تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

تنبيه :

في الإكليل : استدل بقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) على أنه تعالى لا يرضى الكفر والمعاصي. وعلى أن الرضا غير الإرادة. وهو أحد قولي أهل السنة. والقول الثاني وحكاه الآمدي عن الجمهور ، أن الرضا والإرادة سيان ، وحملوا (العباد) في الآية على المخلصين. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل حاملة حمل أخرى ، أي ما عليها من الذنوب ، أو لا تؤخذ نفس بذنب أخرى ، بل كلّ مأخوذ بذنبه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي بعد الموت (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما في القلوب من الخير والشر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ(٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩)

(وَإِذا مَسَ) أي أصاب (الْإِنْسانَ ضُرٌّ) أي شدة وبلاء (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي ابتهل إليه برفع الشدة والبلاء عنه ، مقبلا إليه بالدعاء والتضرع (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ) أي أعطاه (نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل النعمة. وقيل : نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه. ف (ما) بمعنى (من) أقيمت مقامها لقصد الدعاء الوصفيّ ، ولما في (ما) من الإبهام والتفخيم ، (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي يصد الناس عن دينه وطاعته (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أي عش به (قَلِيلاً) أي يسيرا في الدنيا (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) أي متعبدا في ساعاته يقطعها في السجود والقيام (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي عقابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي جنته ورضوانه ، أي : أهذا أفضل أم ذاك الكافر الجاحد الناسي لربه؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أي توحيده وأمره ونهيه في الثواب والطاعة (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يستويان.

تنبيهات :

الأول ـ في الآية استحباب قيام الليل. قال ابن عباس : آناء الليل : جوف الليل. وقال الحسن : ساعاته أوله ووسطه وآخره.

٢٨١

الثاني ـ في قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ردّ على من ذمّ العبادة خوفا من النار أو رجاء الجنة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حولها ندندن) (١).

الثالث ـ في قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي) الآية مدح العلم ورفعة قدره. وذمّ الجهل ونقصه. وقد يستدل به على أن الجاهل لا يكافئ العالمة ، كما أنه لا يكافئ بنت العالم ، أفاده في (الإكليل).

وفي الآية أيضا إشعار بأن الذين يعلمون هم العاملون بعلمهم ، إذ عبر عنهم أولا ب (القانت) ثم نفى المساواة بينه وبين غيره ، ليكون تأكيدا له ، وتصريحا بأن غير العالم كأن ليس بعالم.

قال القاشاني : وإنما كان المطيع هو العالم ، لأن العلم هو الذي رسخ في القلب وتأصل بعروقه في النفس ، بحيث لا يمكن صاحبه مخالفته ، بل سيط باللحم والدم ، فظهر أثره في الأعضاء لا ينفك شيء منها عن مقتضاه ، وأما المرتسم في حيز التخيل ، بحيث يمكن ذهول النفس عنه وعن مقتضاه ، فليس بعلم. إنما هو أمر تصوريّ وتخيل عارض لا يلبث ، بل يزول سريعا. لا يغذو القلب ولا يسمن ولا يغني من جوع (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) أي يتعظ بهذا الذكر (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي العقول الصافية عن قشر التخيل والوهم ، لتحققها بالعلم الراسخ الذي يتأثر به الظاهر. وأما المشوبة بالوهم فلا تتذكر ولا تتحقق بهذا العلم ولا تعيه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠)

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا ، مثوبة حسنة في الآخرة ، لا يكتنه كنهها (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي بلاده كثيرة. فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه ، فليهاجر إلى حيث يتمكن منه. قال الشهاب : وجه إفادة هذا التركيب هذه المعاني الكثيرة. أوضحه شراح الكشاف بأن قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) مستأنف لتعليل الأمر بالتقوى ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود في : الصلاة ، ١٢٤ ـ باب في تخفيف الصلاة ، حديث رقم ٧٩٢ ، عن بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٨٢

ولذا قيد بالظرف. لأن الدنيا مزرعة الآخرة ، فينبغي أن يلقى في حرثها بذر المثوبات. وعقب بهذه الجملة لئلا يعتذر عن التفريط بعدم مساعدة المكان ، ويتعلل بعدم مفارقة الأوطان ، فكان حثا على اغتنام فرصة الأعمار ، وترك ما يعوق من حب الديار ، والهجرة فيما اتسع من الأقطار ، كما قيل :

إذا كان أصلي من تراب فكلّها

بلادي وكلّ العالمين أقاربي

انتهى. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) أي على مشاق الطاعة من احتمال البلاء. ومهاجرة الأوطان لها (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي بغير مكيال. تمثيل للكثرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (١١)

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي عن الالتفات إلى غيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (١٢)

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت بذلك ، لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة. لأن إخلاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتمّ من إخلاص كل مخلص. وعلى هذا ، فالأولية في الشرف والرتبة. أو لأنه أول من أسلم وجهه لله من أمته. فالأولية زمانية على ظاهرها. ويجوز أن تجعل اللام مزيدة. كما في (أردت لأن أفعل) فيكون أمرا بالتقدم في الإخلاص.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤)

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) أي بترك الإخلاص له (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ) أي أخصه بالعبادة (مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) عن شوب الغير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١٥)

٢٨٣

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أهلكوا أنفسهم بالضلال ، وأهليهم بالإضلال. أو خسروا أنفسهم بالهلاك وأهليهم به أيضا. إن كانوا مثلهم ، أو بفقدهم فقدا لا اجتماع بعده ، إن كانوا من أهل الجنة (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦)

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي أطباق من النار (ذلِكَ) أي العذاب المتوعد به (يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي بعدم التعرض لما يوجب السخط. قال الزمخشري : وهذه عظة من الله تعالى ، ونصيحة بالغة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١٩)

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) يعني الأوثان. و (فعلوت) للمبالغة (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) أي بالثواب (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي إيثارا للأفضل واهتماما بالأكمل. قال الزمخشري : أراد أن يكونوا نقادا في الدين ، يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل. ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك ، وأقواها عند السبر ، وأبينها دليلا وأمارة. وأن لا تكون في مذهبك كما قال القائل :

ولا تكن مثل عير قيد فانقادا

يريد المقلد. انتهى ويدخل تحته أيضا إيثار الأفضل من كل نوعين ، اعتراضا. كالواجب مع الندب. والعفو مع القصاص. والإخفاء مع الإبداء في الصدقة ، وهكذا (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) أي أفأنت تنقذه منها؟ أي : لا يمكن إنقاذه أصلا.

٢٨٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١)

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ) أي يتم جفافه (فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي فتاتا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير ، لا عن تعطيل وإهمال. ويجوز أن يكون مثلا للدنيا كقوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [يونس : ٢٤] ، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٤٥] ، أفاده الزمخشري.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي وسعه لتسليم الوجه إليه وحده ، ولقبول دينه وشرعه بلطفه وعنايته وإمداده سبحانه (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على بينة ومعرفة. واهتداء إلى الحق. واستعارة النور للهدى والعرفان ، شهيرة ، كاستعارة الظلمة لضد ذلك. وخبر (من) محذوف دلّ عليه قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي من قبول ذكره لشدة ميلها إلى اللذات البدنية ، وإعراضها عن الكمالات القدسية ، أو من أجل ذكره. ف (من) للتعليل والسببية .. وفيها معنى الابتداء لنشئها عنه. قال الشهاب : إذا (قيل قسا منه) فالمراد أنه سبب لقسوة نشأت منه. وإذا قيل (قسا عنه) فالمعنى أن قسوته جعلته متباعدا عن قبوله. وبهما ورد استعماله. وقد قرئ ب (عن) في الشواذ. لكن الأول أبلغ. لأن قسوة القلب تقتضي عدم ذكر الله. وهو معناه إذا تعدى ب (عن). وذكره تعالى مما يلين القلوب. فكونه سببا للقسوة ، يدل على شدة الكفر الذي جعل سبب الرقة ، سببا لقسوته (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي عن طريق الحق.

٢٨٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣)

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا. في الصحة والإحكام والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق ووجوه الإعجاز (مَثانِيَ) جمع (مثنّى) بمعنى مردّد ومكرر ، لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تمثيل لإفراط خشيتهم. أو حقيقة لتأثرهم عند سماع آياته وحكمه ووعيده ، بما يرد على قلوبهم منها (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي بالانقياد والطاعة والسكينة لأمره (ذلِكَ) أي الكتاب ، أو الكائن من الخشية والرجاء (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي من زاغ قلبه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٢٤)

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي فمن يجعل وجهه وقاية لشدة العذاب ذلك اليوم ، أي قائما مقامها في أنه أول ما يمسه المؤلم له. لأن ما يتقى به هو اليدان ، وهما مغلولتان. ولو لم تغلا كان يدفع بهما عن الوجه ، لأنه أعز أعضائه. وقل : الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به ، لأن الوجه لا يتقى به. وخبر (من) محذوف كنظائره. أي : كمن أمن العذاب (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي : وباله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) (٢٥)

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يحتسبون أن الشر يأتيهم منها.

٢٨٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٧)

(فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي الذل والصغار (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بيّنا لهم في هذا القرآن ، الذي هو دليل في نفسه من إعجازه ، من كل مثل يحتاج إليه. من يستدل بنظره على حقيته وأحقيته (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي به ما يهمهم من أمور دينهم ، وما يصلحهم من شؤون سعادتهم. فيفسروا المعقول بالمحسوس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨)

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي العذاب والخزي يوم الجزاء ، بالاتقاء من الأفعال القبيحة والأخلاق الرديئة. والاعتقادات الفاسدة. ومن أجلّ تلك الأمثال. ما مثل به ليتقي من أعظم المخوفات ، وهو الشرك ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩)

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي للمشرك والموحد رجلين مملوكين (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي سيئوا الأخلاق ، يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المختلفة ، لا يزال متحيرا متوزع القلب ، لا يدري أيهم يرضي بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجته (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ) أي : خلص ملكه له ، لا يتجه إلا إليه جهته ، ولا يسير إلا لخدمته ، فهمّه واحد. وقلبه مجتمع (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) أي : صفة وحالا. أي في حسن الحال وراحة البال؟ كلا. وهكذا حال من يثبت آلهة شتى. لا يزال متحيرا خائفا لا يدري أيهم يعبد ، وعلى ربوبية أيهم يعتمد. وحال من لم يعبد إلا إلها واحدا. فهمّه واحد. ومقصده واحد. ناعم البال. خافض العيش والحال. والقصد أن توحيد المعبود فيه توحيد الوجهة ودرء الفرقة. كما قال تعالى حكاية عن يوسف

٢٨٧

عليه‌السلام (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال أبو السعود : تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض ، وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى. وأنها نعمة جليلة موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته. أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل ، أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء. صنع جميل ولطف تام منه عزوجل ، مستوجب لحمده وعبادته. وقوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان أن أكثر الناس ، وهم المشركون ، لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره ، فيبقون في ورطة الشرك والضلال ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠)

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وقرئ (مائت ومائتون) وقيل : كانوا يتربصون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موته. أي إنكم جميعا بصدد الموت.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١)

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي مالك أموركم (تَخْتَصِمُونَ) أي فتحتج أنت عليهم بأنك بلّغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات. واجتهدت في الدعوة إلى الحق حق الاجتهاد ، وهم قد لجّوا في المكابرة والعناد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٣٢)

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) أي افترى عليه بنسبة الشريك والولد (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي بالأمر الذي هو عين الحق (إِذْ جاءَهُ) أي حضر عنده دليله وبرهانه ، فرفضه ورده على قائله ، أي لا أحد من المتخاصمين أظلم ممن حاله ذلك. لأنه أظلم من كل ظالم (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه ، وسارعوا إلى التكذيب بالحق.

٢٨٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣)

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) أي جاء بدليل التوحيد وآمن به فلم يعتد بشبهة تقابله ، يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تبعه (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي الموصوفون بالتقوى التي هي أجل الرغائب. ولذا كان جزاؤهم أن يقيهم الله ما يكرهون ، كما قال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣٧)

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين أحسنوا أعمالهم وأصلحوها (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) أي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعصمه من كل سوء ، ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني الأوثان التي عبدوها من دونه تعالى. وهذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالت له قريش : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا ، ويصيبك مضرتها لعيبك إياها. كما قال قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي من غفل عن كفايته تعالى وعصمته له عليه الصلاة والسلام. وخوفه بما لا ينفع ولا يضر أصلا : (فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ) أي يصرفه عن مقصده ، أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه. إذ لا راد لفضله ولا معقب لحكمه (أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي ينتقم من أعدائه لأوليائه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣٨)

٢٨٩

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لما تقرر في الفطر والعقول من استيقان ذلك. ولوضوح الدليل عليه (قُلْ) أي تبكيتا لهم (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) أي نفعه وخيره. كلا. فإنها لا تضر ولا تنفع (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي في جميع أمورهم ، لا على غيره. لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤٠)

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي حالتكم التي أنتم عليها ، من العداوة ومناصبة الحق (إِنِّي عامِلٌ) أي على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغة في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة ، بنصر الله عزوجل وتأييده. ولذلك توعدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين ، بقوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم. وقد أخزاهم الله يوم بدر (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٤١)

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) أي لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه وافتقارهم إلى بيان مراشدهم (فَمَنِ اهْتَدى) أي بدلائله (فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي لتجبرهم على الهدى. إذ ما عليك إلا البلاغ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر : ٩٤].

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢)

٢٩٠

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي مفارقتها لأبدانها ، بإبطال تصرفها فيها بالكلية (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى التي لم يحن موتها في منامها ، بإبطال تصرفها بالحواس الظاهرة (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فلا يردها إلى بدنها إلى يوم القيامة (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وهو نوم آخر أو موت (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من التوفي على الوجهين (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في كيفية تعلقها بالأبدان ، وتوفيها عنها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥)

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي هو مالكها لا يستطيع أحد شفاعة ما ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضى ، والشفيع مأذونا له ، وكلاهما مفقود ها هنا (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) أي دون آلهتهم (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي فرادى ، أو مع ذكر الله تعالى : (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون بذلك. لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم حق الله تعالى. ولقد بولغ في الأمرين حيث بيّن الغاية فيهما. فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه. والاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٤٦)

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي التجئ إلى الله بالدعاء بأسمائه الحسنى ، وقل : أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم. والمقصود بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم. وأن جدّه وسعيه معلوم مشكور عنده تعالى. وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى. والدعاء بأسمائه الحسنى ، والاستعانة بالتضرّع والابتهال على دفع كيد العدوّ.

٢٩١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٤٨)

(وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي نزل بهم جزاؤه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥٠)

(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي مني بوجوه الكسب والتحصيل (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي ابتلاء له ، أيشكر تلك النعمة ، فيصرفها فيما خلقت له ، فيسعد. أو يكفرها فيشقى (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كما قال قارون (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فما دفع عنهم ما كسبوه بذلك العلم من متاع الدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي بأن الكل منه سبحانه ، ومن آياته في ذلك ـ كما قال المهايمي ـ أنه تعالى قوي بذاته ، له تقويه من يشاء وتضعيف من يشاء. ومنها أنه فيّاض بذاته لا

٢٩٢

يتوقف فيضه على الشفعاء. ومنها أنه فاعل بذاته لا يتوقف فعله على سبب وواسطة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦)

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والكفر (لا تَقْنَطُوا) قرئ بفتح النون وكسرها (مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) أي لا تيأسوا من مغفرته بفعل سبب يمحو أثر الإسراف (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي لمن تاب وآمن. فإن الإسلام يجبّ ما قبله (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) أي توبوا إليه (وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي استسلموا وانقادوا له. وذلك بعبادته وحده وطاعته وحده ، بفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ) أي قصرت (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في جانب أمره ونهيه ، إذ لم أتبع أحسن ما أنزل (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين بمن يتبع الأحسن. و (أَنْ تَقُولَ) مفعول له بتقدير مضاف. أي : فتداركوا كراهة أن تقول. أو تعليل لفعل يدل عليه ما قبله. أي أنذركم وآمركم باتباع أحسن القول كراهة. وتفصيله في شروح (الكشاف).

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧)

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي) أي للإسلام (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي : من هذا الكفر. أي تقول هذا النوع من التحسر ولتعلل بما لا يجدي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨)

(أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا (فَأَكُونَ مِنَ

٢٩٣

الْمُحْسِنِينَ) أي في الإيمان والعمل الصالح. ثم ردّ تعالى على تلك النفس بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠)

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) أي بنسبة ما يستحيل عليه من الولد والشريك ، وتجويز ما يمتنع عليه من رضاه بما هم عليه ، وأمره لهم ، وغير ذلك من إفكهم (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي لما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم. فالسواد حقيقي. أو لما لحقهم من الكآبة ، ويظهر عليهم من آثار الهيئات الظلمانية ورسوخ الرذائل النفسانية في ذواتهم. فالسواد مجاز بالاستعارة(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي عن الإيمان والهدى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢)

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي بفوزهم وفلاحهم لإتيانهم بأسباب الفوز ، من الاعتقادات المبنية على الدلائل والأعمال الصالحة (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي يتولى التصرف فيه كيف شاء.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦)

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو وحده يملك أمرها وخزائن غيوبها

٢٩٤

وأبواب خيرها وبركتها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) أي خصّه بالعبادة (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي الصارفين ما أنعم به عليهم ، إلى ما خلق لأجله.

قيل : كان الظاهر (لو أشركت) لأن (أن) تقتضي احتمال الوقوع. وهو هنا مقطوع بعدمه. فالجواب : أن هذا الكلام وارد على سبيل الفرض. والمحالات يصح فرضها لأغراض. والمراد به تهييج الرسل وإقناط الكفرة والإيذان بغاية قبح الإشراك. وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يمكن أن يباشره ، فكيف بمن عداه؟ وإطلاق الإحباط هنا يستدل به من ذهب إلى أن الردة مبطلة للعمل مطلقا ، كالحنفية. وغيرهم يرى الإحباط مقيدا بالاستمرار عليه إلى الموت ، وأنه هو المحبط في الحقيقة. وأنه إنما ترك التقييد به اعتمادا على التصريح به في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) [البقرة : ٢١٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧)

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي ما قدروا عظمته تعالى حق عظمته ، ولا عرفوا جلاله حق معرفته. حيث جعلوا له شركاء ووصفوه بما لا يليق بشئونه الجليلة. مع أن عظمته وكمال قدرته تتحير فيها الأوهام. فإن تبديل الأرض غير الأرض. وطي السموات كطي السجل ، أهون شيء عليه ، وفي (القبضة واليمين) مذهبان معروفان. مذهب السلف ، وهو إثبات ذلك من غير تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا إزالة للفظ الكريم عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل. يجرون على الظاهر ويكلون علمه إليه تعالى ويقرون بأن تأويله (أي ما يؤول إليه من حقيقته) لا يعلمه إلا الله. وهكذا قولهم في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ، ووردت بها الأخبار الصحاح.

المذهب الثاني ـ القول بأن ذلك من المجاز المعروف نظيره في كلام العرب. وإن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. ثم من ذاهب إلى أن المجاز في المفردات ،

٢٩٥

استعيرت (القبضة) للملك أو التصرف و (اليمين) للقدرة ، وذاهب إلى أنه في المركب ، بتمثيل حال عظمته ونفاذ قدرته ، بحال من يكون له قبضة فيها الأرض ، ويمين بها تطوى السموات ، وهذا ما عول عليه الزمخشري وبسطه أحسن بسط.

ثم أشار إلى أن من عظيم قدرته تعالى ، أنه جعل النفخ في الصور سبب موت الكل تارة ، وحياتهم أخرى ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨)

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ) أي هلك (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) أي من خواص الملائكة ، أو من الشهداء. روي ذلك عن بعض التابعين. وقال قتادة : قد استثنى الله ، والله أعلم ، إلى ما صار ثنيته. وهذا هو الوجه. إذ لا يصار إلى بيان المبهمات إلا بقاطع (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أي وقوف ، يقلبون أبصارهم دهشا وحيرة. أو ينتظرون ما يحل بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩)

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي لأنه يتجلى لهم سبحانه لإقامة العدل والجزاء (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي عرض كتب الأعمال على أهلها ليقرأ كل واحد عمله في صحيفته. أو (الْكِتابُ) مجاز عن الحساب وما يترتب عليه من الجزاء ، ووضعه ترشيح له. والمراد بوضعه الشروع فيه ، أو هو تمثيل. وجوه نقلها الشهاب (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) أي الذين يشهدون للأمم وعليهم ، من الحفظة والأخيار المطلعين على أحوالهم. أي أحضروا للشهادة لهم أو عليهم لاطّلاعهم على أحوالهم. وجوّز إرادة المستشهدين في سبيل الله تعالى ، تنويها بشأنهم ، وترفيعا لقدرهم ، بضمهم إلى النبيين في الموقف. ولا يبعد (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي فتوزن أعمالهم بميزان العدل ، ويوفّون جزاء أعمالهم ، لا ينقص منها شيء ، كما قال :

٢٩٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣)

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض ، على تفاوت ضلالهم وغيهم ، رعاية للعدل في التقديم والتأخير (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي ليدخلوها ، ولكل فريق باب (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) أي الموكلون بتعذيبهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم تعرفون صدقهم وأمانتهم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي وقتكم أو يوم القيامة ، حرصا على صلاحكم وهدايتكم (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ) أي وجبت (كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي حكمه عليهم بالشقاوة ، وأنهم من أهل النار (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ) أي مساق إعزاز وتشريف ، للإسراع بهم إلى دار الكرامة (زُمَراً) أي متفاوتين حسب تفاوت مراتبهم في الفضل (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) أي من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) قال السمين : في جواب (إِذا) ثلاثة أوجه :

أحدها ـ قوله : (وَفُتِحَتْ) والواو زائدة. وهو رأي الكوفيين والأخفش. وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها ، لأن أبواب السجون مغلقة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ، ثم تغلق عليه. فناسب ذلك عدم الواو فيها. بخلاف أبواب السرور والفرح ، فإنها تفتح انتظارا لمن يدخلها.

والثاني ـ أن الجواب قوله : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) على زيادة الواو أيضا.

الثالث ـ أن الجواب محذوف. قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعد خالدين :

٢٩٧

أي لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط ما عطف عليه. والتقدير : اطمأنوا. وقدره المبرد : سعدوا. وعلى هذين الوجهين ، فتكون الجملة من قوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) في محل نصب على الحال ، والواو واو الحال. أي جاءوها مفتحة أبوابها. كما صرح بمفتحة حالا من (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) وهو قول المبرد والفارسي وجماعة. وزعم بعضهم أن هذه الواو تسمى واو الثمانية. لأن أبواب الجنة ثمانية. وردّه في (المغني) بأنه لو كان لواو الثمانية حقيقة ، لم تكن الآية منها. إذ ليس فيها ذكر عدد البتة ، وإنما فيها ذكر الأبواب ، وهي جمع لا يدل على عدد خاص. ثم الواو ليست داخلة عليه ، بل على جملة هو فيها. انتهى.

أي وهي ـ على قول مثبتها ـ الداخلة على لفظ الثمانية على سرد العدد. ذهابا إلى أن بعض العرب إذا عدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية. إيذانا بأن السبعة عدد تامّ ، وأن ما بعده عدد مستأنف ، فأشبهت واو الاستئناف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥)

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي بإيصالنا إلى ما وعدنا وأنبأنا عنه على ألسنة رسله (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) أي أرض الآخرة. شبه نيلهم بأعمالهم لها ، بإرثهم من آبائهم. فكأن الأعمال آباؤهم. كما قيل :

وأبي الإسلام لا أب لي سواه

وكما يقال (الصدق يورث النجاة) (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي يتبوأ كل من جنته الواسعة ، أيّ مكان أراده (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي الذين عملوا بما علموا (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي الملائكة السماوية حافين في جنة الفردوس حول عرش الرحمن ، محدقين به. وتقدم في تفسير آية (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] في الأعراف ، كلام في حملة العرش ، فتذكره (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الخلائق (بِالْحَقِ) أي بالعدل (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي على ما قضى بينهم بالحق ، وأنزل كلا منزلته التي هي حقه. والقائل :

٢٩٨

إما الحق جل جلاله ، أو الملائكة الحافون ، أو المؤمنون ممن قضي بينهم. أو الكل ، فله الحمد عزوجل.

عن قتادة قال : افتتح الله أول الخلق ب (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وختم بالحمد فقال (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٢٩٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة غافر

وسميت (المؤمن) قال المهايميّ : سميت به لاشتمالها على كلمات مؤمن آل فرعون ، المتضمنة دلائل النبوة ورفع الشبه عنها ، والمواعظ والنصائح وسلامته عن أعدائه. وعما أخذوا به ، وهي من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة غافر وسورة الطّول. وهي مكية وآيها ثمانون وخمس.

٣٠٠