التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

أى : ولا أحد أشد ظلما من إنسان يختلق الكذب من عند نفسه على دين الله ـ تعالى ـ وشريعته ، والحال أن هذا الإنسان يدعوه الداعي إلى الدخول في دين الإسلام الذي لا يرتضى الله ـ تعالى ـ سواه دينا.

(وَاللهُ) ـ تعالى ـ (لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى ما فيه فلاحهم ، لسوء استعدادهم ، وإيثارهم الباطل على الحق.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يهدف إليه هؤلاء الظالمون من وراء افترائهم الكذب على الدين الحق ، فقال ـ تعالى ـ : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ).

والمراد بنور الله : دين الإسلام الذي ارتضاه ـ سبحانه ـ لعباده دينا ، وبعث به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل المراد به : حججه الدالة على وحدانيته ـ تعالى ـ وقيل المراد به : القرآن .. وهي معان متقاربة.

والمراد بإطفاء نور الله : محاولة طمسه وإبطاله والقضاء عليه ، بكل وسيلة يستطيعها أعداؤه ، كإثارتهم للشبهات من حول تعاليمه ، وكتحريضهم لمن كان على شاكلتهم في الضلال على محاربته.

والمراد بأفواههم : أقوالهم الباطلة الخارجة من تلك الأفواه التي تنطق بما لا وزن له من الكلام.

والمعنى : يريد هؤلاء الكافرون بالحق ، أن يقضوا على دين الإسلام ، وأن يطمسوا تعاليمه السامية التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق أقاويلهم الباطلة الصادرة عن أفواههم ، من غير أن يكون لها مصداق من الواقع تنطبق عليه ، أو أصل تستند إليه ، وإنما هي أقوال من قبيل اللغو الساقط المهمل الذي لا وزن له ولا قيمة.

قال صاحب الكشاف : مثّل حالهم في طلبهم إبطال نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثق في الآفاق يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة ، ليطفئه بنفخه ويطمسه (١).

والجملة الكريمة فيها ما فيها من التهكم والاستهزاء بهؤلاء الكافرين ، حيث شبههم ـ سبحانه ـ في جهالاتهم وغفلتهم ، بحال من يريد إطفاء نور الشمس الوهاج ، بنفخة من فمه الذي لا يستطيع إطفاء ما هو دون ذلك بما لا يحصى من المرات.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٥.

٣٦١

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) بشارة للمؤمنين بأن ما هم عليه من حق ، لا بد أن يعم الآفاق.

أى : والله ـ تعالى ـ بقدرته التي لا يعجزها شيء ، متم نوره ، ومظهر دينه ومؤيد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو كره الكافرون ذلك فإن كراهيتهم لظهور دين الله ـ تعالى ـ لا أثر لها ولا قيمة. فالآية الكريمة وعد من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ، بإظهار دينهم ، وإعلاء كلمتهم ، لكي يزيدهم ذلك ثباتا على ثباتهم ، وقوة على قوتهم.

ثم أكد ـ سبحانه ـ وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإتمام فقال : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...).

والمراد بالهدى : القرآن الكريم : المشتمل على الإرشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار الصادقة ، والتشريعات الحكيمة.

والمراد بدين الحق : دين الإسلام الذي هو خاتم الأديان.

وقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ، والسيادة والسلطان.

والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه.

والضمير في «ليظهره» يعود على الدين الحق ، أو على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : هو الله ـ سبحانه ـ الذي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الهادي للتي هي أقوم. وبالدين الحق الثابت الذي لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك ، فإن كراهيتهم لا أثر لها في ظهوره ، وفي إعلائه على جميع الأديان.

ولقد أنجز الله ـ تعالى ـ وعده ، حيث جعل دين الإسلام ، هو الدين الغالب على جميع الأديان ، بحججه وبراهينه الدالة على أنه الدين الحق الذي لا يحوم حوله باطل.

هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التي تؤيد ذلك ، ومنها : ما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لي منها» (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٣٤٩.

٣٦٢

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، أرشدهم فيه إلى ما يسعدهم ، وينجيهم من كل سوء ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

وهذه الآيات الكريمة جواب عما قاله بعض المؤمنين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناها ، كما سبق. أن ذكرنا في سبب قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

فكأنه ـ سبحانه ـ بعد أن نهاهم عن أن يقولوا قولا ، تخالفه أفعالهم ، وضرب لهم الأمثال بجانب من قصة موسى وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ وبشرهم بظهور دينهم على سائر الأديان.

بعد كل ذلك أرشدهم إلى أحب الأعمال إليه ـ سبحانه ـ فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ).

والتجارة في الأصل معناها : التصرف في رأس المال ، وتقليبه في وجوه المعاملات المختلفة ، طلبا للربح.

والمراد بها هنا : العقيدة السليمة ، والأعمال الصالحة ، التي فسرت بها بعد ذلك في قوله ـ تعالى ـ (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) للتشويق والتحضيض إلى الأمر المدلول عليه.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ألا تريدون أن

٣٦٣

أدلكم على تجارة رابحة ، تنجيكم مزاولتها ومباشرتها ، من عذاب شديد الألم؟ إن كنتم تريدون ذلك ، فهاكم الطريق إليها ، وهي : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ).

فقوله ـ سبحانه ـ : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) استئناف مفسر وموضح لقوله (هَلْ أَدُلُّكُمْ)؟ فكأن سائلا قال : وما هذه التجارة؟ دلنا عليها ، فكان الجواب : تؤمنون بالله ورسوله.

أى : تداومون مداومة تامة على الإيمان بالله ـ تعالى ـ وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه بأموالكم وأنفسكم.

قالوا : وقوله (تُؤْمِنُونَ) خبر في معنى الأمر ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله ، وجاهدوا في سبيله.

وفائدة العدول إلى الخبر : الإشعار بأنهم قد امتثلوا لما أرشدوا إليه ، فكأنه ـ سبحانه ـ يخبر عن هذا الامتثال الموجود عندهم.

وجاء التعبير بقوله : (هَلْ أَدُلُّكُمْ) لإفادة أن ما يذكر بعد ذلك من الأشياء التي تحتاج إلى من يهدى إليها ، لأنها أمور مرد تحديدها إلى الله ـ تعالى ـ.

وتنكير لفظ التجارة ، للتهويل والتعظيم ، أى : هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن ...؟ وأطلقت التجارة هنا على الإيمان والعمل الصالح ، لأنهما يتلاقيان ويتشابهان في أن كليهما المقصود من ورائه الربح العظيم ، والسعى من أجل الحصول على المنافع.

وقدم ـ سبحانه ـ هنا الجهاد بالأموال على الجهاد بالأنفس ، لأن المقام مقام تفسير وتوضيح لمعنى التجارة الرابحة عن طريق الجهاد في سبيل الله ، ومن المعلوم أن التجارة تقوم على تبادل الأموال ، وهذه الأموال هي عصب الجهاد ، فعن طريقها تشترى الأسلحة والمعدات التي لا غنى للمجاهدين عنها ، وفي الحديث الشريف «من جهز غازيا فقد غزا».

وقدم ـ سبحانه ـ في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ..) (١) قدم الأنفس على الأموال ، لأن الحديث هناك ، كان في معرض الاستبدال والعرض والطلب ، والأخذ والعطاء ... فقدم ـ سبحانه ـ الأنفس لأنها أعز ما يملكه الإنسان ، وجعل في مقابلها الجنة لأنها أعز ما يوهب ، وأسمى ما تتطلع إلى نيله النفوس.

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١١١.

٣٦٤

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعود إلى ما سبق ذكره من الإيمان والجهاد. أى : ذلكم الذي أرشدناكم إلى التمسك به من الإيمان والجهاد في سبيل الله ، هو خير لكم من كل شيء إن كنتم من أهل العلم والفهم.

فقوله (تَعْلَمُونَ) منزل منزلة الفعل اللازم ، للإشعار بأن من يخالف ذلك لا يكون لا من أهل العلم ، ولا من أهل الإدراك.

وجعله بعضهم فعلا متعديا ، ومفعوله محذوف ، والتقدير : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فافعلوه ، ولا تتقاعسوا عن ذلك.

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) مجزوم على أنه جواب لشرط مقدر ، أى : إن تمتثلوا أمره ـ تعالى ـ يغفر لكم ذنوبكم.

ويصح أن يكون مجزوما على أنه جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر في قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ). لأنهما ـ كما قلنا ـ وإن جاءا بلفظ الخبر ، إلا أنهما في معنى الأمر ، أى : آمنوا وجاهدوا.

أى : آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمته بأموالكم وأنفسكم ، يغفر لكم ـ سبحانه ـ ذنوبكم ، بأن يزيلها عنكم ، ويسترها عليكم.

(وَيُدْخِلْكُمْ) فضلا عن ذلك (جَنَّاتٍ) عاليات (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أى :

تجرى من تحت مساكنها وبساتينها الأنهار.

ويعطيكم (مَساكِنَ طَيِّبَةً) أى : قصورا مشتملة على كل ما هو طيب ونافع.

وخصت المساكن الطيبة بالذكر ، لأن المجاهدين قد فارقوا مساكنهم ، ومنهم من استشهد بعيدا عنها ، وفيها أهله وماله ... فوعدهم ـ سبحانه ـ بما هو خير منها.

وقوله (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أى : هذه المساكن الطيبة كائنة في جنات باقية خالدة ، لا تزول ولا تنتهي ، بل أصحابها يقيمون فيها إقامة دائمة ، يقال : عدن فلان بالمكان ، إذا أقام فيه إقامة مؤبدة.

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أى : ذلك الذي منحناكم إياه من مغفرة لذنوبكم ، ومن خلودكم في الجنة ... هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه ظفر.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) بيان لنعمة أخرى يعطيهم ـ سبحانه ـ إياها ، سوى ما تقدم من نعم عظمى.

٣٦٥

ولفظ «أخرى» مبتدأ خبره دل عليه ما تقدم ، وقوله : (تُحِبُّونَها) صفة للمبتدأ.

أى : ولكم ـ فضلا عن كل ما تقدم ـ نعمة أخرى تحبونها وتتطلعون إليها.

وهذه النعمة هي : (نَصْرٌ) عظيم كائن (مِنَ اللهِ) ـ تعالى ـ لكم (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أى : عاجل (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أى : وبشر ـ أيها الرسول الكريم ـ المؤمنين بذلك ، حتى يزدادوا إيمانا على إيمانهم ، وحتى تزداد قلوبهم انشراحا وسرورا.

ويدخل في هذا النصر والفتح القريب دخولا أوليا : فتح مكة ، ودخول الناس في دين الله أفواجا.

وهذه الآية الكريمة من معجزات القرآن الكريم. الراجعة إلى الإخبار بالغيب ، حيث أخبر ـ سبحانه ـ بالنصر والفتح ، فتم ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، في أكمل صورة ، وأقرب زمن.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بنداء ثالث وجهه إلى المؤمنين ، دعاهم فيه إلى التشبه بالصالحين الصادقين من عباده فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١٤)

والحواريون : جمع حوارى. وهم أنصار عيسى ـ عليه‌السلام ـ الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه ، وكانوا عونا له في الدعوة إلى الحق ، وكانوا اثنى عشر رجلا.

يقال : فلان حوارى فلان ، أى : هو من خاصة أصحابه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الزبير بن العوام : «لكل نبي حوارى ، وحواريي الزبير».

وأصل الحور : شدة البياض والصفاء ، ومنه قولهم في خالص لباب الدقيق : الحوارى ، وفي النساء البيض الحسان : الحواريات والحوريات.

٣٦٦

وسمى الله ـ تعالى ـ أصفياء عيسى وأنصاره بذلك لشدة إخلاصهم له ، وطهارة قلوبهم من الغش والنفاق ، فصاروا في نقائهم وصفائهم كالشىء الأبيض الخالص.

والأنصار : جمع نصير ، وهو من ينصر غيره نصرا شديدا مؤزرا.

والمراد بنصر الله ـ تعالى ـ : نصر دينه وشريعته ونبيه الذي أرسله بالهدى ، ودين الحق.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : كونوا أنصارا لله.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان داوموا وواظبوا على أن تكونوا أنصارا لدين الله في كل حال ، كما كان الحواريون كذلك ، عند ما دعاهم عيسى ـ عليه‌السلام ـ إلى نصرته والوقوف إلى جانبه.

فالكلام محمول على المعنى ، والمقصود منه حض المؤمنين على طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى الاستجابة التامة لما يدعوهم إليه ، كما فعل الحواريون مع عيسى ، حيث ثبتوا على دينهم ، وصدقوا مع نبيهم ، دون أن تنال منهم الفتن أو المصائب.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه ـ وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى لهم (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ).

قلت التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح ، والمراد كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريون أنصار عيسى كذلك حين قال لهم : من أنصارى إلى الله.

فإن قلت : فما معنى قوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) والذي يطابقه أن يكون المعنى : من جندي متوجها إلى نصرة دين الله (١).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) للحض على نصرته والوقوف إلى جانبه.

وأضافهم ـ عليه‌السلام ـ إليه ، باعتبارهم أنصار دعوته ودينه.

وقوله : (إِلَى اللهِ) متعلق بأنصارى ، ومعنى «إلى» الانتهاء المجازى.

أى : قال عيسى للحواريين على سبيل الامتحان لقوة إيمانهم : من الجند المخلصون الذين أعتمد عليهم بعد الله ـ تعالى ـ في نصرة دينه ، وفي التوجه إليه بالعبادة والطاعة وتبليغ رسالته ...؟

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٢٨.

٣٦٧

فأجابوه بقولهم : نحن أنصار دين الله ـ تعالى ـ ونحن الذين على استعداد أن نبذل نفوسنا وأموالنا في سبيل تبليغ دعوته ـ عزوجل ـ ومن أجل إعلاء كلمته.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) مفرع على ما قبله ، لبيان موقف قومه منه.

أى : قال الحواريون لعيسى عند ما دعاهم إلى اتباع الحق : نحن أنصار دين الله ، ونحن الذين سنثبت على العهد .. أما بقية بنى إسرائيل فقد افترقوا إلى فرقتين : فرقة آمنت بعيسى وبما جاء به من عند الله ـ تعالى ـ ، وفرقة أخرى كفرت به وبرسالته.

وقوله : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) بيان للنتائج التي تحققت لكل طائفة من الطائفتين : المؤمنين والكافرين.

وقوله : (ظاهِرِينَ) من الظهور بمعنى الغلبة ، يقال : ظهر فلان على فلان ، إذا تغلب عليه وقهره.

أى : كان من قوم عيسى من آمن به ، ومنهم من كفر به ، فأيدنا وقوينا ونصرنا الذين آمنوا به ، على الذين كفروا به ، فصار المؤمنون ظاهرين ومنتصرين على أعدائهم بفضله ـ تعالى ـ ومشيئته.

والمقصود من هذا الخبر حض المؤمنين في كل زمان ومكان ، على الإيمان والعمل الصالح ، لأن سنة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن يجعل العاقبة لهم ، كما جعلها لأتباع عيسى المؤمنين ، على أعدائهم الكافرين.

قال بعض العلماء : وتأويل هذا النص يمكن أن ينصرف إلى أحد معنيين : إما أن الذين آمنوا برسالة عيسى ـ عليه‌السلام ـ ، هم المسيحيون إطلاقا ، من استقام ، ومن دخلت في عقيدته الانحرافات ، وقد أيدهم الله ـ تعالى ـ على اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلا ، كما حدث في التاريخ.

وإما أن الذين آمنوا : هم الذين أصروا على التوحيد في وجه المؤلهين لعيسى ، والمثلثين وسائر النحل التي انحرفت عن التوحيد.

ومعنى : أنهم أصبحوا ظاهرين ، أى : بالحجة والبرهان ، أو أن التوحيد الذي هم عليه ، هو الذي أظهره الله بهذا الدين الأخير ـ أى : دين الإسلام ـ وجعل له الجولة الأخيرة في الأرض. كما وقع في التاريخ.

٣٦٨

هذا المعنى الأخير هو الأرجح والأقرب في هذا السياق (١).

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الصف» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة : مدينة نصر

مساء الخميس ٧ من رمضان سنة ١٤٠٦ ه‍

الموافق ١٥ / ٥ / ١٩٨٦ م

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ج ٢٨ ص ٨٩.

٣٦٩
٣٧٠

تفسير

سورة الجمعة

٣٧١
٣٧٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الجمعة» من السور المدنية الخالصة.

قال الآلوسى : هي مدنية ، كما روى عن ابن عباس وابن الزبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وإليه ذهب الجمهور.

وقال ابن يسار : هي مكية ، وحكى ذلك عن ابن عباس ومجاهد : والأول هو الصحيح. لما رواه البخاري وغيره عن أبى هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت سورة الجمعة ، فتلاها ، فلما بلغ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ...) قال له رجل : يا رسول الله ـ من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان الفارسي ، وقال : «والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء ...».

ومن المعروف أن إسلام أبى هريرة كان بعد الهجرة بمدة بالاتفاق .. (١).

٢ ـ وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة «التحريم» ، وقبل سورة «التغابن».

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الجمعة ، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة «الجمعة والمنافقون».

وأخرج ابن حيان والبيهقي عن جابر بن سمرة أنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة بسورة «الكافرون» وبسورة «قل هو الله أحد ...» ، وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة من ليلة الجمعة ، بسورة «الجمعة» ، وبسورة «المنافقون» .. وسميت بهذا الاسم لحديثها عن يوم الجمعة ، وعن وجوب السعى إلى صلاتها.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٩٢.

٣٧٣

٣ ـ وقد اشتملت السورة الكريمة ، على الثناء على الله ـ عزوجل ـ ، وعلى مظاهر نعمه على عباده ، حيث أرسل فيهم رسولا كريما ، ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ..

كما اشتملت على توبيخ اليهود وذمهم ، لعدم عملهم بالكتاب الذي أنزله ـ سبحانه ـ لهدايتهم وإصلاح حالهم ..

كما اشتملت على دعوة المؤمنين ، إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، وعلى المبادرة إليها دون أن يشغلهم عنها شاغل.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا من المحافظين على فرائضه وتكاليفه.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

القاهرة

٥ من شوال ١٤٠٦ ه‍

١١ / ٦ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

٣٧٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

افتتحت سورة «الجمعة» كغيرها من أخواتها «المسبحات» بالثناء على الله ـ تعالى ـ وببيان أن المخلوقات جميعها ، تسبح بحمده ـ تعالى ـ وتقدس له.

والتسبيح : تنزيه الله ـ تعالى ـ عما لا يليق به ، اعتقادا وقولا وعملا مأخوذ من السبح وهو المر السريع في الماء أو الهواء ، لأن المسبح لله ، ـ تعالى ـ مسرع في تنزيهه ـ تعالى ـ وتبرئته من كل سوء.

وقوله : (الْقُدُّوسِ) من التقديس بمعنى التعظيم والتطهير وغير ذلك من صفات الكمال.

أى : أن التسبيح : نفى ما لا يليق بذاته ـ تعالى ـ ، والتقديس : إثبات ما يليق بجلاله ـ سبحانه ـ والمعنى : ينزه الله ـ تعالى ـ ويبعده عن كل نقص ، جميع ما في السموات ، وجميع ما في الأرض من مخلوقات ، فهو ـ سبحانه ـ (الْمَلِكِ) أى : المدبر لشئون هذا الكون ، المتصرف فيه تصرف المالك فيما يملكه ...

٣٧٥

(الْقُدُّوسِ) أى : البليغ في الطهارة وفي التنزه عن كل نقص ، من القدس ـ بضم القاف وسكون الدال ـ بمعنى الطهر ، وأصله القدس ـ بفتح القاف والدال ـ وهو الإناء الذي يكون فيه ما يتطهر به ، ومنه القادوس وهو إناء معروف.

(الْعَزِيزِ) الذي لا يغلبه غالب (الْحَكِيمِ) في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته.

هذا ، ومن الآيات الكثيرة الدالة على أن جميع من في السموات ومن في الأرض ، يسبحون لله ـ تعالى ـ قوله ـ عزوجل ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ..) (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر فضله على خلقه ، فقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ، يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ...).

وقوله : (الْأُمِّيِّينَ) جمع أمى ، وهو صفة لموصوف محذوف. أى : في الناس أو في القوم الأميين ، والمراد بهم العرب ، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة.

وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى ، لغلبة الأمية عليه ، حتى لكأن حاله بعد تقدمه في السن ، كحاله يوم ولدته أمه في عدم معرفته للقراءة والكتابة.

و «من» في قوله ـ تعالى ـ : (مِنْهُمْ) للتبعيض ، باعتبار أنه واحد منهم ، ويشاركهم في بعض صفاتهم وهي الأمية.

وقوله : (يَتْلُوا ...) من التلاوة ، وهي القراءة المتتابعة المرتلة ، التي يكون بعضها تلو بعض.

وقوله : (وَيُزَكِّيهِمْ) من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح.

والمراد بالكتاب : القرآن ، والمراد بتعليمه : بيان معانيه وحقائقه ، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه ..

والمراد بالحكمة : العلم النافع ، المصحوب بالعمل الصالح ، وفي وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة ، إذ بالكتاب وبالسنة ، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال ، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب ، وأسمى الفضائل ..

أى : هو ـ سبحانه ـ وحده ، الذي (بَعَثَ) بفضله وكرمه ، (فِي) العرب (الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً) كريما عظيما ، كائنا (مِنْهُمْ) أى : من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه .. هذا

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٤٤.

٣٧٦

الرسول الكريم أرسلناه إليهم ، ليقرأ عليهم آيات الله ـ تعالى ـ التي أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم ، متى آمنوا بها ، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية ..

وأرسلناه إليهم ـ أيضا ـ ليزكيهم ، أى : وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب ، بأن يحفظهم إياه ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه.

وليعلمهم ـ أيضا ـ الحكمة. أى : العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة ، لتربية المهابة في النفوس ، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام ، إذ هو ـ سبحانه ـ وحده الذي فعل ذلك لا غيره.

وعبر ـ سبحانه ـ بفي المفيدة للظرفية في قوله ـ تعالى ـ : (فِي الْأُمِّيِّينَ). للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذي أرسله إليهم ، كان مقيما فيهم ، وملازما لهم ، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله ـ تعالى ـ في كل الأوقات والأزمان.

والتعبير بقوله : (مِنْهُمْ) فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به ، لأن هذا الرسول الكريم ، ليس غريبا عنهم ، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه ، وفضلهم من فضله ..

وهذه الآية الكريمة صريحة في أن الله ـ تعالى ـ قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عند ما دعاه بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ..) (١).

وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها في أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة ، يكون بتلاوة القرآن ، ثم ثنى ـ سبحانه ـ بتزكيه النفوس من الأرجاس ، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس.

ولذا قالوا : إن تعليم الكتاب غير تلاوته ، لأن تلاوته معناها ، قراءته قراءة مرتلة ، أما تعليمه فمعناه : بيان أحكامه ، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه ..

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التي منحها ـ سبحانه ـ لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك حال الناس قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

__________________

(١) سورة البقرة الآية ١٢٩.

٣٧٧

وهذه الجملة الكريمة في موضع الحال من قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ...) و «إن» في قوله (وَإِنْ كانُوا ...) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ..

أى : هو ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه ، الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم ، في ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل ، ولا يلتبس قبحه على ذي ذوق سليم. وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام ، الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، في ضلال واضح ، وظلام دامس ، من حيث العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات ..

فكان من رحمة الله ـ تعالى ـ بهم ، أن أرسل فيهم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن رسالة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لن يكون نفعها مقصورا على المعاصرين له والذين شاهدوه ... بل سيعم نفعها من سيجيئون من بعدهم ، فقال ـ تعالى ـ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ...).

وقوله : (وَآخَرِينَ) جمع آخر بمعنى الغير ، والجملة معطوفة على قوله قبل ذلك (فِي الْأُمِّيِّينَ ...) فيكون المعنى :

هو ـ سبحانه ـ الذي بعث في الأميين رسولا منهم ، كما بعثه في آخرين منهم.

(لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أى : لم يجيئوا بعد ، وهم كل من يأتى بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ...) (١).

أى : وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به يا أهل مكة ، ولأنذر به جميع من بلغه هذا الكتاب ، ووصلت إليه دعوته من العرب وغيرهم إلى يوم القيامة ...

وفي الحديث الشريف : «بلغوا عن الله ـ تعالى ـ فمن بلغته آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله».

وعن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... (٢).

ويصح أن يكون قوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ...) معطوف على الضمير المنصوب في قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ ...) فيكون المعنى :

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ١٩.

(٢) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص ٥٣.

٣٧٨

هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويعلم آخرين منهم (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أى : لم يجيئوا بعد وسيجيئون ... وهم كل من آمن بالرسول من بعد الصحابة إلى يوم القيامة.

قال صاحب الكشاف : وقوله : (وَآخَرِينَ) مجرور عطف على الأميين يعنى : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين الذين لم يلحقوا بهم بعد ، وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة.

وقيل : لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء».

وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة.

ويجوز أن ينتصب عطفا على المنصوب في (وَيُعَلِّمُهُمُ) أى يعلمهم ويعلم آخرين ، لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه .. (١).

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها تشير إلى أن دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ستبلغ غير المعاصرين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم سيتبعونها ، ويؤمنون بها ، ويدافعون عنها ..

وهذا ما أيده الواقع ، فقد دخل الناس في دين الله أفواجا من العرب ومن غير العرب ، ومن أهل المشارق والمغارب ..

فالآية الكريمة تخبر عن معجزة من معجزات القرآن الكريم ، ألا وهي الإخبار عن أمور مستقبلة أيدها الواقع المشاهد.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل المقصود به بيان أن قدرته ـ تعالى ـ لا يعجزها شيء ، وأن حكمته هي أسمى الحكم وأسداها.

أى : وهو ـ سبحانه ـ العزيز الذي لا يغلب قدرته شيء ، الحكيم فيما يريده ويقدره ويوجده.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ...) يعود إلى ما تقدم ذكره من كرمه ـ تعالى ـ على عباده ، حيث اختص رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الرسالة الجامعة لكل خير وبركة ، وحيث وفق من وفق من الأميين وغيرهم ، إلى اتباع هذا الرسول الكريم ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣٠.

٣٧٩

أى : ذلك البعث منا لرسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يهدى الناس بإذننا إلى الصراط المستقيم ، هو فضلنا الذي نؤتيه ونخصه لمن نشاء اختصاصه به من عبادنا ..

(وَاللهُ) ـ تعالى ـ : هو (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الذي لا يقاربه فضل ، ولا يدانيه كرم.

كما قال ـ سبحانه ـ : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

ثم انتقلت السورة الكريمة ـ بعد هذا البيان ـ لفضل الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى من أرسله لهدايتهم ، إلى الحديث عن جانب من رذائل اليهود. وأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحداهم وأن يرد على أكاذيبهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

والمراد بالمثل في قوله ـ تعالى ـ : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ...) الصفة والحال ...

والمراد بالذين حملوا التوراة : اليهود الذين كلفهم الله ـ تعالى ـ بالعمل بما اشتملت عليه التوراة من هدايات وأحكام وآداب ... ولكنهم نبذوها وتركوا العمل بها ..

__________________

(١) سورة آل عمران الآيتان ٧٣ و ٧٤.

٣٨٠