التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

إيجاده ، وتحذير الظالمين من العذاب الذي متى أراده الله ـ تعالى ـ فلن يدفعه عنهم دافع ، بل سيأتيهم كلمح البصر في السرعة.

والتعبير بقوله : (واحِدَةٌ) لإفادة أن كل ما يريد الله ـ تعالى ـ إيجاده فسيوجد في أسرع وقت ، وبكلمة واحدة لا بأكثر منها ، سواء أكان ذلك الموجود جليلا أم حقيرا ، صغيرا أم كبيرا ...

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدل على نفاذ هذه القدرة وسرعتها فقال : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

والأشياع : جمع شيعة ، وشيعة الرجل : أعوانه وأنصاره ، وكل جماعة من الناس اتفقت في رأيها فهم شيعة. قالوا : وهو مأخوذ من الشياع ، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار ، حتى تشتعل النار. والمراد به هنا : الأشباه والنظائر.

أى : والله لقد أهلكنا أشباهكم ونظائركم في الكفر من الأمم السابقة ، فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، واتعظوا بما نزل بهم من عقاب.

فالمقصود بالآية الكريمة التهديد والتحذير. والاستفهام فيها للحض على الاتعاظ والاعتبار.

ثم بين ـ سبحانه ـ أن كل ما يعمله الإنسان. هو مسجل عليه ، فقال : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ). أى : وكل شيء فعله هؤلاء المشركون وغيرهم ، مكتوب ومحفوظ في كتب الحفظة ، ومسجل عليهم لدى الكرام الكاتبين ، بدون زيادة أو نقصان ..

كما قال ـ تعالى ـ بعد ذلك : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أى : وكل صغير من الأقوال أو الأفعال ، وكل كبير منهما ، فهو مكتوب عندنا ، ومسجل على صاحبه.

فقوله : (مُسْتَطَرٌ) بمعنى مسطور ومكتتب. يقال : سطر يسطر سطرا ، إذا كتب ، واستطر مثله ، والآية الكريمة مؤكدة لما قبلها.

ومن الآيات الكثيرة التي وردت في هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ، بتلك البشارة العظيمة للمتقين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

__________________

(١) سورة يونس الآية ٦١.

١٢١

أى : إن المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل محارم الله ـ تعالى ـ كائنين في جنات عاليات المقدار ، وفي (نَهَرٍ) أى : وفي سعة من العيش ، ومن مظاهر ذلك أن الأنهار الواسعة تجرى من تحت مساكنهم ، فالمراد بالنهر جنسه.

وقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أى : في مكان مرضى ، وفي مجلس كريم ، لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة ، فالمراد بالمقعد مكان القعود الذي يقيم فيه الإنسان بأمان واطمئنان.

(عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أى : مقربين عند ملك عظيم ، قادر على كل شيء.

فالمراد بالعندية هنا ، عندية الرتبة والمكانة والتشريف.

وقال ـ سبحانه ـ عند مليك ، للمبالغة في وصفه ـ سبحانه ـ بسعة الملك وعظمته ، إذ وصفه ـ سبحانه ـ بمليك ، أبلغ من وصفه بمالك أو ملك ، لأن (مَلِيكٍ) صيغة مبالغة بزنة فعيل.

وتنكير «مقتدر» للتعظيم والتهويل ، وهو أبلغ من قادر ، إذ زيادة المبنى تشعر بزيادة المعنى. أى : عظيم القدرة بحيث لا يحيط بها الوصف.

وبعد فهذا تفسير محرر لسورة «القمر» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

الدوحة ـ قطر

مساء الأربعاء

٢ من رجب سنة ١٤٠٦ ه‍

١٢ / ٣ / ١٩٨٦ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٢٢

تفسير

سورة الرّحمن

١٢٣
١٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الرحمن» سميت بهذا الاسم ، لافتتاحها بهذا الاسم الجليل من أسماء الله ـ تعالى ـ.

وقد وردت تسميتها بهذا الاسم في الحديث الذي أخرجه الإمام الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة «الرحمن» من أولها إلى آخرها ، فسكتوا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قرأتها على الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله ـ تعالى ـ : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا : ولا بشيء من نعمك يا ربنا نكذب فلك الحمد» (١).

وسميت في حديث مرفوع أخرجه البيهقي عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه : «عروس القرآن».

وقد ذكروا في سبب نزولها ، أن المشركين عند ما قالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ) نزلت هذه السورة لترد عليهم ، ولتثنى على الله ـ تعالى ـ بما هو أهله.

٢ ـ وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين ، وروى عن ابن مسعود وابن عباس أنها مدنية ، وقيل هي مكية إلا قوله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...).

قال القرطبي : والقول الأول أصح ، لما روى عن عروة بن الزبير قال : أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن مسعود.

وذلك أن الصحابة قالوا : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط ، فمن رجل يسمعهم إياه؟

فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : نخشى عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ، ثم قام عند المقام فقال : بسم الله الرحمن الرحيم. (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ...) ثم تمادى رافعا بها صوته وقريش في أنديتها ، فتأملوا وقالوا : ما يقول ابن أم عبد؟

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٩.

١٢٥

قالوا : هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه .. وفي هذا دليل على أنها مكية .. (١).

والحق أن ما ذهب إليه الإمام القرطبي من كون سورة الرحمن مكية ، هو ما تطمئن إليه النفس ، لأن السورة من أولها إلى آخرها فيها سمات القرآن المكي ، الذي يغلب عليه الحديث المفصل عن الأدلة على وحدانية الله وقدرته وعظم نعمه على خلقه ، والمقارنة بين حسن عاقبة الأخبار ، وسوء عاقبة الأشرار ...

٣ ـ وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في المصحف الحجازي ، وست وسبعون في المصحف البصري.

٤ ـ وتبدأ السورة الكريمة بالثناء على الله ـ تعالى ـ ، ثم بالثناء على القرآن الكريم ، ثم ببيان جانب من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، ومن جميل صنعه ، وبديع فعله .. قال ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ).

٥ ـ وبعد أن ساق ـ سبحانه ـ ما ساق من ألوان النعم ، أتبع ذلك ببيان أن كل من على ظهر هذه الأرض مصيره إلى الفناء ، وأن الباقي هو وجه الله ـ تعالى ـ وحده ... وببيان أهوال القيامة ، وسوء عاقبة المكذبين وحسن عاقبة المؤمنين ..

قال ـ تعالى ـ : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ).

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. ذَواتا أَفْنانٍ).

٦ ـ ثم وصفت ما أعده الله ـ تعالى ـ للمتقين وصفا يشرح الصدور ، ويقر العيون ، فقد أعد ـ سبحانه ـ لهم بفضله وكرمه الحور العين ، والفرش التي بطائنها من إستبرق.

قال ـ تعالى ـ : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

وهكذا نرى السورة الكريمة تطوف بنا في آفاق هذا الكون ، فتحكى لنا من بين ما تحكى ـ جانبا من مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ونعمه على خلقه ـ وتقول في أعقاب كل نعمة

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٥١.

١٢٦

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، وتتكرر هذه الآية فيها إحدى وثلاثين مرة ، لتذكير الجن والإنس بهذه النعم كي يشكروا الله ـ تعالى ـ عليها شكرا جزيلا.

نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا جميعا من عباده الشاكرين عند الرخاء ، الصابرين عند البلاء.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

قطر ـ الدوحة

مساء الأربعاء ٢ من رجب ١٤٠٦ ه‍

١٢ / ٣ / ١٩٨٦ م

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

١٢٧

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣)

افتتحت السورة الكريمة بهذا الاسم الجليل لله ـ عزوجل ـ وهو لفظ مشتق من الرحمة ، وصيغته الدالة على المبالغة ، تنبه إلى عظم هذه الرحمة وسعتها.

وهذا اللفظ مبتدأ ، وما بعده أخبار له.

ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته ومنته على عباده بأجل النعم وأعظمها شأنا ، فقال : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) والقرآن هو أعظم وحى أنزله ـ سبحانه ـ على أنبيائه ورسله.

أى : علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن الذي هو أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا ، إذ باتباع توجيهاته وإرشاداته ، يظفر الإنسان بالسعادة الدنيوية والأخروية.

ولفظ (الْقُرْآنَ) هو المفعول الثاني لعلم ، والمفعول الأول محذوف.

وهذه الآية الكريمة تتضمن الرد على المشركين الذين زعموا أن هذا القرآن قد تعلمه

١٢٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البشر ، كما حكى ـ سبحانه ـ عنهم في قوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ...) (١).

وفي قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ...) (٢).

كما تتضمن الرد عليهم لزعمهم أنهم لا يعرفون الرحمن ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ...) (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) بيان لنعمتين أخريين من نعمه ـ سبحانه ـ. والمراد بالإنسان : جنسه ، والمراد بالبيان : الفهم والنطق والإفصاح عما يريد الإفصاح عنه بالكلام الذي أداته اللسان.

أى خلق ـ سبحانه ـ بقدرته الإنسان على أجمل صورة ، وأحسن تقويم ، ومكنه من الإفصاح عما في نفسه عن طريق المنطق السليم ، والقول الواضح ، كما مكنه من فهم كلام غيره له ، فتميز بذلك عن الأجناس الأخرى ، وصار أهلا لحمل الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، وأصبح مستعدا لتلقى العلوم والخلافة في الأرض ..

ورحم الله ـ تعالى ـ صاحب الكشاف ، فقد صور هذه المعاني بأسلوبه الرصين فقال : عدد الله ـ عزوجل ـ آلاءه فقدم ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه ، وأصناف نعمائه ، وهي نعمة الدين ، وقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها ، وأقصى مراقيها ، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه ، لأنه أعظم وحى الله رتبة ، وأعلاه منزلة. وأحسنه في أبواب الدين أثرا ، وهو سنام الكتب السماوية ، ومصداقها ، والعيار عليها.

وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ، ليعلم أنه إنما خلقه للدين ، وليحيط علما بوحيه ، وكتبه ، وما خلق الإنسان من أجله .. ثم ذكر ما تميز به الإنسان عن سائر الحيوان من البيان ، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير ..

ولفظ (الرَّحْمنُ) مبتدأ ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف ، لمجيئها على نمط التعديد ، كما تقول : زيد أغناك بعد فقر ، أعزك بعد ذل ، كثرك بعد قلة .. فما تنكر من إحسانه .. (٤).

__________________

(١) سورة النحل الآية ١٠٣.

(٢) سورة الفرقان الآية ٤.

(٣) سورة الفرقان الآية ٦٠.

(٤) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٤٣.

١٢٩

وقوله ـ تعالى ـ : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) بيان لنعمة رابعة من نعمه ـ تعالى ـ التي لا تحصى.

والحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، والمراد بحساب دقيق ، وتقدير حكيم ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف .. أى : الشمس والقمر يجريان في هذا الكون ، بحساب دقيق في بروجهما ومنازلهما ، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب ، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام ، ويعرفون أشهر الحج والصوم ، وغير ذلك من شئون الحياة ...

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١).

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) والمراد بالنجم هنا ـ عند بعضهم ـ النبات الذي لا ساق له ، وسمى بذلك. لأنه ينجم ـ أى يظهر من الأرض ـ بدون ساق.

ويرى آخرون : أن المراد به نجوم السماء ، فهو اسم جنس لكل ما يظهر في السماء من نجوم. ويؤيد هذا الرأى قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ ...) (٢).

والشجر : هو النبات الذي له ساق وارتفاع عن وجه الأرض.

والمراد بسجودهما : انقيادهما وخضوعهما لله ـ تعالى ـ كانقياد الساجد لخالقه ..

قال ابن كثير : قال ابن جرير : اختلف المفسرون في معنى قوله : (وَالنَّجْمُ) بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق ، فعن ابن عباس قال : النجم : ما انبسط على وجه الأرض من النبات. وكذا قال هذا القول سعيد بن جبير ، والسدى ، وسفيان الثوري ، وقد اختاره ابن جرير ..

وقال مجاهد : النجم ـ المراد به هنا ـ الذي يكون في السماء ، وكذا قال الحسن وقتادة ، وهذا القول هو الأظهر ... (٣).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ...) أى : والسماء أوجدها بقدرته مرفوعة بدون أعمدة ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم.

__________________

(١) سورة يس الآية ٤٠.

(٢) سورة الحج الآية ١٨.

(٣) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧٠.

١٣٠

فالمقصود بقوله (رَفَعَها) لفت الأنظار إلى مظاهر قدرته ـ تعالى ـ ، وإلى وجوب شكره وإخلاص العبادة له ، والتزام طاعته ..

والميزان : يطلق على الآلة التي يزن الناس بها ما يريدون وزنه من الأشياء المختلفة.

والمراد به هنا : وجوب التزام العدل في الأحكام ، وشاع إطلاق الميزان على العدل في الأحكام ، لأن كليهما تضبط به الأحكام ، وتنال الحقوق. أى : والسماء خلقها مرفوعة ابتداء ، وشرع وأثبت العدل وأمر باتباعه في الأقوال والأحكام ، ليستقيم أمر الناس.

قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أى : شرع العدل وأمر به ، لينتظم أمر العالم ويستقيم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض» أى : بقيتا على أتقن نظام .. وتفسير الميزان بالعدل ، هو المروي عن مجاهد ، والطبري ، والأكثرين ، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية.

وعن ابن عباس والحسن وقتادة ، أن المراد بالميزان ما تعرف به مقادير الأشياء ، وهو الآلة المسماة بهذا الاسم .. أى : أوجده في الأرض ليضبط الناس معاملاتهم في أخذهم وعطائهم .. (١).

وجملة : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) بمنزلة التعليل لما قبلها. أى : شرع العدل بين الناس ، وأوجب عليهم التمسك به في كل شئونهم ، لئلا يتجاوزوه إلى غيره من الجور والظلم. والطغيان : هو تجاوز الحدود المشروعة في كل شيء.

ثم أكد ـ سبحانه ـ هذا المعنى وهو التزام العدل تأكيدا صريحا فقال : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ).

وقوله : (وَأَقِيمُوا) من الإقامة ، والمراد به الإتيان بالشيء على أكمل صورة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) أى : أدوها كاملة الأركان والسنن والخشوع.

والقسط : العدل ، يقال : أقسط فلان في حكمه ، إذا عدل ، والباء للمصاحبة.

وقوله : (وَلا تُخْسِرُوا) من الإخسار بمعنى النقص والبخس والجور.

والمعنى : شرع الله العدل ، ونهاكم عن تجاوزه ، وأمركم أن تقيموا حياتكم عليه في أوزانكم التي تتعاملون بها فيما بينكم ، وفي كل أحوالكم ، فاحذروا أن تخالفوا أمره ...

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٧ ص ١٠١.

١٣١

وكرر ـ سبحانه ـ لفظ «الميزان» للتنبيه على شدة عناية الله ـ تعالى ـ بإقامة العدل بين الناس في معاملاتهم ، وفي سائر شئونهم ، إذ بدونه لا يستقيم لهم حال ، ولا يصلح لهم بال ، ولا يستقر لهم قرار ...

ثم انتقلت السورة الكريمة ، إلى بيان جانب من مظاهر نعمه الأرضية ، فقال ـ تعالى ـ : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ).

والمراد بالأنام : الخلائق المختلفون في ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ، والذين يعيشون في شتى أقطارها وفجاجها ... وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.

أى : والأرض «وضعها» أى : أوجدها موضوعة على هذا النظام البديع ، من أجل منفعة الناس جميعا ، لأن إيجادها على تلك الصورة الممهدة المفروشة .. جعلهم ينتفعون بما فيها من كنوز وخيرات ، ويتقلبون عليها من مكان إلى آخر .. وصدق الله إذ يقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ..).

وقوله ـ سبحانه ـ : (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) ، بيان لبعض ما اشتملت عليه هذه الأرض من خيرات.

والفاكهة : اسم لما يأكله الإنسان من ثمار على سبيل التفكه والتلذذ ، لا على سبيل القوت الدائم ، مأخوذة من قولهم فكه فلان ـ كفرح ـ إذا تلذذت نفسه بالشيء .. والأكمام : جمع كمّ ـ بكسر الكاف ـ ، وهو الطلع قبل أن تخرج منه الثمار.

وقوله : (ذُو الْعَصْفِ) أى : ذو القشر الذي يكون على الحب ، وسمى بذلك لأن الرياح تعصف به. أى : تطيره لخفته ، أو المراد به الورق بعد أن ييبس ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

والريحان : هو النبات ذو الرائحة الطيبة ، وقيل هو الرزق.

أى : في هذه الأرض التي تعيشون عليها أوجد الله ـ تعالى ـ الفاكهة التي تتلذذون بأكلها ، وأوجد لكم النخيل ذات الأوعية التي يكون فيها الثمر ..

وأوجد لكم الحب ، الذي تحيط به قشوره ، كما ترون ذلك بأعينكم ، في سنابل القمح والشعير وغيرهما.

وأوجد لكم النبات الذي يمتاز بالرائحة الطيبة التي تبهج النفوس وتشرح الصدور ، فأنت ترى أنه ـ تعالى ـ قد ذكر في هذه الآيات ألوانا من النعم ، فقد أوجد في الأرض الفاكهة للتلذذ ، وأوجد الحب للغذاء ، وأوجد النباتات ذات الرائحة الطيبة.

١٣٢

قال القرطبي ما ملخصه : وقراءة العامة (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) بالرفع فيها كلها ، عطفا على «فاكهة» أى : فيها فاكهة وفيها الحب ذو العصف ، وفيها الريحان ..

وقرأ ابن عامر بالنصب فيها كلها عطفا على الأرض ، أو بإضمار فعل ، أى : وخلق الحبّ ذا العصف والريحان. أى : وخلق الريحان.

وقرأ حمزة والكسائي بجر (الرَّيْحانُ) عطفا على العصف. أى : فيها الحب ذو العصف والريحان ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان بمعنى الرزق ، فيكون كأنه قال : والحب ذو الرزق ، لأن العصف رزق للبهائم ، والريحان رزق للناس .. (١).

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه النعم بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

والفاء للتفريع على النعم المتعددة التي سبق ذكرها ، والاستفهام للتعجيب ممن يكذب بهذه النعم ، والآلاء : جمع إلى ـ بكسر الهمزة وفتحها وسكون اللام ـ وهي النعمة ، والخطاب للمكلفين من الجن والإنس ، وقيل لأفراد الإنس مؤمنهم وكافرهم ، أى : فبأى واحدة من هذه النعم تكذبان ربكما ، أى : تجحدان فضله ومننه ـ يا معشر الجن والإنس ـ مع أن كل نعمة من هذه النعم تستحق منكم الطاعة لي ، والخضوع لعزتى والإخلاص في عبادتي.

قال الجمل ما ملخصه : كررت هذه الآية هنا إحدى وثلاثين مرة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، وذلك كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وهو ينكر هذا الإحسان : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا ...؟

ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب ، وذلك أن الله ـ تعالى ـ عدد على عباده نعمه ، ثم خاطبهم بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقد كرر ـ سبحانه ـ هذه الآية ثماني مرات ، عقب آيات فيها تعداد عجائب خلقه ، ومبدأ هذا الخلق ونهايته ، ثم كررها سبع مرات عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنم .. ثم كررها ـ أيضا ـ ثماني مرات في وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وكررها كذلك ثماني مرات في الجنتين اللتين هما دون الجنتين السابقتين ، فمن اعتقد الثمانية الأولى ، وعمل بموجبها ، استحق هاتين الثمانيتين من الله ـ تعالى ـ ، ووقاه السبعة السابقة بفضله وكرمه .. (٢).

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٥٧.

(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٥٤.

١٣٣

ثم انتقلت السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة خلق الإنسان ، وعن مظاهر قدرته في هذا الكون ، فقال ـ تعالى ـ :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٢٥)

والصلصال ـ الطين اليابس الذي تسمع له صوتا وصلصلة إذا قرع بشيء.

والفخار : الخزف المجوف الذي صار كذلك بعد أن أدخل في النار.

ولا تعارض بين هذه الآية ، وبين غيرها من الآيات التي تحكى أن الإنسان خلق من تراب أو من طين أو من صلصال من حمأ مسنون.

لأن كل آية تتحدث عن مرحلة من مراحل خلق الإنسان ، لأن هذا التراب صار طينا ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أى : طينا أسود متغير الرائحة ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا كالفخار.

فالآيات الكريمة التي تحدثت عن خلق الإنسان لا يصادم بعضها بعضا ، وإنما يؤيد بعضها بعضا.

قال بعض العلماء : وقد أثبت العلم الحديث أن جسم الإنسان يحتوي من العناصر ما تحتويه الأرض ، فهو يتكون من الكربون ، والأكسجين ، والحديد ...

١٣٤

وهذه نفسها هي العناصر المكونة للتراب ، وإن اختلفت نسبها من إنسان إلى آخر ، وفي الإنسان عن التراب ، إلا أن أصنافها واحدة.

إلا أن هذا الذي أثبته العلم لا يجوز أن يؤخذ على أنه التفسير الحتمي للنص القرآنى.

فقد تكون الحقيقة القرآنية تعنى هذا الذي أثبته العلم ، أو تعنى شيئا آخر سواه ، وتقصد إلى صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يتحقق بها معنى خلق الإنسان من تراب ، أو من طين ، أو من صلصال ...

والذي ننبه إليه بشدة ، هو ضرورة عدم قصر النص القرآنى على كشف علمي بشرى ، قابل للخطأ والصواب ، وقابل للتعديل والتبديل ، كلما اتسعت معارف الإنسان ، وكثرت وتحسنت وسائله للمعرفة (١).

والمعنى : خلق ـ سبحانه ـ بقدرته أباكم آدم الذي هو أصلكم ، وعنه تفرع جنسكم من طين يابس يشبه الفخار في يبوسته وصلابته.

(وَخَلَقَ) ـ سبحانه ـ (الْجَانَ) أى : جنس الجن (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أى : من لهب خالص لا دخان فيه ، أو مما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر وغير الأحمر ، إذ المارج ، هو المختلط ، وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق ، أى : خلق جنس الجان من خليط من لهب النار. ومن في قوله (مِنْ نارٍ) للبيان.

قال ابن كثير : يذكر الله ـ تعالى ـ خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها قاله الضحاك ، وعن ابن عباس : من مارج من نار ، أى : من لهب النار ..

وروى مسلم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار. وخلق آدم مما وصف لكم» (٢).

والمقصود بالآيتين تذكير بنى آدم بفضلهم على غيرهم ، حيث بين ـ سبحانه ـ لهم مبدأ خلقهم ، وأنهم قد خلقوا من عنصر غير الذي خلق منه الجن ، وأن الله ـ تعالى ـ قد أمر إبليس المخلوق من النار ، بالسجود لأبيهم آدم المخلوق من الطين ، فعليهم أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة ، وأن يحذروا وسوسة إبليس وجنوده.

وبعد أن أمر بشكر هذه النعم ، أتبع ذلك ببيان مظهر آخر من مظاهر قدرته ، فقال :

__________________

(١) راجع في ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٣٥٤١.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٧١.

١٣٥

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ ، وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

أى : هو ـ سبحانه ـ رب مشرق الشمس في الشتاء والصيف ، ورب مغربها فيهما ، وفي هذا التدبير المحكم منافع عظمى للإنسان والحيوان والنبات.

ولا تعارض بين هذه الآية ، وبين قوله ـ تعالى ـ في آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ...) (١). لأن المراد بهما جنسهما ، فهما صادقان على كل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون مشرقا ، وعلى كل مغرب من مغاربها التي هي كذلك.

أو بين قوله ـ تعالى ـ في آية ثالثة : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٢). أى : ورب جميع المشارق التي تشرق منها الشمس في كل يوم على مدار العام إذ لها في كل يوم مشرق معين تشرق منه ، ولها في كل يوم أيضا ـ مغرب تغرب فيه.

ثم قال ـ سبحانه ـ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

وقوله : (مَرَجَ) من المرّج بمعنى الإرسال والتخلية ، ومنه قولهم : مرج فلان دابته. إذا أرسلها إلى المرج ، وهو المكان الذي ترعى فيه الدواب.

ويصح أن يكون من المرج بمعنى الخلط ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أى : مختلط ، وقيل للمرعى : مرج لاختلاط الدواب فيه بعضها ببعض.

والمراد بالبحرين : البحر العذب ، والبحر الملح. والبرزخ : الحاجز الذي يحجز بينهما ، بقدرة الله ـ تعالى ـ.

والمعنى : خلق الله ـ تعالى ـ البحرين ، وأرسلهما بقدرته في مجاريهما ، بحيث يلتقيان ويتصل أحدهما بالآخر ، ومع ذلك لم يختلطا ، بل يبقى المالح على ملوحته. والعذب على عذوبته ، لأن حكمة الله قد اقتضت أن يفصل بينهما ، بحواجز من أجرام الأرض ، أو بخواص في كل منهما ، تمنعهما هذه الخواص وتلك الحواجز ، من أن يختلطا ، ولو لا ذلك لاختلطا وامتزجا ، وهذا من أكبر الأدلة على قدرة الله ـ تعالى ـ ، ورحمته بعباده ، إذ أبقى الله ـ تعالى ـ المالح على ملوحته ، والعذب على عذوبته ، لينتفع الناس بكل منهما في مجال الانتفاع به ...

__________________

(١) سورة المزمل الآية ٩.

(٢) سورة الصافات الآية ٥.

١٣٦

فالماء العذب ينتفع به في الشراب للناس والدواب والنبات .. والماء الملح ينتفع به في أشياء أخرى ، كاستخراج الملح منه ، وفي غير ذلك من المنافع ..

ومن بديع صنع الله في هذا الكون ، أنك تشاهد البحار الهائلة على سطح الأرض ، والأنهار الكثيرة ، ومع ذلك فكل نوع منهما باق على خصائصه ، مع أن كلا منهما قد يلتقى بالآخر.

قال بعض العلماء : والمقصود بالبحرين ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات. وبحر العجم ، المسمى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما : انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي ، في شاطئ البصرة ، والبلاد التي على الشاطئ العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.

والمراد بالبرزخ بينهما : الفاصل بين الماءين : الحلو والملح بحيث لا يغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره وذلك بسبب ما في كل منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به وهذا من مسائل الثقل النوعي.

وذكر البرزخ تشبيه بليغ ، أى : بينهما مثل البرزخ ، ومعنى لا يبغيان : أى لا يبغى أحدهما على الآخر ، أى : لا يغلب عليه فيفسد طعمه ، فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي .. (١).

وقال صاحب الظلال ـ رحمه‌الله ـ : والبحران المشار إليهما هما البحر المالح ، والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار. ومرج البحرين : أرسلهما وتركهما يلتقيان. ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ، وبينهما برزخ من طبيعتهما من صنع الله ـ تعالى ـ.

وتصب جميع الأنهار ـ تقريبا ـ في البحار ، وهي التي تنقل إليها أملاح الأرض ، فلا تغير طبيعة البحار ولا تبغى عليها ، ومستوى سطوح الأنهار أعلى ـ في العادة ـ من مستوى سطح البحر ، ومن ثم لا يبغى البحر على الأنهار التي تصب فيه. ولا يغمر مجاريها بمائه الملح .. وبينهما دائما هذا البرزخ من صنع الله ، فلا يبغيان.

فلا عجب أن يذكر ـ سبحانه ـ البحرين ، وما بينهما من برزخ ، في مجال الآلاء والنعم .. (٢).

ثم يذكر ـ سبحانه ـ بعض نعمه المختبئة في البحرين فيقول : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ).

__________________

(١) تفسير التحرير والتنوير ج ٢٧ ص ٢٤٦ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

(٢) راجع في ظلال القرآن ج ٢٧ ص ٣٤٥٢.

١٣٧

و (اللُّؤْلُؤُ) ـ في أصله ـ حيوان ، وهو أعجب ما في البحار ، فهو يهبط إلى الأعماق ، وهو داخل صدفة جيرية تقيه من الأخطار .. ويفرز مادة لزجة تتجمد مكونة «اللؤلؤ».

والمرجان ـ أيضا ـ حيوان يعيش في البحار ... ويكون جزرا مرجانية ذات ألوان مختلفة : صفراء برتقالية ، أو حمراء قرنفلية ، أو زرقاء زمردية (١).

ومن اللؤلؤ والمرجان تتخذ الحلي الغالية الثمن ، العالية القيمة ، التي تتحلى بها النساء ..

والآية الكريمة صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحرين ـ الملح والعذب ـ إلا أن كثيرا من المفسرين ساروا على أنه ـ أى : اللؤلؤ والمرجان ـ يخرج من أحدهما فحسب ، وهو البحر الملح ..

قال الآلوسى ما ملخصه : واللؤلؤ صغار الدر ، والمرجان كباره .. وقيل : العكس ..

والمشاهد أن خروج «اللؤلؤ والمرجان» من أحدهما وهو الملح .. لكن لما التقيا وصارا كالشىء الواحد جاز أن يقال : يخرجان منهما ، كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميعه ، ولكن من بعضه ، كما تقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلة من محاله ، بل من دار واحدة من دوره ، وقد يسند إلى الإثنين ما هو لأحدهما ، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم .. (٢).

والحق أن ما سار عليه الإمام الآلوسى وغيره : من أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من البحر الملح لا من البحر العذب ، مخالف لما جاء صريحا في قوله ـ تعالى ـ : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ...) (٣).

فإن هذه الآية صريحة في أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين الملح والعذب ، وقد أثبتت البحوث العلمية صحة ذلك ، فقد عثر عليهما في بعض الأنهار العذبة ، التي في ضواحي ويلز واسكتلاندا في بريطانيا .. (٤).

ثم بين ـ سبحانه ـ نعمة أخرى من نعمة التي مقرها البحار فقال : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

__________________

(١) راجع «كتاب الله والعلم الحديث» ص ١٠٥ للأستاذ عبد الرازق نوفل.

(٢) راجع تفسير الآلوسى ج ٢٢ ص ١٠٦.

(٣) سورة فاطر الآية ١٢.

(٤) راجع دائرة معارف الشعب المصرية العدد ٧٣ ص ٥٣٧.

١٣٨

والجوار : أى السفن الجارية ، فهي صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه ، وهو قوله ـ تعالى ـ (فِي الْبَحْرِ).

والمنشآت : جمع منشأة ـ اسم مفعول ـ أى : مرفوعة الشراع ، وهو ما يسمى بالقلع ، من أنشأ فلان الشيء ، إذا رفعه عن الأرض ، وأنشأ في سيرة إذا أسرع ...

أى : وله ـ سبحانه ـ وحده لا لغيره ، التصرف المطلق في السفن المرفوعة القلاع والتي تجرى في البحر ، وهي تشبه : الجبال في ضخامتها وعظمتها.

والتعبير : بقوله ـ تعالى ـ (وَلَهُ) للإشعار بأن كونهم هم الذين صنعوها لا يخرجها عن ملكه ـ تعالى ـ وتصرفه ، إذ هو الخالق الحقيقي لهم ولها ، وهو الذي سخر تلك السفن لتشق ماء البحر بأمره.

ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هذه الآية في دلالتها على قدرة الله ـ تعالى ـ وعلى مننه على عباده بهذه السفن التي تجرى في البحر بأمره. قوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) (١).

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ـ تعالى ـ ، ونعمه على عباده ... جاء الحديث عن تفرده ـ تعالى ـ بالبقاء ، بعد فناء جميع المخلوقات التي على ظهر الأرض ، وعن افتقار الناس إليه وحده ـ سبحانه ـ وغناه عنهم فقال ـ تعالى ـ :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ

__________________

(١) سورة الشورى الآيات ٣٢ ـ ٣٤.

١٣٩

أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦)

والضمير في (عَلَيْها) يعود إلى الأرض بقرينة المقام ، والمراد بمن عليها : كل من يعيش فوقها ، ويدخل فيهم دخولا أوليا بنو آدم ، لأنهم هم المقصودون بالخطاب ، ولذا جيء بمن الموصولة الخاصة بالعقلاء.

أى : كل من على الأرض من إنسان وحيوان وغيرهما سائر إلى الزوال والفناء (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) وذاته بقاء لا تغير معه ولا زوال ، فهو ـ سبحانه ـ (ذُو الْجَلالِ) أى : ذو العظمة والاستغناء المطلق (وَالْإِكْرامِ) أى : والفضل التام ، والإحسان الكامل ..

وقال ـ سبحانه ـ : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) ولم يقل ويبقى وجه ربكما. كما في قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما ...).

لأن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التكريم والتشريف ، ويدخل تحته كل من يتأتى له الخطاب على سبيل التبع.

قال القرطبي : لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض. فنزلت (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فأيقنت الملائكة بالهلاك.

وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) أى : ويبقى الله ، فالوجه عبارة عن وجوده وذاته ، قال الشاعر :

قضى على خلقه المنايا

فكل شيء سواه زائل

وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا .. (١).

وقوله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) بيان لغناه المطلق عن غيره ، واحتياج غيره إليه.

__________________

(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٦٥.

١٤٠