩)

ولا يستطيع أحد أن ينفع أو يضر إلا بإذنه :

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٨٠)

وتوحيد الله يجعل المؤمن يعتمد على الله وحده في أموره كلها ، ويتوجه إليه بالدعاء ، ويطلب منه العون والتوفيق ، ولا يخشى غيره.

٧٤

عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ قال : كنت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال :

«يا غلام! إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك. وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عيك. رفعت الأقلام ، وجفت الصحف (٨١).

والشرك في الجوارح يكون في القيام بالطقوس والعبادات لغير الله ، كتلك الأعمال التي يقوم بها الكهان الذي لا يؤمنون بالله ، والطقوس التي يفعلها الذين يعبدون الأصنام ، حتى العبادات التي لا تختلف في ظاهرها عن عبادات المؤمنين إذا لم يتوجه بها فاعلوها إلى الله وحده : فمن صلى أمام الناس ، وأطال القيام والركوع والسجود ، وتظاهر بالخشوع ليحصل على تقديرهم وثنائهم يعتبر مرائيا ، والرياء نوع من الشرك ، ولا يقبل الله من الأعمال إلا ما خلص له. وكذلك من أنفق المال على المحتاجين ليشتهر بين الناس بالجود والسخاء هو مراء ، ليس له أجر على صدقته :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ (٨٢) عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ (٨٣) فَتَرَكَهُ صَلْداً (٨٤) لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٨٦)

الأثار التربوية لعقيدة التوحيد :

إن للإيمان بإله واحد آثارا تربوية عظيمة في النواحي النفسية والخلقية والاجتماعية.

١ ـ فالمؤمن بإله واحد يحصل على الاستقرار النفسي لأنه يتوجه بالعبادة والدعاء إلى الله الذي خلقه وخلق هذا الكون الذي يعيش فيه ويستفيد من خيراته :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (٨٦)

والمؤمن ينظم أموره كلها بشريعة الله ، فيحصل الانسجام بين الجانب الإرادي

٧٥

والجانب اللإرادي من نفسه ، ذلك الجانب الخاضع لسنة الله بدون أن يكون لصاحبه سلطة عليه ، كما يحصل الانسجام بين نفسه وبين الكون الذي يعيش فيه ، وبينها وبين المجتمع الذي ينضم إليه.

٢ ـ والمؤمن يشعر بالاطمئنان نتيجة لإيمانه بأن حياته ورزقه وأموره كلها بيد الله تعالى ، وهو يتلقى منه المبادئ والمثل والشرائع والقوانين.

أما الكافر فهو قلق دائما ، قلق على حياته وعلى رزقه ، وهو لا يعلم لماذا خلق وما مهمته في هذه الحياة ، وما مصيره بعد الموت. وهو يتوجه بالطقوس والشعائر التعبدية إلى جهة ، ويسعى لتحصيل رزقه من جهة ثانية ، ويخاف قوى عديدة بشرية وغيبية على حياته ونفسه ؛ وهو في صراع دائم مع نفسه ومع الناس والطبيعة ، بسبب خروجه على النظام الذي وضعه من نظم الكون ووضع سننا لحياة الإنسان والحيوان والنبات ، ولا يحيد عن هذه السنن أحد إلا ضل وهلك. ولا سعادة للإنسان ولا استقرار للنفس ولا اطمئنان للقلب إلا في الإيمان بالله وعبادته والعمل بشريعته.

٣ ـ والإيمان بإله واحد يؤدي إلى شعور المؤمن بقوته وعزته وكرامته فالمؤمن قوي لأن الله يحب الأقوياء ، ولأنه يستمد من قوة القوي العزيز ، ويتوكل على العلي الكبير.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك واستعن باله ولا تعجزه» (٨٧)

وعند ما يخاف الناس ، وتظهر عليهم علامات الجبن والذعر ، فإن المؤمنين يثبتون ، وتظهر عليهم علامات القوة والجرأة. فحين جبن قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ عن دخول الأرض المقدسة.

(قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٨٨)

فهما يخافان الله ، فلا يخافان أحدا سواه ، ويتوكلان عليه ، فلا ترهبهما قوة في الوجود.

وحين تلقى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسالة الكافرين بأنهم حشدوا الجيوش للقضاء عليهم ازدادوا إيمانا وثباتا بتوكلهم على الله :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ (٨٩) وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (٩٠)

٧٦

وهكذا يكون شأن المومنين أبدا ، قوة لا تعرف الضعف ، وجرأة لا تعرف الخور ، وثبات لا يعرف الهزيمة ، واستعلاء ينكر الخضوع لغير الله :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ (٩١) كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا (٩٢) لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا (٩٣) وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٩٤)

٤ ـ والمؤمن يشعر بعزته لأن الله أعز المؤمنين ورفع شأنهم :

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٥)

والمؤمن يشعر بكرامته لأنه لا يحني ظهره لغير خالقه ، ولا يذل نفسه لغير بارئه وهو مع ذلك رحيم متواضع غير باغ ولا عاد :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٩٦)

٥ ـ والإيمان بالله قاعدة للحرية والمساواة والعدالة. أما الحرية! فلا تكون بشكل صحيح إلا في ظل العبودية لله عزوجل ، فحينئذ يتحرر المرء من أهواء نفسه الأمارة بالسوء ، ويتحرر من الخوف على حياته وعلى رزقه وعلى مستقبله ومصيره ؛ لأنه يعلم أن الله وحده مالك أمره ، فلا يخضع لمخلوق مثله.

وحين يستمد الرجل حريته من رب العالمين لا يرضى بأن يسلبها منه أو يضع قيدا عليها طاغية مستبد ، فتراه يضحي بماله وروحه للحفاظ على حريته ، ولا يرى قيمة للحياة بدونه. وبذلك تحافظ الأمة على سيادتها واستقلالها ، ويبذل الأفراد أقصى جهودهم لرقيها وازدهارها.

والحرية المحدودة بشريعة الإسلام لا تقتصر على فئة مخصوصة أو طبقة معينة ، وإنما تشمل الناس جميعا ؛ لأنها ليست منحة من الطبيعة ، فيستغلها الأغنياء والأقوياء ، ويحرم منها الضعفاء والفقراء ، وليست نعمة من الملك أو الإمبراطور ، فيغدقها على المقربين إليه ، ويحجبها عمن دونهم ، وليست تشريعا من إحدى سلطات الدولة ، فتكون لصالح بعض الناس دون بعضهم الآخر. فشريعة الإسلام مبرأة من التحيز والعنصرية ، والحرية المنظمة بأحكامه تحقق العدل وتمنع الظلم.

وأما المساواة! فهي نتيجة للإيمان بأن الله خلق الناس جميعا من نفس واحدة :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً). (٩٧)

٧٧

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (٩٨)

فقد كان الناس يفتخرون بأنسابهم ، فتبين أنهم جميعا ينتسبون إلى أبيهم آدم عليه‌السلام ، وكانوا يتمايزون بأجناسهم وقبائلهم وألوانهم ، فتبين أنهم عند الله متساوون ، وكان بعضهم يزعم أنه خلق من رأس الإله ، وأن الآخرين خلقوا من قدميه فتبين بطلان هذا الادعاء وكانوا منقسمين إلى طبقات يعلو بعضها فوق بعض ، فتبين أن أصلحهم وأتقاهم هو أفضلهم عند الله.

وحين يخضع الناس لشريعة الإسلام تتحقق فيهم المساواة بأوسع معانيها. ولا توجد المساواة في مجتمع يتلقى تشريعاته من الكهان أو من رؤساء العشائر والحكام فذلك يجعل بعض الناس عبيدا لبعضهم الآخر. وعقيدة التوحيد تقضي بخضوع الناس جميعا لشريعة الله :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (٩٩)

والمساواة تعني بالدرجة الأولى تكافؤ الفرص في العلم والعمل وهذا ما يجعل كل فرد يقوم بواجبه ، ويحصل على حقه ، ويجعل المجتمع في أعلى الدرجات.

وأما العدالة : فهي الغاية من بعثة الرسل وإنزال الكتب وما تضمنته من مبادئ وقيم. وقد أمر الله بالعدل. ونهى عن التحيز إلى جانب الذين نحبهم أو ضد الذين نكرههم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ (١٠٠) شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا (١٠١) أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). (١٠٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ (١٠٣) عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ). (١٠٤)

والإيمان بالله يؤدي إلى تقويم السلوك وتهذيب النفس ، لأن المؤمن يعلم أن الله مطلع على عمله ، عالم بما يجول في نفسه ، وأنه مجزي على فعله :

٧٨

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). (١٠٥)

وهذا ما يجعله نقي السريرة مخلصا في عمله ، صالحا في السر والعلن.

* * *

٧٩

٢ ـ الإيمان بالملائكة

الملائكة مخلوقات نورانية لطيفة لا تأكل ولا تشرب ولا تنام ولا تتصف بذكورة ولا أنوثة.

ودليل وجود الملائكة الخبر الصادق في القرآن والسنة. ومن ذلك قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ) ١٠٦ (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي (١٠٧) أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (١٠٨)

فهم رسل الله إلى المصطفين من عباده ، وهم متفاوتون في الشكل ، لبعضهم جناحان ، ولبعضهم ثلاثة أجنحة ، ولبعضهم أربعة أو أكثر.

والأجنحة تدل على القوة والسرعة.

ورغم عدم رؤيتنا الملائكة على الحالة التي خلقها الله عليه ، فقد تتمثل بأجسام مرثية كما ظهر جبريل أمام مريم وبشرها بعيسى عليه‌السلام :

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا (١٠٩) فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا. قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). (١١٠)

فقد حسبته رجلا يريد بها سوءا ، فاستعاذت بالله منه ، فأعلمها أنه رسول الله إليها ، وبشرها بغلام طاهر مبارك.

ودليل امتناع الملائكة عن تناول الطعام والشراب أنه دخل عدد منهم على إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في هيئة رجال ، فظنهم ضيوفا من الناس ، وقدم لهم عجلا مشويا ، فامتنعوا عن تناوله ، مما جعله يخاف منهم ، لأن الضيف الذي يمتنع عن الطعام يريد شرا بأهل البيت ؛ فأعلموه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط لاهلاكهم ، وبشروه باسحق ويعقوب :

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (١١١) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (١١٢) قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (١١٣)

والملائكة تستغني عن الطعام والشراب للطافة أجسامها.

٨٠