التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

وهذه الجملة الكريمة تأكيد لقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ حكما آخر من الأحكام التي تدل على عدالة الإسلام في تشريعاته فقال : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) والجملة الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا).

أى : كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين ، مهور نسائهم المسلمات اللائي فررن إليكم ، وتركن أزواجهن الكفار ، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائي انفصلتم عنهن لكفرهن ، ولحقن بهؤلاء المشركين ، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائي انفصلن عنهم وهاجرن إليكم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام ، إنما هي من الله ـ تعالى ـ العليم بأحوال النفوس ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، فقال : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

أى : ذلكم الذي ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هي أحكام من الله ـ تعالى ـ فاتبعوها ، فهو ـ سبحانه ـ صاحب الحكم المطلق بينكم ، وهو ـ سبحانه ـ عليم بأحوال عباده ، حكيم في كل تصرفاته وتشريعاته.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) بيان لحكم آخر يتعلق بالنساء اللائي التحقن بالمشركين ، وتركن أزواجهن المسلمين ، وأبى المشركون أن يدفعوا للمسلمين مهور هؤلاء الزوجات.

والجملة الكريمة معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا).

وقد ذكروا أن المسلمين لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ..) الآية. كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية.

فامتنع المشركون عن دفع مهور النساء اللائي ذهبن إليهم ، بعد أن تركن أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ) (١).

قال ابن كثير : أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوها

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٦٨.

٣٤١

على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله ـ تعالى ـ للمؤمنين به ، (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الآية (١).

وقوله (فاتَكُمْ) من الفوت بمعنى الفراق والترك والهرب ... يقال : فاتنى هذا الشيء ، إذا لم أتمكن من الحصول عليه ، وعدى بحرف إلى لتضمنه معنى الفرار.

ولفظ «شيء» هنا المراد به بعض ، وقوله : (مِنْ أَزْواجِكُمْ) بيان للفظ شيء.

وقوله : (فَعاقَبْتُمْ) يرى بعضهم أنه من العقوبة.

وعليه يكون المعنى : وإن تفلتت وفرت امرأة من أزواجكم ـ أيها المؤمنون ـ إلى الكفار ، وامتنعوا عن دفع مهرها لكم. (فَعاقَبْتُمْ) أى : فغزوتم أنتم بعد ذلك هؤلاء الكافرين وانتصرتم عليهم وظفرتم بمغانم منهم.

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) منكم إلى الكفار من هذه المغانم (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أى : مثل المهور التي أنفقوها على زوجاتهم اللائي فررن إلى المشركين.

ويرى بعضهم أن قوله (فَعاقَبْتُمْ) صيغة تفاعل من العقبة ـ بضم العين وسكون القاف وهي النوبة ، بمعنى أن يصير الإنسان في حالة تشبه حالة غيره.

قال الآلوسى : قوله : (فَعاقَبْتُمْ) من العقبة لا من العقاب ، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده : أى : فجاءت عقبتكم أى نوبتكم من أداء المهر.

شبه الحكم بالأداء المذكور ، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب.

وحاصل المعنى : إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار ، أو فاتكم شيء من مهورهن.

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ، ولا تعطوا شيئا لزوجها الكافر ، ليكون قصاصا (٢).

وعبر عن هؤلاء الزوجات اللائي تركن أزواجهن المؤمنين ، وفررن إلى المشركين ، بلفظ «شيء» لتحقير هؤلاء الزوجات ، وتهوين أمرهن على المسلمين ، وبيان أنهن بمنزلة الشيء الضائع المفقود الذي لا قيمة له.

قال صاحب الكشاف : وجميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٢١.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٨ ص ٧٩.

٣٤٢

وقد أعطى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنين مهور نسائهم ـ اللاحقات بالمشركين ـ من الغنيمة (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أى : واتقوا الله ـ تعالى ـ أيها المؤمنون ـ في كل شئونكم ، ونفذوا ما أمركم به أو نهاكم عنه ، فإن الإيمان الحق به ـ عزوجل ـ يستلزم منكم ذلك.

فالمقصود بهذا التذييل ، الحض على الوفاء بما أمر الله ـ تعالى ـ به ، بدون تهاون أو تقاعس.

وبعد أن بين ـ سبحانه ـ حكم النساء المؤمنات المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أتبع ذلك بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمبايعتهن وغيرهن على عدم الإشراك بالله تعالى ـ ، وعلى اجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

فهذه الآية الكريمة ، اشتملت على أحكام متممة للأحكام المشتملة عليها الآيتان السابقتان عليها.

فكأن الله ـ تعالى ـ يقول : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ـ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ـ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) .. وبايعهن أيها الرسول الكريم على إخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ.

قال القرطبي ما ملخصه : وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحن بهذه الآية .. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن ، قال لهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلقن فقد بايعتكن».

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥١٩.

٣٤٣

ولا والله ما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط ، غير أنه بايعهن بالكلام .. وما مست كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن : «قد بايعتكن كلاما» (١).

والمعنى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) أى : مبايعات لك ، أو قاصدات مبايعتك ، ومعاهدتك على الطاعة لما تأمرهن به ، أو تنهاهن عنه.

وأصل المبايعة : مقابلة شيء بشيء على سبيل المعاوضة. وسميت المعاهدة مبايعة ، تشبيها لها بها ، فإن الناس إذا التزموا قبول ما شرط عليهم من التكاليف الشرعية ، ـ طمعا في الثواب ، وخوفا من العقاب ، وضمن لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك في مقابلة وفائهم بالعهد ـ صار كأن كل واحد منهم باع ما عنده في مقابل ما عند الآخر.

والمقتضى لهذه المبايعة بعد الامتحان لهن ، أنهن دخلن في الإسلام ، بعد أن شرع الله ـ تعالى ـ ما شرع من أحكام وآداب .. فكان من المناسب أن يأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهن العهود ، بأن يلتزمن بالتكاليف التي كلفهن الله ـ تعالى ـ بها.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما تمت عليه المبايعة فقال : (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) أى : يبايعنك ويعاهدنك على عدم الإشراك بالله ـ تعالى ـ في أى أمر من الأمور التي تتعلق بالعقيدة أو بالعبادة أو بغيرهما.

(وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ). أى ويبايعنك ـ أيضا ـ على عدم ارتكاب فاحشة السرقة ، أو فاحشة الزنا ، فإنهما من الكبائر التي نهى الله ـ تعالى ـ عنها.

(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أى : ويبايعنك كذلك ، على عدم قتلهن لأولادهن.

والمراد به هنا : النهى عن قتل البنات ، وكان ذلك في الجاهلية يقع تارة من الرجال ، وأخرى من النساء ، فكانت المرأة إذا حانت ولادتها حفرت حفرة ، فولدت بجانبها ، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة ، وسوتها بالتراب ، وإذا ولدت غلاما أبقته.

قال ابن كثير : وقوله (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحبل ، إما لغرض فاسد ، أو ما أشبهه (٢).

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٧١. وتفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٢٢.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٢٦.

٣٤٤

وقوله : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) معطوف على ما قبله وداخل تحت النهى.

والبهتان : الخبر الكاذب الصريح في كذبه ، والذي يجعل من قيل فيه يقف مبهوتا ومتحيرا من شدة أثر هذا الكذب السافر.

والافتراء : اختلاق الكذب واختراع الشخص له من عند نفسه.

وللمفسرين في معنى هذه الجملة الكريمة أقوال ، منها : أن المرأة في الجاهلية كانت تلتقط المولود وتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك هو البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، لأن الولد إذا وضعته الأم ، سقط بين يديها ورجليها.

ويرى بعضهم أن معنى الجملة الكريمة : ولا تأتوا بكذب شنيع تختلقونه من جهة أنفسكم ، فاليد والرجل كناية عن الذات ، لأن معظم الأفعال بهما ، ولذا قيل لمن ارتكب جناية قولية أو فعلية : هذا جزاء ما كسبت يداك (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) من الأقوال الجامعة لكل ما يخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأمر بفعله ، أو ينهى عن الاقتراب منه.

ويشمل ذلك النهى عن شق الجيوب ، ولطم الخدود ، ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات التي نهى الإسلام عنها.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) جواب (إِذا) التي في أول الآية.

أى : إذا جاءك المؤمنات قاصدات لمبايعتك على الالتزام بتعاليم الإسلام ، فبايعهن على ذلك ... واستغفر لهن الله ـ تعالى ـ عما فرط منهن من ذنوب. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : إن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة لعباده المؤمنين.

وهذه المبايعة يبدو أنها وقعت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنساء أكثر من مرة : إذ منها ما وقع في أعقاب صلح الحديبية ، بعد أن جاءه بعض النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام ، كما حدث من أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، ومن سبيعة الأسلمية ، ومن أميمة بنت بشر ، ومن غيرهن من النساء اللائي تركن أزواجهن الكفار ، وهاجرن إلى دار الإسلام.

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٨٠.

٣٤٥

ومنها ما وقع في أعقاب فتح مكة ، فقد جاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فتحها نساء من أهلها ليبايعنه على الإسلام.

قال الآلوسى : والمبايعة وقعت غير مرة ، ووقعت في مكة بعد الفتح ، وفي المدينة.

وممن بايعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة ، هند بنت عتبة ، زوج أبى سفيان .. فقرأ عليهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية ، فلما قال. (وَلا يَسْرِقْنَ) قالت : والله إنى لأصيب الهنة من مال أبى سفيان ولا أدرى أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى فهو حلال لك .. فلما قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَزْنِينَ) قالت : أو تزنى الحرة؟ ..

فلما قرأ (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا. وفي رواية أنها قالت : قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد.

فلما قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) قالت : والله إن البهتان لقبيح ، ولا يأمر الله ـ تعالى ـ إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.

فلما قرأ (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

والتقييد بالمعروف ، مع أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا به ، للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.

وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن ، لكثرة وقوعها فيما بينهن (١).

وقد ذكر الإمام ابن كثير ، جملة من الأحاديث التي تدل على أن هذه البيعة قد تمت في أوقات متعددة ، وفي أماكن مختلفة ، وأنها شملت الرجال والنساء.

ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الإمام أحمد عن سلمى بنت قيس ـ إحدى نساء بنى عدى بن النجار ـ قالت : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبايعه ، في نسوة من الأنصار ، فشرط علينا : ألا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف .. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا تغششن أزواجكن». قالت : فبايعناه ، ثم انصرفنا.

فقلت لامرأة منهن : ارجعي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسليه : ما غش أزواجنا؟ فسألته فقال : «تأخذ ماله فتحابى به غيره».

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٨١.

٣٤٦

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم .. فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فهو إلى الله ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه (١).

وكما افتتح ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بنداء للمؤمنين ، نهاهم فيه عن موالاة أعدائه وأعدائهم ، اختتمها ـ أيضا ـ بنداء لهم ، نهاهم فيه مرة أخرى عن مصافاة قوم قد غضب الله عليهم ، فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣)

والمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : المشركون ، بصفة عامة ، ويدخل فيهم دخولا أوليا اليهود ، لأن هذا الوصف كثيرا ما يطلق عليهم.

فقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية ، أن قوما من فقراء المؤمنين ، كانوا يواصلون اليهود. ليصيبوا من ثمارهم ، وربما أخبروهم عن شيء من أخبار المسلمين ، فنزلت الآية لتنهاهم عن ذلك.

أى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، ينهاكم الله ـ تعالى ـ عن أن تتخذوا الأقوام الذين غضب الله عليهم أولياء ، وأصفياء ، بأن تفشوا إليهم أسرار المسلمين ، أو بأن تطلعوهم على ما لا يصح الاطلاع عليه.

وقوله ـ تعالى ـ : (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) تعليل للنهى عن موالاتهم ، وتنفير من الركون إليهم.

واليأس : فقدان الأمل في الحصول على الشيء ، أو في توقع حدوثه.

والكلام على حذف مضاف ، أى قد يئس هؤلاء اليهود من العمل للآخرة وما فيها من ثواب ، وآثروا عليها الحياة الفانية .. كما يئس الكفار من عودة موتاهم إلى الحياة مرة أخرى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٢٤.

٣٤٧

للحساب والجزاء ، لاعتقادهم بأنه لا بعث بعد الموت ، ولا ثواب ولا عقاب ـ كما حكى القرآن عنهم ذلك في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

فالمقصود من الآية الكريمة ، تشبيه حال هؤلاء اليهود في شدة إعراضهم عن العمل للآخرة .. بحال أولئك الكفار الذين أنكروا إنكارا تاما ، أن هناك بعثا للأموات الذين فارقوا الحياة ، ودفنوا في قبورهم.

وعلى هذا الوجه يكون قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) متعلق بقوله (يَئِسُوا) و (مِنَ) لابتداء الغاية.

ويصح أن يكون قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) بيانا للكفار ، فيكون المعنى : قد يئسوا من الآخرة ، وما فيها من جزاء ... كما يئس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور ، من أن ينالوا شيئا ـ ولو قليلا ـ من الرحمة ، أو تخفيف العذاب عنهم ، أو العودة إلى الدنيا ليعملوا عملا صالحا غير الذي أرادهم وأهلكهم.

وعلى كلا القولين ، فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة قوم غضب الله عليهم ، بأبلغ أسلوب ، وأحكم بيان.

حيث وصفت هؤلاء القوم ، بأنهم قد أحاط بهم غضب الله ـ تعالى ـ بسبب فسوقهم عن أمره ، وإعراضهم عن طاعته ، وإنكارهم للدار الآخرة وما فيها من جزاء.

وبعد فهذا تفسير لسورة «الممتحنة» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

صباح السبت : ٢ من رمضان ١٤٠٦ ه‍

١٠ من مايو ١٩٨٦ م

٣٤٨

تفسير

سورة الصّفّ

٣٤٩
٣٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الصف» من السور المدنية الخالصة ، وقد اشتهرت بهذا الاسم منذ عهد النبوة.

فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسأله عن أحب الأعمال إلى الله؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا ، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعنى سورة الصف كلها (١).

قال الآلوسى : وتسمى ـ أيضا ـ سورة الحواريين ، وسورة عيسى ـ عليه‌السلام ـ.

وعدد آياتها أربع عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة «التغابن» وقبل سورة «الفتح».

٢ ـ وقد افتتحت بتسبيح الله ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق به ، ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه أن يقولوا قولا لم تطابقه أفعالهم ، فقال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).

وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ جانبا مما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، وما قاله عيسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه ، أتبع ذلك ببيان ما جبل عليه الكافرون من كذب على الحق ومن كراهية لظهور نوره ، فقال ـ تعالى ـ (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ. وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ ، وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ ، وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

٣ ـ ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، دعاهم فيه ـ بأبلغ أسلوب ـ إلى الجهاد في سبيله ، بالأنفس والأموال ، وحضهم على أن يقتدوا بالحواريين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ ، قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ، فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ ، فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ).

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ٨ ص ١٣١.

٣٥١

٤ ـ وهكذا نجد السورة الكريمة تفتتح بتنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل نقص ، وتنهى عن أن تكون الأقوال مخالفة للأفعال ، وتبشر الذين يجاهدون في سبيل الله ـ تعالى ـ بمحبته ورضوانه ، وتذم الذين آذوا رسل الله ـ تعالى ـ وأنكروا نبوتهم بعد أن جاءوهم بالبينات ، وترشد إلى التجارة الرابحة التي توصل إلى الفوز العظيم.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

٢ من رمضان ١٤٠٦ ه‍ ١٠ / ٥ / ١٩٨٦ م

٣٥٢

التفسير

قال الله تعالى : ـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)

افتتحت سورة «الصف» ـ كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله ـ تعالى ـ عن كل ما لا يليق به.

أى : نزه الله ـ تعالى ـ وقدسه ، جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض من مخلوقات ، وهو ـ عزوجل ـ (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلبه غالب (الْحَكِيمُ) في كل أقواله وأفعاله.

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما روى عن ابن عباس أنه قال : كان أناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله ـ عزوجل ـ دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه ، إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به.

فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين وشق عليهم أمره ، فنزلت هذه الآيات.

٣٥٣

وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون : قتلنا ، ضربنا ، طعنّا ، وفعلنا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك (١).

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (لِمَ تَقُولُونَ) للإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان قولا لا يؤيده فعله ، لأن هذا القول إما أن يكون كذبا ، وإما أن يكون خلفا للوعد ، وكلاهما يبغضه الله ـ تعالى ـ.

و (لِمَ) مركبة من اللام الجارة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألف ما الاستفهامية مع حرف الجر ، تخفيفا لكثرة استعمالها معا ، كما في قولهم : بم ، وفيم ، وعمّ.

أى : يا من آمنتم بالله واليوم الآخر .. لما ذا تقولون قولا ، تخالفه أفعالكم ، بأن تزعموا بأنكم لو كلفتم بكذا لفعلتموه ، فلما كلفتم به قصرتم فيه ، أو أن تقولوا بأنكم فعلتم كذا وكذا ، مع أنكم لم تفعلوا ذلك.

وناداهم بصفة الإيمان الحق ، لتحريك حرارة الإيمان في قلوبهم ، وللتعريض بهم ، إذ من شأن الإيمان الحق أن يحمل المؤمن على أن يكون قوله مطابقا لفعله.

وقوله ـ سبحانه ـ : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) بيان للآثار السيئة التي تترتب على القول الذي يخالفه الفعل.

وقوله : (كَبُرَ) بمعنى عظم ، لأن الشيء الكبير ، لا يوصف بهذا الوصف ، إلا إذا كان فيه كثرة وشدة في نوعه.

والمقت : البغض الشديد ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) ، وهو منصوب على التمييز المحول عن الفاعل : للإشعار بأن قولهم هذا مقت خالص لا تشوبه شائبة من الرضا.

أى : كبر وعظم المقت الناشئ عن قولكم قولا لا تطابقه أفعالكم.

وقال ـ سبحانه ـ : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) للإشعار بشناعة هذا البغض من الله تعالى ـ لهم ، بسبب مخالفة قولهم لفعلهم ، لأنه إذا كانت هذه الصفة عظيمة الشناعة عند الله ، فعلى كل عاقل أن يجتنبها ، ويبتعد عنها.

قال صاحب الكشاف ما ملخصه : ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم وهذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه. وقصد في «كبر» التعجب من غير لفظه ... ومعنى التعجب : تعظيم

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٣٢.

٣٥٤

الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله وأسند إلى (أَنْ تَقُولُوا) ونصب (مَقْتاً) على التمييز ، للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت ، لأنه أشد البغض وأبلغه ، ومنه قيل : نكاح المقت ـ وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه ـ.

وإذا ثبت كبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته ، وانزاحت عنه الشكوك .. (١).

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ذم الذين يقولون ما لا يفعلون ذما شديدا ، ويندرج تحت هذا الذم ، الكذب في القول ، والخلف في الوعد ، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء.

وبعد أن وبخ ـ سبحانه ـ الذين يقولون ما لا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

ومحبة الله ـ تعالى ـ لشخص ، معناها : رضاه عنه ، وإكرامه له.

والصف يطلق على الأشياء التي تكون منتظمة في مظهرها ، متناسقة في أماكنها ، والمرصوص : هو المتلاصق الذي انضم بعضه إلى بعض. يقال : رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة.

والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ يحب الذين يقاتلون في سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم في ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم .. بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه.

فالمقصود بالآية الكريمة : الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل.

قال الإمام الرازي : أخبر الله ـ تعالى ـ أنه يحب من يثبت في الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص.

ويجوز أن يكون على أن يستوي أمرهم في حرب عدوهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص (٢).

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٢٣.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٣٩.

٣٥٥

ثم ساق ـ سبحانه ـ جانبا مما قاله موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه. وكيف أنهم عند ما انصرفوا عن الحق ، عاقبهم ـ سبحانه ـ بما يستحقون من عقاب فقال :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥)

وموسى ـ عليه‌السلام ـ هو ابن عمران ، وهو واحد من أولى العزم من الرسل ، وينتهى نسبه إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

وقد أرسله الله ـ تعالى ـ إلى فرعون وقومه وإلى بنى إسرائيل ، وقد لقى ـ عليه‌السلام ـ من الجميع أذى كثيرا.

ومن ذلك أن فرعون وقومه وصفوه بأنه ساحر ، وبأنه مهين ، ولا يكاد يبين.

وأن بنى إسرائيل قالوا له عند ما أمرهم بطاعته : سمعنا وعصينا ، وقالوا له : أرنا الله جهرة وقالوا له : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة .. وقالوا له : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

وقالوا عنه : إنه مصاب في جسده بالأمراض ، فبرأه الله ـ تعالى ـ مما قالوا.

قال ابن كثير : وفي هذا تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا قال : «رحمة الله على موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر».

وفيه نهى للمؤمنين عن أن ينالوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يوصلوا إليه أذى ، كما قال ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا ، وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (١).

أى : واذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ وذكر أتباعك ليتعظوا ويعتبروا ، وقت أن قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لقومه على سبيل الإنكار والتعجيب من حالهم.

(يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) : قال لهم : يا أهلى ويا عشيرتي لما ذا تلحقون الأذى بي؟.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٣٥.

٣٥٦

«وقد» في قوله ـ تعالى ـ : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) للتحقيق ، والجملة حالية ، وجيء بالمضارع بعد «قد» للدلالة على أن علمهم بصدقه متجدد بتجدد ما يأتيهم به من آيات ومعجزات.

قال الجمل : قوله : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) قد للتحقيق. أى : تحقيق علمهم. أى : لا للتقريب ولا للتقليل ، وفائدة ذكرها التأكيد ، والمضارع بمعنى الماضي.

أى : وقد علمتم ، وعبر بالمضارع ليدل على استصحاب الحال ، وعلى أنها مقررة للإنكار.

فإن العلم برسالته يوجب تعظيمه ، ويمنع إيذاءه ؛ لأن من عرف الله ـ تعالى ـ وعظمته ، عظّم رسوله (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما ترتب على إيثارهم الغي على الهدى ، فقال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ).

والزيغ : هو الميل عن طريق الحق ، يقال : زاغ يزيغ زيغا وزيغانا ، إذا مال عن الجادة ، وأزاغ فلان فلانا ، إذا حوله عن طريق الخير إلى طريق الشر.

أى : فلما أصروا على الميل عن الحق مع علمهم به. واستمروا على ذلك دون أن تؤثر المواعظ في قلوبهم ... أمال الله ـ تعالى ـ قلوبهم عن قبول الهدى. لإيثارهم الباطل على الحق ، والضلالة على الهداية.

كما قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ، نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تذييل قصد به التقرير لما قبله ، من أن الزيغ يؤدى إلى عدم الهداية ، وبيان سنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن من استحب العمى على الهدى ، وأصر على ذلك .. كانت عاقبته الخسران.

أى : وقد اقتضت حكمة الله ـ تعالى ـ أن لا يهدى القوم الخارجين عن طريق الحق ، إلى ما يسعدهم في حياتهم وبعد مماتهم ، لأنهم هم الذين اختاروا طريق الشقاء ، وأصروا على سلوكها.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٣٦.

(٢) سورة النساء الآية ١١٥.

٣٥٧

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا مما قاله عيسى ـ عليه‌السلام ـ لبنى إسرائيل ، فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦)

أى : واذكر ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ وذكّر الناس ليعتبروا ويتعظوا ، وقت أن قال عيسى ابن مريم ، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) لكي أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإيمان والتوحيد.

ولم يقل لهم يا قوم ـ كما قال لهم ـ موسى ـ عليه‌السلام ـ بل قال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) لأنه لا أب له فيهم ، وإن كانت أمه منهم ، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء ، لا من جهة الأمهات.

وفي قوله (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) إخبار صريح منه لهم ، بأنه ليس إلها وليس ابن إله ـ كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله.

وقوله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته ، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به.

أى : إنى رسول الله ـ تعالى ـ إليكم بالكتاب الذي أنزله الله علىّ وهو الإنجيل ، حال كوني مصدقا للكتاب الذي أنزله الله ـ تعالى ـ على نبيه موسى ـ عليه‌السلام ـ وهذا الكتاب هو التوراة ، وما دام الأمر كذلك فمن حقي عليكم ، أن تؤمنوا به ، وأن تتبعوني ، لأنى لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، بل هي مشتملة على ما يدل على صدقى ، فكيف تعرضون عن دعوتي.

وقوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) فيه نوع مجاز ، لأن ما بين يدي الإنسان هو ما أمامه ، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره. واللام في «لما» لتقوية العامل ، نحوه قوله ـ تعالى ـ (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) معطوف على ما قبله.

٣٥٨

والتبشير : الإخبار بما يسر النفس ويبهجها ، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان ، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه أحمد تبشيرا ، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم ، ويرفع الأغلال عنهم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).

ولفظ (أَحْمَدُ) اسم من أسماء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو علم منقول من الصفة ، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل. فيكون معناها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر حمدا لله ـ تعالى ـ من غيره.

ويصح أن تكون من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير ، أكثر مما يحمدون غيره.

قال الآلوسى : وهذا الاسم الجليل ، علم لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصح من رواية مالك ، والبخاري ، ومسلم .. عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لي أسماء ؛ أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب» (١).

وبشارة عيسى ـ عليه‌السلام ـ بنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة ، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة ، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب.

ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة في بعض الأناجيل ، كإنجيل يوحنا ، في الباب الرابع عشر ، قال الإمام الرازي : في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : وأنا أطلب لكم إلى أبى ، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد.

والفارقليط هو روح الحق واليقين (٢).

ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية : أحمد أو محمد (٣).

ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة في التوراة والإنجيل ، قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٤).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٨٦.

(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٣٩.

(٣) راجع تفسير القاسمى ـ ١٦ ص ٥٧٨٨.

(٤) راجع تفسيرنا لسورة الأعراف الآية ١٥٧ ص ٣٩٠.

٣٥٩

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله ـ تعالى ـ.

والضمير في قوله (جاءَهُمْ) يرى بعضهم أنه يعود لعيسى ، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : فلما جاء عيسى ـ عليه‌السلام ـ أو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات الدالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والجحود : هذا سحر واضح في بابه. لا يخفى على أى ناظر أو متأمل.

ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى ـ عليه‌السلام ـ وكفروا به ، ونسبوا إلى أمه الطاهرة ، ما هي بريئة منه ، ومنزهة عنه.

كما كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفروا به ، وصدق الله إذ يقول : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين ، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه ، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكن ما جبلوا عليه من جحود وعناد ، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن هؤلاء المشركين هم أشد الناس ظلما للحق ، وأنه ـ سبحانه ـ سيظهره لا محالة ، رضوا بذلك أم كرهوا وأن هذا الدين سيظهره الله ـ تعالى ـ على بقية الأديان ، مهما كره الكافرون. فقال ـ تعالى ـ :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩)

والاستفهام في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) للإنكار والنفي. والافتراء : اختلاق الكذب واختراعه من جهة الشخص دون أن يكون له أساس من الصحة ، وقوله : (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) جملة حالية.

٣٦٠