التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من الوسائل التي كانوا يستعملونها لكي يصدقهم من يسمعهم فقال ـ تعالى ـ : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ..

والأيمان : ـ بفتح الهمزة ـ جمع يمين ، والجنّة ـ بضم الجيم ـ ما يستتر به المقاتل ليتقى ضربات السيوف والرماح والنبال ..

أى : أن هؤلاء المنافقين إذا ظهر كذبهم ، أو إذا جوبهوا بما يدل على كفرهم ونفاقهم ، أقسموا ، بالأيمان المغلظة بأنهم ما قالوا أو فعلوا ما يسيء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى المؤمنين ..

فهم يستترون بالحلف الكاذب ، حتى لا يصيبهم أذى من المؤمنين ، كما يستتر المقاتل بترسه من الضربات.

وقد حكى القرآن كثيرا من أيمانهم الكاذبة ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ ، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا ، وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ...) (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٣).

قال الآلوسى : قال قتادة : كلما ظهر شيء منهم يوجب مؤاخذتهم ، حلفوا كاذبين ، عصمة لأموالهم ودمائهم .. (٤).

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) للتفريع على ما تقدم.

أى : اتخذوا أيمانهم الفاجرة ذريعة أمام المؤمنين لكي يصدقوهم ، فتمكنوا عن طريق هذه الأيمان الكاذبة ، من صد بعض الناس عن الصراط المستقيم ، ومن تشكيكهم في صحة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهم قد جمعوا بين رذيلتين كبيرتين : إحداهما : تعمّد الأيمان الكاذبة ، والثانية : إعراضهم عن الحق ، ومحاولتهم صرف غيرهم عنه.

__________________

(١) سورة التوبة الآية ٥٦.

(٢) سورة التوبة الآية ٧٤.

(٣) سورة التوبة الآية ٦٢.

(٤) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١٠٩.

٤٠١

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تذييل قصد به بيان قبح أحوالهم ، وسوء عاقبتهم.

و «ساء» : فعل ماض بمعنى بئس في إفادة الذم ، و «ما» موصولة والعائد محذوف.

أى : إن هؤلاء المنافقين بئس ما كانوا يقولونه من أقوال كاذبة ، وساء ما كانوا يفعلونه من أفعال قبيحة ، سيكونون بسببها يوم القيامة في الدرك الأسفل من النار.

واسم الإشارة في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) يعود إلى ما تقدم ذكره من الكذب ، ومن الصد عن سبيل الله ، ومن قبح الأقوال والأفعال.

أى : ذلك الذي ذكر من حالهم الذي دأبوا عليه من الكذب والخداع والصد عن سبيل الله ... سببه أنهم (آمَنُوا) أى : نطقوا بكلمة الإسلام بألسنتهم دون أن يستقر الإيمان في قلوبهم ، ثم كفروا ، أى : ثم ارتكسوا في الكفر واستمروا عليه ، وظهر منهم ما يدل على رسوخهم فيه ظهورا جليا ، كقولهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ...) وكقولهم للمجاهدين : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ ...).

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أى : فختم الله ـ تعالى ـ عليها بالكفر نتيجة إصرارهم عليه ، فصاروا ، بحيث لا يصل إليها الإيمان.

(فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أى : فهم لا يدركون حقيقة الإيمان أصلا ، ولا يشعرون به ، ولا يفهمون حقائقه لانطماس بصائرهم.

وقوله : (ذلِكَ) مبتدأ ، وقوله (بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ...) خبر : والباء للسببية.

و (ثُمَ) للتراخي النسبي ، لأن إبطان الكفر مع إظهار الإيمان أعظم من الكفر الصريح ، وأشد ضررا وقبحا.

قال صاحب الكشاف : فان قلت : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله : (آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)؟.

قلت : فيه ثلاثة أوجه : أحدها : آمنوا : أى نطقوا بكلمة الشهادة ، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا. أى : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع الله عليه المؤمنين من قولهم : إن كان ما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا فنحن حمير ..

والثاني : آمنوا ، أى : نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).

٤٠٢

الثالث : أن يراد أهل الردة منهم .. (١).

ثم رسم ـ سبحانه ـ لهم بعد ذلك صورة تجعل كل عاقل يستهزئ بهم ، ويحتقرهم ، ويسمو بنفسه عن الاقتراب منهم. فقال ـ تعالى ـ : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ).

قال القرطبي : قال ابن عباس : كان عبد الله بن أبى ، وسيما جسيما صحيحا صبيحا ، ذلق اللسان ، فإذا قال : سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالته. (٢) وقال الكلبي : المراد ابن أبى ، وجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، كانت لهم أجسام ومنظر ، وفصاحة ...

و (خُشُبٌ) ـ بضم الخاء والشين ـ جمع خشبة ـ بفتحهما ـ كثمرة وثمر.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : كأنهم خشب ـ بضم الخاء وسكون الشين ـ كبدنة وبدن.

أى : وإذا رأيت ـ أيها الرسول الكريم ـ هؤلاء المنافقين ، أعجبتك أجسامهم ، لكمالها وحسن تناسقها ، وإن يقولوا قولا حسبت أنه صدق ، لفصاحته ، وأحببت الاستماع إليه لحلاوته.

وعدى الفعل «تسمع» باللام ، لتضمنه معنى تصغ لقولهم.

وجملة : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) مستأنفة ، أو خبر لمبتدأ محذوف.

أى : كأنهم وهم جالسون في مجلسك ، مستندين على الجدران ، وقد خلت قلوبهم من الخير والإيمان ، كأنهم بهذه الحالة ، مجموعة من الأخشاب الطويلة العريضة ، التي استندت إلى الحوائط ، دون أن يكون فيها حسن ، أو نفع ، أو عقل.

فهم أجسام تعجب ، وأقوال تغرى بالسماع إليها ، ولكنهم قد خلت قلوبهم من كل خير ، وامتلأت نفوسهم بكل الصفات الذميمة. فهم كما قال القائل :

لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ

جسم البغال وأحلام العصافير

وشبههم ـ سبحانه ـ بالخشب المسندة على سبيل الذم لهم ، أى : كأنهم في عدم الانتفاع بهم ، وخلوهم من الفائدة كالأخشاب المسندة إلى الحوائط الخالية من أية فائدة.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٣٩.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٢٤.

٤٠٣

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : فإن قلت : ما معنى (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) قلت : شبهوا في استنادهم ـ وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بالخشب المسندة إلى الحوائط لأن الخشب إذا انتفع به ، كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به ، أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع.

ويجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب ، المسندة إلى الحيطان ، وشبهوا بها في حسن صورهم ، وقلة جدواهم ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من يخاطب .. (١).

فأنت ترى القرآن الكريم وصفهم بتلك الصفة البديعة في التنفير منهم وعدم الاغترار بمظهرهم لأنهم كما قال القائل :

لا تخدعنك اللحى ولا الصور

تسعة أعشار من ترى بقر

تراهم كالسحاب منتشرا

وليس فيه لطالب مطر

في شجر السرو منهم شبه

له رواء وماله ثمر

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بعد ذلك بالجبن والخور فقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ...).

والصيحة : المرة من الصياح ، والمراد بها ما ينذر ويخيف أى : يظنون لجبن قلوبهم ولسوء نواياهم ، وخبث نفوسهم ـ أن كل صوت ينادى به المنادى ، لنشدان ضالة ، أو انفلات دابة ... إنما هو واقع عليهم ضار بهم مهلك لهم ..

قال الآلوسى : قوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أى : واقعة عليهم ، ضارة لهم ، لجبنهم وهلعهم.

وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله ـ تعالى ـ فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم.

والوقف على «عليهم» الواقع مفعولا ثانيا ل «يحسبون» وهو وقف تام.

وقوله ـ تعالى ـ : (هُمُ الْعَدُوُّ) استئناف. أى : هم الكاملون في العداوة ، والراسخون فيها ، فإن أعدى الأعداء ، العدو المداجى.

(فَاحْذَرْهُمْ) لكونهم أعدى الأعداء ، ولا تغترن بظواهرهم .. (٢).

__________________

(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٤٠.

(٢) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١١٢.

٤٠٤

وقوله ـ سبحانه ـ : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) دعاء عليهم بالطرد من رحمة الله ـ تعالى ـ ، وتعجيب لكل مخاطب من أحوالهم التي بلغت النهاية في السوء والقبح.

عن ابن عباس أن معنى (قاتَلَهُمُ اللهُ) طردهم من رحمته ولعنهم ، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن .. (١).

و (أَنَّى) بمعنى كيف ، و (يُؤْفَكُونَ) بمعنى يصرفون ، من الأفك ـ بفتح الهمزة والفاء ـ بمعنى الانصراف عن الشيء.

أى : لعن الله ـ تعالى ـ هؤلاء المنافقين ، وطردهم من رحمته ، لأنهم بسيب مسالكهم الخبيثة ، وأفعالهم القبيحة ، وصفاتهم السيئة ... صاروا محل مقت العقلاء ، وعجبهم ، إذ كيف ينصرفون عن الحق الواضح إلى الباطل الفاضح ، وكيف يتركون النور الساطع ، ويدخلون في الظلام الدامس؟!!

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة : قد فضحت المنافقين ، وحذرت من شرورهم ، ووصفتهم بالصفات التي تخزيهم ، وتكشف عن دخائلهم المريضة.

ثم وصفهم ـ سبحانه ـ بصفات أخرى ، لا تقل في قبحها وبشاعتها عن سابقتها فقال ـ تعالى ـ :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ

__________________

(١) تفسير ابن جرير ج ١٠ ص ١١٣.

٤٠٥

مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨)

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات متعددة ، فصلها الإمام ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ فقال ما ملخصه :

وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبى بن سلول وأتباعه ، فقد ذكر محمد بن إسحاق ، أنه لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة بعد غزوة أحد ، قام عبد الله بن أبى ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب للجمعة ، فقال : أيها الناس ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكرمكم الله به .. فأخذ بعض المسلمين بثيابه من نواحيه وقالوا له : اجلس يا عدو الله ، لست لهذا المقام بأهل ، وقد صنعت ما صنعت ـ يعنون مرجعه بثلث الناس دون أن يشتركوا في غزوة أحد ـ.

فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنما قلت بجرا ـ أى : أمرا منكرا ـ أن قمت أشدد أمره.

فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد ، فقالوا له : ويلك ، مالك؟ .. ارجع للنبي يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : والله ما أبتغى أن يستغفر لي.

وفي رواية أنه قيل له : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألته أن يستغفر لك ، فجعل يلوى رأسه ويحركه استهزاء ...

ثم قال الإمام ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ ما ملخصه : وذكر ابن إسحاق في حديثه عن غزوة بنى المصطلق ـ وكانت في شعبان من السنة الخامسة من الهجرة ـ أن غلاما لعمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ اسمه الجهجاه بن سعيد الغفاري تزاحم على ماء مع رجل من الأنصار اسمه سنان بن وبر ..

فقال سنان : يا معشر الأنصار ، وقال الجهجاه : يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى ـ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم ـ وقال : أو قد فعلوها؟!! قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا. والله ما مثلنا وجلابيب قريش ـ يعنى المهاجرين ـ إلا كما قال القائل : «سمن كلبك يأكلك» والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليخرجن الأعز منها الأذل.

فذهب زيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ...

٤٠٦

فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ، مر عباد بن بشر فليضرب عنق عبد الله بن أبى بن سلول.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكيف إذا الناس تحدث يا عمر ، أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا ، ولكن ناد يا عمر في الناس بالرحيل.

فلما بلغ عبد الله بن أبى أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال الذي قاله عنه زيد بن أرقم ..

وراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه أسيد بن الحضير ، فقال له : يا رسول الله ، لقد رحت في ساعة ما كنت تروح فيها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبى؟ زعم أنه إذا قدم المدينة أنه سيخرج الأعزّ منها الأذلّ.

فقال أسيد : فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل ..

وإنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الوقت الذي لم يتعود السفر فيه ، ليشغل الناس عن الحديث ، الذي كان من عبد الله بن أبى.

قال ابن إسحاق : ونزلت سورة المنافقين في ابن أبىّ وأتباعه ، فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال : هذا الذي أوفى الله بأذنه.

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى زيد فقرأها عليه ثم قال : «إن الله قد صدقك» ثم قال ابن إسحاق : وبلغني أن عبد الله بن عبد الله بن أبى بلغه ما كان من أمر أبيه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى .. فإن كنت فاعلا ، فمرني به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى ، وإنى أخشى أن تأمر غيرى بقتله ، فلا تدعني نفسي أن أرى قاتل أبى يمشى على الأرض فأقتله ، فأكون قد قتلت مؤمنا بكافر ، فأدخل النار.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل نترفق به ونحسن صحبته ، ما بقي معنا».

وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما : أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة ، وقف عبد الله بن عبد الله بن أبى على باب المدينة ، واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه قال له : وراءك فقال له أبوه : ويلك مالك؟ فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل.

٤٠٧

فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يسير في مؤخرة الجيش شكا إليه عبد الله بن أبى ما فعله ابنه عبد الله معه.

فقال ابنه : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال عبد الله لأبيه : أما إذ أذن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجز الآن (١).

والآن وبعد ذكر جانب من هذه الآثار التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، نعود إلى تفسيرها فنقول وبالله التوفيق.

قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ، لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ..) بيان لصفة أخرى من صفات المنافقين ، تدل على عنادهم وإصرارهم على كفرهم ونفاقهم.

والقائل لهم : (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) جماعة من المؤمنين ، على سبيل النصح لهؤلاء المنافقين لعلهم يقلعون عن كفرهم وفجورهم.

والمراد باستغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم : توبتهم من ذنوبهم ، وتركهم لنفاقهم ، وإعلان ذلك أمامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي يدعو الله ـ تعالى ـ لهم بقبول توبتهم.

وقوله : (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) من اللى بمعنى الإمالة من جانب إلى آخر ، يقال : لوى فلان رأسه ، إذا أمالها وحركها ، وهو كناية عن التكبر والإعراض عن النصيحة.

أى : وإذ قال قائل لهؤلاء المنافقين : لقد نزل في شأنكم ما نزل من الآيات القرآنية التي تفضحكم .. فتوبوا إلى الله توبة نصوحا ، وأقلعوا عن نفاقكم ، وأقبلوا نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقلب سليم ، لكي يستغفر الله ـ تعالى ـ لكم ، بأن يلتمس منه قبول توبتكم .. ما كان من هؤلاء المنافقين ، إلا أن تكبروا ولجوا في طغيانهم ، وأمالوا رءوسهم استهزاء وسخرية ممن نصحهم.

(وَرَأَيْتَهُمْ) أيها المخاطب (يَصُدُّونَ) أى : يعرضون عن النصيحة (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) عن قبولها ، لانطماس بصائرهم ، وإصرارهم على ما هم فيه من باطل وجحود للحق.

قال الآلوسى ما ملخصه : روى أنه لما صدق الله ـ تعالى ـ زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبى ، مقت الناس ابن أبى ، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعترف بذنبك ، يستغفر لك ، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأى ، وقال لهم : لقد أشرتم على بالإيمان

__________________

(١) لمعرفة هذه الآثار بالتفصيل راجع تفسير ابن جرير ج ٢٨ ص ٧١ ، وتفسير ابن كثير ج ٨ ص ١٥٢.

٤٠٨

فآمنت ، وأشرتم على بأن أعطى زكاة مالي فأعطيت .. ولم يبق لكم إلا أن تأمرونى بالسجود لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي حديث أخرجه أحمد والشيخان .. أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم ليستغفر لهم ، فلووا رءوسهم .. (١).

وقوله : (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ...) مجزوم في جواب الأمر ، وهو قوله : (تَعالَوْا) وقوله :(لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) جواب (إِذا).

والتعبير بقوله : (تَعالَوْا) تتضمن إرادة تخليص هؤلاء المنافقين مما هم فيه من ضلال ، وإرادة ارتفاعهم من انحطاط هم فيه إلى علو يدعون إليه ، لأن الأصل في كله «تعال» أن يقولها من كان في مكان عال ، لمن هو أسفل منه.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ ، (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) يرسم صورة بغيضة لهم وهم يتركون دعوة الناصح لهم ، بعناد وتكبر وغرور ، وبراهم الرائي بعينه وهم على تلك الصورة المنكرة ، التي تدل على جهالاتهم وإعراضهم عن كل خير.

وقوله ـ سبحانه ـ : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ..) تيئيس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إيمانهم ، ومن قبولهم للحق.

ولفظ «سواء» اسم مصدر بمعنى الاستواء ، والمراد به الفاعل. أى : مستو ، ولذلك يوصف به كما يوصف بالمصدر ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) أى : مستوية.

أى : إن هؤلاء الراسخين في الكفر والنفاق ، قد استوى عندهم استغفارك لهم وعدم استغفارك ، فهم لتأصل الجحود فيهم صاروا لا يفرقون بين الحق والباطل ، ولا يؤمنون بثواب أو عقاب ... ولذلك فلن يغفر الله ـ تعالى ـ لهم مهما حرصت على هدايتهم وصلاحهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) تعليل لانتفاء المغفرة من الله ـ تعالى ـ لهم.

أى : لن يغفر الله ـ تعالى ـ لهم ، لأن سنته ـ سبحانه ـ قد اقتضت أن لا يهدى إلى طاعته ، وأن لا يشمل بمغفرته ، من فسق عن أمره ، وآثر الباطل على الحق ، والكفر على الإيمان ، لسوء استعداده ، واتباعه لخطوات الشيطان.

وقوله ـ سبحانه ـ : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى

__________________

(١) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ١١٢.

٤٠٩

يَنْفَضُّوا ...)كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم ، وحكاية لجانب من أقوالهم الفاسدة ... والقائل هو عبد الله بن أبى ، كما جاء في روايات أسباب النزول لهذه الآيات ، والتي سبق أن ذكرنا بعضها.

ونسب ـ سبحانه ـ القول إليهم جميعا ، لأنهم رضوا به ، وقبلوه منه.

ومرادهم بمن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المهاجرون الذين تركوا ديارهم في مكة ، واستقروا بالمدينة.

أى : إن هؤلاء المنافقين لن يغفر الله ـ تعالى ـ لهم ، لأنهم فسقوا عن أمره ، ومن مظاهر فسوقهم وفجورهم ، أنهم أيدوا زعيمهم في النفاق ، عند ما قال لهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله من فقراء المهاجرين ، ولا تقدموا لأحد منهم عونا أو مساعدة ، حتى ينفضوا من حوله. أى : حتى يتفرقوا من حوله. يقال : انفض القوم : إذا فنيت أزوادهم يقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفض ، إذ انتهى زاده. وليس مرادهم حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه ، فإذا فعلوا ذلك فأنفقوا عليهم. وإنما مرادهم ، استمروا على عدم مساعدتكم لهم ، حتى يتركوا المدينة ، وتكون مسكنا لكم وحدكم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ).

والخزائن : جمع خزينة ، وهي ما يخزن فيها المال والطعام وما يشبههما ، والمراد بها أرزاق العباد التي يمنحها الله ـ تعالى ـ لعباده.

أى : ولله ـ تعالى ـ وحده لا لأحد غيره ، ملك أرزاق العباد جميعا : فيعطى من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك ولا يدركونه ، لجهلهم بقدرة الله ـ تعالى ـ ، ولاستيلاء الجحود والضلال على نفوسهم.

ثم حكى ـ سبحانه ـ قولا آخر من أقوالهم القبيحة فقال : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ...).

والقائل هو عبد الله بن سلول ، ولكن القرآن نسب القول إليهم جميعا لأنهم رضوا بقوله ، ووافقوه عليه.

وجاء الأسلوب بصيغة المضارع ، لاستحضار هذه المقالة السيئة ، وتلك الصورة البغيضة لهؤلاء القوم.

والأعز : هو القوى لعزته ، بمعنى أنه يغلب غيره ، والأذل هو الذي يغلبه غيره لذلته وضعفه.

٤١٠

وأراد عبد الله بن أبى بالأعز ، نفسه ، وشيعته من المنافقين ، وأراد بالأذل ، الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المهاجرين وغيرهم من المؤمنين الصادقين.

والمراد بالرجوع في قوله (لَئِنْ رَجَعْنا) الرجوع إلى المدينة بعد انتهاء غزوة بنى المصطلق.

أى : يقول هؤلاء المنافقون ـ على سبيل التبجح وسوء الأدب ـ لئن رجعنا إلى المدينة بعد انتهاء هذه الغزوة ، ليخرجن الفريق الأعز منا الفريق الأذل من المدينة ، حتى لا يبقى فيها أحد من هذا الفريق الأذل ، بل تصبح خالية الوجه لنا. وقد رد الله ـ تعالى ـ على مقالتهم الباطلة هذه بما يخرس ألسنتهم فقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ).

أى : لقد كذب المنافقون فيما قالوه ، فإن لله ـ تعالى ـ وحده العزة المطلقة والقوة التي لا تقهر ، وهي ـ أيضا ـ لمن أفاضها عليه من رسله ومن المؤمنين الصادقين ، وهي بعيدة كل البعد عن أولئك المنافقين.

وقال ـ سبحانه ـ : (وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) بإعادة حرف الجر ، لتأكيد أمر هذه العزة ، وأنها متمكنة منهم لأنها مستمدة من إيمانهم بالله ـ تعالى ـ وحده.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) استدراك قصد به تجهيل هؤلاء المنافقين ، أى : ليست العزة إلا لله ـ تعالى ـ ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ، ولا يعرفونه لاستيلاء الجهل والغباء عليهم ، لأنهم لو كانت لهم عقول تعقل ، لعلموا أن العزة لدعوة الحق ، بدليل انتشارها في الآفاق يوما بعد يوم ، وانتصار أصحابها على أعدائهم حينا بعد حين ، وازدياد سلطانهم وقتا بعد وقت.

قال صاحب الكشاف قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ ...) أى : الغلبة والقوة لله ـ تعالى ـ ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ، ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أن المذلة والهوان ، للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.

وعن الحسن بن على ـ رضى الله عنهما ـ أن رجلا قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيها ، قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية (١).

وقال الإمام الرازي : العزة غير الكبر ، ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه ـ لغير الله ـ فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه ، وإكرامها عن أن يضعها في غير موضعها اللائق بها ، كما

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٤٣.

٤١١

أن الكبر جهل الإنسان بنفسه ، وإنزالها فوق منزلتها. فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة ، وتختلف من حيث الحقيقة ، كاشتباه التواضع بالضعة ، فالتواضع محمود ، والضعة مذمومة ، والكبر مذموم والعزة محمودة .. (١).

هذا ، وإن المتدبر لهذه الآيات الكريمة وفي أسباب نزولها ، ليرى فيها ألوانا من العظات والعبر.

يرى فيها التصرف الحكيم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجرد أن بلغته تلك الأقوال التي قالها عبد الله بن أبى ، لكي يثير الفتنة بين المسلمين ، ما كان منه إلا أن أمر عمر ابن الخطاب ، بأن ينادى في الناس بالرحيل .. لكي يشغل الناس عما تفوه به ابن أبى ، حتى لا يقع بينهم ما لا تحمد عقباه.

كما يرى كيف أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالج تلك الأحداث بحكمة حكيمة فعند ما أشار عليه عمر ـ رضى الله عنه ـ بقتل ابن أبى .. ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن قال له : يا عمر ، كيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟! وأبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر بقتله بل ترك لعشيرته من الأنصار تأديبه وتوبيخه.

ولقد بلغ الحال بابنه عبد الله ـ رضى الله عنه ـ وهو أقرب الناس إليه ، أن يمنعه من دخول المدينة حتى يأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدخولها.

كما يرى المتدبر لهذه الآيات ، والأحداث التي نزلت فيها ، أن النفوس إذا جحدت الحق ، واستولت عليها الأحقاد ، واستحوذ عليها الشيطان .. أبت أن تسلك الطريق المستقيم ، مهما كانت معالمه واضحة أمامها ..

فعبد الله بن أبى وجماعته ، وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحارب لها ولأتباعها ، وسلكوا في إذاعة السوء حول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحول أصحابه كل مسلك .. مع أن آيات القرآن الكريم ، كانت تتلى على مسامعهم صباح مساء ، ومع أن إرشادات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تصل إليهم يوما بعد يوم ، ومع أن المؤمنين الصادقين كانوا لا يكفون عن نصحهم ووعظهم ..

كما نرى أن الإيمان متى خالطت بشاشته القلوب ، ضحى الإنسان من أجله بكل شيء .. فعبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول ، يقول للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبى ، فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ..

__________________

(١) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٥١.

٤١٢

ثم يقف على باب المدينة شاهرا سيفه ، ثم يمنع أباه من دخولها حتى يأذن له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدخولها ، وحتى يقول : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو العزيز ، وأنه هو ـ أى عبد الله ابن أبى ـ هو الذليل.

وهكذا تعطينا هذه الآيات وأحداثها ما تعطينا من عبر وعظات ..

ثم تختتم السورة الكريمة بنداء توجهه إلى المؤمنين ، تأمرهم فيه بالمواظبة على طاعة الله ـ تعالى ـ وتنهاهم عن أن يشغلهم عن ذلك شاغل ، وتحضهم على الإنفاق في سبيل إعلاء كلمته ـ سبحانه ـ ، وعلى تقديم العمل الصالح الذي ينفعهم قبل فوات الأوان ، قال ـ تعالى ـ :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)

والمقصود من هذه الآيات الكريمة نهى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين الذين سبق الحديث عنهم بصورة مفصلة ، وحضهم على الاستجابة لما كلفهم الله ـ تعالى ـ به. أى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ...) أى : لا تشغلكم أموالكم التي تهتمون بجمعها وتحصيلها .. ولا أولادكم الذين هم أشهى ثمرات حياتكم .. لا يشغلكم ذلك عن أداء ما كلفكم ـ سبحانه ـ بأدائه من طاعات ، فالمراد بذكر الله ، ما يشمل جميع التكاليف من صلاة وزكاة وصيام وحج ، وغير ذلك من الطاعات التي أمر الله ـ تعالى ـ بها.

وخص الأموال والأولاد بتوجه النهى عن الاشتغال بهما اشتغالا يلهى عن ذكر الله ، لأنهما أكثر الأشياء التي تلهى عن طاعة الله ـ تعالى ـ ..

٤١٣

فمن أجل الاشتغال بجمع المال ، يقضى الإنسان معظم حياته ، وكثير من الناس من أجل جمع المال ، يضحون بما يفرضه عليهم دينهم من واجبات ، ومن أخلاق ، ومن سلوك وآداب ..

ومن أجل راحة الأولاد قد يضحى الآباء براحتهم ، وبما تقضى به المروءة ، وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يقول : «الولد مجبنة مبخلة».

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) يشعر بأن المسلم إذا اشتغل بجمع المال. وبرعاية الأولاد ، دون أن يصرفه ذلك عن طاعة الله ، أو عن أداء حق من حقوقه ـ تعالى ـ ، فإن هذا الاشتغال لا يكون مذموما ، بل يكون مرضيا عنه من الله ـ تعالى ـ.

واسم الإشارة في قوله ـ سبحانه ـ : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يعود إلى ما سبق ذكره من اللهو عن ذكر الله ، بسبب الأموال والأولاد.

أى : ومن يشغله حبه لماله وأولاده عن ذكر الله ، وعن أداء ما كلفه ـ سبحانه ـ به ، فأولئك هم البالغون أقصى درجات الخسران والغفلة. لأنهم خالفوا ما أمرهم به ربهم ، وآثروا ما ينفعهم في عاجلتهم الفانية ، على ما ينفعهم في آجلتهم الباقية ، ثم حضهم ـ سبحانه ـ على الإنفاق في سبيله فقال : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

والمراد بالإنفاق : إنفاق المال في وجوه الخير والطاعات ، فيشمل الزكاة المفروضة ، والصدقات المستحبة ، وغير ذلك من وجوه البر والخير.

و «من» في قوله ـ تعالى ـ (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) للتبعيض إذ المطلوب إنفاقه بعض المال الذي يملكه الإنسان ، وليس كله ، وهذا من باب التوسعة منه ـ تعالى ـ على عباده ، ومن مظاهر سماحة شريعته ـ عزوجل ـ.

والمراد بالموت : علاماته وأماراته الدالة على قرب وقوعه.

وقوله (فَيَقُولَ) معطوف على قوله (أَنْ يَأْتِيَ) ومسبب عنه.

و (لَوْ لا) بمعنى هلا فهي حرف تحضيض.

وقوله : (فَأَصَّدَّقَ) منصوب على أنه في جواب التمني ، وقوله : (وَأَكُنْ) بالجزم ، لأنه معطوف على محل (فَأَصَّدَّقَ) كأنه قيل : إن أخرتنى إلى أجل قريب أتصدق وأكن من الصالحين.

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن طاعة الله

٤١٤

ـ تعالى ـ بل داوموا عليها كل المداومة ، وأنفقوا بسخاء وسماحة نفس مما أعطيناكم من أرزاق كثيرة ، ومن نعم لا تحصى ، وليكن إنفاقكم من قبل أن تنزل بأحدكم أمارات الموت وعلاماته ...

وحينئذ يقول أحدكم يا رب ، هلا أخرت وفاتي إلى وقت قريب من الزمان لكي أتدارك ما فاتنى من تقصير ، ولكي أتصدق بالكثير من مالي ، وأكون من عبادك الصالحين.

وقال ـ سبحانه ـ (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) فأسند الرزق إليه ، لكي يكون أدعى إلى الامتثال والاستجابة ، لأنه ـ سبحانه ـ مع أن الأرزاق جميعها منه ، إلا أنه ـ فضلا منه وكرما ـ اكتفى منهم بإنفاق جزء من تلك الأرزاق.

وقدم ـ سبحانه ـ المفعول وهو «أحدكم» على الفاعل وهو «الموت» ، للاهتمام بالمفعول ، وللإشعار بأن الموت نازل بكل إنسان لا محالة.

والتعبير بقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ...) يشعر بأن القائل قد قال ذلك زيادة في تأميل الاستجابة ، فكأنه يقول : يا رب ألتمس منك أن تؤخر أجلى إلى وقت قريب لا إلى وقت بعيد لكي أتدارك ما فاتنى في هذا الوقت القريب الذي هو منتهى سؤالى ، وغاية أملى ..

وقد بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أنه لا تأخير في الأجل متى انتهى لا من قريب ولا من بعيد .. فقال : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ..).

أى : ولن يؤخر الله ـ تعالى ـ نفسا من النفوس ، متى انتهى أجلها في هذه الحياة ، وانقضى عمرها من هذه الدنيا ، كما قال ـ سبحانه ـ : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).

وقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أى : والله ـ تعالى ـ مطلع اطلاعا تاما على أعمالكم الظاهرة والباطنة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

وبعد فهذا تفسير لسورة «المنافقون» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

القاهرة : صباح الجمعة ١٣ من شوال سنة ١٤٠٦ ه

٣٠ / ٦ / ١٩٨٦ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

٤١٥
٤١٦

تفسير

سورة التّغابن

٤١٧
٤١٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون في ترتيب المصحف ، أما نزولها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان ـ كما ذكره صاحب الإتقان بعد سورة «الجمعة» وقبل سورة «الصف». وعدد آياتها ثماني عشرة آية.

٢ ـ وجمهور المفسرين على أنها من السور المدنية.

قال الشوكانى : وهي مدنية في قول الأكثر ، وقال الضحاك : هي مكية ، وقال الكلبي :

هي مكية ومدنية.

أخرج ابن الضريس عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة.

وفي رواية أخرى عنه : أنها نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعى ، شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده ، فأنزل الله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ..) إلى آخر السورة (١).

ويبدو لنا أن بعض آيات هذه السورة يغلب عليها طابع القرآن المكي ، كالآيات التي تتحدث عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ وعن إنكار المشركين للبعث والرد عليهم.

لذا نرجح ـ والله أعلم ـ أن النصف الأول منها من القرآن المكي ، والنصف الأخير من القرآن المدني.

٣ ـ والسورة الكريمة بعد ذلك من أهم مقاصدها : تنزيه الله ـ تعالى ـ عن الشريك أو الولد ، وبيان ألوان من مظاهر قدرته ومننه على خلقه ، والرد على المشركين الذين زعموا أنهم لن يبعثوا ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخيار وسوء عاقبة الأشرار ، وبيان أن كل شيء يقع في

__________________

(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٥ ص ٢٣٤.

٤١٩

هذا الكون هو بقضاء الله وقدره. وتحريض المؤمنين على تقوى الله ـ تعالى ـ وعلى إيثار ما عنده على كل شيء من شهوات هذه الدنيا.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

د. محمد سيد طنطاوى

القاهرة ـ مدينة نصر

مساء الجمعة ١٣ من شوال ١٤٠٦ ه‍

٣٠ / ٦ / ١٩٨٦ م

٤٢٠