التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

والأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير المشتمل على ألوان من العلم النافع ، وسمى بذلك لأنه يسفر ويكشف عما فيه من المعاني المفيدة للمطلع عليها.

والمعنى : حال هؤلاء اليهود الذين أنزل الله ـ تعالى ـ عليهم التوراة لهدايتهم .. ولكنهم لم ينتفعوا بها .. كحال الحمار الذي يحمل كتب العلم النافع ، ولكنه لم يستفد من ذلك شيئا ، لأنه لا يفقه شيئا مما يحمله ..

ففي هذا المثل شبه الله ـ تعالى ـ اليهود الذين لم ينتفعوا بالتوراة التي فيها الهداية والنور ، بحال الحمار الذين يحمل كتب العلوم النافعة دون أن يستفيد بها.

ووجه الشبه بين الاثنين : هو عدم الانتفاع بما من شأنه أن ينتفع به انتفاعا عظيما ، لسمو قيمته ، وجلال منزلته.

قال صاحب الكشاف : شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها ، ولا بمنتفعين بآياتها ... بالحمار ، حمل أسفارا ، أى : كتبا كبارا من كتب العلم ، فهو يمشى بها ، ولا يدرى منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل .. (١).

وقال الإمام ابن كثير : يقول ـ تعالى ـ ذامّا لليهود الذين أعطوا التوراة فلم يعملوا بها ، إن مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا .. فهو يحملها حملا حسيا ولا يدرى ما عليه ، وكذلك هؤلاء. لم يعملوا بمقتضى ما في التوراة بل أولوه وحرفوه ، فهم أسوأ من الحمار ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، ولهذا قال ـ تعالى ـ : في آية أخرى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ..) (٢).

وقال القرطبي : وفي هذا المثل تنبيه من الله ـ تعالى ـ لمن حمل الكتاب ، أن يتعلم معانيه ، ويعمل بما فيه ، لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء اليهود ، قال الشاعر :

زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيّدها ، إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا

بأوساقه ، أو راح ما في الغرائر (٣)

وعبر ـ سبحانه ـ عن تكليفهم العمل بالتوراة وعن تركهم لذلك بقوله : (حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) للإشعار بأن هذا التكليف منه ـ تعالى ـ لهم ، كان عهدا مؤكدا عليهم ، حتى لكأنهم تحملوه كما يتحمل الإنسان شيئا قد وضع فوق ظهره أو كتفيه. ولكنهم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣٠.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٤٣.

(٣) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٩٤.

٣٨١

نبذوا هذا العهد ، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال ، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده ..

ولفظ «ثم» في قوله (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) للتراخي النسبي ، لأن عدم وفائهم بما عهد إليهم ، أشد عجبا من تحملهم لهذه العهود.

وشبههم ، بالحمار الذي هو مثل في البلادة والغباء ، لزيادة التشنيع عليهم ، والتقبيح لحالهم ، حيث زهدوا وأعرضوا عن الانتفاع بأثمن شيء نافع ، ـ وهو كتاب الله ـ كما هو شأن الحمار الذي لا يفرق فيما يحمله على ظهره بين الشيء النافع والشيء الضار.

وجملة «يحمل أسفارا» في موضع الحال من الحمار ، أو في موضع جر على أنها صفة للحمار ، باعتبار أن المقصود به الجنس ، فهو معرفة لفظا ، نكرة معنى.

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : «يحمل» ما محله؟ قلت : محله النصب على الحال ، أو الجر على الوصف ، لأن لفظ الحمار هنا ، كلفظ اللئيم في قول الشاعر : ولقد أمر على اللئيم يسبني .. (١).

ثم أضاف ـ سبحانه ـ إلى ذم هؤلاء اليهود ذما آخر فقال : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ...).

و (بِئْسَ) فعل ذم ، وفاعله ما بعده وهو قوله : (مَثَلُ الْقَوْمِ) وقد أغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم ، لحصول العلم بأن المذموم هو حال هؤلاء القوم الذين وصفهم ـ سبحانه ـ بأنهم قد كذبوا بآياته.

أى : بئس المثل مثل هؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله ـ تعالى ـ الدالة على وحدانيته وقدرته ، وعلى صدق أنبيائه فيما يبلغونه عنه ـ تعالى ـ.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل قصد به بيان الأسباب التي أدت إلى عدم توفيق الله ـ تعالى ـ لهم إلى الهداية.

أى : والله ـ تعالى ـ قد اقتضت حكمته ، أن لا يهدى إلى طريق الخير ، من ظلم نفسه ، بأن آثر الغي على الرشد ، والعمى على الهدى ، والشقاوة على السعادة ، لسوء استعداده ، وانطماس بصيرته.

ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدى اليهود ، وأن يرد على مزاعمهم ردا يخرس

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣٠.

٣٨٢

ألسنتهم ، ويكشف عن أكاذيبهم .. فقال ـ سبحانه ـ : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قال الآلوسى : وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم ذلك ، إظهارا لكذبهم ، فإنهم كانوا يقولون : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) ويدعون أن الآخرة خالصة لهم عند الله.

وروى أنه لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب يهود المدينة إلى يهود خيبر : إن اتبعتم محمدا أطعناه ، وإن خالفتموه خالفناه. فقالوا ـ أى : يهود خيبر ـ : «نحن أبناء خليل الرحمن ، ومنا عزير ابن الله ، ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب؟ نحن أحق بها من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت هذه الآيات .. (١).

والمقصود بالذين هادوا ، أى : الذين ادعو أنهم على الديانة اليهودية ، يقال : هاد فلان وتهوّد. إذا دخل في اليهودية ، نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ، أو سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل ، من هاد يهود هودا بمعنى تاب ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ ...) أى : تبنا إليك.

ومعنى ، أولياء الله ... مقربين منه ، كرماء عليه ، لهم منزلة خاصة عنده ـ تعالى ـ وقوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ...) جواب الشرط ، والتمني معناه : ارتياح النفس ، ورغبتها القوية في الحصول على الشيء.

ويستعمل التمني في المعنى القائم بالقلب ، بأن تتطلع نفس الشخص إلى الحصول على الشيء. كما يستعمل عن طريق النطق باللسان ، بأن يقول الإنسان بلسانه ، ليتني أحصل على كذا.

وهذا المعنى الثاني هو المراد هنا ، لأن المعنى الكائن في القلب لا يعلمه أحد سوى الله ـ تعالى ـ.

ومعنى الآية الكريمة : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الزاعمين. أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنهم أولياء الله ـ تعالى ـ المقربون إليه من دون سائر خلقه ... قل لهم على سبيل التحدي والتعجيز والتبكيت ـ إن كان الأمر كما زعمتم ، فاذكروا أمام الناس بألسنتكم لفظا ، يدل على أنكم تحبون الموت وترغبون فيه ، لكي تظفروا بعد الموت بالمحبة الكاملة من الله ، ولكي تنتقلوا من شقاء الدنيا ومتاعبها إلى النعيم الخالص بعد موتكم.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٩٦.

٣٨٣

وجواب الشرط في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محذوف لدلالة ما قبله عليه.

أى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت.

وافتتحت الآية الكريمة بلفظ (قُلْ) للاهتمام بشأن التحدي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، ولبيان أنه أمر من الله ـ تعالى ـ وليس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى التنفيذ.

وجيء بإن الشرطية المفيدة للشك ، مع أنهم قد زعموا أنهم أولياء لله فعلا ، للإشعار بأن زعمهم هذا وإن كانوا قد كرروا النطق والتباهي به .. إلا أنه بمنزلة الشيء الذي تلوكه الألسنة ، دون أن يكون له أساس من الواقع ، فهو لوضوح بطلانه صار بمنزلة الشيء الذي يفترض وقوعه افتراضا على سبيل التوبيخ لهم.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أى : تهودوا (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) أى : أحباء لله ، ولم يضف ـ سبحانه ـ لفظ أولياء إليه ، كما في قوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ...) ليؤذن بالفرق بين مدعى الولاية ، ومن يخصه ـ تعالى ـ بها.

وقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ ...) حال من الضمير الراجع إلى اسم (إِنْ) أى : متجاوزين عن الناس.

(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) أى : فتمنوا من الله أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة. فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يخلص إليها من هذه الدنيا التي هي دار كدر وتعب .. (١).

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن واقعهم وعن حالتهم المستقبلة فقال : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

أى : أن هؤلاء اليهود لا يتمنى أحدهم الموت أبدا. بسبب ما قدمته أيديهم من آثام ، والله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من سيئاتهم واعتداءاتهم وظلمهم بل هو ـ سبحانه ـ يسجل ذلك عليهم ، ويجازيهم بما يستحقونه من عقاب ..

فالآية الكريمة خبر من الله ـ تعالى ـ عن اليهود بأنهم يكرهون الموت ، ولا يتمنونه ، ولا يستطيعون قبول ما تحداهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طلبهم تمنى الموت ، لعلمهم بأنهم لو أجابوه إلى طلبه ، لحل بهم الموت الذي يكرهونه.

وقد صح من عدة طرق عن ابن عباس أنه قال : لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه ..

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٩٦.

٣٨٤

وقال ابن جرير : وبلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ، ولرأوا مقاعدهم من النار ..» (١).

وقال ابن كثير : وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال أبو جهل ـ لعنه الله ـ : إن رأيت محمدا عند الكعبة ، لآتينه حتى أطأ عنقه. قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا (٢).

وقال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) أى : بسبب ما قدموا من الكفر ، وقد قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلو لا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد فما تمالك أحد منهم أن يتمنى ، وهي إحدى المعجزات ـ لأنها إخبار بالغيب وكانت كما أخبر ـ.

فإن قلت : ما أدراك أنهم لم يتمنوا الموت؟ قلت : لو تمنوا لنقل ذلك عنهم ، كما نقلت سائر الحوادث ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن في الإسلام ، أكثر من الذر ، وليس أحد منهم نقل عنه ذلك ... (٣).

هذا ، ويكفى في تحقيق هذه المعجزة ، ألا يصدر تمنى الموت عن اليهود الذين تحداهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، وهم الذين كانوا يضعون العراقيل في طريق دعوته .. ولا يقدح في هذه المعجزة ، أن ينطق يهودي بعد العهد النبوي بتمني الموت ، وهو حريص على الحياة ، لأن المعنيين بالتحدي هم اليهود المعاصرون للعهد النبوي.

والمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) التهديد والوعيد. أى : والله ـ تعالى ـ عليم علما تاما بأحوال هؤلاء الظالمين ، وسيعاقبهم العقاب الذي يتناسب مع ظلمهم وبغيهم. فالمراد من العلم لازمه ، وهو الجزاء والحساب ..

وعبر ـ سبحانه ـ هنا بقوله : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ ...) وفي سورة البقرة بقوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ ...).

للإشعار بأنهم يكرهون الموت في الحال وفي المستقبل كراهة شديدة.

__________________

(١) راجع تفسير ابن جرير ج ١ ص ٤٢٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٤٤.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣١ وج ١ ص ٢٢٥.

٣٨٥

ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يخبرهم بأنهم لا مفر لهم من الموت ، مهما حرصوا على الهروب منه. فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ...).

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء اليهود الذين يكرهون الموت ، ويزعمون أنهم أحباب الله؟ ..

قل لهم على سبيل التوبيخ والتبكيت : إن الموت الذي تكرهونه ، وتحرصون على الفرار منه ، لا مهرب لكم منه ، ولا محيص لكم عنه ، فهو نازل بكم إن عاجلا أو آجلا كما قال ـ سبحانه ـ (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ...).

فالمقصود بهذه الآية الكريمة إخبارهم بأن هلعهم من الموت مهما اشتد لن يفيدهم شيئا ، لأن الموت نازل بهم لا محالة ...

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم بعد الموت ، سيجدون الجزاء العادل فقال : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أى : قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ : إن الموت نازل بكم لا محالة. ثم بعد هلاككم سترجعون إلى الله ـ تعالى ـ الذي يعلم السر والعلانية ، والجهر والخفاء ، فيجازيكم على أعمالكم السيئة ، بما تستحقونه من عقاب.

فالمراد بالإنباء عما كانوا يعملونه ، الحساب على ذلك ، والمجازاة عليه.

وشبيه بهذه الآيات قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة :

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ ، وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١).

وبعد هذا التوبيخ والتحدي لليهود الذين زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس .. وجه ـ سبحانه ـ للمؤمنين نداء أمرهم فيه بالمسارعة إلى أداء فرائضه ونهاهم عن أن تشغلهم دنياهم عن ذكره وطاعته ، فقال ـ تعالى ـ :

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة البقرة الآية ٩٦ ص ٢١٤.

٣٨٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

والمقصود بالنداء في قوله ـ سبحانه ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ ...) جميع المكلفين بها ، الذين يجب عليهم أداؤها ..

وناداهم ـ سبحانه ـ بصفة الإيمان ، لتحريك حرارة الإيمان في قلوبهم ، ولتحريضهم على المسارعة إليها ، إذ من شأن المؤمن القوى ، أن يكون مطيعا لما يأمره خالقه به.

والمراد بالنداء : الأذان والإعلام بوقت حلولها.

والمقصود بالصلاة المنادى لها هنا : صلاة الجمعة ، بدليل قوله ـ تعالى ـ (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ).

واللام في قوله (لِلصَّلاةِ) للتعليل ، و (مِنْ) بمعنى في ، أو للبيان ، أو للتبعيض ، لأن يوم الجمعة زمان ، تقع فيه أعمال ، منها الصلاة المعهودة فيه وهي صلاة الجمعة لأن الأمر بترك البيع خاص بها ، لوجود الخطبة فيها.

وقوله : (فَاسْعَوْا ...) جواب الشرط ، من السعى ، وهو المشي السريع.

والمراد به هنا : المشي المتوسط بوقار وسكينة ، وحسن تهيؤ لصلاة الجمعة ..

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أى : امشوا إليه بدون إفراط في السرعة ..

فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبى سلمة من حديث أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».

٣٨٧

والمراد بذكر الله : الخطبة والصلاة جميعا ، لاشتمالهما عليه ، واستظهر بعضهم أن المراد به الصلاة ، وقصره بعضهم على الخطبة .. (١).

وإنما عبر ـ سبحانه ـ بالسعي لتضمنه معنى زائدا على المشي ، وهو الجد والحرص على التبكير ، وعلى توقى التأخير.

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا نادى المنادى لأجل الصلاة في يوم الجمعة ، فامضوا إليها بجد ، وإخلاص نية ، وحرص على الانتفاع بما تسمعونه من خطبة الجمعة ، التي هي لون من ألوان ذكر الله ـ تعالى ـ وطاعته.

والأمر في قوله ـ سبحانه ـ : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ، وَذَرُوا الْبَيْعَ ..) الظاهر أنه للوجوب ، لأن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف عن ذلك ، ولا صارف له هنا.

والمراد من البيع هنا : المعاملة بجميع أنواعها ، فهو يعم البيع والشراء وسائر أنواع المعاملات.

أى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، فاخرجوا إليها بحرص وسكينة ووقار. واتركوا المعاملات الدنيوية من بيع ، وشراء ، وإجارة ، وغيرها.

وإنما قال ـ سبحانه ـ : (وَذَرُوا الْبَيْعَ ...) لأنه أهم أنواع المعاملات ، فهو من باب التعبير عن الشيء بأهم أجزائه.

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعود إلى ما سبق ذكره من الأمر بالسعي إلى ذكر الله ، متى نودي للصلاة ، وترك الاشتغال بالبيع وما يشبهه.

أى : ذلكم الذي أمرتكم به من السعى إلى ذكر الله عند النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ومن ترك أعمالكم الدنيوية .. خير لكم مما يحصل لكم من رزق في هذه الأوقات ، عن طريق البيع أو الشراء أو غيرهما.

فالمفضل عليه محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، والمفضل هو السعى إلى ذكر الله ـ تعالى ـ.

وهذا التفضيل باعتبار أن منافع السعى إلى ذكر الله ـ تعالى ـ باقية دائمة ، أما المنافع الدنيوية فهي زائلة فانية ...

وجواب الشرط في قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) محذوف. أى : إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم ، فاسعوا إلى ذكر الله عند النداء للصلاة ، واتركوا البيع والشراء.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٠٢.

٣٨٨

أو إن كنتم من أهل العلم والفقه السليم للأمور ، عرفتم أن امتثال أمر الله ـ تعالى ـ بأن تسعوا ، إلى ذكره عند النداء لصلاة الجمعة ، خير لكم من الاشتغال في هذا الوقت بالبيع والشراء ..

إذ في هذا الامتثال سعادتكم ونجاتكم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر تيسيره عليهم في تشريعاته فقال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ...).

أى : فإذا فرغتم من أداء الصلاة وأقمتموها على أكل وجه ، فانتشروا في الأرض ، وامشوا في مناكبها ، لأداء أعمالكم التي كنتم قد تركتموها عند النداء للصلاة ، واطلبوا الربح واكتساب المال والرزق ، من فضل الله ـ تعالى ـ ومن فيض إنعامه ، والأمر هنا للإباحة ، لأنه وارد بعد حظر ، فهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ...).

أى : أن الانتشار في الأرض بعد الصلاة لطلب الرزق ، ليس واجبا عليهم ، إذ طلب الرزق قد يكون في هذا الوقت ، وقد يكون في غيره ...

والمقصود من الآية إنما هو تنبيه الناس ، إلى أن لهم في غير وقت الصلاة ، سعة من الزمن في طلب الرزق ، وفي الاشتغال بالأمور الدنيوية ، فعليهم أن يسعوا إلى ذكر الله ، إذا ما نودي للصلاة من يوم الجمعة ، وأن يحرصوا على ذلك حرصا تاما ، مصحوبا بالنية الطيبة ، وبالهيئة الحسنة. وبالمضي المبكر إلى المسجد.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تحذير لهم من الانتشار في الأرض لمصالحهم الدنيوية ، دون أن يعطوا طاعة الله ـ تعالى ـ وعبادته ، ما تستحقه من عناية ومواظبة.

أى : إذا قضيت الصلاة ، فانتشروا في الأرض لتحصيل معاشكم ، دون أن يشغلكم ذلك عن الإكثار من ذكر الله ـ تعالى ـ في كل أحوالكم ، فإن الفلاح كل الفلاح في تقديم ما يتعلق بأمور الدين ، على ما يتعلق بأمور الدنيا ، وفي تفضيل ما يبقى على ما يفنى.

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يراها ترسم للمسلم التوازن السامي ، بين ما يقتضيه دينه ، وما تقتضيه دنياه.

إنها تأمره بالسعي في الأرض ، ولكن في غير وقت النداء للصلاة من يوم الجمعة ، ودون أن يشغله هذا السعى عن الإكثار من ذكر الله ، فإن الفلاح في الإقبال على الطاعات التي ترضيه ـ سبحانه ـ : ومن بين هذه الطاعات أن يكثر الإنسان من ذكر الله ـ تعالى ـ ، حتى في حالة سعيه لتحصيل رزقه.

٣٨٩

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بعتاب يحمل في طياته ثوب التأديب والإرشاد والتأنيب ، لمن آثر مطالب الدنيا على مطالب الآخرة فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...).

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : يعاتب ـ تبارك وتعالى ـ على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة ، التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ...).

فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن جابر قال : قدمت عير ـ أى : تجارة ـ المدينة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ـ فخرج الناس ، وبقي اثنا عشر رجلا ، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية عن جابر ـ أيضا ـ أنه قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة ، فابتدرها الناس ، حتى لم يبق مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اثنا عشر رجلا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي نارا» ونزلت هذه الآية .. (١).

وفي رواية أن الذين بقوا في المسجد كانوا أربعين ، وأن العير كانت لعبد الرحمن بن عوف ، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ... (٢).

وفي رواية أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب ، فقدم دحية الكلبي بتجارة له فتلقاه أهله بالدفوف. فخرج الناس.

و «إذا» في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ...) ظرف للزمان الماضي المجرد عن الشرط ، لأن هذه الآية نزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن انفض عنه من انفض وهو يخطب وقوله : (انْفَضُّوا) من الانفضاض ، بمعنى التفرق. يقال : انفض فلان عن فلان إذا تركه وانصرف عنه ، وهو من الفض ، بمعنى كسر الشيء والتفريق بين أجزائه.

والضمير في قوله (إِلَيْها) يعود للتجارة ، وكانت عودته إليها دون اللهو ، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة ، والمراد باللهو هنا : فرحهم بمجيء التجارة واستقبالهم لها بالدفوف ، لأنهم كانوا في حالة شديدة من الفقر وغلاء الأسعار.

والتعبير بأو يشير إلى أن بعض المنفضين قد انفضوا من أجل التجارة ، وأن البعض الآخر قد انفض من أجل اللهو.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٤٩.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٠٥.

٣٩٠

قال الجمل في حاشيته : والذي سوغ لهم الخروج وترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، أنهم ظنوا أن الخروج بعد تمام الصلاة جائز ، لانقضاء المقصود وهو الصلاة ، لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول الإسلام يصلى الجمعة قبل الخطبة كالعيدين ، فلما وقعت هذه الواقعة ، ونزلت الآية ، قدم الخطبة وأخر الصلاة ... (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) جملة حالية من فاعل (انْفَضُّوا) والمقصود بها توبيخهم على هذا التصرف ، حيث تركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا يخطب على المنبر ، وانصرفوا إلى التجارة واللهو.

وقوله ـ سبحانه ـ : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ ، وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) إرشاد لهم إلى ما هو الأنفع والأبقى والأكرم لهم.

أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الذين انفضوا عنك وأنت تخطب .. قل لهم : ما عند الله ـ تعالى ـ من ثواب ومن عطاء خير من اللهو الذي يشغلكم عن ذكر الله ، ومن التجارة التي تبتغون من ورائها الربح المادي ، والمنافع العاجلة.

والله ـ تعالى ـ هو خير الرازقين ، لأنه ـ سبحانه ـ هو وحده الذي يقسم الأرزاق ، وهو الذي يعطى ويمنع ، كما قال ـ سبحانه ـ : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها ، وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وقدمت التجارة على اللهو في صدر الآية ، لأن رؤيتها كانت الباعث الأعظم على الانفضاض إليها ، وترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يخطب على المنبر ، ولم يبق معه إلا عدد قليل من أصحابه.

وأخرت في آخر الآية وقدم اللهو عليها ، ليكون ذمهم على انفضاضهم أشد وأوجع ، حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك.

هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى :

١ ـ فضل يوم الجمعة ، وفضل صلاة يوم الجمعة ، والتحذير من ترك أدائها.

ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ، ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم. وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».

وروى الشيخان عن أبى هريرة أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نحن الآخرون ـ

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٤٥.

٣٩١

أى : زمنا ـ السابقون يوم القيامة قبل غيرهم ـ ، بيد أنهم ـ أى : اليهود والنصارى ـ أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم ـ أى : تعظيمه ـ فاختلفوا فيه فهدانا الله ، فالناس لنا فيه تبع : اليهود غدا ـ أى : السبت ـ والنصارى بعد غد ـ أى : الأحد ـ».

وروى مسلم والنسائي عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على أعواد منبره : «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ـ أى : تركهم صلاة الجمعة ـ أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين ..».

قال القرطبي ما ملخصه : وإنما سميت الجمعة جمعة ، لأنها مشتقة من الجمع حيث يجتمع الناس فيها للصلاة .. وكان يقال ليوم الجمعة : العروبة ...

قال البيهقي : وروينا عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب الزهري ، أن مصعب بن عمير ، كان أول من جمّع الجمعة بالمدينة للمسلمين ، قبل أن يهاجر إليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال القرطبي : وأما أول جمعة جمعها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه ، قال أهل السير والتاريخ : قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا حتى نزل بقباء ، على بنى عمرو بن عوف ، يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى ـ ومن تلك السنة يعد التاريخ ـ فأقام بقباء إلى يوم الخميس ، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة ، فأدركته الجمعة في بنى سالم بن عوف ، في بطن واد لهم ، فجمع بهم وخطب ، وهي أول خطبة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، وأستغفره وأستهديه .. (١).

٢ ـ الآية الكريمة وإن كانت قد أمرت المؤمنين بالسعي إلى صلاة الجمعة عند النداء لها ، إلا أن هناك أحاديث متعددة تحض على التبكير بالحضور إليها ، وبالغسل لها ، وبمس الطيب ، وبالحضور إليها على أحسن حالة ..

ومن تلك الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ـ أى : كغسل الجنابة ـ ثم راح إلى المسجد ، فكأنما قرب بدنة ـ أى : ناقة ضخمة .. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ـ أى له قرون ـ ومن راح في الساعة الرابعة

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٩٩.

٣٩٢

فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».

وروى ابن ماجة عن ابن مسعود قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر ترواحهم إلى الجمعات ، الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ، وما رابع أربعة من الله ببعيد».

وروى الشيخان عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ، ويلبس من صالح ثيابه ، وإن كان له طيب مس منه ..».

٣ ـ أخذ العلماء من قوله ـ تعالى ـ : (... إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ..) أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى لأدائها واجب ، وأن ترك ذلك محرم شرعا ..

ومن المعروف بين العلماء أن الأمر يقتضى الوجوب ، ما لم يوجد له صارف ، ولا صارف له هنا ..

قال الإمام القرطبي : فرض الله ـ تعالى ـ الجمعة على كل مسلم ، ردا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ، ونقل عن بعض الشافعية أنها سنة.

وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان ، لقوله ـ تعالى ـ : (... إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ...).

وثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين».

وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها .. (١).

قال بعض العلماء : جاء في الآية الكريمة الأمر بالسعي ، والأمر للوجوب فيكون السعى واجبا ، وقد أخذ العلماء من ذلك أن الجمعة فريضة ، لأنه ـ سبحانه ـ قد رتب الأمر للذكر على النداء للصلاة ، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة ، فالدلالة ظاهرة ، لأنه لا يكون السعى لشيء واجبا ، حتى يكون ذلك الشيء واجبا.

وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط ، فهو كذلك لأن الخطبة شرط الصلاة ، وقد أمر بالسعي إليه ، والأمر للوجوب ، فإذا وجب السعى للمقصود تبعا ، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب ...

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٠٥.

٣٩٣

كما أن الاشتغال بالبيع أو الشراء وقت النداء محرم ، لأن الأمر للوجوب ، وقال بعضهم : هو مكروه كراهة تحريم .. (١).

ومما يدل على أن صلاة الجمعة فريضة محكمة ، وأن السعى إليها واجب ، وأن الاشتغال عنها بالبيع أو الشراء محرم ، ما جاء في الأحاديث من الأمر بالمحافظة عليها ، ومن التحذير من تركها ، ومن ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبى الجعد ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها ، طبع الله على قلبه».

٤ ـ قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ ..) يدل دلالة واضحة ، على سمو شريعة الإسلام ، وعلى سماحتها ويسرها ، وجمعها بين مطالب الدنيا ومطالب الآخرة.

ومع أن هذا الأمر بالانتشار بعد الصلاة للإباحة ـ كما سبق أن قلنا ـ إلا أن بعض السلف كان إذا انتهت الصلاة ، خرج من المسجد ، ودار في السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء أن يصلى.

قال الإمام ابن كثير : كان عراك بن مالك ـ أحد كبار التابعين ـ إذا صلى الجمعة ، انصرف فوقف على باب المسجد وقال : اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين .. (٢).

هذا ، وهناك أحكام أخرى توسع المفسرون والفقهاء في الحديث عنها ، فليرجع إليها من شاء المزيد من معرفة هذه الأحكام والآداب ..

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الجمعة» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ..

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة : مدينة نصر :

صباح الثلاثاء ١٠ من شوال سنة ١٤٠٦ ه‍

الموافق ١٧ / ٦ / ١٩٨٦ م

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٥٢ للشيخ محمد على السائس.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٤٩.

٣٩٤

تفسير

سورة المنافقون

٣٩٥
٣٩٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المنافقون» من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة «الحج» ، وقبل سورة «المجادلة» (١).

وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فقد جاء في حديث زيد بن أرقم ـ الذي سنذكره خلال تفسيرنا لها ـ أنه قال : «فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين».

وقال الآلوسى : أخرج سعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط ـ بسند حسن ـ عن أبى هريرة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة ، فيحرض بها المؤمنين ويقرأ في الركعة الثانية بسورة المنافقين ، فيقرع بها المنافقين.

٢ ـ والمحققون من العلماء على أن هذه السورة ، نزلت في غزوة بنى المصطلق ، وقد جاء ذلك في بعض الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها ، والتي سنذكرها خلال تفسيرنا لها ـ بإذن الله ـ وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة.

وذكر بعضهم أنها نزلت في غزوة «تبوك» ، ومما يشهد لضعف هذا القول ، أن المنافقين في هذا الوقت ـ وهو السنة التاسعة من الهجرة ، كانوا قد زالت دولتهم ، وضعف شأنهم ، وما كان لواحد منهم أن يقول : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

٣ ـ وسميت هذه السورة بسورة «المنافقون» ، لأنها فضحتهم ، ووصفتهم بما هم أهله من صفات ذميمة ، ومن طباع قبيحة ، ومن مسالك سيئة ... ويكاد حديثها يكون مقصورا عليهم ، وعلى أكاذيبهم ودسائسهم.

وحديث القرآن عن النفاق والمنافقين ، قد ورد في كثير من السور المدنية ، ففي سورة البقرة نجد حديثا مستفيضا عنهم ، يبدأ بقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

وفي سورة آل عمران نجد توبيخا من الله ـ تعالى ـ لهم ، كما في قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا ، لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

__________________

(١) راجع الإتقان في علوم القرآن ج ١ ص ٢٧ للسيوطي.

٣٩٧

وفي سورة النساء نجد آيات متعددة تتحدث عن قبائحهم ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ، وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ، رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً).

أما سورة «التوبة» فهي أكثر السور حديثا عنهم ، ولذا سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم على رءوس الأشهاد ، كما سميت بالمنقرة ، لأنها نقرت عما في قلوبهم ، وكشفت عنه ، كما سميت بالمبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم .. (١).

والحق أنه لا تكاد تخلو سورة من السور المدنية ، من الحديث عن المنافقين وعن سوء سلوكهم وأخلاقهم. ووجوب ابتعاد المؤمنين عنهم.

٤ ـ والنفاق إنما يظهر ويفشو حيث تكون القوة ، لذا لم يكن للمنافقين أثر في العهد المكي ، لأن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين في الأرض ، ومن كان هذا شأنه لا ينافقه الناس ، فضلا عن أن مشركي مكة كانوا بطبيعتهم جبابرة ، وكانوا يعلنون حربهم على الدعوة الإسلامية إعلانا سافرا. لا التواء معه ولا مداهنة.

أما المؤمنون في العهد المدني ، فقد كانوا أقوياء خصوصا بعد أن أسسوا دولتهم ، وانتصروا على المشركين في غزوة بدر .. كما انتصروا على اليهود .. فظهرت حركة النفاق في المدينة ، لمداهنة المؤمنين ، وللحصول على نصيبهم من الغنائم التي يغنمها المؤمنون .. ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرها العلماء والمؤرخون ... (٢).

وسورة «المنافقون» فضحت أحوالهم ، وكشفت عن دخائلهم وعن خسة نفوسهم .. وختمت بموعظة المؤمنين ، وبحثهم على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى تقديم العمل الصالح ، الذي ينفعهم في دنياهم وفي آخرتهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الثلاثاء : ١٠ من شوال سنة ١٤٠٦ ه‍

١٧ / ٦ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) راجع مقدمة تفسيرنا لسورة التوبة.

(٢) راجع على سبيل المثال كتاب : (سيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ج ٢ ص ١٧٦ للأستاذ محمد عزت دروزة.

٣٩٨

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

افتتح الله ـ تعالى ـ السورة الكريمة ، بالحديث عن صفة من أبرز الصفات الذميمة للمنافقين ، ألا وهي صفة الكذب والخداع ، فقال ـ تعالى ـ (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...).

و (إِذا) هنا ظرف للزمان الماضي ، بقرينة كون جملتيها ماضيتين ، وجواب «إذا» قوله (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...) والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (الْمُنافِقُونَ) جمع منافق ، وهو من يظهر الإسلام ويخفى الكفر ، أو من يظهر خلاف ما يبطن من أقوال وأفعال.

أى : إذا حضر المنافقون إلى مجلسك ـ أيها الرسول الكريم ـ قالوا لك على سبيل الكذب والمخادعة والمداهنة .. نشهد أنك رسول من عند الله ـ تعالى ـ ، وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك.

٣٩٩

وعبروا عن التظاهر بتصديقهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم (نَشْهَدُ) ـ المأخوذ من الشهادة التي هي إخبار عن أمر مقطوع به ـ وأكدوا هذه الشهادة بإنّ واللام ، للإيهام بأن شهادتهم صادقة ، وأنهم لا يقصدون بها إلا وجه الحق ، وأن ما على ألسنتهم يوافق ما في قلوبهم.

قال الشوكانى : أكدوا شهادتهم بإنّ واللام ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم ، مع خلوص نياتهم ، والمراد بالمنافقين ، عبد الله بن أبى وأتباعه.

ومعنى نشهد : نحلف ، فهو يجرى مجرى القسم ، ولذا يتلقى بما يتلقى به القسم ...

ومثل نشهد : نعلم ، فإنه يجرى مجرى القسم كما في قول الشاعر :

ولقد علمت لتأتين منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها (١)

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها ، من كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول من عند الله ـ تعالى ـ حقا.

وجملة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) معطوفة على قوله : (قالُوا نَشْهَدُ).

أى : إذا حضر المنافقون إليك ـ أيها الرسول الكريم ـ قالوا كذبا وخداعا : نشهد إنك لرسول الله ، والله ـ تعالى ـ (يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) حقا سواء شهدوا بذلك أم لم يشهدوا ، فأنت لست في حاجة إلى هذه الشهادة التي تخالف بواطنهم.

(وَاللهُ) ـ تعالى ـ (يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في قولهم : نشهد إنك لرسول الله ، لأن قولهم هذا يباين ما أخفته قلوبهم المريضة ، من كفر ونفاق وعداوة لك وللحق الذي جئت به.

والإيمان الحق لا يتم إلا إذا كان ما ينطق به اللسان ، يوافق ويواطئ. ما أضمره القلب ، وهؤلاء قد قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فثبت كذبهم في قولهم : نشهد إنك لرسول الله ..

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى : فائدة في قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ)؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ليميط هذا الإيهام .. (٢).

وجيء بالفعل (يَشْهَدُ) في الإخبار عن كذبهم فيما قالوه ، للمشاكلة ، حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم ولما نطقوا به.

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٢٣٠.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣٨.

٤٠٠