التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٤

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0694-9
الصفحات: ٤٨٧

هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ، ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.

وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا في المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم‌السلام ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم.

فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، قم يا فلان.

فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهة في وجوههم.

فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء .. فبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، ونزلت هذه الآية (١).

وقوله (تَفَسَّحُوا) من التفسح ، وهو تفعل بمعنى التوسع ، يقال : فسح فلان لفلان في المجلس ـ من باب نفع ـ إذا أوجد له فسحة في المكان ليجلس فيه.

والمعنى : يا من آمنتم بالله حق الإيمان ، إذا قيل لكم توسعوا في مجالسكم لتسع أكبر قدر من إخوانكم فامتثلوا واستجيبوا. لأن فعلكم هذا يؤدى إلى أن يفسح الله ـ تعالى ـ لكم في رحمته ، وفي منازلكم في الجنة ، وفي كل شيء تحبونه.

وحذف ـ سبحانه ـ متعلق (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) ليشمل كل ما يرجو الناس أن يفسح الله لهم فيه من رزق ، ورحمة ، وخير دنيوى وأخروى.

والمراد بالمجالس : مجالس الخير ، كمجالس الذكر ، والجهاد ، والصلاة ، وطلب العلم ، وغير ذلك من المجالس التي يحبها الله ـ تعالى ـ.

وقراءة الجمهور : «إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس» ، بالإفراد على إرادة الجنس .. أى : قيل لكم تفسحوا في أى مجلس خير فافسحوا .. لأن هذا التوسع يؤدى إلى ازدياد المحبة والمودة بينكم. وقرأ عاصم بصيغة الجمع.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٢٤.

٢٦١

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى نوع آخر من الأدب السامي فقال : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا).

والنشوز الارتفاع عن الأرض. يقال : نشز ينشز وينشز ـ من بابى نصر وضرب ـ إذا ارتفع من مكانه.

أى : وإذا قبل لكم ـ أيها المؤمنون ـ انهضوا من أماكنكم ، للتوسعة على المقبلين عليكم ، فانهضوا ولا تتكاسلوا.

وقوله : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) جواب الأمر في قوله : (فَانْشُزُوا).

وعطف «الذين أوتوا العلم» على «الذين آمنوا» من باب عطف الخاص على العام ، على سبيل التعظيم والتنويه بقدر العلماء.

أى : وإذا قيل لكم ارتفعوا عن مواضعكم في المجالس فارتفعوا ، فإنكم إن تفعلوا ذلك ، يرفع الله ـ تعالى ـ المؤمنين الصادقين منكم درجات عظيمة في الآخرة ، ويرفع العلماء منكم درجات أعظم وأكبر.

ويرى بعضهم أن المراد بالموصولين واحد ، والعطف في الآية لتنزيل التغاير في الصفات ، منزلة التغاير في الذات.

والمعنى : يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات عظيمة لا يعلم مقدارها إلا الله ـ تعالى ـ.

ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية الكريمة بما يدل على شمول علمه فقال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

أى : والله ـ تعالى ـ مطلع اطلاعا تاما على نواياكم ، وعلى ظواهركم وبواطنكم ، فاحذروا مخالفة أمره ، واتبعوا ما أرشدكم إليه من أدب وسلوك.

هذا : ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة : أن إفساح المؤمن لأخيه المؤمن في المجلس ، من الآداب الإسلامية التي ينبغي التحلي بها ، لأن هذا الفعل بجانب رفعه للدرجات فإنه سبب للتوادد والتعاطف والتراحم.

قال القرطبي ما ملخصه : والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر ، سواء أكان مجلس حرب ، أم ذكر ، أم مجلس يوم الجمعة ... ولكن بدون أذى ،

٢٦٢

فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه».

وعن ابن عمر ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى ان يقام الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه آخر ، «ولكن تفسحوا وتوسعوا» (١).

وعلى أية حال فإن الآية الكريمة ترشد المؤمنين في كل زمان ومكان ، إلى لون من مكارم الأخلاق ، ألا وهو التوسعة في المجالس ، وتقديم أهل العلم والفضل ، وإنزالهم منازلهم التي تليق بهم في المجالس.

كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أنه يجوز القيام للقادم.

قال الإمام ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء ـ على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث : «قوموا إلى سيدكم».

ومنهم من منع من ذلك ، محتجا بحديث : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما. فليتبوأ مقعده من النار».

ومنهم من فضل فقال : يجوز القيام للقادم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقبله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكما في بنى قريظة ، فرآه مقبلا قال للمسلمين : «قوموا إلى سيدكم» ، وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه ـ والله أعلم ـ.

فأما اتخاذه ـ أى القيام ـ دينا ، فإنه من شعار الأعاجم .. وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس ، وكان الصحابة يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق عن يمينه ، وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلى لأنهما كانا ممن يكتب الوحى ، وكان يأمرهما بذلك .. (٢).

كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، فضل العلماء وسمو منزلتهم.

قال صاحب الكشاف : عن عبد الله بن مسعود أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ، ولترغبكم في العلم. وفي الحديث الشريف : «بين العالم والعابد مائة درجة» وفي حديث آخر : «فضل العالم على العابد ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم».

وعن بعض الحكماء أنه قال : ليت شعري أى شيء أدرك من فاته العلم ، وأى شيء فات من أدرك العلم.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٢٩٨.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٢٥.

٢٦٣

وعن الأحنف : كل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل يصير (١).

ثم أرشدهم ـ سبحانه ـ إلى لون ثالث من الأدب السامي ، فناداهم للمرة الثالثة بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ، فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

والمراد بقوله ـ تعالى ـ (إِذا ناجَيْتُمُ) : إذا أردتم المناجاة ، كما في قوله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).

والمراد بقوله : (بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ) أى : قبل مناجاتكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقليل ، والكلام من باب الاستعارة التمثيلية. حيث شبهت هيئة قرب الشيء من آخر. بهيئة وصول الشخص إلى من يريد الوصول إليه ، على سبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) يعود إلى تقديم الصدقة ، والجملة بمنزلة التعليل للأمر بتقديمها.

والمعنى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، إذا أردتم مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحديث معه في أمر ما على سبيل السر ، فقدموا صدقة للفقراء قبل مناجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذلك التقديم خير لكم لما فيه من الثواب ، وأكثر طهرا لنفوسكم ، فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به قبل مناجاتكم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تحزنوا فإن الله ـ تعالى ـ واسع المغفرة والرحمة.

وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات ، منها : ما جاء عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله ـ تعالى ـ أن يخفف عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما نزلت هذه الآية ، كف كثير من الناس ، ثم وسع الله عليهم بالآية التي بعدها (٢).

وقال بعض العلماء : إن هذا الأمر قد اشتمل على فوائد كثيرة :

منها : تعظيم أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإكبار شأن مناجاته ، كأنها شيء لا ينال بسهولة.

ومنها : التخفيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتقليل من المناجاة ، حتى يتفرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمهام العظمى التي كلفه ـ سبحانه ـ بها.

ومنها : تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٦.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠١.

٢٦٤

فإنهم إذا علموا أن قرب الأغنياء من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناجاتهم له ، تسبقها الصدقة ، لم يضجروا.

ومنها : عدم شغل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يكون مهما من الأمور ، فيتفرغ للرسالة. فإن الناس وقد جبلوا على الشح بالمال ، يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة.

ومنها : تمييز محب الدنيا من محب الآخرة ، فإن المال محك الدواعي (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من مظاهر لطفه بعباده فقال : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ).

الإشفاق معناه : أن يتوقع الإنسان عدم حصوله على ما يريده والمراد به هنا : الخوف.

والاستفهام مستعمل فيما يشبه اللوم والعتاب ، لتخلف بعضهم عن مناجاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب تقديم الصدقة.

و «إذ» في قوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ظرفية مفيدة للتعليل.

والمعنى : أخفتم ـ أيها المؤمنون ـ أن تقدموا قبل مناجاتكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقة فيصيبكم بسبب ذلك الفقر ، إذا ما واظبتم على ذلك.

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أى : فحين لم تفعلوا ما كلفناكم به من تقديم الصدقة قبل مناجاتكم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتاب الله ـ تعالى ـ عليكم ، بأن رخص لكم في هذه المناجاة بدون تقديم صدقة ، وخفف عنكم ما كان قد كلفكم به ـ سبحانه ـ والفاء في قوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ. وَآتُوا الزَّكاةَ ، وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) معطوفة على كلام محذوف.

أى : فحين خففنا عنكم الصدقة ـ بفضلنا ورحمتنا ـ فداوموا على إقامة الصلاة ، وعلى إعطاء الزكاة لمستحقيها ، وأطيعوا الله ورسوله ، في كل ما أمركم به أو نهاكم عنه.

واعلموا أن الله ـ تعالى ـ خبير بما تعملون ، ولا يخفى عليه شيء من أقوالكم أو أفعالكم ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها ، لأنها أسقطت وجوب تقديم الصدقة الذي أمرت به الآية السابقة.

وقد لخص الإمام الآلوسى كلام العلماء في هذه المسألة تلخيصا حسنا فقال : «واختلف في أن الأمر للندب أو للوجوب ، لكنه نسخ بقوله ـ تعالى ـ : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ...)

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٣١ للشيخ محمد على السائس.

٢٦٥

وهو وإن كان متصلا به تلاوة ، لكنه غير متصل به نزولا. وقيل نسخ بآية الزكاة. والمعول عليه الأول.

ولم يعين مقدار الصدقة ، ليجزئ القليل والكثير. أخرج الترمذي عن على بن أبى طالب قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ...).

قال لي النبي : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى في دينار» قلت : لا يطيقونه قال : «نصف دينار» قلت : لا يطيقونه ، قال : «فكم»؟ قلت : شعيرة. قال : «فإنك لزهيد».

فلما نزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا ...) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها ـ على المشهور ـ غير على ـ كرم الله وجهه.

واختلف في مدة بقاء هذا الأمر. أى : الأمر بتقديم الصدقة : فعن مقاتل : عشرة أيام.

وقال قتادة : ساعة من نهار ... (١).

قال بعض العلماء : «والآية الناسخة متأخرة في النزول ، وإن كانت تالية للآية المنسوخة في التلاوة.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن الحادثة من باب الابتلاء والامتحان ، ليظهر للناس محب الدنيا من محب الآخرة ، والله بكل شيء عليم» (٢).

وقال أحد العلماء : «ولا يشتم من قوله ـ تعالى ـ : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ...). أن الصحابة قد وقع منهم تقصير. فإن التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت هناك مناجاة لم تصحبها صدقة ، والآية قالت : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) أى : ما أمرتم به من الصدقة ، وقد يكون عدم الفعل ، لأنهم لم يناجوا ، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا.

وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم ، فلا يدل على تقصيرهم ، فقد يكون الله ـ تعالى ـ علم ـ أن كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب ، فقال الله ـ تعالى ـ لهم (أَأَشْفَقْتُمْ).

وكذلك ليس في قوله (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ما يدل على أنهم قصروا ، فإنه يحمل على أن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا ، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة ...» (٣).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٣١.

(٢) صفوت البيان ج ٢ ص ٤١٢ لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

(٣) راجع تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ١٣٣.

٢٦٦

ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن المنافقين وأشباههم ، فتصور أحوالهم ، وتبين سوء مصيرهم ، وتكشف القناع عن الأسباب التي أدت بهم إلى الخسران والهلاك فقال ـ تعالى ـ :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩)

والاستفهام في قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا ...) للتعجيب من حال هؤلاء المنافقين ، حيث اتخذوا اليهود حلفاء لهم ، ينقلون إليهم أسرار المؤمنين ...

أى : ألم ينته إلى علمك ـ أيها الرسول الكريم ـ حال أولئك المنافقين ، الذين اتخذوا اليهود أولياء ، يناصحونهم ويطلعونهم على أخباركم.

فالمراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : اليهود ، ووصفهم بذلك للتنفير منهم ، ولبيان أن المنافقين قد بلغوا النهاية في القبح والسوء ، حيث والوا وناصروا من غضب الله عليهم ، لا من رضى الله عنهم.

ثم دمغ ـ سبحانه ـ هؤلاء المنافقين برذيلة أخرى فقال : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أى : أن هؤلاء المنافقين بمسلكهم هذا ، صاروا بمنزلة الذين ليسوا منكم ـ أيها المؤمنون ـ وليسوا ـ أيضا ـ منهم ، أى : من اليهود.

٢٦٧

وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة ، فهم كما قال ـ سبحانه ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...).

وفي الحديث الشريف : «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين ـ أى المترددة بين قطيعين ـ لا تدرى أيهما تتبع».

قال الجمل : وقوله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) فيه أوجه. أحدها : أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص ، بل هم كقوله ـ تعالى ـ : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ...).

والضمير في قوله (ما هُمْ) يعود على المنافقين ، وفي قوله (مِنْهُمْ) يعود على اليهود.

الثاني : أنها حال من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم.

الثالث : أنها صفة ثانية لقوله «قوما» ، وعليه يكون الضمير في قوله :

«ما هم» يعود على اليهود ، والضمير في قوله : «منهم» يعود على المنافقين.

يعنى : أن اليهود ليسوا منكم ـ أيها المؤمنون ـ ولا من المنافقين. ومع ذلك تولاهم «المنافقون» ... إلا أن في هذا الوجه تنافرا بين الضمائر ، فإن الضمير في «ويحلفون» عائد على المنافقين ، وعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر» (١).

ثم دمغهم ـ سبحانه ـ برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

أى : أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين ، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة ، لا من دين ولا من نسب ... وفضلا عن كل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع ، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب.

فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ذم هؤلاء المنافقين. بجملة من الصفات القبيحة ، التي على رأسها تعمدهم الكذب ، وإصرارهم عليه.

قال صاحب الكشاف : «قوله : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أى : يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن المحلوف عليه كذب بحت.

فإن قلت : فما فائدة قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)؟ قلت : الكذب أن يكون لا على وفاق

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٠٧.

٢٦٨

المخبر عنه ، سواء علم المخبر أم لم يعلم .. فالمعنى أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف بالغموس ...» (١).

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت في رجل يقال له : عبد الله بن نبتل ـ وكان من المنافقين الذين يجالسون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرفعون حديثه إلى اليهود ، وفي يوم من الأيام كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في إحدى حجراته ، فقال لمن حوله : «يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبار ، وينظر بعيني شيطان» فدخل ابن نبتل ، ـ وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية ـ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟.

فحلف بالله ما فعل ذلك ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت هذه الآية (٢).

ومن الآيات الكثيرة التي صرحت بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة على سبيل التعمد قوله ـ تعالى ـ : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ. وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٣).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهم من عذاب فقال : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ...) أى : هيأ الله ـ تعالى ـ لهؤلاء المنافقين عذابا قد بلغ النهاية في الشدة والألم.

وجملة (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تعليل لنزول العذاب الشديد بهم ، أى : إن هذا العذاب الشديد المهيأ لهم ؛ سببه سوء أعمالهم في الدنيا ، واستحبابهم العمى على الهدى.

وقوله ـ سبحانه ـ (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) بيان لرذيلة رابعة أو خامسة ، لا تقل في قبحها عما سبقها من رذائل ، وقوله : (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين بمعنى الحلف.

وقوله : (جُنَّةً) من الجنّ بمعنى الستر عن الخاصة ، وهذه المادة وما اشتق منها تدور حول الستر والخفاء. وتطلق الجنة على الترس الذي يضعه المقاتل على صدره أو على ذراعيه ليتقى به الضربات من عدوه.

ومفعول (فَصَدُّوا) : محذوف للعلم به.

أى : أن هؤلاء المنافقين قد اتخذوا أيمانهم الكاذبة. وهي حلفهم للمسلمين بأنهم معهم ، وبأنهم لا يضمرون شرا لهم .. اتخذوا من كل ذلك وقاية وسترة عن المؤاخذة ، كما يتخذ المقاتل الترس وقاية له من الأذى ..

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٧.

(٢) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠٤.

(٣) سورة التوبة الآية ٤٢.

٢٦٩

(فَصَدُّوا) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى : عن دينه الحق ، وطريقه المستقيم.

(فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أى : فترتب على تسترهم خلف الأيمان الفاجرة ، وعلى صدهم غيرهم عن الحق ، أن أعد الله ـ تعالى ـ لهم عذابا يهينهم ويذلهم.

وقوله ـ سبحانه ـ : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ...) رد على ما كانوا يزعمونه من أنهم لن يعذبوا ، لأنهم أكثر أموالا وأولادا من المؤمنين.

قال القرطبي : «قال مقاتل : قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقينا إذا فو الله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة ، فنزلت» (١).

ومن المعروف أن عبد الله بن أبى بن سلول ـ زعيم المنافقين ـ ، كان من أغنياء المدينة ، وكان يوطن نفسه على أن يكون رئيسا للمدينة قبيل ـ الإسلام ، وهو القائل ـ كما حكى القرآن عنه ـ : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ...

أى : أن هؤلاء المنافقين المتفاخرين بأموالهم وأولادهم ، لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا من الغناء.

(أُولئِكَ) المنافقون هم (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) خلودا أبديا ، ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم يوم القيامة ، وأنهم سيكونون على مثل حالهم في الدنيا من الكذب والفجور .. فقال ـ تعالى ـ (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ).

أى : اذكر ـ أيها الرسول الكريم ـ يوم يبعث الله ـ تعالى ـ هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء «فيحلفون» لله ـ تعالى ـ في الآخرة بأنهم مسلمون «كما» كانوا «يحلفون لكم» في الدنيا بأنهم مسلمون.

«ويحسبون» في الآخرة ـ لغبائهم وانطماس بصائرهم «أنهم» بسبب تلك الأيمان الفاجرة «على شيء» من جلب المنفعة أو دفع المضرة.

أى يتوهمون في الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم في تخفيف شيء من العذاب عنهم.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) أى الذين بلغوا في الكذب حدا لا غاية وراءه.

فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين في الدنيا ، قد بعثوا والنفاق ما زال في قلوبهم ، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم. فهم لم يكتفوا بكذبهم على المؤمنين في الدنيا ، بل وفي الآخرة ـ أيضا ـ يحلفون لله ـ تعالى ـ بأنهم كانوا مسلمين.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٣٠٥.

٢٧٠

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٢).

ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى ليس العجب من حلفهم لكم ـ في الدنيا بأنهم مسلمون ـ فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر. ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة ـ بأنهم كانوا مسلمين في الدنيا.

والمراد وصفهم بالتوغل في نفاقهم ، ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل» (٣).

وقال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) حذفت صفة شيء ، لظهور معناها من المقام ، أى : ويحسبون أنهم على شيء نافع.

وهذا يقتضى توغلهم في النفاق ، ومرونتهم عليه ، وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم ، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف.

وفي الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله له : أولست فيما شئت؟ قال : بلى يا ربي ولكن أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر ، فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال.

وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا ، فإنهم أصحاب زرع ، فأما نحن ـ أى أهل البوادي ـ فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابى.

وفي حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يبعث كل عبد على ما مات عليه.

قال عياض : هو عام في كل حالة مات عليها المرء ، وقال السيوطي : يبعث الزمار بمزماره ، وشارب الخمر بقدحه.

__________________

(١) سورة الأنعام آية ٢٣.

(٢) سورة الأنعام الآية ٢٨.

(٣) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨.

٢٧١

قلت : «ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه ، إذ تصير العلوم على الحقيقة» (١).

ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي جعلت المنافقين ينغمسون في نفاقهم فقال : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ ..).

وقوله : (اسْتَحْوَذَ) من الحوذ : وهو أن يتبع السائق حاذيى البعير ، أى : أدبار فخذه ثم يسوقه سوقا عنيفا ، لا يستطيع البعير الفكاك منه ... والمراد به هنا : شدة الاستيلاء والغلبة ... ومنه قول السيدة عائشة في عمر ـ رضى الله عنهما ـ : «كان أحوذيا» أى : كان ضابطا للأمور ، ومستوليا عليها استيلاء تاما ...

والمعنى : إن هؤلاء المنافقين قد استولى عليهم الشيطان استيلاء تاما ، بحيث صيرهم تابعين لوساوسه وتزيينه ، فهم طوع أمره ، ورهن إشارته ، فترتب على طاعتهم له أن أنساهم طاعة الله ـ تعالى ـ ، وحسابه ، وجزاءه ، فعاشوا حياتهم يتركون ما هو خير ، ويسرعون نحو ما هو شر ...

(أُولئِكَ) الموصوفون بتلك الصفات القبيحة (حِزْبُ الشَّيْطانِ) أى : جنوده وأتباعه (أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) خسارة لا تقاربها خسارة ، لأنهم آثروا العاجل على الآجل ، والفاني على الباقي ، والضلال على الهدى ...

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة ببيان سنة من سننه في خلقه ، وهي أن الذلة والصغار لأهل الباطل ، والعزة والغلبة لأهل الحق ... الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ، فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) راجع تفسير التحرير والتنوير ، ج ٢٨ ص ٥٣ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.

٢٧٢

الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢)

أى : إن الذين يحادون دين الله ـ تعالى ـ ، ويحاربون ما جاء به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أولئك الذين يفعلون ذلك ...

«في الأذلين» أى : في عداد أذل خلق الله ـ تعالى ـ وهم المنافقون ومن لف لفهم ، من الكافرين وأهل الكتاب.

وقال ـ سبحانه ـ : (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) للإشعار بأنهم مظروفون وكائنون ، في ذروة أشد خلق الله ذلا وصغارا.

ثم بشر ـ سبحانه ـ من هم على الحق بأعظم البشارات فقال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).

أى : أثبت الله ـ تعالى ـ ذلك في اللوح المحفوظ وقضاه ، وأراد وقوعه في الوقت الذي يشاؤه.

فالمراد بالكتابة : القضاء والحكم. وعبر بالكتابة للمبالغة في تحقق الوقوع.

وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية ، أنه لما فتح الله ـ تعالى ـ للمؤمنين ما فتح من الأرض ، قال المؤمنون : إنا لنرجو أن يفتح الله لنا فارس والروم.

فقال بعض المنافقين : أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي تغلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا ، من أن تظنوا فيهم ذلك ، فنزلت.

قال الآلوسى : (كَتَبَ اللهُ) أى : أثبت في اللوح المحفوظ ، أو قضى وحكم .. وهذا التعبير جار مجرى القسم ، ولذا قال ـ سبحانه ـ : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أى : بالحجة والسيف وما يجرى مجراه ، أو بأحدهما .. (١).

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌ) على نصر رسله وأوليائه (عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب بل هو القاهر فوق عباده.

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٨ ص ٣٤.

٢٧٣

والمقصود بالآية الكريمة : تقرير سنة من سننه ـ تعالى ـ التي لا تتخلف ، وأن النصر سيكون حليفا لأوليائه ، في الوقت الذي علمه وأراده.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٢).

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة لصفات المؤمنين الصادقين فقال : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

وقوله : (يُوادُّونَ) من الموادة بمعنى حصول المودة والمحبة.

أى : لا تجد ـ أيها الرسول الكريم ـ قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإيمان ، يوالون ويحبون من حارب دين الله ـ تعالى ـ وأعرض عن هدى رسوله.

والمقصود من هذه الآية الكريمة النهى عن موالاة المنافقين وأشباههم ، وإنما جاءت بصيغة الخبر ، لأنه أقوى وآكد في التنفير عن موالاة أعداء الله ، إذ الإتيان بصيغة الخبر تشعر بأن القوم قد امتثلوا لهذا النهى ، وأن الله ـ سبحانه ـ قد أخبر عنهم بذلك.

وافتتحت الآية بقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً) لأن هذا الافتتاح يثير شوق السامع لمعرفة هؤلاء القوم.

وقوله : (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ) تصريح بوجوب ترك هذه الموادة لمن حارب الله ورسوله ، مهما كانت درجة قرابة هذا المحارب.

أى : من شأن المؤمنين الصادقين أن يبتعدوا عن موالاة أعداء الله ورسوله ، ولو كان هؤلاء الأعداء. (آباءَهُمْ) الذين أتوا إلى الحياة عن طريقهم (أَوْ أَبْناءَهُمْ) الذين هم قطعة منهم. (أَوْ إِخْوانَهُمْ) الذين تربطهم بهم رابطة الدم (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) التي ينتسبون إليها ، وذلك لأن قضية الإيمان يجب أن تقدم على كل شيء.

وقدم الآباء لأنهم أول من تجب طاعتهم ، وثنى بالأبناء لأنهم ألصق الناس بهم ، وثلث بالإخوان لأنهم الناصرون لهم ، وختم بالعشيرة لأن التناصر بها يأتى في نهاية المطاف.

__________________

(١) سورة غافر الآية ٥١.

(٢) سورة الصافات الآيات ١٧١ ـ ١٧٣.

٢٧٤

ثم أثنى ـ سبحانه ـ على هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين لم يوالوا أعداء الله مهما بلغت درجة قرابتهم فقال : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ).

أى : أولئك الذين لا يوادون أعداء الله مهما كانوا ، هم الذين كتب الله ـ تعالى ـ الإيمان في قلوبهم ، فاختلط بها واختلطت به ، فصارت قلوبهم لا تحب إلا من أحب دين الله ، ولا تبغض إلا من أبغضه.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أى : وثبتهم وقواهم بنور من عنده ـ سبحانه ـ فصاروا بسبب ذلك أشداء على الكفار ، رحماء بينهم.

(وَيُدْخِلُهُمْ) ـ سبحانه ـ يوم القيامة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) خلودا أبديا ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بسبب طاعتهم له ، (وَرَضُوا عَنْهُ) بسبب ثوابه لهم.

(أُولئِكَ) الموصوفون بذلك (حِزْبُ اللهِ) الذي يشرف من ينتسب إليه.

(أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فلاحا ونجاحا ليس بعدهما فلاح أو نجاح.

وقد ذكروا روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، منها : أنها نزلت في أبى عبيدة عامر بن الجراح ، فقد قتل أباه ـ وكان كافرا ـ في غزوة بدر.

والآية الكريمة تصدق على أبى عبيدة وغيره ممن حاربوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم ، عند ما استحب هؤلاء الآباء والأبناء الكفر على الإيمان.

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، وجوب عدم موالاة الكفار والفساق والمنافقين والمجاهرين بارتكاب المعاصي ... مهما بلغت درجة قرابتهم ، ومهما كانت منزلتهم.

ومن دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة» (١).

وبعد فهذا تفسير لسورة «المجادلة» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

الدوحة ـ قطر

مساء الجمعة غرة شعبان سنة ١٤٠٦ ه‍

١١ / ٤ / ١٩٨٦ م

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٣٣٠.

٢٧٥
٢٧٦

تفسير

سورة الحشر

٢٧٧
٢٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «الحشر» من السور المدنية الخالصة ، وقد عرفت بهذا الاسم منذ العهد النبوي ، وسماها ابن عباس بسورة «بنى النضير» فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الحشر. قال : «سورة بنى النضير» ولعل ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ سماها بهذا الاسم لحديثها المفصل عن غزوة بنى النضير.

٢ ـ وعدد آياتها أربع وعشرون آية ، وكان نزولها بعد سورة «البينة» وقبل سورة «النصر» أى : أنها تعتبر من أواخر ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سور قرآنية فهي السورة الثامنة والتسعون في ترتيب النزول.

أما ترتيبها في المصحف ، فهي السورة التاسعة والخمسون.

٣ ـ وقد افتتحت سورة «الحشر» بتنزيه الله ـ تعالى ـ عما لا يليق به ، ثم تحدثت عن غزوة «بنى النضير» ، فذكرت جانبا من نصره لعباده المؤمنين ومن خذلانه لأولئك الضالين .. قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ، فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ..).

٤ ـ ثم تحدثت السورة بعد ذلك عن تقسيم أموال بنى النضير ، وعن حكمة الله ـ تعالى ـ في إرشاده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا التقسيم ، فقال ـ سبحانه ـ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ، فَلِلَّهِ ، وَلِلرَّسُولِ ، وَلِذِي الْقُرْبى ، وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)

٥ ـ وبعد أن أثنت السورة الكريمة على المهاجرين لبلائهم وإخلاصهم وعفة نفوسهم ، كما أثنت على الأنصار لسخائهم ، وطهارة قلوبهم ... بعد كل ذلك أخذت السورة في التعجيب من حال المنافقين ، الذين تحالفوا مع اليهود ضد المؤمنين ، وذكرت جانبا من أقوالهم الكاذبة ، ووعودهم الخادعة ..

٢٧٩

فقال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ، لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

٦ ـ ثم وجهت السورة في أواخرها نداء إلى المؤمنين ، أمرتهم فيه بتقوى الله ، ونهتهم عن التشبه بالفاسقين عن أمر الله ، الذين تركوا ما أمرهم به ـ سبحانه ـ ، فكانت عاقبة أمرهم خسرا ..

وختمت بذكر جانب من أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته ، فقال ـ تعالى ـ : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

٧ ـ وبذلك نرى السورة الكريمة قد طوفت بنا مع بعض مغازي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع التشريعات الحكيمة التي شرعها الله ـ تعالى ـ في تقسيم الغنائم ، ومع صور زاهية كريمة من أخلاق المهاجرين والأنصار ، ومع صور قاتمة كريهة من أخلاق المنافقين وإخوانهم من اليهود ..

ومع جانب من أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته ، التي تليق به ـ عزوجل ـ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...

الدوحة ـ قطر

صباح الأحد : ٢ من شعبان سنة ١٤٠٦ ه‍

١٢ / ٤ / ١٩٨٦ م

د. محمد سيد طنطاوى

٢٨٠