التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦)

سورة «التغابن» هي آخر السور المفتتحة بالتسبيح ، فقد قال ـ سبحانه ـ في مطلعها.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ..) أى : ينزه الله ـ تعالى ـ عن كل نقص ، ويجله عن كل ما لا يليق به ، جميع الكائنات التي في سماواته ـ سبحانه ـ وفي أرضه. كما قال ـ عزوجل ـ : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١).

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٤٤.

٤٢١

وجيء هنا وفي سورة الجمعة بصيغة المضارع (يُسَبِّحُ) للدلالة على تجدد هذا التسبيح ، وحدوثه في كل وقت وآن.

وجيء في سورة الحديد ، والحشر ، والصف ، بصيغة الماضي (سَبَّحَ). للدلالة على أن التسبيح قد استقر وثبت لله ـ تعالى ـ وحده ، من قديم الزمان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مؤكد لما قبله ، من بيان أن جميع الكائنات تسبح لله ـ تعالى ـ لأنه مالكها وصاحب الفضل المطلق عليها.

وتقديم الجار والمجرور (لَهُ) لإفادة الاختصاص والقصر.

أى : له ـ سبحانه ـ وحده ملك هذا الكون ، وله وحده الحمد التام المطلق من جميع مخلوقاته ، وليس لغيره شيء منهما ، وإذا وجد شيء منهما لغيره فهو من فيضه وعطائه ، إذ هو ـ سبحانه ـ القدير الذي لا يقف في وجه قدرته وإرادته شيء.

ثم بين ـ سبحانه ـ أقسام خلقه في هذه الحياة فقال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).

والخطاب في قوله : (خَلَقَكُمْ) لجميع المكلفين من هذه الأمة.

والفاء في قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) للتفريع المشعر بالتعجب من وجود من هو كافر بالله ـ تعالى ـ مع أنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلقه ، وخلق كل شيء.

وقدم ذكر الكافر ، لأنه الأهم في هذا المقام ، ولأنه الأكثر عددا في هذه الحياة.

أى : هو ـ سبحانه ـ الذي خلقكم بقدرته ، دون أن يشاركه في ذلك مشارك ، وزودكم بالعقول التي تعينكم على معرفة الخير من الشر ، والنافع من الضار وأرسل إليكم رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وأنزل معه الكتاب الذي يدلكم على أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وأمركم هذا الرسول الكريم بإخلاص العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ولم يترك رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيلة تهديكم إلى الحق إلا وأرشدكم إليها ...

ومع ذلك وجد منكم المختار للكفر بالحق ، المعرض عن الإيمان بوحدانية الله ـ تعالى ـ وكان منكم المستجيب للحق باختياره المخلص في عقيدته لله ـ تعالى ـ المؤمن بوحدانيته ، المؤدى لجميع التكاليف التي كلفه ـ سبحانه ـ بها.

قال القرطبي ـ بعد أن ذكر جملة من الأقوال في معنى هذه الآية ـ : وقال الزجاج ـ وقوله أحسن الأقوال ، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة ـ : إن الله خلق الكافر ،

٤٢٢

وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان.

والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ، لأن الله ـ تعالى ـ قدر ذلك عليه وعلمه منه ، ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما ، غير الذي قدر عليه ، وعلمه منه .. (١).

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أى : والله ـ تعالى ـ لا تخفى عليه خافية من أعمالكم ، وسيحاسبكم عليها يوم القيامة ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أى : خلقهن خلقا ملتبسا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وبالحكمة التي لا يشوبها اضطراب أو عبث ، فالباء في قوله «بالحق» للملابسة.

والمراد بالسموات والأرض : ذواتهن وأجرامهن التي هي أكبر من خلق الناس.

والمراد بالحق : المقصد الصحيح ، والغرض السليم ، الواقع على أتم الوجوه وأفضلها وأحكمها.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر نعمه على الناس فقال : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ).

وقوله : (وَصَوَّرَكُمْ) من التصوير ، وهو جعل الشيء على صورة لم يكن عليها ، وهو مأخوذ من مادة صار الشيء إلى كذا ، بمعنى تحول إليه ، أو من صاره إلى كذا ، بمعنى أماله وحوله.

أى : وأوجدكم ـ سبحانه ـ يا بنى آدم على أحسن الصور وأكملها وأبدعها وأجملها ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على غير صورته التي خلقه الله عليها ، كأن يكون على صورة حيوان أو غيره.

وصدق الله إذ يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

قال الآلوسى : ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم ، قد اشتملت على دقائق وأسرار شهدت ببعضها الآثار ، وعلم ما علم منها أولو الأبصار ، وكل ما يشاهد من الصور الإنسانية حسن ، لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب .. كما قال بعض الحكماء : شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٣٢.

٤٢٣

وقوله ـ تعالى ـ (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) معطوف على ما قبله ، لأن التصوير يقتضى الإيجاد ، فبين ـ سبحانه ـ أن هذا الإيجاد يعقبه الفناء لكل شيء سوى وجهه الكريم.

أى : وإليه وحده ـ تعالى ـ مرجعكم بعد انتهاء آجالكم في هذه الحياة ، لكي يجازيكم على أعمالكم الدنيوية.

ثم بين ـ سبحانه ـ شمول علمه لكل شيء فقال : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى : هو ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء في السموات والأرض.

(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) ـ أيها الناس ـ والتصريح بذلك مع اندراجه فيما قبله ، من علم ما في السموات وما في الأرض ، لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) والمراد بذات الصدور ، النوايا والخواطر التي تخفيها الصدور ، وتكتمها القلوب.

أى : والله ـ تعالى ـ عليم علما تاما بالنوايا والخواطر التي اشتملت عليها الصدور ، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ثلاث جمل ، كل جملة منها أخص من سابقتها.

وجمع ـ سبحانه ـ بينها للإشارة إلى أن علمه ـ تعالى ـ محيط بالجزئيات والكليات ، دون أن يعزب عن علمه ـ تعالى ـ شيء منها.

وفي هذا رد على أولئك الكفار الجاحدين ، الذين استبعدوا إعادتهم إلى الحياة ، بعد أن أكلت الأرض أجسادهم ، وقالوا ـ كما حكى القرآن عنهم ـ (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

ثم وبخهم ـ سبحانه ـ على عدم اعتبارهم بالسابقين من قبلهم فقال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

والاستفهام في قوله (أَلَمْ يَأْتِكُمْ ..) للتقرير والتبكيت.

والمراد بالذين كفروا من قبل : قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، من الأقوام الذين أعرضوا عن الحق ، فكانت عاقبتهم الدمار والهلاك.

والخطاب لمشركي قريش وأمثالهم ، ممن استحبوا العمى على الهدى.

والوبال في الأصل : الشدة المترتبة على أمر من الأمور ، ومنه الوبيل للطعام الثقيل على المعدة. المضر لها ... والمراد به هنا : العقاب الشديد الذي نزل بهم فأهلكهم ، وعبر عن هذا العقاب بالوبال ، للإشارة إلى أنه كان عذابا ثقيلا جدا ، لم يستطيعوا الفرار أو الهرب منه.

والمراد بأمرهم : كفرهم وفسوقهم عن أمر ربهم ، ومخالفتهم لرسلهم.

٤٢٤

وقوله (فَذاقُوا) معطوف على كفروا ، عطف المسبب على السبب والذوق مجاز في مطلق الإحساس والوجدان. شبه ما حل بهم من عقاب ، بشيء كريه الطعم والمذاق.

وعبر عن كفرهم بالأمر ، للإشعار بأنه أمر قد بلغ النهاية في القبح والسوء.

والمعنى : لقد أتاكم ووصل إلى علمكم ـ أيها المشركون ـ حال الذين كفروا من قبلكم من أمثال قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وعلمتم أن إصرارهم على كفرهم قد أدى بهم إلى الهلاك وإلى العذاب الأليم ، فعليكم أن تعتبروا بهم. وأن تفيئوا إلى رشدكم ، وأن تتبعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أرسله الله ـ تعالى ـ لإخراجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.

فالمقصود من الآية الكريمة تحذير الكافرين الذين أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم.

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت إلى سوء عاقبة هؤلاء السابقين فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ ، فَقالُوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا).

أى : ذلك الذي أصاب الأقوام السابقين من هلاك ودمار ، سببه أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات ، وبالمعجزات الواضحات ، الدالة على صدقهم ، فما كان من هؤلاء الأقوام إلا أن أعرضوا عن دعوة الرسل ، وقال كل قوم منهم لرسولهم على سبيل الإنكار والتكذيب والتعجب : أبشر مثلنا يهدوننا إلى الحق والرشد؟!!.

فالباء في قوله (بِأَنَّهُ) للسببية ، والضمير ضمير الشأن لقصد التهويل والاستفهام في قوله (أَبَشَرٌ) للإنكار والمراد بالبشر : الجنس ، وهو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره جملة (يَهْدُونَنا).

وشبيه بهذه الآية ما حكاه القرآن من قول قوم صالح له : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ...) (١). ، والفاء في قوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ) للسببية.

أى : فكفروا بسبب هذا القول الفاسد : (وَتَوَلَّوْا) أى : وأعرضوا عن الحق إعراضا تاما (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أى : واستغنى الله ـ تعالى ـ عنهم وعن إيمانهم ، والسين والتاء للمبالغة في غناه ـ سبحانه ـ عنهم.

(وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أى : والله ـ تعالى ـ غنى عنهم وعن العالمين ، محمود من كل

__________________

(١) سورة القمر الآيتان ٢٤ ، ٢٥.

٤٢٥

مخلوقاته بلسان الحال والمقال ، وهو ـ تعالى ـ يجازى الشاكرين له بما يستحقونه من جزاء كريم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ مزاعم الجاحدين للبعث والحساب ، ورد عليهم بما يبطلها ، ودعاهم إلى الإيمان بالحق ، وحضهم على العمل الصالح الذي ينفعهم يوم القيامة ، وبشر المؤمنين بما يشرح صدورهم ، وبين أن كل شيء في هذا الكون يسير بإذنه ـ تعالى ـ وإرادته ، فقال ـ سبحانه ـ :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣)

قال صاحب الكشاف : قوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا). الزعم : ادعاء العلم ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زعموا مطية الكذب» وعن شريح : لكل شيء كنية وكنية

٤٢٦

الكذب زعموا ، ويتعدى إلى المفعولين تعدى العلم ، كما قال الشاعر :

وإن الذي قد عاش يا أم مالك

يموت ، ولم أزعمك عن ذاك معزلا

و «أن» مع ما في حيزها قائم مقامهما (١).

و (بَلى) حرف يذكر في الجواب لإثبات النفي في كلام سابق ، والمراد هنا : إثبات ما نفوه وهو البعث.

أى : زعم الذين كفروا من أهل مكة وأشباههم من المشركين ، أنهم لن يبعثوا يوم القيامة ، لأن البعث وما يترتب عليه من حساب ، في زعمهم محال.

قل لهم ـ أيها الرسول الكريم ـ على سبيل الجزم واليقين ، كذبتم فيما تزعمونه من أنه لا بعث ولا حساب .. والله لتبعثن يوم القيامة ، ثم لتنبؤن بما عملتموه في الدنيا من أعمال سيئة ، ولتحاسبن عليها حسابا عسيرا ، يترتب عليه الإلقاء بكم في النار.

وجيء في نفى زعمهم بالجملة القسمية ، لتأكيد أمر البعث الذي نفوه بحرف (لَنْ) ولبيان ان البعث وما يترتب عليه من ثواب وعقاب ، أمر ثابت ثبوتا قطعيا. وجملة (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) ارتقاء في الإيطال. و (ثُمَ) للتراخي النسبي.

أى : قل لهم إنكم لا تبعثون فحسب ، بل ستبعثون ، ثم تجدون بعد ذلك ما هو أشد من البعث ، ألا وهو إخباركم بأعمالكم السيئة ، ثم الإلقاء بكم في النار بعد ذلك.

فالمراد بالإنباء لازمه ، وهو ما يترتب عليه من حساب وعقاب.

واسم الإشارة في قوله : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعود إلى البعث وما يترتب عليه من حساب.

أى : وذلك البعث والحساب ، يسير وهين على الله ـ تعالى ـ لأنه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء ، ولا يحول دون تنفيذ قدرته حائل.

فهذا التذييل المقصود به إزالة ما توهموه وزعموه من أن البعث أمر محال ، كما قالوا : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ..) هي الفصيحة ، أى : التي تفصح عن شرط مقدر.

والمراد بالنور : القرآن الكريم ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٤٨.

٤٢٧

أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (١).

والمعنى : إذا علمتم ما ذكرناه لكم ـ أيها المشركون ـ فاتركوا العناد ، وآمنوا بالله ـ تعالى ـ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمانا حقا ، وآمنوا ـ أيضا ـ بالقرآن الكريم الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون هذا القرآن معجزة ناطقة بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تذييل قصد به الوعد والوعيد ، أى : والله ـ تعالى ـ مطلع اطلاعا تاما على كل تصرفاتكم ، وسيمنحكم الخير إن آمنتم ، وسيلقى بكم في النار إن بقيتم على كفركم.

ثم حذرهم ـ سبحانه ـ من أهوال يوم القيامة فقال ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ).

والظرف (يَوْمَ) متعلق بقوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ).

والمراد بيوم الجمع : يوم القيامة. سمى بذلك لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون في مكان واحد للحساب والجزاء.

وسمى ـ أيضا بيوم التغابن ، لأنه اليوم الذي يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل.

والتغابن تفاعل من الغبن بمعنى الخسران والنقص ، يقال غبن فلان فلانا إذا بخسه حقه ، بأن أخذ منه سلعة بثمن أقل من ثمنها المعتاد ، وأكثر ما يستعمل الغبن في البيع والشراء ، وفعله من باب ضرب ، ويطلق الغبن على مطلق الخسران أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاحدين للبعث : لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم يوم القيامة يوم يجتمع الخلائق للحساب فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، ويغبن فيه المؤمنون الكافرين ، لأن أهل الإيمان ظفروا بالجنة ، وبالمقاعد التي كان سيظفر بها الكافرون لو أنهم آمنوا ، ولكن الكافرين استمروا على كفرهم فخسروا مقاعدهم في الجنة ، ففاز بها المؤمنون.

قال القرطبي : (يَوْمُ التَّغابُنِ) أى : يوم القيامة ... وسمى يوم القيامة بيوم التغابن ، لأنه غبن أهل الجنة أهل النار.

أى : أن أهل الجنة أخذوا الجنة ، وأهل النار أخذوا النار على طريق المبادلة فوقع الغبن على الكافرين لأجل مبادلتهم الخير بالشر ، والنعيم بالعذاب.

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٥٢.

٤٢٨

يقال : غبنت فلانا ، إذا بايعته أو شاريته ، فكان النقص عليه ، والغلبة لك.

فإن قيل : فأى معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع (١).

وقال الآلوسى ما ملخصه : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أى يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار ، فالتفاعل ليس على ظاهره ، كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد ، واختير للمبالغة.

وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. واختاره الواحدي.

وقال غير واحد : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أى : اليوم الذي غبن فيه بعض الناس بعضا ، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، وبالعكس ففي الحديث الصحيح : «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار ـ لو أساء ـ ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة ـ لو أحسن ليزداد حسرة ـ وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء ، بنزولهم في منازلهم من النار (٢).

ثم فصل ـ سبحانه ـ أحوال الناس في هذا اليوم الهائل الشديد فقال ؛ (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ، يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ، وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

أى : ومن يؤمن بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، ويعمل عملا صالحا ، يكفر الله ـ تعالى ـ عنه سيئاته التي عملها في الدنيا بأن يزيلها من صحيفة عمله ـ فضلا منه ـ تعالى ـ وكرما ـ وفوق ذلك يدخله بفضله وإحسانه جنات تجرى من تحت ثمارها الأنهار (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أى : خلودا أبديا.

(ذلِكَ) الذي ذكرناه لكم من تكفير السيئات ، ومن دخول الجنات .. هو (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز يقاربه أو يدانيه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بربهم بأن أشركوا معه في العبادة آلهة أخرى.

(وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا ، وعلى صدق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٣٦.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٢٣.

٤٢٩

(أُولئِكَ) الكافرون المكذبون هم (أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيرهم النار.

ففي هاتين الآيتين الكريمتين ، بيان للتغابن ، وتفصيل له ، لاحتوائهما على بيان منازل السعداء والأشقياء ، وهو ما وقع فيه التغابن.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل شيء بقضائه وقدره فقال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

والمراد بالمصيبة : الرزية والنكبة ، وكل ما يسوء الإنسان في نفسه أو ماله أو ولده .. والمفعول محذوف ، و «من» للتأكيد ، و (مُصِيبَةٍ) فاعل.

أى : ما أصاب أحدا مصيبة في نفسه أو ماله أو ولده .. إلا بإذن الله ـ تعالى ـ وأمره وإرادته ، لأن كل شيء بقضائه ـ سبحانه ـ وقدره.

قال القرطبي : قيل : سبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله ـ تعالى ـ عن المصائب.

فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية للرد على المشركين ، ولبيان أن كل شيء بإرادته ـ سبحانه ـ.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن الإيمان الحق يعين على استقبال المصائب بصبر جميل فقال : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أى : ومن يؤمن بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا يهد قلبه الى الصبر الجميل ، وإلى الاستسلام لقضائه ـ سبحانه ـ لأن إيمانه الصادق يجعله يعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، والله ـ تعالى ـ عليم بكل شيء ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) أى : ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره : فصبر واحتسب واستسلم لقضائه ـ تعالى ـ هدى الله قلبه ، وعوضه عما فاته من الدنيا.

وفي الحديث المتفق عليه : عجبا للمؤمن ، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات الكريمة بحض الناس على الطاعة والإخلاص في

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٦٣.

٤٣٠

العبادة ، وحذرهم من اقتراف المعاصي فقال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ).

أى : وعليكم ـ أيها الناس ـ أن تطيعوا الله ـ تعالى ـ طاعة تامة ، وأن تطيعوا رسوله في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.

فإن أعرضتم عن ذلك ، وانصرفتم عما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فلا ضرر على رسولنا بسبب إعراضكم لأن حسابكم وجزاءكم علينا يوم القيامة ، وليس على رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنسبة لكم سوى البلاغ الواضح البين ، بحيث لا يترك بابا من أبواب الخير إلا ويبينه لكم ، ولا يترك بابا من أبواب الشر إلا وحذركم منه.

(اللهُ) ـ تعالى ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أى : هو المستحق للعبادة دون غيره ، فأخلصوا له هذه العبادة والطاعة (وَعَلَى اللهِ) ـ تعالى ـ وحده (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أى : فليفوضوا أمورهم إليه ، وليعقدوا رجاءهم عليه فهو ـ سبحانه ـ صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.

وفي نهاية السورة الكريمة ، وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، حذرهم فيه من فتنة الأزواج والأولاد والأموال ، وحضهم على مراقبته وتقواه ، وحذرهم من البخل والشح ، ووعدهم بالأجر العظيم متى أطاعوه .. فقال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا

٤٣١

اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روى عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رجلا سأله عن هذه الآيات فقال : هؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبى أولادهم وأزواجهم أن يتركوهم ـ ليهاجروا.

فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى بالمدينة ـ رأوا الناس قد تفقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم ـ أى : يعاقبوا أولادهم وأزواجهم ـ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (١).

وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى ، شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده فنزلت (٢).

وصدرت الآيات الكريمة بالنداء بصفة الإيمان ، لحضهم على الاستجابة لما اشتملت عليه هذه الآيات من توجيهات سامية وإرشادات عالية .. فإن من شأن الإيمان الحق ، أن يحمل صاحبه على طاعة الله ـ عزوجل ـ.

و (مِنْ) في قوله (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ..) للتبعيض.

والمراد بالعداوة ما يشمل العداوة الدينية والدنيوية ، بأن يكون هؤلاء الأولاد والأزواج يضمرون لآبائهم وأزواجهم العداوة والبغضاء وسوء النية ، يسبب الاختلاف في الطباع أو في العقيدة والأخلاق.

والعفو : ترك المعاقبة على الذنب بعد العزم على هذه المعاقبة.

والصفح : الإعراض عن الذنب وإخفاؤه ، وعدم إشاعته.

أى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إن بعض أزواجكم وأولادكم ، يعادونكم ويخالفونكم في أمر دينكم. وفي أمور دنياكم ، (فَاحْذَرُوهُمْ) أى : فاحذروا أن تطيعوهم في أمر يتعارض مع تعاليم دينكم ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

(وَإِنْ تَعْفُوا) ـ أيها المؤمنون ـ عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بعد التصميم عليه

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٦٥.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤٠.

٤٣٢

(وَتَصْفَحُوا) عنهم ، بأن تتركوا عقابهم بدون عزم عليه .. (وَتَغْفِرُوا) ما فرط منهم من أخطاء ، بأن تخفوها عليهم.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قائم مقام جواب الشرط. أى : وإن تفعلوا ذلك من العفو والصفح والمغفرة ، يكافئكم الله ـ تعالى ـ على ذلك مكافأة حسنة ، فإن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة لمن يعفون ويصفحون ويغفرون.

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ.) تعميم بعد تخصيص ، وتأكيد التحذير الذي اشتملت عليه الآية السابقة.

والمراد بالفتنة هنا : ما يفتن الإنسان ويشغله ويلهيه عن المداومة على طاعة الله ـ تعالى ـ.

أى : إن أموالكم وأولادكم ـ أيها المؤمنون ـ على رأس الأمور التي تؤدى المبالغة والمغالاة في الاشتغال بها ، إلى التقصير في طاعة الله ـ تعالى ـ ، وإلى مخالفة أمره. والإخبار عنهم بأنهم (فِتْنَةٌ) للمبالغة ، والمراد أنهم سبب للفتنة أى : لما يشغل عن رضاء الله وطاعته ، إذا ما جاوز الإنسان الحد المشروع في الاشتغال بهما.

قال الآلوسى : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) أى : بلاء ومحنة ، لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك. وفي الحديث. يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : أكل عياله حسناته.

وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي .. عن بريدة قال. كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من فوق المنبر ، فحملهما .. ثم صعد المنبر فقال : صدق الله إذ يقول : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، إنى لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران ، لم أصبر أن قطعت كلامي ، ونظرت إليهما (١).

وقال الجمل : قال الحسن في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) أدخل ـ سبحانه ـ (مِنْ) للتبعيض ، لأنهم كلهم ليسوا بأعداء ، ولم يذكر من في قوله (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، لأنهما لا يخلوان من الفتنة ، واشتغال القلب بهما ، وقدم الأموال على الأولاد ، لأن الفتنة بالمال أكثر. وترك ذكر الأزواج في الفتنة ، لأن منهن من يكن صلاحا وعونا على الآخرة (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٢٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٥٣.

٤٣٣

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) معطوف على جملة (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ).

أى : والله ـ تعالى ـ عنده أجر عظيم ، لمن آثر محبة الله ـ تعالى ـ وطاعته ، على محبة الأزواج والأولاد والأموال.

والفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) للإفصاح والتفريع على ما تقدم.

و (مَا) في قوله : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) مصدرية ظرفية.

والمراد بالاستطاعة : نهاية الطاقة والجهد.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي لا يشغله ماله أو ولده أو زوجه عن ذكر الله ـ تعالى ـ فابذلوا نهاية قدرتكم واستطاعتكم في طاعة الله ـ تعالى ـ وداوموا على ذلك في جميع الأوقات والأزمان.

وليس بين هذه الآية ، وبين قوله ـ تعالى ـ (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) تعارض ، لأن كلتا الآيتين تأمران المسلم بأن يبذل قصارى جهده ، ونهاية طاقته ، في المواظبة على أداء ما كلفه الله به ، ولذلك فلا نرى ما يدعو إلى قول من قال : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي تقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

قال الآلوسى : أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت أقدامهم. فأنزل الله هذه الآية (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفا على المسلمين (١).

وحذف متعلق التقوى ، لقصد التعميم ، أى : فاتقوا الله مدة استطاعتكم في كل ما تأتون وما تذرون ، واعلموا أنه ـ تعالى ـ (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) و (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ومن الأحاديث التي وردت في معنى الآية الكريمة ، ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله قال : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة ، فلقننى «فيما استطعت».

وعطف قوله ـ تعالى ـ (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) على قوله (فَاتَّقُوا اللهَ) من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام به.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٢٧.

٤٣٤

أى : فاتقوا الله ـ تعالى ـ في كل ما تأتون وما تذرون ، واسمعوا ما يبلغكم إياه رسولنا عنا سماع تدبر وتفكر ، وأطيعوه في كل ما يأمركم به أو ينهاكم عنه.

(وَأَنْفِقُوا) مما رزقكم الله ـ تعالى ـ من خير ، يكن ذلك الإنفاق (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) في دنياكم وفي آخرتكم.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أى : ومن يستطع أن يبعد نفسه عن الشح والبخل.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أى : الفائزون فوزا تاما لا نقص معه.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالحض على الإنفاق في سبيله فقال : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ، يُضاعِفْهُ لَكُمْ).

أى : إن تبذلوا أموالكم في وجوه الخير التي يحبها الله ـ تعالى ـ ، بذلا مصحوبا بالإخلاص وطيب النفس ، يضاعف الله ـ تعالى ـ لكم ثواب هذا الإنفاق والإقراض بأن يجعل لكم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) فضلا عن ذلك ذنوبكم ببركة هذا الإنفاق الخالص لوجهه الكريم.

(وَاللهُ شَكُورٌ) أى : كثير الشكر لمن أطاعه (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة المذنبين.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى : هو ـ سبحانه ـ يعلم علما تاما ما كان خافيا عليكم وما كان ظاهرا لكم ، وهو ـ عزوجل ـ القوى الذي لا يغلبه غالب ، الحكيم في كل أقواله وأفعاله.

وبعد فهذا تفسير لسورة «التغابن» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الاسكندرية ـ العجمي

صباح الخميس ٣٠ من شوال سنة ١٤٠٦ ه‍

٢٦ من يونيو ١٩٨٦ م

كتبه الراجي عفو ربه

د / محمد سيد طنطاوى

٤٣٥
٤٣٦

تفسير

سورة الطّلاق

٤٣٧
٤٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الطلاق» من السور المدنية الخالصة ، وقد سماها عبد الله بن مسعود بسورة النساء القصرى ، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران.

وكان نزولها بعد سورة «الإنسان» وقبل سورة «البينة» ، وترتيبها بالنسبة للنزول : السادسة والتسعون ، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف ، فهي السورة الخامسة والستون.

٢ ـ وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري ، وفيما عداه اثنتا عشرة آية.

٣ ـ ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق ، وما يترتب عليه من أحكام العدة ، والإرضاع ، والإنفاق ، والسكن ، والإشهاد على الطلاق ، وعلى المراجعة.

وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى الله ـ تعالى ـ وعن مظاهر قدرته ، وعن حسن عاقبة التوكل عليه ، وعن يسره في تشريعاته ، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتلو على الناس آيات الله ـ تعالى ـ ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه ـ سبحانه ـ وقد افتتحت بقوله ـ تعالى ـ.

٤٣٩

التفسير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣)

افتتح الله ـ تعالى ـ السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

وأحكام الطلاق التي وردت في هذه الآية ، تشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تشمل جميع المكلفين من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنما كان النداء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته ، تشريفا وتكريما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه هو المبلغ للناس ، وهو إمامهم وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله ـ تعالى ـ فيهم.

٤٤٠