تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٤)

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي تقواها (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي في القضاء السابق (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي سبق القول حيث قلت لإبليس ، عند قوله (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠] ، (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٤ ـ ٨٥] ، أي فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم. بل منعناه من أتباع إبليس الذين هؤلاء من جملتهم حيث صرفوا اختيارهم إلى الغيّ والفساد. ومشيئته تعالى لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها. فلما لم يختاروا الهدى ، واختاروا الضلالة ، لم يشأ إعطاءه لهم. وإنما آتاه الذين اختاروه من النفوس البرّة ، وهم المعنيّون بما سيأتي من قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) [السجدة : ١٥] الآية. فيكون مناط عدم مشيئة إعطاء الهدى ، في الحقيقة ، سوء اختيارهم ، لا تحقق القول. أفاده أبو السعود. (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي تركتم الإقرار به ، والإيمان بصدق موعوده ، وعاملتموه معاملة المنسيّ المهجور (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم جزاء نسيانكم. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي من الموبقات. والتكرير للتأكيد والتشديد. وتعيين الفعل المطويّ ، للذوق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦)

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) أي وعظوا (خَرُّوا سُجَّداً) لسرعة قبولهم لها بصفاء فطرتهم ، وذلك تواضعا لله وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن الانقياد لها ، كما يفعله

٤١

الجهلة من الكفرة الفجرة. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] ، (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) أي ترتفع وتتنحى عن الفرش ومواضع النوم. والجملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم ، وهم المتهجدون بالليل (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أي داعين له (خَوْفاً) من عذابه (وَطَمَعاً) في رحمته (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي من المال (يُنْفِقُونَ) أي في وجوه البرّ والحسنات.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٢٠)

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) أي ما ذخر وأعدّ أي لهؤلاء الذين عددت مناقبهم (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) أي مما تقرّ به عينهم من طيبة النفس والثواب والكرامة في الجنة (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من الأعمال الصالحة (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) أي كافرا جاحدا (لا يَسْتَوُونَ) أي في الآخرة بالثواب والكرامة. كما لم يستووا في الدنيا بالطاعة والعبادة. ثم فصّل مراتب الفريقين بقوله (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) أي ثوابا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) وكقوله تعالى (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢] ، كناية عن دوام عذابهم واستمراره (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك ، تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم ، وتقريعا وتوبيخا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ) أي أهل مكة (مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي عذاب الدنيا والجدب والقتل والأسر (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) يعني عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي

٤٢

يتوبون عن الكفر أي يرجعون إلى الله عند تصفية فطرتهم بشدة العذاب الأدنى ، قبل الرين بكثافة الحجاب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي جحدها وكفر بها (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) أي بالعذاب ، وإظهار المتقين عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ(٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أي لقاء الكتاب الذي هو القرآن. وعود الضمير إلى الكتاب المتقدم ، والمراد غيره على طريق الاستخدام ، أو إرادة العهد ، أو تقدير مضاف ، أي تلقي مثله ، أي فلا تكن في مرية من كونه وحيا متلقى من لدنه تعالى. والمعنى : إنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب. ولقّيناه من الوحي مثل ما لقيناك. فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله. ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك ، المقصود به نهي أمته. والتعريض بمن صدر منه مثله (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي من الضلالة (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي قادة بالخير يدعون الخلق إلى أمرنا وشرعنا (لَمَّا صَبَرُوا) أي على العمل به والاعتصام بأوامره (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) أي يصدقون أشد التصديق وأبلغه. والمعنى كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه ، هدى لأمتك ، ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية. ويؤخذ من فحوى الآية ، أن بني إسرائيل لما نبذوا الاعتصام بالكتاب ، ونبذوا الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفقدوا الاستيقان بحقيّة الإيمان ، فغيروا وبدلوا ، سلبوا ذلك المقام ، وأديل عليهم انتقاما منهم. وتلك سنته تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] ، ففي طي هذا الترغيب ، ترهيب وأي ترهيب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧)

٤٣

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ) أي يقضي (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي فيميز الحق من الباطل ، بتمييز المحق من المبطل (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي يتبين لكفار مكة (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي الماضية بعذاب الاستئصال (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي منازلهم. كمنازل قوم شعيب وهود وصالح ولوط عليهم‌السلام. فلا يرون فيها أحدا ممن كان يعمرها ويسكنها. ذهبوا كأن لم يغنوا فيها. كما قال (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فبما فعلنا بهم (لَآياتٍ) أي عبرا ومواعظ ودلائل متناظرة (أَفَلا يَسْمَعُونَ) أي أخبار من تقدم ، كيف صار أمرهم بسبب تكذيبهم الرسل ، وبغيهم الفساد في الأرض ، فيحملهم ذلك على الإيمان (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) وهي التي جزر نباتها ، أي قطع (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ) يعني العشب والثمار والبقول (أَفَلا يُبْصِرُونَ) أي فيستدلون به على كمال قدرته ووجوب انفراده بالإلهية. وهذا كآية (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) [عبس : ٢٤ ـ ٢٥] الآية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٢٩)

(وَيَقُولُونَ) أي كفار مكة (مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي الانتصار علينا. استعجال لوقوع البأس الربانيّ عليهم ، الذي وعدوا به ، واستبعاد له (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لحلول ما يغشي الأبصار ويعمي البصائر. وظهور منار الإيمان وزهوق الفريق الكافر.

قال ابن كثير : أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا والأخرى ، لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ، كما قال تعالى (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣] الآيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة ، فقد أبعد النجعة ، وأخطأ فأفحش ، فإن يوم الفتح ، قد قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من ألفين. ولو كان المراد فتح مكة ، لما قبل إسلامهم لقوله تعالى (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) [الشعراء : ١١٨] ، وكقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ)

٤٤

[سبأ : ٢٦] الآية ، وقال تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [إبراهيم : ١٥] ، وقال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩].

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي عن المشركين ، ولا تبال بهم ، وبلغ ما أنزل إليك من ربك (وَانْتَظِرْ) أي النصرة عليهم. فإن الله سينجز لك ما وعدك ، إنه لا يخلف الميعاد (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) أي ما في نفوسهم. كقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨] ، أي وسيجدون مغبة انتظارهم من وبيل عقابه تعالى وأليم عذابه بهم.

٤٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحزاب

سميت بها ، لأن قصتها معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. متضمنة لنصره بالريح والملائكة. بحيث كفى الله المؤمنين القتال. وقد ميز بهم بين المؤمنين والمنافقين. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ.

وهي مدنية. وآياتها ثلاث وسبعون آية. وروى الإمام أحمد عن أبيّ بن كعب قال : لقد رأيتها وإنها تعادل سورة البقرة. ولقد قرأنا فيها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم).

وقال ابن كثير : وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضا. والله أعلم. انتهى.

قلت : كان يصح هذا الاقتضاء ، لو كان هذا الأثر صحيحا. أما ولم يخرجه أرباب الصحاح ، فهو من الضعف بمكان.

٤٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) نودي صلوات الله عليه بوصفه دون اسمه ، تعظيما له. وباب المخاطبة يعدل فيها عن النداء بالاسم تكريما للمخاطب. ولا كذلك باب الأخبار فقد يصرح فيها بالاسم ، والتعظيم باق كآية (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) [الفتح : ٢٩] ، لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقينهم أن يسموه بذلك ويدعوه به. وأمره عليه‌السلام بالتقوى تفخيما وتعظيما للتقوى نفسها ، حيث أمر بها مثله. فإن مراتبها لا تنتهي. مع أن المقصود الدوام والثبات عليها. ولم يجعل الأمر لأمته كما في نظائره ، لأن سياق ما بعده لأمر يخصه. كقصة زيد رضي الله عنه (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي لا توافقهم على أمر. ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم. فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين. لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي فهو أحق بأن تتبع أوامره ويطاع ، لأنه العليم بعواقب الأمور وبالمصالح من المفاسد. والحكيم الذي لا يفعل شيئا ، ولا يأمر به ، إلا بداعي الحكمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤)

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي أسند أمرك

٤٧

إليه ، وكله إلى تدبيره. فكفى به حافظا موكولا إليه كل أمر (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) قال الزمخشريّ : أي ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوّة ودعوة في رجل. والمعنى : إن الله سبحانه ، كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب ، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ـ وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدا كارها ، عالما ظانّا ، موقنا شاكّا ، في حالة واحدة ـ لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل زوجا له. لأن الأم مخدومة ، مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره ، كالمملوكة. وهما حالتان متنافيتان. وأن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل ، وابنا له. لأن البنوة أصالة النسب ، وعراقة فيه ، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير. ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل. وهذا مثل ضربه الله في (زيد بن حارثة) وهو رجل من كلب سبي صغيرا. وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون. فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة. فلما تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبته له. وطلبه أبوه وعمه فخيّر. فاختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعتقه. وكانوا يقولون (زيد بن محمد) فأنزل الله هذه الآية. وقوله (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) [الأحزاب : ٤٠].

والتنكير في (رجل) وإدخال (من) الاستغراقية على (قلبين) تأكيدان لما قصد من المعنى كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال. ولا لواحد منهم ، قلبين البتة في جوفه.

وفائدة ذكر (الجوف) كالفائدة في قوله : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] ، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلّي للمدلول عليه. لأنه إذا سمع به ، صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإنكار. ومعنى (ظاهر من امرأته) قال لها : أنت عليّ كظهر أمي. وكان الظهار طلاقا عند أهل الجاهلية. فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها ، كما يتجنبون المطلقة. وهو في الإسلام يقتضي الطلاق والحرمة إلى أداء الكفارة.

قال الأزهريّ : وخصوا (الظّهر) ، لأنه محل الركوب. والمرأة تركب إذا غشيت ، فهو كناية تلويحية ، انتقل من الظهر إلى المركوب ، ومنه إلى المغشيّ. والمعنى :

٤٨

أنت محرمة عليّ لا تركبين كما لا تركب الأم. كذا في (الكشف).

وقوله تعالى (ذلِكُمْ) إشارة إلى كل ما ذكر. أي من كونه ليس لأحد قلبان ، وليست الأزواج أمهات ، ولا الأدعياء أبناء. أو إلى الأخير فقط وهو الدعوة (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) أي لا حقيقة له فلا يقتضي دعواكم ذلك ، أن يكون ابنا حقيقيا. فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون لبشر واحد قلبان (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) أي الثابت المحقق في نفس الأمر (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي سبيل الحق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) أي انسبوهم إليهم. وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أعدل وأحكم.

قال ابن كثير : هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام ، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء. فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة. وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري (١) عن ابن عمر قال : «إن زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما كنا ندعوه إلا (زيد بن محمد) حتى نزل القرآن (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ)» ، وأخرجه مسلم (٢) وغيره. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك. ولهذا قالت سهلة (٣) بنت سهيل ، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها : «يا رسول الله! إنا ندعوا سالما ابنا. وإن الله قد أنزل ما أنزل. وإنه كان يدخل عليّ. وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرضعيه تحرمي عليه ..» الحديث. ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ. وتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزينب بنت جحش ، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عزوجل(لِكَيْ لا يَكُونَ

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٣ ـ سورة الأحزاب ، ٢ ـ باب (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) ، حديث ٢٠٣٠.

(٢) أخرجه في : فضائل الصحابة ، حديث رقم ٦٢.

(٣) أخرجه مسلم في : الرضاع ، حديث رقم ٢٦.

٤٩

عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) [الأحزاب : ٣٧] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) [النساء : ٢٣] ، احترازا عن زوجة الدعيّ ، فإنه ليس من الصلب.

فأما الابن من الرضاعة ، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين (١) : «حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب».

فأما دعوة الغير ابنا ، على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهى عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن. إلا ـ الترمذيّ ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢) : قال : «قدّمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من (جمع) فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أبينيّ! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس».

قال أبو عبيدة وغيره (أبينيّ) تصغير (ابني) وهذا ظاهر الدلالة. فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.

وفي مسلم (٣) عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بنيّ». ورواه أبو داود والترمذيّ. انتهى كلام ابن كثير. وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخ ـ نظر ، لأن الناسخ لا بد أن يرفع خطابا متقدما. وأما ما لا خطاب فيه سابقا ، بل ورد حكما مبتدأ رفع البراءة الأصلية ، فلا يسمّى نسخا اصطلاحا. فاحفظه. فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.

ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، أشار إلى دعوتهم بالأخوّة والمولوية إن لم يعرفوا ، بقوله سبحانه (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ) أي فتنسبوهم إليهم (فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي أولياؤكم فيه. أي فقولوا : هذا أخي ، وهذا مولاي. ويا أخي ويا مولاي (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الشهادات ، ٧ ـ باب الشهادة على الأنساب والرضاع ، حديث رقم ١٢٨٥ عن عائشة.

وأخرجه مسلم في : الرضاع ، حديث رقم ١.

(٢) أخرجه النسائي في : المناسك ، ٢٢٢ ـ باب النهي عن رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس.

وأخرجه ابن ماجة في : المناسك ، ٦٢ ـ باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار ، حديث رقم ٣٠٢٥.

(٣) أخرجه في : الآداب حديث رقم ٣١.

٥٠

أي إثم (فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة ، مخطئين بالسهو أو النسيان. أو سبق اللسان ، لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) أي ففيه الجناح ، لأن من تعمد الباطل كان آثما (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لعفوه عن المخطئ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦)

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي في كل شيء من أمور الدين والدنيا. فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها. وأن يبذلوها دونه ، ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ، ووقاءه إذا لقحت حرب. وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ، ولا ما تصرفهم عنه. ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرفهم عنه. لأن كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين. وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار. أفاده الزمخشريّ.

وهذا كما قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] ، وفي الصحيح : والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي في وجوب تعظيمهن واحترامهن ، وتحريم نكاحهن. وفيما عدا ذلك كالأجنبيات ، ولذا قال ابن كثير : ولكن لا تجوز الخلوة بهن. ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. وإن سمى بعض العلماء بناتهن ، أخوات المؤمنين. كما هو منصوص الشافعيّ رضي الله عنه في (المختصر) وهو من باب إطلاق العبارة ، لا إثبات الحكم. وهل يقال لمعاوية وأمثاله ، خال المؤمنين ، فيه قولان : وعن الشافعيّ أنه يقال ذلك. وهل يقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو المؤمنين ، فيه قولان : فصح عن عائشة المنع ، وهو أصح الوجهين للشافعية لقوله تعالى (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس

٥١

رضي الله عنهما ، أنهما قرءا : النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن. واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود (١) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد ، أعلمكم. فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطيب بيمينه». أفاده ابن كثير.

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي ذوو القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما فرضه ، أو فيما أوحاه إلى نبيّه عليه‌السلام (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) بيان لأولي الأرحام ، أو صلة ل (أولى) (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) أي إخوانكم المؤمنين والمهاجرين غير الرحم (مَعْرُوفاً) أي من صدقة ومواساة وهدية ووصية. فإن بسط اليد في المعروف مما حث الله عباده عليه ، ويشارك فيه مع ذوي القربى وغيرهم.

تنبيه :

قال في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الآية ، من ورّث ذوي الأرحام. انتهى.

وهو استدلال متين. وليس مع المخالف ما يقاومه. بل فهم كثيرون أن المعنيّ بها ، أن القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وأنها ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة ، التي كانت بينهم. ذهابا إلى ما روي عن الزبير وابن عباس : أن المهاجريّ كان يرث الأنصاريّ ، دون قراباته وذوي رحمه. للأخوّة التي آخى بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حتى أنزل الله الآية. فرجعنا إلى مواريثنا.

إلا أن الاستدلال بذلك هو من عموم الأولوية. لا أنها خاصة بالمدعي فيها ، كما أسلفنا بيانه مرارا (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي في القرآن. أو في قضائه وحكمه وما كتبه وفرضه ، مقررا لا يعتريه تبديل ولا تغيير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧)

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

__________________

(١) أخرجه في : الطهارة ، ٤ ـ باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة ، حديث رقم ٨.

٥٢

أي أخذنا عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق والتعاون والتناصر والاتفاق وإقامة الدين وعدم التفرق فيه. كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) قال أبو السعود : وتخصيصهم بالذكر ، يعني قوله (وَمِنْكَ) إلخ مع اندراجهم في النبيين ، للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع وأساطين أولي العزم. ، وتقديم نبينا عليهم ، عليهم الصلاة والسلام ، لإبانة خطره الجليل. انتهى.

وقال في (الانتصاف) : وليس التقديم في الذكر بمقتض لذلك. ألا ترى إلى قوله :

بهاليل منهم جعفر وابن أمّه

عليّ ومنهم أحمد المتخيّر

فأخّر ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليختم به تشريفا له.

وإذا ثبت أن التفضيل ليس من لوازمه التقديم ، فيظهر ، والله أعلم في سر تقديمه عليه الصلاة والسلام ، على نوح ومن بعده في الذكر ، أنه هو المخاطب من بينهم ، والمنزل عليه هذا المتلوّ ، فكان تقديمه لذلك.

ثم لما قدم ذكره عليه الصلاة والسلام ، جرى ذكر الأنبياء ، صلوات الله عليهم بعده على ترتيب أزمنة وجودهم. والله أعلم. انتهى.

وقد صرح بأولي العزم هنا وفي آية (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣]. قال ابن كثير : فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها. (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) أي عهدا عظيم الشأن. وكيف لا؟ وقد يعترضه من الماكرين والمحادّين والمشاقّين ، ما تزول منه الجبال ، لو لا الاعتصام بالصبر عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٩)

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) أي فعل الله ذلك ليسأل يوم القيامة الأنبياء.

٥٣

ووضع الصادقين موضع ضميرهم ، للإيذان من أول الأمر ، بأنهم صادقون فيما سئلوا عنه. وإنما السؤال لحكمة تقتضيه. أي ليسأل الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عما قالوه لقومهم. أو عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم. كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة : ١٠٩] ، أو المصدقين لهم عن تصديقهم. أفاده أبو السعود (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي لمن كفر من أممهم عذابا موجعا. ونحن ـ كما قال ابن كثير ـ نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ، ونصحوا الأمم ، وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجليّ ، الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء. وإن كذبهم من كذبهم من الجهة والمعاندين والمارقين والقاسطين. فما جاءت به الرسل هو الحق ، ومن خالفهم فهو على الضلال. انتهى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي ما أنعم به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) وهم الأحزاب (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة. أو ما أتى من الريح من طيور الجوّ وجراثيمه ، المشوشة للقارّ المقلقلة للهادئ (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً) (١٣)

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي من أعلى الوادي وأسفله ، بقصد التحزب على أن يكونوا جملة واحدة على استئصال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت عن سننها ومستوى نظرها ، حيرة وشخوصا (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) أي منتهى الحلقوم لأن بالفزع تنتفخ الرئة فترتفع ، وبارتفاعها ترتفع القلوب. وذلك من شدة الغم. أو هو مثل في اضطراب القلوب. (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) أي أنواع الظنون المختلفة (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) أي اختبروا ليتميز الثابت من المتزلزل ، والمؤمن من المنافق (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) أي أزعجوا أشد

٥٤

الإزعاج من شدة الخوف والفزع ، أو من كثرة الأعداء.

فائدة :

قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (الظنونا) بإثبات ألف بعد النون ، وبعد لام الرسول ، في قوله (وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) [الأحزاب : ٦٦] ، ولام السبيل ، في قوله (فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] ، وصلا ووقفا ، موافقة للرسم. لأن هذه الثلاثة رسمت في المصحف ، كذلك. وأيضا فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة. وهاء السكت تثبت وقفا للحاجة إليها. وقد ثبتت وصلا إجراء للوصل مجرى الوقف ، فكذلك هذه الألف. وقرأ أبو عمرو وحمزة بحذفها في الحالين. لأنها لا أصل لها. وقولهم (أجريت الفواصل مجرى القوافي) غير معتدّ به. لأن القوافي يلزم الوقف عليها غالبا. والفواصل لا يلزم ذلك فيها ، فلا تشبه بها ،. والباقون بإثباتها وقفا ، وحذفها وصلا ، إجراء للفواصل مجرى القوافي ، في ثبوت ألف الإطلاق. ولأنها كهاء السكت. وهي تثبت وقفا ، وتحذف وصلا ، أفاده السمين.

ثم أشار تعالى إلى ما ظهر من المنافقين في تلك الشدة ، بقوله سبحانه (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شبهة. تنفسا بما يجدونه من الوسواس في نفوسهم ، وفرصة لانطلاق ألسنتهم ، بما تكنّ صدورهم. لضعف إيمانهم وشدة ما هم فيه من ضيق الحال ، وحصر العدوّ لهم (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أي من النصر (إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) وهي أرض المدينة (لا مُقامَ لَكُمْ) بضم الميم وفتحها ، قراءتان. أي لا إقامة لكم بعد اليوم بالمدينة أو نواحيها لغلبة الأعداء (فَارْجِعُوا) أي إلى منازلكم من المدينة هاربين. أو فارجعوا عن الإسلام كفارا ليمكنكم المقام.

فائدة :

(يثرب) من أسماء المدينة. كما في الصحيح (١) : أريت في المنام دار هجرتكم. أرض بين حرتين. فذهب وهلي أنها هجر. فإذا هي يثرب (وفي لفظ : المدينة).

قال ابن كثير : فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) عن البراء قال : قال

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المناقب ، ٢٥ ـ باب علامات النبوة في الإسلام ، حديث رقم ١٧٠٣.

(٢) أخرجه في مسنده ٤ / ٢٨٥.

٥٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سمى المدينة (يثرب) فليستغفر الله تعالى ، إنما هي طابة هي طابة. تفرد به الإمام أحمد ، وفي إسناده ضعف. انتهى : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) أي في الرجوع (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي عير حصينة يخشى عليها (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٦)

(وَلَوْ دُخِلَتْ) أي يثرب (عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) أي بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها ، وأخذ في النهب والسلب (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي الرجعة إلى الكفر (لَآتَوْها) أي لفعلوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) أي وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب. أي فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به ، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم. ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا الخوف (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) أي عن الوفاء به (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي لأنه لا يؤخر آجالهم ولا يطوّل أعمارهم. بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم غرة انتقاما منهم. ولهذا قال : (وَإِذاً) أي فررتم (لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي في الدنيا بعد فراركم. أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخرويّ. فمهما متعوا في الدنيا ، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١٩)

٥٦

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي يجيركم (مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي هلاكا أو هزيمة (أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي مجيرا ولا مغيثا يدفع عنهم الضر (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي المثبطين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهم المنافقون. قال الشهاب : و (قد) للتحقيق ، أو لتقليله باعتبار متعلقه ، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى. (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أي من ساكني المدينة (هَلُمَّ إِلَيْنا) أي أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي القتال (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا إتيانا قليلا. لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) أي بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم ، أو أضنّاء بكم ظاهرا ، إن لم يحضر خوف (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) أي في أحداقهم (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي كنظره أو كدورانه (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي بالغوا فيكم بالكلام طعنا وذما. فأحرقوكم وآذوكم. وأصل (السلق) بسط العضو ومدة للقهر. كان يدا أو لسانا. ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الاستعارة المكنية ، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلا (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) أي على فعله (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١)

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود. وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) أي مرة أخرى (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي فلا يذهبون إلى قتالهم ، ولا يستقرّون في المدينة ، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب ، وإن لحقهم عار جبنهم (يَسْئَلُونَ) أي القادمين (عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي عما جرى لكم. ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة ، لو أتى الأحزاب ، بقوله : (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي في حدوث واقعة ثانية (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) أي رياء وخوفا من التعيير (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي في أخلاقه وأفعاله قدوة حسنة ، إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب. وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب. ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة ، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة. وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي. وهو مع الضعف يصابر

٥٧

صبر المستعلي ، ويثبت ثبات المستولي. ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى ، وهو الرفيع الشأن ، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي رضوان الله ورحمته وثواب اليوم الآخر ونجاته. فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا ، فلا يجبن. إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لغاية قبحه (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) أي وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة. أي ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده. فأدرك مواطن السّعادة ومهاوي الشقاوة. وعلم أن في الثبات على قتل العدوّ ، تطهير الأرض من الفساد ، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد. مما جزاؤه سعادة الدارين ، والفوز بالحسنيين. ثم بيّن تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة ، بعد بيان ما كان من غيرهم ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣)

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) أي لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه ، في قوله (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١٤] ، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي ظهر صدقهما فيما وعدانا به (وَما زادَهُمْ) أي هذا الخطب والبلاء ، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم (إِلَّا إِيماناً) أي بالله ورسوله ومواعيدهما (وَتَسْلِيماً) أي لأمر الله ومقاديره (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) في الصبر والثبات ، والقيام بما كتب عليهم من القتال ، لإعلاء كلمة الحق ، ومن العمل بالصالحات ، ومجانبة السيئات (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي أدّى ما التزمه ووفى به ، فقاتل مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صادقا حتى قتل شهيدا.

قال الشهاب : أصل معنى (النحب) النذر. وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حربا ، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير (قضاء النحب) للموت ، لأنه لكونه لا بد منه ، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به. فيجوز أن يكون هنا حقيقة ، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.

٥٨

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) أي ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) أي ما غيروا شيئا من العهد ، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) [الأحزاب : ١٥] ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به. والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) (٢٥)

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) أي في عهودهم (بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) أي كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود ، بفضله ورحمته (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) أي نصرا لا غنيمة (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة. بل تولى كفاية ذلك وحده. ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، فلا شيء بعده (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) أي فلا يعارض قوته قوة شيء (عَزِيزاً) أي غالبا على أمره

(ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق)

قال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) : كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة ، في شوّال على أصح القولين. إذ لا خلاف أن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث ، وواعد المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع. ثم أخلفوه لأجل جدب السنة ، فرجعوا. فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي. وخالفهم موسى بن عقبة وقال : بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حزم : وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في الصحيحين (١) أنه عرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه. ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال : وصحّ أنه لم يكن

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٢٩ ـ باب غزوة الخندق ، حديث رقم ١٢٩٥ وأخرجه مسلم في : ٣٣ ـ الإمارة ، حديث رقم ٩١.

٥٩

بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين : أحدهما ـ أن ابن عمر أخبر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّه لما استصغره عن القتال ، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقا. وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها. والثاني ـ أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة. ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.

ثم قال ابن القيّم رحمه‌الله : وكان سبب غزوة الخندق ، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد ، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين ، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل ، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق ، وسلام بن مشكم ، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة. يحرّضونهم على غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويوالونهم عليه. ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم. فأجابتهم قريش. ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم. ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك. فاستجاب لهم من استجاب. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف. ووافاهم بنو سليم بمرّ الظهران. وخرجت بنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة. وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن. وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف. فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمسيرهم إليه ، استشار الصحابة ، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدوّ وبين المدينة. فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبادر إليه المسلمون. وعمل بنفسه فيه وبادروا. وهجم الكفار عليهم. وكان في حفره من آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به. وكان حفر الخندق أمام سلع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين. والخندق بينهم وبين الكفار. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين. فتحصن بالجبل من خلفه وبالخندق أمامهم.

وقال ابن إسحاق : خرج في سبعمائة. (وهذا غلط من خروجه يوم أحد).

وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة. واستخلف عليها ابن أم مكتوم وانطلق حييّ بن أخطب إلى بني قريظة. فدنا من حصنهم. فأبى كعب ابن أسد أن يفتح له. فلم يزل يكلمه حتى فتح له. فلما دخل عليه قال : لقد جئتكم بعزّ الدهر. جئتك بقريش وغطفان وأسد على قادتها ، لحرب محمد. قال : قال كعب : جئتني ، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه. فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ودخل مع المشركين في محاربته ، فسرّ بذلك المشركون. وشرط كعب على حييّ أنه ، إن لم يظفروا بمحمد ، أن يجيء

٦٠