التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع (١).

وكعادة القرآن الكريم في المقارنة بين سوء عاقبة المكذبين ، وحسن عاقبة المؤمنين ، جاء الحديث عن المتقين ، بعد الحديث عن الكافرين ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢٨)

المعنى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه.

(فِي جَنَّاتٍ) عظيمة وفي (نَعِيمٍ) دائم لا ينقطع. (فاكِهِينَ) أى : متلذذين متنعمين بما يحيط بهم من خيرات ، مأخوذ من الفكاهة ـ بفتح الفاء ـ وهي طيب العيش مع

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٠٩.

٤١

النشاط ، يقال : فكه الرجل فكها ، وفكاهة فهو فكه وفاكه. إذا طاب عيشه ، وزاد سروره ، وعظم نشاطه ، وسميت الفاكهة بهذا الاسم لتلذذ الإنسان بها.

(بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أى متلذذين بسبب ما آتاهم ربهم من جنات عظيمة ، ووقاهم ـ سبحانه ـ بفضله ورحمته العذاب الذي يؤلمهم.

ويقال لهم فضلا عن ذلك على سبيل التكريم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أى : كلوا أكلا مريئا ، واشربوا شربا هنيئا. والهنيء من المأكول والمشروب : مالا يلحقه تعب أو سوء عاقبة.

وقوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) منصوب على الحال من فاعل (كُلُوا) أو من الضمير المستكن في قوله (جَنَّاتٍ).

أى : هم في جنات عظيمة ، حالة كونهم متكئين فيها على سرر موضوعة على صفوف منتظمة ، وعلى خطوط مستوية ، والسّرر : جمع سرير وهو ما يجلس عليه الإنسان للراحة.

وقوله : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) بيان لنعمة أخرى من النعم التي يتلذذون بها.

أى : وفضلا عن كل ذلك ، فقد زوجناهم بنساء جميلات.

وبذلك نرى أن هؤلاء المتقين ، قد أكرمهم الله ـ تعالى ـ بكل أنواع النعيم ، من مسكن طيب ، ومأكل كريم ، ومشرب هنيء ، وأزواج مطهرات من كل سوء.

ثم بين ـ سبحانه ـ أنواعا أخرى من تكريمه ـ تعالى ـ لهم ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

والآية الكريمة بيان لحال طائفة من أهل الجنة ـ وهم الذين شاركتهم ذريتهم الأقل عملا منهم في الإيمان ـ إثر بيان حال المتقين بصفة عامة.

والاسم الموصول مبتدأ ، وخبره جملة (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ). والمراد بالذرية هنا : ما يشمل الآباء والأبناء وقوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ) معطوف على (آمَنُوا). وقوله (بِإِيمانٍ) متعلق بالاتباع ، والباء للسببية أو بمعنى في.

ومعنى : (أَلَتْناهُمْ) أنقصناهم. يقال : فلان ألت فلانا حقه يألته ـ من باب ضرب ـ إذا بخسه حقه.

والمعنى : والذين آمنوا بنا حق الإيمان واتبعتهم ذريتهم في هذا الإيمان ، ألحقنا بهم ذريتهم ، بأن جمعناهم معهم في الجنة ، وما نقصنا هؤلاء المتبوعين شيئا من ثواب أعمالهم ، بسبب إلحاق ذريتهم بهم في الدرجة ، بل جمعنا بينهم في الجنة. وساوينا بينهم في العطاء ـ حتى ولو كان

٤٢

بعضهم أقل من بعض في الأعمال ـ فضلا منا وكرما.

قال الإمام ابن كثير : يخبر ـ تعالى ـ عن فضله وكرمه ، وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه : أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان ، يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم ، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه ، بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذاك من عمله ومنزلته. للتساوى بينه وبين ذاك. ولهذا قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).

عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل ، لتقر بهم عينه ، ثم قرأ هذه الآية.

وفي رواية أخرى عنه قال ـ عند ما سئل عن هذه الآية ـ : هم ذرية المؤمنين يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا (١).

وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى تنكير الإيمان؟ قلت : معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ، ويجوز أن يراد : إيمان الذرية الداني المحل ، كأنه قال : بشيء من الإيمان ، لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم (٢).

قال الجمل : والذرية هنا تصدق على الآباء والأبناء ، فإن المؤمن إذا كان عمله الصالح أكثر ألحق به من هو دونه في العمل أبا كان أو ابنا ، وهذا منقول عن ابن عباس وغيره.

وعن ابن عباس ـ أيضا ـ يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده ، فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : يا رب إنى عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به» (٣).

وقوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أى : كل إنسان مرهون بعمله عند الله ـ تعالى ـ فإن كان عمله صالحا سعد وفاز ، وأطلق نفسه من كل ما يسوؤها ويحزنها ، وإن كان غير ذلك جوزي على حسب عمله وسعيه.

والتعبير بقوله (رَهِينٌ) للإشعار بأن كل إنسان مرتهن بعمله ، حتى لكأن العمل بمنزلة الدّين ، وأن الإنسان لا يستطيع الفكاك منه إلا بعد أدائه.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٠٨.

(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤١١.

(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢١٦.

٤٣

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا آخر من مظاهر فضله على عباده المؤمنين فقال : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ). أى : وأمددنا هؤلاء المؤمنين ـ على سبيل الزيادة عما عندهم بفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وبلحم لذيذ تشتهيه نفوسهم.

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أى : يتجاذبون على سبيل المداعبة ، ويتعاطون على سبيل التكريم ، الأوانى المملوءة بالخمر التي هي لذة للشاربين.

(لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أى : لا يصدر منهم في أعقاب شربهم لتلك الخمر ، ما جرت به العادة في أعقاب شرب خمر الدنيا ، من أن الشارب لها يصدر منه كلام ساقط لا خير فيه ، ويأتى من الأقوال والأفعال ما يعاقب عليه. ويرتكب الإثم بسببه.

قال صاحب الكشاف : (لا لَغْوٌ فِيها) أى : في شربها (وَلا تَأْثِيمٌ) أى : لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث ، وما لا طائل تحته ، كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب في سفههم وعربدتهم ، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله ، أى : ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش ، وإنما يتكلمون بالحكم وبالكلام الحسن متلذذين بذلك ، لأن عقولهم ثابتة غير زائلة وهم حكماء علماء (١).

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ) أى : ويطوف عليهم بتلك الكئوس المليئة بالخمر ، غلمان لهم ، لكي يكونوا في خدمتهم.

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أى : كأن هؤلاء الغلمان في صفائهم ونقائهم ، لؤلؤ مصون ومحفوظ في صدفه لم تنله الأيدى.

يقال : كننت الشيء كنّا وكنونا ، إذا جعلته في كنّ ، وسترته عن الأعين.

ثم حكى ـ سبحانه ـ تساؤلهم وهم في الجنة ، فقال : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أى : وأقبل بعضهم على بعض وهم في الجنة ، يسأل أحدهم الآخر عن أحواله وعن أعماله ، وعن حسن عاقبته.

(قالُوا) أى : قال كل مسئول لسائله : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أى : إنا كنا في الدنيا ونحن نعيش بين أهلنا خائفين من أهوال يوم القيامة ، وكنا نقدم العمل الصالح الذي نرجو أن ننال بسببه رضا ربنا : فقبل ـ تعالى ـ بفضله منا هذا العمل (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أى فتكرم علينا بمغفرته ورضوانه.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤١٢.

٤٤

(وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) اى : وانقدنا من عذاب النار التي تنفذ بحرها وسعيرها ، إلى العظام والمسام ، نفاذ الريح الحارة إلى الأجساد ، فتؤثر فيها تأثير السم في البدن.

قال صاحب الكشاف : والسموم : الريح الحارة التي تدخل المسام ، فسميت بها نار جهنم ، لأنها بهذه الصفة.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ..) أى : إنا كنا من قبل في الدنيا ندعوه أن يجنبنا هذا العذاب. كما كنا ـ أيضا ـ نخلص له العبادة والطاعة.

(إِنَّهُ) ـ سبحانه ـ (هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أى : هو المحسن على عباده ، الرحيم بهم.

فالبر ـ بفتح الباء ـ مشتق من البرّ ـ بكسرها ـ ، بمعنى المحسن ، يقال : بر فلان في يمينه ، إذا صدق فيها ، وأحسن أداءها.

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة ، قد بشرت المتقين ببشارات متعددة ، وذكرت نعما متعددة أنعم بها ـ سبحانه ـ عليهم.

ثم عادت السورة الكريمة مرة أخرى إلى الحديث عن الكافرين ، فأمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يمضى في طريقه دون أن يهتم بأكاذيبهم ، وحكت جانبا من هذه الأكاذيب التي قالوها في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقنته الجواب المزهق لها .. فقال ـ تعالى ـ :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ

٤٥

رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤)

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) للإفصاح. والكاهن : هو الإنسان الذي يزعم أنه يخبر عن الأشياء المغيبة ، والمجنون : هو الإنسان الذي سلب عقله ، فصار لا يعي ما يقول.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك قبل ذلك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أوحينا إليك .. فما أنت بسبب إنعام الله عليك بكاهن ولا مجنون كما يزعم أولئك الكافرون.

قال الجمل : والباء في قوله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) للسببية ، وهي متعلقة بالنفي الذي أفادته «ما» أى : انتفى كونك كاهنا أو مجنونا ، بسبب إنعام الله عليك بالعقل الراجح ، وعلو الهمة ، وكرم الفعال ، وطهارة الأخلاق ، وهم معترفون بذلك لك قبل النبوة (١).

ثم أخذت السورة الكريمة في تقريع هؤلاء الجاهلين بأسلوب استنكارى فيه ما فيه من التعجب من جهالاتهم. وفيه ما فيه من الرد الحكيم على أكاذيبهم ، فساقت أقاويلهم بهذا الأسلوب الذي تكرر فيه لفظ «أم» خمس عشرة مرة ، وكلها إلزامات ليس لهم عنها جواب. وبدأت بقوله ـ تعالى ـ : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) ، و «أم» في هذه الآيات بمعنى بل والهمزة.

وقوله : (نَتَرَبَّصُ) من التربص بمعنى الانتظار والترقب.

وقوله : (رَيْبَ الْمَنُونِ) يعنون به : حوادث الدهر التي تحدث له صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالية ج ٤ ص ٢١٧.

٤٦

الموت. فالمنون : الدهر ، وريبه : حوادثه التي يصيبه بسببها الهلاك.

أى : بل أيقولون عنك ـ أيها الرسول الكريم ـ إنك شاعر ، وأنهم يترقبون موتك لكي يستريحوا منك. كما استراحوا من الشعراء الذين من قبلك ، كزهير والنابغة .. قل لهم على سبيل التبكيت والتهديد : تربصوا وترقبوا موتى فإنى معكم من المنتظرين ، وستعلمون أينا خير مقاما وأحسن عاقبة.

قال الآلوسى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أى : الدهر ، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع ؛ لأنه يقطع الأعمال وغيرها ، ومنه حبل منين أى : مقطوع ، والريب : مصدر رابه إذا أقلقه ، أريد به حوادث الدهر وصروفه ، لأنها تقلق النفوس ، وعبر عنها بالمصدر مبالغة ... وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ، تفسيره المنون بالموت.

روى أن قريشا اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال قائل منهم : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة (١).

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على غفلتهم وعنادهم فقال : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ، أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ).

والأحلام : جمع حلم ـ بكسر الحاء ـ والمراد بها هنا : العقول. وكان شيوخ قريش يدعون بذي الأحلام والنهى.

ويطلق الحلم في الأصل على ضبط النفس عن هيجان الغضب. وأطلق هنا على العقل لكونه منشأ له.

أى : بل أتأمرهم عقولهم التي زعموا سلامتها ، بأن يقولوا في شأنك ـ أيها الرسول الكريم ـ إنك شاعر أم مجنون؟

لا ، إن أى عقل سليم لم يأمرهم بذلك ، وإنما هم قوم دأبهم الطغيان والعناد وتجاوز الحدود التي لا يجوز تجاوزها.

والعقول إذا استعملت في الشرور والآثام ، ضاع رشدها ، وفقدت سلامتها.

ولقد قيل لعمرو بن العاص. رضى الله عنه ـ : ما بال قومك لم يؤمنوا وهم أصحاب الأحلام؟ فقال : تلك عقول كادها الله ـ تعالى ـ أى : لم يصحبها التوفيق والرشاد.

__________________

(١) تفسير الآلوسي ج ٢٧ ص ٣٦.

٤٧

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) والتقول : تكلف القول واختلاقه. وأكثر ما يكون استعمالا في الكذب ، يقال : فلان تقول على فلان ، إذا افترى عليه الكذب. أى : بل أيقولون عنك ـ أيها الرسول ـ إنك افتريت هذا القرآن ، واختلقته من عند نفسك ، لا إنك معصوم عن ذلك ، وأنت ما نطقت إلا بما أوحيناه إليك ، ولكنهم هم المفترون للكذب عليك ، وما حملهم على ذلك إلا عدم إيمانهم بالحق ، وانغماسهم في الباطل ، وإصرارهم على الجحود.

وإذا كان الأمر ـ كما زعموا ـ فها هو ذا القرآن أمامهم يسمعون آياته ... فليأتوا بحديث يشابه القرآن في بلاغته. وهدايته ، وسمو تشريعاته وآدابه.

وقد تحداهم ـ سبحانه ـ في آيات أخرى أن يأتوا بعشر سور من مثله فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

ثم تحداهم سبحانه ـ أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

ولكنهم في جميع مراحل التحدي ، وقفوا عاجزين مبهوتين ، فثبت أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على عدم تفكرهم في خلق أنفسهم فقال : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ).

أى : بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة ، والهيئة القويمة ، من غير أن يكون هناك خالق لهم؟ أم هم الذين خلقوا أنفسهم بدون احتياج لخالق؟ أم هم الذين قاموا بخلق السموات والأرض؟

لا ، إن شيئا من ذلك لم يحدث ، فإنهم لم يخلقوا من غير شيء ، وإنما الذي خلقهم بقدرته ـ تعالى ـ هو الله وحده ، كما خلق ـ سبحانه ـ السموات والأرض بقدرته ـ أيضا ـ وهم يعترفون بذلك ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...). (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ...).

__________________

(١) سورة هود الآية ١٣.

(٢) سورة البقرة الآية ٢٣.

٤٨

وقوله : (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أى : هم ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم يخبطون خبط عشواء ، فهم مع اعترافهم بأن الله ـ تعالى ـ هو الذي خلقهم ، إلا أن هذا الاعتراف صار كالعدم ، لأنهم لم يعملوا بموجبه ، من إخلاص العبادة له ـ تعالى ـ والإيمان بالحق الذي جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند خالقهم.

ثم قال ـ تعالى ـ : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أى : بل أعند هؤلاء الغافلين (خَزائِنُ رَبِّكَ) أى : مفاتيح أرزاقه ـ تعالى ـ لعباده ، ومقدراته لهم ، حتى يقسموها عليهم كما شاءوا ، أم هم المصيطرون على أحوال هذا الكون ، المتسلطون على مقدراته ، حتى لكأنهم أربابه المتغلبون عليه؟.

كلا لا شيء لهم من ذلك إطلاقا ، وإنما هم وغيرهم فقراء إلى رزق الله ـ تعالى ـ لهم (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ...) والسلم : هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية.

أى : بل ألهم سلم يصعدون بواسطته إلى السماء ، ليستمعوا إلى وحينا وأمرنا ونهينا ..

إن كان أمرهم كذلك : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أى : فليأت من استمع منهم إلى شيء من كلامنا أو وحينا بحجة واضحة تدل على صدقه فيما ادعاه.

ومما لا شك فيه أنهم لا حجة لهم ، بل هم كاذبون إذا ما ادعوا ذلك ، لأن وحى الله ـ تعالى ـ خاص بأناس معينين ، ليسوا منهم قطعا.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أى : بل أيقولون إن لله ـ تعالى ـ البنات ولهم الذكور ، إن قولهم هذا من أكبر الأدلة على جهلهم وسوء أدبهم. لأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق للنوعين ، وهو ـ سبحانه ـ (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ).

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أى : بل أتسألهم أجرا على دعوتك إياهم إلى الحق ، فهم بسبب ذلك قد أثقلتهم الديون والمغارم ، فصاروا ينفرون من دعوتك؟ كلا إنك لم تطلب منهم شيئا من ذلك.

والمغرم : الدين الذي يكون على الإنسان ، فيثقل كاهله ، ويحزن نفسه.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أى : بل أيزعمون أن عندهم علم الغيب فهم يكتبونه للناس ، ويطلعونهم عليه ..؟.

كلا إنهم لا علم لهم بشيء من الغيب ، لأن علم الغيب مرده إلى الله ـ تعالى ـ وحده ، كما

٤٩

قال ـ سبحانه ـ : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ...) (١).

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أى : بل أيريدون بك ـ أيها الرسول الكريم ـ الكيد والأذى والهلاك ، إن كانوا يريدون بك ذلك فاعلم أن الذين كفروا بك وبدعوتك وأرادوا بك وبها الكيد والأذى ، هم المغلوبون الخاسرون الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله.

فقوله : (الْمَكِيدُونَ) اسم مفعول من الكيد ، وهو المكر والخبث ...

وقد عاد عليهم وبال مكرهم فعلا ، فقد خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين جموعهم ليلة الهجرة ، دون أن يروه ، وكانوا محيطين بداره ليقتلوه ، وأحبط الله ـ تعالى ـ مكرهم.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أى : بل ألهم إله غير الله ـ تعالى ـ يرزقهم من فضله ، ويرعاهم بلطفه في جميع أطوار حياتهم.

كلا إنهم لا إله لهم سواه ـ تعالى ـ وتنزه ـ سبحانه ـ عن شركهم وكفرهم.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) والكسف جمع كسفة وهي القطعة من الشيء ، والمركوم : المتراكم الذي تجمع بعضه فوق بعض.

أى : وإذا رأى هؤلاء الجاهلون قطعة عظيمة من العذاب نازلة عليهم لتهديدهم وزجرهم. قالوا : هذا النازل علينا سحاب متراكم ، قد اجتمع بعضه فوق بعض ليسقينا ، ولم يصدقوا أنه نذير عذاب شديد لهم. وهذا شأن الطغاة المعاندين ، وقد سبقهم إلى ذلك قوم عاد ، فإنهم حين رأوا العذاب مقبلا نحوهم قالوا (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) فرد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ).

هذا : والمتأمل في هذه الآيات الكريمة : يراها قد حملت على المشركين حملة شديدة ، حيث وبختهم على جهالاتهم ، وتحدتهم بأسلوب تعجيزى أن يأتوا بمثل القرآن الكريم ، وتهكمت بهم وبعقولهم الفارغة التي انقادوا لها بدون تفكر أو تدبر ، وبينت أنهم قوم متناقضون مع أنفسهم ، لأنهم يقرون أن الله ـ تعالى ـ هو الخالق لهم ولغيرهم ، ومع ذلك فهم يعبدون غيره. وينسبون البنات إليه دون البنين ...

وقد ذكر بعض المفسرين أن ما أصابهم من هزيمة يوم بدر ، كان في السنة الخامسة عشرة من

__________________

(١) سورة الجن الآيتان ٢٦ ، ٢٧.

٥٠

بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن هذه الآيات قد تكرر فيها لفظ «أم» خمس عشرة مرة ، بعدد هذه السنين ، ولذا قالوا : إن ذلك فيه إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة. بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على سبيل التسلية والتكريم ، حيث أمره ـ سبحانه ـ بالإعراض عنهم ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي سيتولى حسابهم وعقابهم .. فقال ـ تعالى ـ :

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩)

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ : (فَذَرْهُمْ ...) واقعة في جواب شرط مقدر. أى : إذا كان حال هؤلاء المشركين كما ذكرنا لك ـ أيها الرسول الكريم ـ فاتركهم في طغيانهم يعمهون ..

(حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أى : فدعهم يخوضوا ويلعبوا حتى يأتيهم اليوم الذي فيه يموتون ويهلكون.

قال القرطبي : قوله (يُصْعَقُونَ) بفتح الياء قراءة العامة. وقرأ ابن عامر وعاصم بضمها. قال الفراء : هما لغتان : صعق وصعق مثل سعد وسعد. قال قتادة : يوم يموتون. وقيل : هو يوم بدر ، وقيل : يوم النفخة الأولى. وقيل : يوم القيامة يأتيهم فيه من العذاب ما يزيل عقولهم ... (١).

وقوله : (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ...) بدل من قوله : (يَوْمَهُمُ). أى : اتركهم ـ أيها الرسول الكريم ـ ولا تكترث بهم. وامض في دعوتك إلى الحق ، فعما قريب سيأتيهم اليوم الذي لن ينفعهم فيه مكرهم السّيئ ، وكيدهم القبيح ..

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) فيه من عقابنا من أى جهة من الجهات ، أو من أى شخص من الأشخاص.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٧٧.

٥١

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم هؤلاء الكافرون (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أى : عذابا آخر دون ذلك العذاب الذي سينزل بهم عند موتهم وفي حياتهم ...

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا يعلمون ذلك ، لجهلهم بما سينتظرهم من عقاب.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بتلك التسلية الرقيقة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا ...).

أى : واصبر ـ أيها الرسول الكريم ـ (لِحُكْمِ رَبِّكَ) إلى أن ننزل بهم عقابنا في الوقت الذي نشاؤه ونختاره (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أى : فإنك بمرأى منا وتحت رعايتنا وحمايتنا وحفظنا ...

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أى : وأكثر من تسبيح ربك وتنزيهه عن كل مالا يليق به حين تقوم من منامك ، أو من مجلسك ، أو حين تقوم للصلاة ..

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أى : ومن الليل فأكثر من تسبيح ربك (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أى : وأكثر من تسبيحه ـ تعالى ـ وقت إدبار النجوم وغروبها ، وذلك في أواخر الليل.

وبذلك ترى أن الله ـ تعالى ـ قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإكثار من التسبيح له ـ عزوجل ـ في كل الأوقات ، لأن هذا التسبيح يجلو عن النفس همومها وأحزانها ..

وبعد : فهذا تفسير لسورة «الطور» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده ...

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الثلاثاء ١٦ جمادى الأولى ١٤٠٦ ه‍

٢٥ / ٢ / ١٩٨٦

م كتبة الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٥٢

تفسير

سورة النّجم

٥٣
٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «النجم» من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ثنتان وستون آية في المصحف الكوفي ، وإحدى وستون في غيره ، وكان نزولها بعد سورة «الإخلاص» ، فهي تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن ، إذ لم يسبقها في النزول سوى اثنتين وعشرين سورة ، أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة الثالثة والخمسون.

٢ ـ ويبدو أنها سميت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ..

قال الآلوسى : سورة «والنجم». وتسمى ـ أيضا ـ سورة النجم ـ بدون واو ـ. وهي مكية على الإطلاق. وفي الإتقان : استثنى منها : الذين يجتنبون كبائر الإثم ... إلى آخر الآية ... وهي ـ كما أخرج ابن مردويه ـ عن ابن مسعود قال : أول سورة أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقراءتها ، فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون.

وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة سورة «والنجم» ، فسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته يأخذ كفا من تراب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا ، وهو أمية بن خلف ..

وذكر أبو حيان أن سبب نزولها ، قول المشركين : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يختلق القرآن .. (١).

٣ ـ وقد افتتحت السورة الكريمة بقسم منه ـ سبحانه ـ بالنجم ، على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه ، ثم وصف ـ سبحانه ـ جبريل ـ عليه‌السلام ـ وهو أمين الوحى ، بصفات تدل على قوته وشدته ، وعلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رآه على هيئته التي خلقه الله عليها.

قال ـ تعالى ـ : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسي ج ٢٧ ص ٤٤.

٥٥

٤ ـ ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الآلهة المزعومة فبينت أن هذه الآلهة إنما هي أسماء أطلقها الجاهلون عليها ، دون أن يكون لها أدنى نصيب من الصحة ، وأن العبادة إنما تكون لله وحده.

قال ـ سبحانه ـ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ).

٥ ـ ثم أرشد الله ـ تعالى ـ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطريق الحكيم الذي يجب عليه أن يسلكه في دعوته ، وسلاه عما لحقه من المشركين من أذى ، فقال ـ سبحانه ـ : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى).

٦ ـ وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر رحمته بعباده (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أتبع ذلك ببيان مظاهر عدله في خلقه ، وقدرته على كل شيء ، وساق ما يشهد لذلك من أخبار الغابرين المكذبين الذين لا يخفى حالهم على المشركين المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنذر هؤلاء المشركين بسوء المصير ، إذا لم يعودوا إلى الحق ، ويكفوا عن جحودهم وعنادهم ..

قال ـ تعالى ـ : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ. أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا).

٧ ـ هذا ، والمتأمل في هذه السورة الكريمة يراها بجانب إقامتها الأدلة الساطعة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلى صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن ربه يراها بجانب ذلك قد ساقت ما ساقت من براهين واضحة ، ومن توجيهات حكيمة .. بأسلوب بليغ أخاذ ، له لفظه المنتقى ، ومعناه السديد ، وتراكيبه الموزونة وزنا بديعا ... مما يشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل القرآن ربيع حياتنا ، وأنس نفوسنا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

دولة قطر ـ الدوحة

مساء السبت ٢٠ جمادى الآخرة ١٤٠٦ ه‍

١ / ٣ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

٥٦

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨)

افتتح الله ـ تعالى ـ هذه السورة بهذا القسم العظيم ، للدلالة على صدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللرد على أولئك المشركين الجاهلين ، الذين زعموا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اختلق القرآن الكريم.

والنجم : هو الكوكب الذي يبدو للناظرين ، لامعا في جو السماء ليلا.

والمراد به هنا : جنسه ، أى : ما يشمل كل نجم بازغ في السماء ، فأل فيه للجنس.

وقيل : أل فيه للعهد والمراد به نجم مخصوص هو : الشعرى ، وهو نجم كان معروفا عند العرب. وقد جاء الحديث عنه في آخر السورة ، في قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى). قالوا : وكانت قبيلة خزاعة تعبده.

٥٧

وقيل المراد به : الثريا ، فإنه من النجوم المشهورة عند العرب ...

وقيل : المراد به هنا : المقدار النازل من القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمعه نجوم ، وقد فسره بعضهم بذلك في قوله ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ).

ومعنى «هوى» : سقط وغرب. يقال هوى الشيء يهوى ـ بكسر الواو ـ هويا ـ بضم الهاء وفتحها ـ إذا سقط من أعلى إلى أسفل ..

قال الآلوسى : وأظهر الأقوال ، القول بأن المراد بالنجم ، جنس النجم المعروف ، فإن أصله اسم جنس لكل كوكب. وعلى القول بالتعيين ، فالأظهر القول بأنه الثريا ووراء هذين القولين ، القول بأن المراد به : المقدار النازل من القرآن .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى). جواب القسم. و «ما» نافية. و «ضل» من الضلال ، والمراد به هنا : عدم الاهتداء إلى الحق ، وإلى الطريق المستقيم.

و «غوى» من الغي ، وهو الجهل الناشئ من اعتقاد فاسد ، وهو ضد الرشد ..

و «الهوى» الميل مع شهوات النفس ، دون التقيد بما يقتضيه الحق ، أو العقل السليم.

والمعنى : وحق النجم الذي ترونه بأعينكم ـ أيها المشركون ـ عند غروبه وأفوله ، وعند رجمنا به للشياطين .. إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسلناه إليكم (شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، ما ضل عن طريق الحق في أقواله وأفعاله ، وما كان رأيه مجانبا للصواب في أمر من الأمور ، وما ينطق بنطق صادر عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما ينطق بما نوحيه إليه من قرآن كريم ، ومن قول حكيم ، ومن توجيه سديد.

وقد أقسم ـ سبحانه ـ بالنجم عند غروبه ، للإشعار بأن هذا المخلوق العظيم مسخر لإرادة الله ـ تعالى ـ وقدرته فهو مع لمعانه وظهوره في السماء لا يتأبى عن الغروب والأفول ، إذا ما أراد الله ـ تعالى ـ له ذلك ، ولا يصلح أن يكون إلها ، لأنه خاضع لإرادة خالقه.

ولقد حكى ـ سبحانه ـ عن نبيه إبراهيم أنه حين (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ).

قال بعض العلماء : والوجه أن يكون قوله : (إِذا هَوى) بدل اشتمال من النجم ، لأن المراد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ، ومن أعظم أحواله حال هويّه

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ٤٥.

٥٨

وسقوطه ، ويكون «إذا» اسم زمان مجردا عن معنى الظرفية ، في محل جر بحرف القسم .. (١).

وقال ـ سبحانه ـ : (صاحِبُكُمْ) للإشارة إلى ملازمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، طوال أربعين سنة قبل البعثة ، وأنهم في تلك المدة الطويلة لم يشاهدوا منه إلا الصدق ، والأمانة ، والعقل الراجح ، والقول السديد .. وأنهم لم يخف عليهم حاله بل كانوا مصاحبين له ، ومطلعين على سلوكه بينهم ، فقولهم بعد بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ساحر أو مجنون .. هو نوع من كذبهم البين ، وجهلهم المطبق ..

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) استئناف بيانى مؤكد لما قبله.

والضمير «هو» يعود إلى المنطوق به ، المفهوم من قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى). أى : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصدر نطقه فيما يأتيكم به عن هوى نفسه ورأيه ، وإنما الذي ينطق به ، هو وحى من الله ـ تعالى ـ أوحاه إليه على سبيل الحقيقة التي لا يحوم حولها شك أو ريب.

ومتعلق «يوحى» محذوف للعلم به. أى : ما هذا الذي ينطق به إلا وحى أوحاه ـ سبحانه ـ إلى نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الإمام ابن كثير : قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أى : إنما يقول ما أمر بتبليغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان ... فعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أريد حفظه. فنهتنى قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك له ، فقال : «اكتب فو الذي نفسي بيده ، ما خرج منى إلا الحق».

وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أقول إلا حقا» فقال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال : «إنى لا أقول إلا حقا» (٢).

وقال صاحب الكشاف : ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ، ويجاب بأن الله ـ تعالى ـ إذا سوغ لهم الاجتهاد ، كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى (٣).

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ٩٠ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٤٧.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٨.

٥٩

ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من صفات جبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي ينزل بالقرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى).

أى : علّم النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، ملك من ملائكتنا الكرام ، وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ الذي أعطيناه قوة شديدة ، استطاع بها أن ينفذ ما كلفناه بتنفيذه.

والضمير المنصوب في «علمه» هو المفعول الأول ، والثاني محذوف. أى : القرآن ، لأن علّم تتعدى إلى مفعولين.

وقوله : (شَدِيدُ الْقُوى) صفة لموصوف محذوف. أى : ملك شديد القوى.

قالوا : وقد بلغ من شدة قوته ، أنه اقتلع قرى قوم لوط ـ عليه‌السلام ـ ثم رفعها إلى السماء ، ثم قلبها. بأن جعل أعلاها أسفلها ...

وقوله ـ تعالى ـ : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) صفة أخرى من صفات جبريل ـ عليه‌السلام ـ. والمرة ـ بكسر الميم ـ تطلق على قوة الذات ، وحصافة العقل ورجاحته ، مأخوذ من أمررت الحبل ، إذا أحكمت فتله ..

وشبيه بهاتين الآيتين قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ...).

وقوله : (فَاسْتَوى) أى : فاستقام على صورة ذاته الحقيقية ، دون الصورة الآدمية التي كان ينزل بها على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أى : وهو ـ أى جبريل ـ بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر إليها (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أى : ثم قرب جبريل ـ عليه‌السلام ـ من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَتَدَلَّى) أى : فانخفض من أعلى إلى أسفل ...

وأصل التدلي : أن ينزل الشيء من طبقته إلى ما تحتها ، حتى لكأنه معلق في الهواء ، ومنه قولهم : تدلت الثمرة إذا صارت معلقة في الهواء من أعلى إلى أسفل ..

ثم صور ـ سبحانه ـ شدة قرب جبريل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) والقاب : المقدار المعين : وقيل : هو ما بين وتر القوس ومقبضها ..

والقوس : آلة معروفة عند العرب ، يشد بها وتر من جلد ، وتستعمل في الرمي بالسهام.

وكان من عادة العرب في الجاهلية ، أنهم إذا تحالفوا ، يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى ، فيكون قاب إحداهما ملاصقا للآخر ، حتى لكأنهما قاب واحد ، ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا ، فيكون ذلك دليلا على التحالف التام والرضا الكامل ...

٦٠