التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

وقدم ـ سبحانه ـ الظرف «عنده» وهو مسند ، على «علم الغيب» وهو مسند إليه ، لإفادة الاهتمام بهذه العندية التي من أعجب العجب ادعاؤها ، وللإشعار بأنه بعيد عنها بعد الأرض عن السماء.

والفاء في قوله : (فَهُوَ يَرى) للسببية ، ومفعول (يَرى) محذوف.

أى : فهو بسبب معرفته للعوالم الغيبية ، يبصر رفع العذاب عنه ، ويعلم أن غيره سيتكفل بافتدائه من هذا العذاب.

ثم وبخه ـ سبحانه ـ على جهالته وعدم فهمه فقال : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...).

و «أم» هنا للإضراب الانتقالى من ذمه على إعراضه وبخله ، إلى ذمه على جهله وحمقه ، وصحف موسى : هي التوراة التي أنزلها ـ سبحانه ـ عليه.

وصحف إبراهيم : هي الصحف التي أوحى الله ـ تعالى ـ إليه بما فيها ، وقد ذكر سبحانه ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

وخصت صحف هذين النبيين الكريمين بالذكر ، لأنها كانت أشهر من غيرها عند العرب ، وكانوا يسألون أهل الكتاب من اليهود عما خفى عليهم من صحف موسى.

وقدم ـ سبحانه ـ هنا صحف موسى ، لاشتهارها بسعة الأحكام التي اشتملت عليها ، بالنسبة لما وصل إليهم من صحف إبراهيم.

وأما في سورة الأعلى فقدمت صحف إبراهيم على صحف موسى لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى ، وصحف إبراهيم أقدم من صحف موسى ، فكان الإتيان بهما على الترتيب الزمنى أنسب بالمقام.

وحذف ـ سبحانه ـ متعلق «ووفّى» ليتناول كل ما يجب الوفاء به ، كمحافظته على أداء حقوق الله ـ تعالى ـ ، واجتهاده في تبليغ الرسالة التي كلفه ـ سبحانه ـ بتبليغها ، ووقوفه عند الأوامر التي أمره ـ تعالى ـ بها ، وعند النواهي التي نهاه عنها ...

وأن في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) مخففة من الثقيلة. واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بدل من صحف موسى وإبراهيم.

وقوله (تَزِرُ) من الوزر بمعنى الحمل .. وقوله (وازِرَةٌ) صفة لموصوف محذوف. أى : نفس وازرة.

والمعنى : إذا كان هذا الإنسان المتولى عن الحق .. جاهلا بكل ما يجب العلم به من شئون

٨١

الدين ، فهلا سأل العلماء عن صحف موسى وإبراهيم ـ عليهما‌السلام ـ ففيها أنه لا تحمل نفس آثمة حمل أخرى يوم القيامة.

قال الآلوسى : وقوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أى : أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل ، حمل نفس أخرى .. ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره. ليتخلص الثاني من عقابه. ولا يقدح في ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ...) معطوف على ما قبله ، لبيان عدم إثابة الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب سواه.

أى : كما أنه لا تحمل نفس آثمة حمل نفس أخرى ، فكذلك لا يحصل الإنسان إلا على نتيجة عمله الصالح ، لا على نتيجة عمل غيره.

فالمراد بالسعي في الآية. السعى الصالح ، والعمل الطيب ، لأنه قد جاء في مقابلة الحديث عن الأوزار والذنوب.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى. ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) بيان لثمرة هذا السعى الصالح يوم القيامة.

أى : ليس للإنسان إلا ثمرة عمله الصالح بدون زيادة أو نقص ، وهذا العمل الصالح سوف يراه مسجلا أمامه في صحف مكرمة ، وفي ميزان حسناته ، ثم يجازيه الله ـ تعالى ـ عليه الجزاء التام الكامل. الذي لا نقص فيه ولا بخس.

وفي رؤية الإنسان لعمله الصالح يوم القيامة ، تشريف وتكريم له ، كما قال ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ ، بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

هذا ، وقد توسع العلماء في الجمع بين قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وبين النصوص التي تفيد أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره ، وهذه خلاصة لأقوالهم :

قال الإمام ابن كثير : ومن هذه الآية استنبط الشافعى ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى. لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٦٦.

(٢) سورة الحديد آية ١٢.

٨٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته ، ولا حثهم عليه ، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.

فأما الدعاء والصدقة ، فذاك مجمع على وصولهما ، ومنصوص من الشارع عليهما.

وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به». فهذه الثلاثة في الحقيقة. هي من سعيه وكده وعمله (١).

وقال الجمل في حاشيته على الجلالين : واستشكل الحصر في هذه الآية (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) بقوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) وبالأحاديث الواردة في ذلك كحديث : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ...».

وأجيب : بأنها مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى ، لأنها حكاية لما في صحفهم ، وأما هذه الأمة فلها ما سعت هي ، وما سعى لها غيرها ، لما صح من أن لكل نبي وصالح شفاعة. وهو انتفاع بعمل الغير ، ومن تأمل النصوص وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فلا يجوز أن تؤول الآية على خلاف الكتاب والسنة واجتماع الأمة ، وحينئذ فالظاهر أن الآية عامة ، قد خصصت بأمور كثيرة ...

ثم قال الشيخ الجمل ـ رحمه‌الله ـ : وقال الشيخ تقى الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله. فقد خرق الإجماع. وذلك باطل من وجوه كثيرة :

أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره. وهو انتفاع بعمل الغير.

ثانيها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها.

ثالثها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لأهل الكبائر في الخروج من النار ، وهذا انتفاع بسعي الغير.

رابعها : أن الملائكة يستغفرون ويدعون لمن في الأرض ، وذلك منفعة بعمل الغير.

خامسها : أن الله ـ تعالى ـ يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ـ أى من المؤمنين ـ بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٥٨.

٨٣

سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم ، وذلك انتفاع بمحض عمل الغير.

سابعها : قال الله ـ تعالى ـ في قصة الغلامين اليتيمين : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) فانتفعا بصلاح أبيهما ، وليس من سعيهما.

ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه ، وبالعتق ، بنص السنة والإجماع ، وهو من عمل الغير.

تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت ، بحج وليه بنص السنة ، وهو انتفاع بعمل الغير.

عاشرها : أن الحج المنذور أو الصوم المنذور ، يسقط عن الميت بعمل غيره ، وهو انتفاع بعمل الغير.

حادي عشر : المدين قد امتنع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر على بن أبى طالب ، وانتفع بصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من عمل الغير.

ثانى عشر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن صلى وحده : «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه» فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.

ثالث عشر : أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الغير ، إذا قضاها عنه قاض ، وذلك انتفاع بعمل الغير.

رابع عشر : أن من عليه تبعات ومظالم ، إذا حلل منها سقطت عنه ، وهذا انتفاع بعمل الغير.

خامس عشر : أن الجار الصالح ينفع في المحيا وفي الممات ـ كما جاء في الأثر ـ وهذا انتفاع بعمل الغير.

سادس عشر : أن جليس أهل الذكر يرحم بهم ، وهو لم يكن معهم ، ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له ، والأعمال بالنيات ، فقد انتفع بعمل غيره.

سابع عشر : الصلاة على الميت ، والدعاء له في الصلاة ، انتفاع للميت بصلاة الحي عليه وهو عمل غيره.

ثامن عشر : أن الجمعة تحصل باجتماع العدد ، وكذا الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض.

تاسع عشر : أن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وقال

٨٤

ـ تعالى ـ : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ ...) فقد رفع الله ـ تعالى ـ العذاب عن بعض الناس بسبب بعض ، وذلك انتفاع بعمل الغير.

تمام العشرين : أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن يمونه الرجل ، فإنه ينتفع بذلك من يخرج عنه ، ولا سعى له فيها.

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ : ومن تأمل العلم وجد انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى ، فكيف يجوز أن تتأول الآية الكريمة ، على خلاف صريح الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة ... (١).

والخلاصة أن الآية الكريمة قد تكون من قبيل العام الذي قد خص بأمور كثيرة. كما سبق أن أشرنا ، وقد تكون مخصوصة بقوم إبراهيم وموسى ـ عليهما‌السلام ـ ، لأنها حكاية عما في صحفهما ، أما الأمة الإسلامية فلها سعيها ، ولها ما سعى لها به غيرها ، وهذا من فضل الله ورحمته بهذه الأمة.

وقد قال بعض الصالحين في معنى هذه الآية : ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا ، ولله ـ تعالى ـ أن يجزيه بالحسنة ألفا فضلا.

ولهذه المسألة تفاصيل أخرى في كتب الفقه ، فليرجع إليها من شاء.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من مظاهر قدرته ورحمته ، فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). أى : وأن إلى ربك وحده ـ لا إلى غيره ـ انتهاء الخلق ومرجعهم ومصيرهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

فقوله : (الْمُنْتَهى) : مصدر بمعنى الانتهاء ، والمراد بذلك مرجعهم إليه ـ تعالى ـ وحده ، (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أى : وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي أوجد في هذا الكون ما يؤدى إلى ضحك الإنسان وسروره تارة ، وما يؤدى إلى حزنه وبكائه تارة أخرى. فبسبب ما يحيط بالإنسان من مؤثرات ومن مشاعر مختلفة : تارة يضحك وتارة يبكى.

وما أكثر هذه المؤثرات والأحوال والاعتبارات والدوافع .. في حياة الإنسان.

فالآية الكريمة انتقال من وجوب الاعتبار بأحوال الآخرة إلى وجوب الاعتبار بأحوال الإنسان ، وبما يحيط به من مؤثرات تارة تضحكه وتارة تبكيه.

وأسند ـ سبحانه ـ الفعلين إليه ؛ لأنه هو خالقهما ، وهو الموجد لأسبابهما.

__________________

(١) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٣٦.

٨٥

وحذف ـ سبحانه ـ المفعول به لهما ، لأنهما هما المقصودان بالذات ، لدلالتهما على كمال قدرته ـ تعالى ـ أى : وأنه وحده ـ عزوجل ـ هو الذي أوجد في الإنسان الضحك والبكاء ، فالفعلان منزلان منزلة الفعل اللازم.

وقدم ـ سبحانه ـ الضحك على البكاء ، للإشعار بمزيد فضله ومنته على عباده.

وقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أى : وأنه ـ تعالى ـ بقدرته وحدها ، هو الذي أحيا من يريد إحياءه من مخلوقاته ، وأمات من يريد إماتته منهم.

وهذا رد على أولئك الجاهلين الذين أنكروا ذلك ، وقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (... ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ..) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى).

وأصل النطفة : الماء الصافي ، أو القليل من الماء الذي يبقى في الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف ، يقال : نطفت القربة ، إذا تقاطر ماؤها بقلة.

وقوله : (تُمْنى) أى : تتدفق في رحم المرأة ، يقال : أمنى الرجل ومنى إذا خرج منه المنىّ.

أى : وأنه ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي خلق الزوجين الكائنين من الذكر والأنثى ، من نطفة تتدفق من الرجل إلى رحم الأنثى ، فتلتقى ببويضة الأنثى ، فيكون منهما الإنسان ـ بإذن الله ـ.

كما قال ـ تعالى ـ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (٢).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أى : وأن عليه وحده ـ سبحانه ـ الإحياء بعد الإماتة ، والإعادة إلى الحياة مرة أخرى يوم البعث والنشور.

والنشأة هي المرة من الإنشاء ، أى : الإيجاد والتكوين والخلق ، والأخرى : مؤنث الأخير ، والمراد أنه ـ سبحانه ـ يوجد النشأة التي لا نشأة بعدها.

وقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أى : وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي أغنى الناس بالأموال الكثيرة المؤثلة ، التي يقتنيها الناس ويحتفظون بها لأنفسهم ولمن بعدهم.

__________________

(١) سورة الجاثية الآية ٢٤.

(٢) سورة القيامة الآيات من ٣٦ إلى ٤٠.

٨٦

فقوله : (أَقْنى) من القنية بمعنى الادخار للشيء ، والمحافظة عليه.

قال الآلوسى : قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أى : وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ، ببقاء نفسه ، كالرياض والحيوان والبناء.

وأفرد ـ سبحانه ـ ذلك بالذكر مع دخوله في (أَغْنى) لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها ..

وإنما لم يذكر المفعول ، لأن القصد إلى الفعل نفسه .. (١).

وقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) أى : وأنه ـ سبحانه ـ هو رب ذلك الكوكب المضيء ، الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، ويسمى الشعرى اليمانية.

وخص هذا النجم بالذكر ، مع أنه ـ تعالى ـ هو رب كل شيء لأن بعض العرب كانوا يعبدون هذا الكوكب ، فأخبرهم ـ سبحانه ـ بأن هذا الكوكب مربوب له ـ تعالى ـ وليس ربا كما يزعمون.

قال القرطبي : واختلف فيمن كان يعبده : فقال السدى : كانت تعبده حمير وخزاعة. وقال غيره : أول من عبده رجل يقال له أبو كبشة ، أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أمهاته ، ولذلك كان مشركو قريش يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبى كبشة. حين دعاهم إلى ما يخالف دينهم .. (٢).

وبعد هذه الجولة في الأنفس والآفاق ، ساقت السورة جانبا من مصارع الغابرين ، فقال ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ فَما أَبْقى. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى). أى : وأنه ـ تعالى ـ هو الذي أهلك بقدرته قبيلة عاد الأولى ، وهم قوم هود ـ عليه‌السلام ـ.

وسميت قبيلة عاد بالأولى ، لتقدمها في الزمان على قبيلة عاد الثانية ، التي هي قوم صالح ـ عليه‌السلام ـ ، وتسمى ـ أيضا ـ بثمود.

وقوله : (وَثَمُودَ) معطوف على عاد. أى : وأنه أهلك ـ أيضا ـ قبيلة ثمود ، دون أن يبقى منهم أحدا.

وهلاك هاتين القبيلتين قد جاء في آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٦٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١١٩.

٨٧

وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ...) أى : وأهلك ـ أيضا ـ قوم نوح من قبل إهلاكه لعاد وثمود ..

(إِنَّهُمْ كانُوا) أى : قوم نوح (هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أى : هم كانوا أشد في الظلم والطغيان من عاد وثمود ، فقد آذوا نوحا ـ عليه‌السلام ـ أذى شديدا ، استمر صابرا عليه زمنا طويلا. وكان هلاكهم بالطوفان ، كما قال ـ تعالى ـ : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ).

وقدم قبيلتي عاد وثمود في الذكر على قوم نوح ـ مع أن قوم نوح أسبق ـ لأن هاتين القبيلتين كانتا مشهورتين عند العرب أكثر ، وديارهم معروفة لهم.

والمراد بالمؤتفكات قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ ، وسموا بذلك لأن قريتهم ائتفكت بأهلها ، أى : انقلبت رأسا على عقب. يقال : أفكه عن كذا يأفكه إذا قلبه وصرفه. ومنه الإفك ، لأنه قلب للحق عن وجهه الصحيح.

أى : وأهلك ـ سبحانه ـ القرى المؤتفكة بأهلها ، بأن أهوى بها جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى الأرض بعد أن رفعها إلى السماء (فَغَشَّاها ما غَشَّى) أى : فأصابها ما أصابها من العذاب المهين ، والدمار الشامل ، كما قال ـ تعالى ـ : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ، وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (١).

ويجوز أن يكون الضمير في (فَغَشَّاها) يعود إلى جميع الأمم المذكورة ، وأبهم ـ سبحانه ـ ما غشيهم من عذاب ، للتهويل والتعميم.

وقوله ـ سبحانه ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) تذكير بنعم الله ـ تعالى ـ بعد التحذير من نقمة. أى : فبأى نعمة من نعم الله ـ تعالى ـ تتشكك أيها الإنسان.

والآلاء : جمع إلى ، وأى : اسم استفهام المقصود به التذكير بهذه النعم.

وسمى ـ سبحانه ـ ما مر في آيات السورة نعما ، مع أن فيها النعم والنقم ، لأن في النقم عظات للمتعظين ، وعبرا للمعتبرين ، فهي نعم بهذا الاعتبار.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذا الإنذار الشديد ، فقال ـ تعالى ـ : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) والنذير بمعنى المنذر ، وهو من يخبر غيره بخبر فيه مضرة به ، لكي يحذره. أى : هذا الرسول الكريم ، وما جاء به من قرآن حكيم ، نذير لكم ـ أيها الناس ـ من جنس الإنذارات الأولى. التي أتى بها الأنبياء السابقون لأممهم فاحذروا مخالفة رسولنا

__________________

(١) سورة هود الآيتان ٨٢ ، ٨٣.

٨٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن مخالفته تؤدى إلى هلاككم وخسرانكم.

فقوله ـ تعالى ـ : (مِنَ النُّذُرِ) على حذف مضاف. أى : من جنس النذر التي سبقت ..

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أى : قربت الساعة ، ودنت القيامة ، يقال : أزف السفر ـ كفرح ـ أزفا ، إذا دنا وقرب ، وأل في الآزفة للعهد ، وهي علم بالغلبة على الساعة.

(لَيْسَ لَها) أى : الساعة (مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أى : ليس لها أحد سوى الله ـ تعالى ـ يستطيع الإخبار عنها ، والكشف عن علاماتها ، والعلم بوقتها وبوقوعها.

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) للإنكار والتوبيخ.

أى : أفمن هذا القرآن وما اشتمل عليه من هدايات وتشريعات .. تتعجبون ، وتنكرون كونه من عند الله ـ تعالى ـ.

(وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) أى : وتضحكون ضحك استهزاء وتهكم منه وممن جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تبكون خشية من الله ـ تعالى ـ ، ومن سماع ما اشتمل عليه هذا القرآن من وعد ووعيد.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أى : وأنتم لاهون معرضون ، يقال : سمد يسمد : كدخل ـ إذ اشتغل باللهو والإعراض عن الرشد.

أو المعنى : وأنتم رافعون رءوسكم تكبرا يقال : سمد سمودا ، إذا رفع رأسه تكبرا وغرورا ، وكل متكبر فهو سامد ، ومنه قولهم : بعير سامد في سيره إذا رفع رأسه متبخترا في مشيته.

وقيل السمود : الغناء بلغة حمير ، ومنه قول بعضهم لجاريته : اسمدى لنا ، أى : غنى لنا.

أى : وأنتم سادرون في غنائكم ولهوكم ، دون أن تكترثوا بزواجر القرآن الكريم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم ، ونهى لهم عن الكفر والضلال.

فالفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاسْجُدُوا) لترتيب الأمر بالسجود ، على الإنذار بالعذاب الشديد إذا ما استمروا في كفرهم ولهوهم.

والمراد بالسجود : الخضوع لله ـ تعالى ـ وإخلاص العبادة له ، ويندرج فيه سجود الصلاة ، وسجود التلاوة.

أى : اتركوا ما أنتم عليه من كفر وضلال ، وخصوا الله ـ تعالى ـ بالخضوع الكامل ،

٨٩

وبالعبادة التامة ، التي لا شرك فيها لأحد معه ـ سبحانه ـ.

قال الآلوسى : وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم ، وقد سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها.

أخرج الشيخان ، وأبو داود ، والنسائي عن ابن مسعود قال : «أول سورة أنزلت فيها سجدة : سورة «النجم» فسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا».

هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين قصة الغرانيق. وملخصها أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ سورة النجم ، فلما بلغ قوله ـ تعالى ـ (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى.

وقد قال الإمام ابن كثير عند حديثه عن هذه القصة : إنها من روايات وطرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح.

وقد ذكرنا عند تفسيرنا لقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). ذكرنا ما يدل على بطلان هذه القصة من جهة النقل ومن جهة العقل .. (١).

وبعد. فهذا تفسير لسورة «النجم» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم ...

قطر ـ الدوحة

صباح السبت ٢٧ جمادى الآخرة ١٤٠٦ ه‍

٨ / ٣ / ١٩٨٦

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) راجع تفسيرنا لسورة الحج ص ٣٢٥ ، ٣٢٦.

٩٠

تفسير

سورة القمر

٩١
٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

١ ـ سورة القمر : هي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد سورة الطارق ، وقبل سورة «ص».

ويبلغ عدد السور التي نزلت قبلها ، سبعا وثلاثين سورة.

ويغلب على الظن أن نزولها كان في السنوات الأولى من بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بعض العلماء : وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة. ففي الصحيح أن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وإنى لجارية ألعب ، قوله ـ تعالى ـ : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) (١).

٢ ـ وتسمى هذه السورة بسورة القمر ، وبسورة اقتربت الساعة ، وتسمى بسورة اقتربت ، حكاية لأول كلمة افتتحت بها.

روى الإمام مسلم وأهل السنن عن أبى واقد الليثي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العيد بسورتى «ق» و «اقتربت الساعة».

وعدد آياتها : خمس وخمسون آية وهي من السور المكية الخالصة ـ على الرأى الصحيح ـ ، وقيل : هي مكية إلا ثلاث آيات منها ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فإنها نزلت يوم بدر ، وهذا القيل لا دليل له يعتمد عليه.

ويرده ما أخرجه ابن أبى حاتم عن أبى هريرة قال : أنزل الله ـ تعالى ـ على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة قبل يوم بدر : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، وقال عمر بن الخطاب : قلت : يا رسول الله أى جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر ، وانهزمت قريش ، نظرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف ، وهو يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فكانت ليوم بدر.

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ١٦٦ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٩٣

وبذلك نرى أن هذا الحديث ، وحديث عائشة السابق ، يدلان على أن هذه الآيات مكية ـ أيضا ـ ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما قرأها في غزوة بدر على سبيل الاستشهاد بها.

٣ ـ والسورة الكريمة قد تحدثت في مطلعها عن اقتراب يوم القيامة ، وعن جحود المشركين للحق بعد إذ جاءهم ، وعما سيكونون عليه يوم القيامة من ندم وحسرة. قال ـ تعالى ـ : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ).

٤ ـ ثم تحدثت السورة الكريمة عن مصارع الغابرين ، فذكرت ما حل من هلاك ودمار ، بقوم نوح ، وهود ، ولوط ـ عليهم‌السلام ـ وما حل أيضا بفرعون وملئه من عقاب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، ببيان مظاهر قدرته ، وبليغ حكمته ، ودقة نظامه في كونه ، وبشر المتقين بما يشرح صدورهم فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

٥ ـ والمتدبر في السورة الكريمة يراها قد اهتمت بالحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن تعنت المشركين وعنادهم ، وعن سنن الله ـ تعالى ـ في خلقه ، التي من أبرز مظاهرها ، نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

دولة قطر ـ الدوحة

صباح السبت ٢٧ جمادى الآخرة ١٤٠٦ ه‍

٨ / ٣ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

٩٤

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨)

افتتحت السورة الكريمة بهذا الافتتاح الذي يبعث في النفوس الرهبة والخشية ، فهو يخبر عن قرب انقضاء الدنيا وزوالها.

إذ قوله ـ تعالى ـ : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أى : قرب وقت حلول الساعة ، ودنا زمان قيامها.

والساعة في الأصل : اسم لمدار قليل من الزمان غير معين ، وتحديدها بزمن معين اصطلاح عرفي ، وتطلق في عرف الشرع على يوم القيامة.

وأطلق على يوم القيامة يوم الساعة ، لوقوعه بغتة ، أو لسرعة ما فيه من الحساب ، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله ـ تعالى ـ.

وقد وردت أحاديث كثيرة ، تصرح بأن ما مضى من الدنيا كثير بالنسبة لما بقي منها ، ومن

٩٥

هذه الأحاديث ما رواه البزار عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب .. فقال : «والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها ، إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه».

وروى الشيخان عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى .. (١).

وشبيه بهذا الافتتاح قوله ـ تعالى ـ : في مطلع سورة الأنبياء : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

وقوله ـ سبحانه ـ في افتتاح سورة النحل : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

والمقصود من هذا الافتتاح المتحدث عن قرب يوم القيامة ، تذكير الناس بأهوال هذا اليوم ، وحضهم على حسن الاستعداد لاستقباله عن طريق الإيمان والعمل الصالح.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) معطوف على ما قبله عطف جملة على جملة.

وقوله : (وَانْشَقَ) من الانشقاق بمعنى الافتراق والانفصال.

أى : اقترب وقت قيام الساعة ، وانفصل وانفلق القمر بعضه عن بعض فلقتين ، معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ذلك بمكة قبل هجرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو خمس سنين ، وقد رأى هذا الانشقاق كثير من الناس ..

وقد ذكر المفسرون كثيرا من الأحاديث في هذا الشأن ، وقد بلغت الأحاديث مبلغ التواتر المعنوي ..

قال الإمام ابن كثير : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء ـ أى : انشقاق القمر ـ ، فقد وقع في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.

ثم ذكر ـ رحمه‌الله ـ جملة من الأحاديث التي وردت في ذلك ، ومنها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

وأخرج الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار فلقتين : فلقة على هذا الجبل وفلقة على هذا الجبل. فقالوا : سحرنا محمد ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦١.

٩٦

فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

وروى الشيخان عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اشهدوا» (١).

وقال الآلوسى : بعد أن ذكر عددا من الأحاديث في هذا الشأن : والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة ، واختلف في تواتره ، فقيل : هو غير متواتر : وفي شرح المواقف أنه متواتر. وهو الذي اختاره العلامة السبكى ، فقد قال : الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر ، منصوص عليه في القرآن ، مروى في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى ، لا يمترى في تواتره.

وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة ، عن جماعة من الصحابة ، منهم على بن أبى طالب ، وأنس ، وابن مسعود ..

ثم قال ـ رحمه‌الله ـ بعد أن ذكر شبهات المنكرين لحادث الانشقاق : والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ، ولا يستطيع أن يأتى بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق ، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون. عند من له عقل سليم (٢).

ثم بين ـ سبحانه ـ موقف هؤلاء المشركين من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).

أى : وإن ير هؤلاء المشركون آية ومعجزة تدل على صدقك ـ أيها الرسول الكريم ـ يعرضوا عنها جحودا وعنادا. ويقولوا ـ على سبيل التكذيب لك ـ ما هذا الذي أتيتنا به يا محمد إلا سحر مستمر ، أى : سحر دائم نعرفه عنك ، وليس جديدا علينا منك.

قال صاحب الكشاف : (مُسْتَمِرٌّ) أى دائم مطرد ، وكل شيء قد انقادت طريقته ، ودامت حاله ، قيل فيه قد استمر ، لأنهم لما رأوا تتابع المعجزات ، وترادف الآيات. قالوا : «هذا سحر مستمر».

وقيل : مستمر ، أى : قوى محكم ـ من المرّة بمعنى القوة ـ ، وقيل : هو من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته ، أى : مستبشع عندنا مرّ على لهواتنا ، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ الشيء المر. وقيل : مستمر ، أى : مار ذاهب زائل عما قريب ـ من قولهم : مرّ الشيء واستمر إذا ذهب (٣).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦١.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٧٦.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٦.

٩٧

ثم أخبر ـ سبحانه ـ عن حالهم في الماضي ، بعد بيان حالهم في المستقبل ، فقال ـ تعالى ـ : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ).

أى : أن هؤلاء الجاحدين جمعوا كل الرذائل ، فهم إن يروا معجزة تشهد لك بالصدق ـ أيها الرسول الكريم ـ يعرضوا عنها ، ويصفوها بأنها سحر ، وهم في ماضيهم كذبوا دعوتك ، واتبعوا أهواءهم الفاسدة ، ونفوسهم الأمارة بالسوء.

وجملة : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) معترضة ، وهي جارية مجرى المثل ، أى : وكل أمر لا بد وأن يستقر إلى غاية ، وينتهى إلى نهاية ، وكذلك أمر هؤلاء الظالمين ، سينتهي إلى الخسران ، وأمر المؤمنين سينتهي إلى الفلاح.

وفي هذا الاعتراض تسلية وتبشير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه بحسن العاقبة ، وتيئيس وإقناط لأولئك المشركين من زوال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كانوا يتمنون ويتوهمون.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

ثم بين ـ سبحانه ـ أنهم قوم لا تتأثر قلوبهم بالمواعظ والنذر ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ، حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ).

والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر المشتمل على أمور هامة ، من شأنها أن يتأثر بها السامع.

ومزدجر : مصدر ميمى ، وأصله مزتجر. فأبدلت تاء الافتعال دالا ، وأصله من الزجر. بمعنى المنع والانتهار. أى : ولقد جاء لهؤلاء المشركين في القرآن الكريم ، من الأنباء الهامة ، ومن أخبار الأمم البائدة ، ما فيه ازدجار وانتهار لهم عن الارتكاس في القبائح وعن الإصرار على الفسوق والكفر والعصيان.

و «ما» في قوله ـ سبحانه ـ : (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) موصولة ، وهي فاعل لقوله (جاءَهُمْ) ، وقوله (مِنَ الْأَنْباءِ) في موضع الحال منها ..

وقوله ـ تعالى ـ : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بدل من «ما» أو خبر لمبتدأ محذوف.

والحكمة : العلم النافع الذي يترتب عليه تحرى الصواب في القول والفعل.

أى : هذا الذي جاءهم من أنباء الماضين ، ومن أخبار السابقين فيه ما فيه عن الحكم البليغة ، والعظات الواضحة التي لا خلل فيها ولا اضطراب.

و «ما» في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) نافية ، والنذر : جمع نذير بمعنى منذر.

أى : لقد جاء إلى هؤلاء المشركين من الأخبار ومن الحكم البليغة ما يزجرهم عن ارتكاب

٩٨

الشرور ، وما فيه إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا في غيهم ، ولكن كل ذلك لا غناء فيه ، ولا نفع من ورائه لهؤلاء الجاحدين المعاندين الذين عموا وصموا ...

ويصح أن تكون «ما» هنا ، للاستفهام الإنكارى. أى : ما الذي تغنيه النذر بالنسبة لهؤلاء المصرين على الكفر؟ إنها لا تغنى شيئا ما داموا لم يفتحوا قلوبهم للحق :

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) للتفريع على ما تقدم ، وهي تفيد السببية.

وقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) ظرف لقوله : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) والداع : هو إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ الذي ينفخ في الصور بأمر الله ـ تعالى ـ.

والمراد بالنكر : الأمر الفظيع الهائل ، الذي لم تألفه النفوس ، ولم تر له مثيلا في الشدة.

أى : إذا كان هذا حالهم من عدم إغناء النذر فيهم ، فتول عنهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ، ولا تبال بهم ، واتركهم في طغيانهم يعمهون ، وانتظر عليهم إلى اليوم الذي يدعوهم فيه الداعي ، إلى أمر فظيع عظيم ، تنكره النفوس ، لعدم عهدهم بمثله ، وهو يوم البعث والنشور.

قال الجمل : وقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) منصوب إما باذكر مضمرا .. وإما بيخرجون ..

وحذفت الواو من «يدع» لفظا لالتقاء الساكنين ، ورسما تبعا للفظ ، وحذفت الياء من (الدَّاعِ) للتخفيف ... والداع هو إسرافيل .. (١).

وقوله : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) حال من الفاعل في قوله : (يَخْرُجُونَ ...) : أى : ذليلة أبصارهم بحيث تنظر إلى ما أمامها من أهوال نظرة البائس الذليل ، الذي لا يستطيع أن يحقق نظره فيما ينظر إليه.

قال القرطبي : الخشوع في البصر : الخضوع والذلة. وأضاف ـ سبحانه ـ الخشوع إلى الأبصار ، لأن أثر العز والذل يتبين في ناظر الإنسان.

قال ـ تعالى ـ : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) وقال ـ تعالى ـ : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ...).

ويقال : خشع واختشع إذا ذل. وخشع ببصره إذا غضه ..

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٤٢.

٩٩

وقرأ حمزة والكسائي : خاشعا أبصارهم .. (١).

وقوله : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أى : يخرجون من القبور ، وعيونهم ذليلة من شدة الهول ، وأجسادهم تملأ الآفاق ، حتى لكأنهم جراد منتشر ، قد سد الجهات. واستتر بعضه ببعض.

فالمقصود بالجملة الكريمة تشبيههم بالجراد في الكثرة والتموج ، والاكتظاظ والانتشار في الأقطار وهم يسرعون الخطا نحو أرض المحشر.

وقوله : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أى : مسرعين نحوه ، وقد مدوا أعناقهم إلى الإمام ، مأخوذ من الإهطاع ، وهو الإسراع في المشي مع مد العنق إلى الإمام. يقال : أهطع فلان في جريه ، إذا أسرع فيه من الخوف ، فهو مهطع.

(يَقُولُ الْكافِرُونَ) وقد رأوا من أهوال يوم القيامة ما يدهشهم : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أى : يقولون هذا يوم صعب شديد ، بسبب ما يعاينون من أهواله ويتوقعون فيه من سوء العاقبة.

والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يراها قد وصفت أحوال الكافرين في هذا اليوم ، وصفا تقشعر من هوله الأبدان .. فهم أذلاء ضعفاء ينظرون إلى ما يحيط بهم نظرة الخائف المفتضح ، وهم في حالة خروجهم من قبورهم كأنهم الجراد المنتشر ، في الكثرة والتموج والاضطراب ، وهم يسرعون نحو الداعي بذعر دون أن يلووا على شيء ، ودون أن يكون في إمكانهم المخالفة أو التأخر عن دعوته.

ثم هم بعد ذلك يقولون على سبيل التحسر والتفجع : هذا يوم شديد الصعوبة والعسر.

ثم عرضت السورة بعد ذلك جانبا من مصارع الغابرين ، لعل في هذا العرض ما يروعهم عن الكفر والجحود ، وما يحملهم على انتهاج طريق الحق والهدى ، فقال ـ تعالى ـ :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٢٩.

١٠٠