تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

امنع (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي غير محاسب على المنّ والإمساك ، فيكون حالا من المستكن ، أو هو حال من العطاء ، أو صلة له ، وما بينهما اعتراض. والمعنى : إنه عطاء جمّ لا يكاد يمكن حصره. فقد يعبر عن الكثير ب (لا يعدّ) و (لا يحسب) ونحوه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠)

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لقربى في الدرجات ، و (وَحُسْنَ مَآبٍ) أي مرجع في الآخرة.

تنبيه :

روى الأثريّون هاهنا قصصا مطولة ومختصرة ، مؤتلفة ومختلفة. قال ابن كثير : وكلها متلقاة من أهل الكتاب ، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في سياقها منكرات. وتقوية ابن حجر لبعض منها بأنه خرجه النسائي بإسناد قوي ـ لا عبرة له. فليس المقام قاصرا على صحة السند فحسب ، لو كان ذلك في الصحيحين ، فإنّى بمروي غيرهما؟؟

وذكر الرازي أن القصص المروية هنا هي لأهل الحشو من تأويلهم ، وأما أهل التحقيق فلهم تأويلات ، وقد ساقها فانظرها.

وقال الإمام ابن جزم : معنى قوله تعالى : (فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي آتيناه من الملك ما اختبرنا به طاعته ، كما قال تعالى مصدقا لموسى عليه‌السلام في قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) إذ من الفتنة ما يهدي الله بها من يشاء وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ـ ٣] فهذه الفتنة هي الاختبار حتى يظهر المهتدي من الضال ، فهذه فتنة الله تعالى لسليمان إنما هي اختباره حتى ظهر فضله فقط. وما عدا هذا خرافات ولّدها زنادقة اليهود وأشباههم. وأما الجسد الملقى على كرسيّه فقد أصاب الله تعالى به ما أراد. نؤمن بهذا كما هو ، ونقول (صدق الله عزوجل ، كل من عند الله ربنا) ولو جاء نص صحيح في القرآن أو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتفسير هذا الجسد ما هو ، لقلنا به ، فإذا لم يأت بتفسيره ما هو نص ولا خبر صحيح. فلا يحل لأحد القول بالظن الذي هو أكذب الحديث في ذلك ، فيكون كاذبا على الله عزوجل ، إلا أننا لا نشك

٢٦١

البتّة في بطلان قول من قال إنه كان جنيا تصور بصورته ، بل نقطع على أنه كذب. والله تعالى لا يهتك ستر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الهتك ، وكذلك نبعد في قول من قال إنه كان ولدا له ، أرسله إلى السحاب ليربيه. فسليمان عليه‌السلام كان أعلم من أن يربي ابنه بغير ما طبع الله عزوجل بنية البشر عليه من اللبن والطعام. وهذه كلها خرافات موضوعة مكذوبة ، لم يصح إسنادها قط. انتهى.

وزعم القاشاني أن حكاية الجني والخاتم مع سليمان ، هي من موضوعات حكماء اليهود ، كسائر ما وضعت الحكاء في تمثيلاتهم من حكايات أبسال وسلامان.

ثم أخذ القاشاني في تأويلها ، إلا أنه حل الإشكال بإشكال أعظم منه ، عفا الله عنه ، وقال قبل : إن صحت الحكاية في مطابقتها للواقع ، كان قد ابتلي بمثل ما ابتلي به ذو النون وآدم عليهما‌السلام ، انتهى والله أعلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (٤١)

(وَاذْكُرْ) أي في باب الابتلاء وحسن عاقبة الصبر عليه (عَبْدَنا) أي الكامل في التحقق بالعبودية (أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعاه وابتهل إليه قائلا (أَنِّي مَسَّنِيَ) أي أصابني (الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ) أي مشقة (بضم النون وفتحها مع سكون الصاد ، وبفتحهما وضمهما)

(وَعَذابٍ) أي ألم شديد. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (٤٢)

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) حكاية لما أجيب به دعاؤه عليه‌السلام. أي : فاستجبنا له وقلنا : اركض برجلك. أي أعد بها وامش ، فقد برأت وشفيت من مرضك. وقوي جسمك وصح بدنك (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي ماء تغتسل به وتشرب منه. والإشارة إلى عين أو نهر أو نحوهما.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣)

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا)

٢٦٢

أي ترحما منا عليه بهذا الإضعاف والمباركة (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر والنوال بصدق الاتكال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) أي حزمة صغيرة (فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) أي في كل ما ابتليناه به (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي كثير الرجوع إلى الله تعالى ، بالإنابة والابتهال والعبادة.

تنبيهات :

الأول ـ كان أيوب عليه‌السلام نبيا غنيا من أرباب العقار والماشية ، وكان أميرا في قومه. وكانت أملاكه ومنزله في الجنوب الشرقيّ من البحر الميت ، بين بلاد أدوم وصحراء العربية. وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة. وكان زمنه بعد زمن إبراهيم وقبل زمن موسى عليهم‌السلام. هذا ما حققه بعض الباحثين. والله أعلم.

الثاني ـ يذكر كثير من المفسرين هاهنا مرويات وقصصا إسرائيلية في ابتلائه عليه‌السلام. ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله. وهو ما أشار له التنزيل الكريم ؛ لأنه المتيقن. وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله. وأنه صبر على ذلك صبرا صار يضرب به المثل لثباته وسعة صدره وشجاعته. وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة.

الثالث ـ قال الزمخشري : فإن قلت : لم نسب المسّ إلى الشيطان ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ، ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه. وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟

قلت : لما كانت وسوسته إليه ، وطاعته له فيما وسوس ، سببا فيما مسّه الله به من النصب والعذاب ـ نسبه إليه. وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. انتهى.

٢٦٣

الرابع ـ دلّ قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً) الآية ، على تقدم يمين منه عليه‌السلام. وقد رووا هنا آثارا في المحلوف عليه ، لم يصح منها شيء ، فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه. إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه ، صلوات الله عليه. وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث ، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الحرج. ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية ، إيقافا للقارئ عليه ، قال السيوطي في (الإكليل) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم ؛ أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلد. فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثا فيضربها به. فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة. قال سعيد بن جبير : وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب. ثم أخرج أيضا عن عطاء قال : هي للناس عامة. وعن مجاهد قال : كانت لأيوب خاصة قال الكيا الهراسي : ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر ، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه ، وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب.

قال : وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته ، وأن يحلف ولا يستثني. انتهى.

واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال. إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث. واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى. فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح ؛ أن رجلا قال له : إني أردت أن لا أكسي امرأتي ذراعا حتى تقف بعرفة. فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة. فقال : إنما عنيت يوم عرفة. فقال عطاء : وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة ، ما نوى أن يضربها بالضغث ، إنما أمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به. قال عطاء : إنما القرآن عبر. انتهى كلام (الإكليل).

وقد رد الإمام ابن القيّم في كتابه (إغاثة اللهفان) الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة. وعبارته : وأما قوله تعالى لأيوب عليه‌السلام (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول : إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه ، هذا قول أصحاب أبي حنيفة ومالك وأصحاب أحمد. وقال الشافعيّ : إن علم أنها مسته كلها ، برّ في يمينه. وإن علم أنها لم تمسه ، لم يبر. وإن شك لم يحنث. ولو كان هذا موجبا لبرّ الحالف ، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب ، بأن يجمع له مائة سوط

٢٦٤

أو ثمانين ويضربه بها ضربة واحدة. وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد ، في المريض عليه الحدّ ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد. واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن سعد بن عبادة (١) قال : كان بين أبنائنا إنسان مخدج ضعيف ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها. وكان مسلما. فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : اضربوه حدّه ، قالوا : يا رسول الله! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه. فقال : فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة ، وخلوا سبيله.

وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق. فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه ، تلتمس له الدواء بما تقدر عليه ، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال ، أخبرت أيوب عليه‌السلام بذلك ، فقال : إنه الشيطان. ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ، ولم يكن في شرعهم كفارة. فإنه لو كان في شرعهم كفارة ، لعدل إلى التفكير ، ولم يحتج إلى ضربها. فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود. وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه ، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة. وامرأة أيوب كانت معذورة ، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان ، وإنما قصدت الإحسان. فلم تكن تستحق العقوبة ، فأفتى الله نبيه أيوب عليه‌السلام أن يعاملها معاملة المعذور ، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة ، التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه‌السلام ، لنص السنة ، في شأن الضعيف الذي زنى. فلا يتعدى بهما عن محلهما.

فإن قيل : فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة ، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما ، إنه يبرّ بجمع ذلك في ضربها بمائة شمراخ. قيل : قد جعل الله له مخرجا بالكفارة ، ويجب عليه أن يكفر يمينه ، ويقضي الله بالبر في يمينه هاهنا ، ولا يحل له أن يبرّ فيها ، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة. ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا.

فإن قيل : فإذا كان الضرب واجبا كالحد ، هل تقولون ينفعه ذلك؟ قيل : إما أن يكون العذر مرجوّ الزوال كالحر والبرد الشديد ، والمرض اليسير ، فهذا ينتظر زواله.

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ٢٢٢.

٢٦٥

ثم يحدّ الحد الواجب. كما روى مسلم (١) في صحيحه عن عليّ رضي الله عنه ، أن أمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زنت. فأمرني أن أجلدها. فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس. فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : أحسنت. اتركها حتى تماثل. انتهى كلام ابن القيم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) (٤٥)

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي ذوي القوة في العبادة والأفكار في معرفة الله تعالى. قال القاشانيّ : أي العمل والعلم ، لنسبة الأول إلى الأيدي والثاني إلى البصر والنظر ، وهم أرباب الكمالات العملية والنظرية.

قال الشهاب : (الأيدي) مجاز عن القوة ، مجاز مرسل. و (الأبصار) جمع بصر بمعنى بصيرة. وهو مجاز أيضا ، لكنه مشهور فيه. وإذا أريد ب (الأيدي) الأعمال ، فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب. و (الأبصار) بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من المعارف كالأول أيضا. وعلى الوجهين ، فيه تعريض بأن من ليس كذلك ، كان لا جارحة له ولا بصر. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦)

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) أي صفيناهم عن شوب صفات النفوس وكدورة حظوظا. وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي الباقية والمقر الأصليّ ، أي استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس ، وإعراضهم عن معدن الرجس ، مستشرفين لأنوارنا ، لا التفات لهم إلى الدنيا وظلماتها أصلا.

لطيفة :

قال السمين : قرأ نافع وهشام : (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) بالإضافة. وفيها أوجه : أحدها ـ أن يكون أضاف خالصة إلى ذكرى للبيان. لأن الخاصة قد تكون ذكرى وغير ذكرى. كما قوله : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) [النمل : ٧] ، لأن الشهاب يكون قبسا وغيره. الثاني ـ أن الخالصة مصدر بمعنى إخلاص ، فيكون مصدرا مضافا لمفعوله ، والفاعل

__________________

(١) أخرجه في : الحدود ، حديث رقم ٣٤.

٢٦٦

محذوف ، أي بأن أخلصوا ذكر الدار وتناسوا عند ذكرها ذكر الدنيا. وقد جاء المصدر على (فاعلة) كالعاقبة. أو يكون المعنى بأن أخلصنا نحن لهم ذكرى الدار.

وقرأ الباقون بالتنوين وعدم الإضافة. وفيها أوجه : أحدها ـ أنها مصدر بمعنى الإخلاص ، فيكون (ذكرى) منصوبا به ، وأن يكون بمعنى الخلوص ، فيكون (ذكرى) مرفوعا به ، والمصدر يعمل منوّنا كما يعمل مضافا. أو يكون (خالصة) اسم فاعل على بابه. و (ذكرى) بدل أو بيان لها أو منصوب بإضمار (أعني) أو هو مرفوع على إضمار مبتدأ ، و (الدار) يجوز أن يكون مفعولا به ب (ذكرى) وأن يكون ظرفا إما على الاتساع وإما على إسقاط الخافض. و (خالصة) إن كانت صفة ، فهي صفة لمحذوف. أي بسبب خصلة خالصة. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨)

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ) أي المختارين من أبناء جنسهم لقربنا (الْأَخْيارِ) أي المنزهين عن شوائب الشرور. على أنه جمع (خير) مقابل (شر) الذي هو أفعل تفضيل. أو هو جمع (خيّر) المشدد أو المخفف منه (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي بالنبوة والرسالة ، للهداية والإصلاح. و (اليسع) خليفة إلياس وكان خادمه. ويقال له بالعبرانية (اليشاع) كما يسمى إلياس فيها (إيليا) ، وفي التوراة نبأ طويل عن اليسع ونبوته ومعجزاته صلوات الله عليه. وتقدم علم أنباء هؤلاء الأنبياء عليهم‌السلام ، في سورة الأنبياء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (٥٠)

(هذا ذِكْرٌ) أي شرف لهم. و (الذكر) يتجوز به عنه. قال الشهاب : لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس ، فتجوّز به عنه بعلاقة اللزوم. فيكون المعنى : أي في ذكر قصصهم وتنويه الله بهم شرف لهم. واختار الزمخشريّ أن المعنى : هذا نوع من الذكر وهو القرآن. أي فالتنوين للتنويع. والمراد بالذكر القرآن. فذكره إنما هو للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر.

قال الزمخشريّ : لما أجرى ذكر الأنبياء وأتمه ، وهو باب من أبواب التنزيل ،

٢٦٧

ونوع من أنواعه ، وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر ، وهو ذكر الجنة وأهلها ، قال (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة وخلود (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي متى جاءوها يرونها في انتظارهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) (٥١)

(مُتَّكِئِينَ فِيها) أي على الأرائك (يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي مهما طلبوا وجدوا ، وأحضر كما أرادوا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) (٥٢)

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أو يمنعن طرف الأزواج أن تنظر للغير ، لشدة الحسن. وهو أبلغ. أو بمعنى حور الطرف جمع (أحور) والثوب المقصور يشبه بالحواريّ في بياضه ونصاعته (أَتْرابٌ) أي متساوية في السن والرتب ، لا عجوز بينهن. جمع (ترب) بكسر فسكون. وهو من يولد معه في وقت واحد. كأنهما وقعا على التراب في زمان واحد. ف (ترب) فعل بمعنى مفاعل ومتارب. وكمثل بمعنى ، مماثل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٥٣)

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي لوقت جزائه. واللام تعليلية. فإن ما وعده لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة. وهي تظهر بالحساب وتقع بعده. فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد عليه. فالنسبة لليوم والحساب مجازية. ولو جعلت اللام بمعنى (بعد) كما في (كتب لخمس) سلم مما ذكر. أفاده الشهاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤)

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي انقطاع.

٢٦٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) (٥٦)

(هذا) أي باب في وصف الجنة وأهلها. فهو مبتدأ خبر مقدر. أو الأمر هذا. فهو خبر لمحذوف. أو مفعول لمحذوف (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي الفراش. مستعار من فراش النائم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) (٥٧)

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) وهو ما يغسق من صديد أهل النار. أي يسيل وجملة (فَلْيَذُوقُوهُ) معترضة بين المبتدأ وخبره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) (٥٨)

(وَآخَرُ) أي ومذوق ، أو عذاب آخر (مِنْ شَكْلِهِ) أي هذا المذوق أو العذاب في الشدة والهوان (أَزْواجٌ) أي أجناس وأصناف. ثم بيّن ما يقال للرؤساء الطاغين ، إذا أدخلوا النار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) (٥٩)

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي هذا جمع من أتباعكم وأشباهكم ، أهل طبائع السوء والرذائل المختلفة ، مقتحم معكم في مضايق المذلة ومداخل الهوان. والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها. وقوله (لا مَرْحَباً بِهِمْ) دعاء من الرؤساء على أتباعهم. أو صفة ل (فوج). أو حال. أي مقولا فيهم (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي ما أتوا ربهم رحبا وسعة ، لشدة عذابهم وكونهم في الضيق والضنك ، واستيحاش بعضهم من بعض ، لقبح المناظر وسوء المخابر (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي داخلوها بأعمالهم مثلنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) (٦٠)

(قالُوا) أي الأتباع للرؤساء (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي بل أنتم أحق بما

٢٦٩

قلتم ، لتضاعف عذابكم بضلالكم وإضلالكم (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي قدمتم العذاب بإضلالنا وإغوائنا.

قال القاشانيّ : وهذه المقاولات قد تكون بلسان المقال وقد تكون بلسان الحال. أي لأن الوضع لا يختص بالحقيقة. إلا أن الأظهر الأول. ويؤيده قوله تعالى بعد (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)(فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي المستقر جهنم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) (٦١)

(قالُوا) أي الأتباع أيضا (رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) كقوله تعالى : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) [الأحزاب : ٦٨].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) (٦٢)

(وَقالُوا) أي الطاغون أو الأتباع (ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) (٦٣)

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ بلفظ الإخبار على أنه صفة ل (رجالا). وبهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم. وقوله تعالى : (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) أي مالت عنهم كبرا ، وتنحّت عنهم أنفة. والمعنى أيّ الفعلين فعلنا بهم ، السخرية منهم أم الإزراء بهم ، على معنى إنكار الأمرين على أنفسهم ، تحسرا وندامة على ما فعلوا ، وعلى ما حاق بهم وحدهم من سوء العذاب ، وقيل (أم) بمعنى (بل) أي بل زاغت عنهم أبصارنا لخفاء مكانهم علينا في النار. كأنهم يسلّون أنفسهم بالمحال ، يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم. فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عزوجل (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ، قالُوا نَعَمْ ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٤] ، إلى قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) [الأعراف : ٤٩] ، الآية. وقيل : (أم)

٢٧٠

بمعنى (بل) أيضا ، أي بل زاغت عنهم أبصارنا لكونهم في دار أخرى وهي دار النعيم. وقرئ (سخريّا) بضم السين وكسرها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

(إِنَّ ذلِكَ) أي الذي حكي عنهم (لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي لواقع وثابت. و (تَخاصُمُ) بدل من (حقّ) أو خبر لمحذوف. وقرئ بالنصب على البدل من (ذلِكَ) قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم سمي ذلك تخاصما؟ قلت : شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب ، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك. ولأن قول الرؤساء (لا مَرْحَباً بِهِمْ) وقول أتباعهم (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من باب الخصومة. فسمي التقاول كله تخاصما ، لأجل اشتماله على ذلك. انتهى.

فكتب الناصر عليه : هذا يحقق ما تقدم من أن قوله : (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) من قول المتكبرين الكفار. وقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) من قول الأتباع. فالخصومة على هذا التأويل حصلت من الجهتين. فيتحقق التخاصم. خلافا لمن قال إن الأول من كلام خزنة جهنم والثاني من كلام الأتباع. فإنه على هذا التقدير ، إنما تكون الخصومة من أحد الفريقين. فالتفسير الأول أمكن وأثبت. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٦٥)

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي رسول مخوّف (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) أي بلا ولد ولا شريك (الْقَهَّارُ) أي الغالب على خلقه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٦٦)

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي من الخلق والعجائب (الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغلب إذا عاقب العصاة (الْغَفَّارُ) أي لمن تاب وأناب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) (٦٧)

(قُلْ هُوَ) أي الذي أنذرتكم به من التوحيد ومن البعثة به (نَبَأٌ عَظِيمٌ).

٢٧١

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٦٨)

(أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) لتمادي غفلتكم. فإن العاقل لا يعرض عن مثله. كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة. أما على التوحيد ، فما مرّ من آثار قدرته وصنعه البديع. أما على بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، فقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩)

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي فإن إخباره عن محاورة الملائكة وما جرى بينهم ، على ما ورد في الكتب المتقدمة ، من غير سماع ومطالعة كتاب ، لا يتصور إلا بالوحي.

قال القاشانيّ : وفرق بين اختصام الملأ الأعلى واختصام أهل النار بقوله في تخاصم أهل النار (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) وفي اختصام الملأ الأعلى (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) لأن ذلك حقيقيّ لا ينتهي إلى الوفاق أبدا. وهذا عارضيّ نشأ من عدم اطلاعهم على كمال آدم عليه‌السلام ، الذي هو فوق كمالاتهم. وانتهى إلى الوفاق عند قولهم (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ، وقوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ٣٣] ، على ما ذكر في البقرة عند تأويل هذه القصة. انتهى.

وبالجملة ، فالاختصام المذكور في الآية ، هو المشار إليه في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، قال الرازيّ : وهو أحسن ما قيل فيه.

ثم قال : ولو قيل : كيف جازت مخاصمة الملائكة معه تعالى؟ قلنا : لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب. وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة. والمشابهة علة لجواز المجاز. فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه. انتهى.

وملخصه : أن (يَخْتَصِمُونَ) استعارة تبعية ل (يتقاولون). وقيل : معنى الآية نفي علم الغيب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردّ اقتراحهم عليه أن يخبرهم بما يحدث في الملأ الأعلى من التخاصم ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ)

٢٧٢

[الأنعام : ٥٠] ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الملك : ٢٦] ، ولذا قال بعد :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٧٠)

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) وقرئ إنما بالكسر على الحكاية.

تنبيهات :

الأول ـ قال الرازيّ : واعلم أن قوله (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ترغيب في النظر والاستدلال ، ومنع من التقليد. لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية ، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق ، يفوز بأعظم أبواب السعادة ، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل ، وقع في أعظم أبواب الشقاوة. فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية. وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام ، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.

الثاني ـ قدمنا أن أكثر المفسرين على تأويل الاختصام بالتقاول في شأن آدم عليه‌السلام مع الملائكة. وقيل : مخاصمتهم مناظرتهم بينهم في استنباط العلم. كما تجري المناظرة بين أهل العلم في الأرض. حكاه الكرمانيّ في (عجائبه).

وذهب ابن كثير إلى أنه عنى به ما كان في شأن آدم عليه‌السلام ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه. وإن قوله تعالى بعد (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠] ، تفسير له. ولم أره مأثورا عن أحد. بل المأثور عن ابن عباس وغيره ما تقدم ، من أنه في شأن آدم والملائكة. وهذا كله على إثبات علم التخاصم بالوحي. بتقدير (ما كان لي من علم لو لا الوحي) ولا تنس القول الآخر. والنظم الكريم يصدق على الكل بلا تناف. والله أعلم.

وقد جاء ذكر تخاصم الملأ الأعلى في حديث أخرجه الإمام أحمد (١) عن معاذ رضي الله عنه قال : احتبس علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح. حتى كدنا أن نتراءى قرن الشمس. فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا. فثوّب بالصلاة. فصلى وتجوز في صلاته. فلما سلّم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كما أنتم. ثم أقبل إلينا فقال : إني قمت من الليل

__________________

(١) أخرجه في المسند ٥ / ٢٤٣.

٢٧٣

فصليت ما قدّر لي. فنعست في صلاتي حتى استيقظت. فإذا أنا بربي عزوجل في أحسن صورة. فقال : يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري ، يا رب! أعادها ثلاثا. فرأيته وضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله بين صدري : فتجلى لي كل شيء وعرفت. فقال : يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : في الكفارات. قال : وما الكفارات؟ قلت : نقل الأقدام إلي الجماعات ، والجلوس في المساجد بعد الصلوات ، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال : وما الدرجات؟ قلت : إطعام الطعام ، ولين الكلام ، والصلاة والناس نيام. قال : سل. قلت : اللهم! إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني. وإذا أردت فتنة بقوم ، فتوفني غير مفتون. وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها حق فادرسوها وتعلموها.

قال ابن كثير : هذا حديث المنام المشهور. ومن جعله يقظة فقد غلط. وهو في السنن من طرق. وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذيّ (١) من حديث جهضم بن عبد الله اليماميّ به ، وقال : حسن صحيح.

ثم قال ابن كثير : وليس هذا الاختصام المذكور في القرآن. فإن هذا قد فسّر. وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا. انتهى. يعني قوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢)

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي فخرّوا له ساجدين تعظيما وتكريما ، إذا عدلت خلقته وأحييته بنفخ الروح فيه. (فإذا) بدل من (إذا) الأولى مفصل لما أجمل قبلها من الاختصام ، وهذا ما رآه الزمخشريّ وتابعه ابن كثير. وقدّر أبو البقاء (اذكر) وهو الأظهر عندي ، ويعضده القول الثاني في الآية المتقدمة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤)

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٨ ـ سورة ص ، ٤ ـ حدثنا محمد بن بشار.

٢٧٤

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي تعظم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي باستكباره أمر الله تعالى ، واستكباره عن طاعته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٧٥)

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أي بنفسي من غير توسط ، كأب وأم (أَسْتَكْبَرْتَ) أي : أعرض لك التكبر والاستنكاف (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي عليه زائدا في المرتبة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧٦)

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) يعني أن الروح الحيوانيّ الناري أشرف من المادة الكثيفة البدنية. وعاب عنه ما تضمنته من الحكمة الإلهية ، واللطيفة الربانية حتى تمسك بالقياس ، وعصى الله تعالى في السجود.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٧٧)

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة أو السماء (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مطرود من الرحمة ومحل الكرامة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٧٨)

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) قال القاشانيّ : الرجيم واللعين من بعد عن الحضرة القدسية ، المنزهة عن المواد الرجسية ، بالانغماس في الغواشي الطبيعية ، والاحتجاب بالكوائن الهيولانية. ولهذا وقّت اللعن بيوم الدين. وحدد نهايته به ، لأن وقت البعث والجزاء هو زمان تجرد الروح عن البدن ومواده. وحينئذ لا يبقى تسلطه على الإنسان. انتهى.

٢٧٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣)

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو القيامة الكبرى (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وهم الذين أخلصهم الله لنفسه من أهل العناية عن ثوب الكدورات النفسية وحجب الأنانية ، وصفي فطرتهم عن خلط ظلمة النشأة البشرية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (٨٤)

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) جملة معترضة ، للتأكيد ، أي ولا أقول إلا الحق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٨٦)

(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) أي تبعك في التعزز والاستكبار والإباء عن الحق والمحاجة في الباطل (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على القرآن أو الوحي. قال القاشانيّ : أي لا غرض لي في ذلك. فإن أقوال الكامل المحقق بالحق مقصودة بالذات ، غير معلولة بالغرض (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) قال الزمخشريّ : أي المتصنعين الذين يتحلون بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي ، حتى أنتحل النبوة وأدّعي القرآن.

تنبيه :

في الآية ذم التكليف. وقد روى الشيخان (١) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يا أيها الناس! من علم شيئا فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم. فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم. فإن الله عزوجل قال لنبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في : التفسير ، ٣٨ ـ صورة ص ، ٣ ـ باب (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، حديث ٥٧٠.

وأخرجه مسلم في : صفات المنافقين وأحكامهم ، حديث رقم ٣٩ و ٤٠.

٢٧٦

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي عظة وتذكير لهم. وهذا كقوله (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] ، وقوله سبحانه (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] ، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي عند ظهور الإسلام وانتشاره ، ودخول الناس فيه أفواجا أفواجا ، من صحة خبره ، وإنه الحق والصدق. وهذا من أجلّ معجزات القرآن ، لأنه من الغيوب التي ظهر مصداقها ، إذ كان زمن الإخبار به زمن قلة من المؤمنين ، وخوف من المشركين. فلم يمض ردح من الزمن حتى أبدل الله قلتهم كثرة ، وضعفهم قوّة ، وخوفهم أمنا ، وكمونهم ظهورا وانتشارا. فصدق الله العظيم ، وصدق نبيّه الكريم ، وحقت كلمة الله على الكافرين ، والحمد لله رب العالمين.

٢٧٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّمر

سميت بها لاشتمالها على الآية التي ذكر فيها زمر الفريقين ، المشيرة إلى تفصيل الجزاء وإلزام الحجة وبطلان المعذرة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية ، واستثنى بعضهم ثلاث آيات (قُلْ يا عِبادِيَ) [الزمر : ٥٣] ، إلخ ذهابا إلى أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة على ما روي. قيل ، ورابعة وهي (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] ، حكاه ابن الجوزيّ ، وتقدم الكلام في مثل هذا. وآياتها خمس وسبعون.

أخرج النسائيّ (١) عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر. ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.

__________________

(١) أخرجه في : الصيام ، ٣٤ ـ باب الاختلاف على محمد بن إبراهيم فيه.

٢٧٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا تنزيل. أو تنزيله كائن من الله. وقرئ (تَنْزِيلُ) بالنصب على إضمار فعل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢)

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي عن شعوب الشرك والرياء ، بإمحاض التوحيد وتصفية السر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣)

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة ، لانفراده بالألوهية (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي بالمحبة. للتقرب والتوسل بهم إلى الله تعالى (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي يقولون ذلك احتجاجا على ضلالهم (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي عند حشر معبوداتهم معهم ، فيقرن كلا منهم مع من يتولاه ، من عابد ومعبود. ويدخل المبطل النار مع المبطلين ، كما يدخل المحق الجنة مع المحقين (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) لا يوصله إلى النجاة ومقرّ الأبرار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)

٢٧٩

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي نزهه عن المماثلة والمجانسة. واصطفاء الولد. لكون الوحدة لازمة لذاته وقهره بوحدانيته لغيره. فلا تماثل في الوجود ، فكيف في الوجوب؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي بإذهاب أحدهما وتغشية الآخر مكانه. كأنما ألبسه ولفّ عليه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو منتهى دوره ، أو منقطع حركته (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها) أي من نفسها ونوعها (زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي ذكرا وأنثى. من الإبل والبقر والضأن والمعز (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أى متقلبين في أطوار الخلقة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) يعني البطن والرحم والمشيمة (ذلِكُمُ) أي الخالق لصوركم. المكوّر أي المصرف بقدرته ، المسخر بسلطانه ، المنشي للكثرة من نفس واحدة بحكمته ، المنزل للنعم بنعمته (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي عن عبادته إلي عبادة غيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي عن إيمانكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لأنه سبب هلاكهم (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي وإن تستعملوا ما أنعم به عليكم فيما خلق له ، يقبله منكم ، لأنه دينه ، ويثيبكم ثوابا حسنا لطاعتكم.

٢٨٠