تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار. وإليه المرجع في ذلك كله ، وإلى عبد الله بن سلام أيضا. وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهبه بن منبه ومحمد بن إسحاق في (السيرة) كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ، ترجمة تبع هذا ، بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل. فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه. ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الثيران والأصنام ، فعاقبهم الله تعالى ، كما ذكره في سورة سبأ. وتبع هذا هو تبع الأوسط. واسمه أسعد أبو كرب. ولم يكن في حمير أطول مدة منه. وتوفي قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو من سبعمائة سنة وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة ، أن هذه البلدة مهاجر نبيّ في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا ، واستودعه عند أهل المدينة. فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف. وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري ، الذي نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في داره ، وهو :

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النّسم

فلو مدّ عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

وجاهدت بالسيف أعداءه

وفرّجت عن صدره كلّ غم

ثم ساق ابن كثير آثارا في النهي عن سبه : وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروي في شأنه ، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح ، إلا أن ذلك مما يتحمل التوسع فيه ، لكونه نبأ محضا مجردا عن حكم شرعي. نعم ، لا يشك أن قريشا كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ، ما فيه أكبر موعظة لها ، ولذا طوى نبأه ، إحالة على ما تعرفه من أمره ، وما تسمر به من شأنه. وما القصد إلا العظة والاعتبار ، لا قصّ ذلك خبرا من الأخبار ، وسمرا من الأسمار ، كما هو السر في أمثال نبئه. وبالله التوفيق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي الاستدلال على خالقهما ، لعبادته وطاعته (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي حكمة خلقها ، فيعرضون عنه.

٤٢١

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢)

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي فصل الله بين الخلائق وقضاءه عليهم ، ليجزيهم بما أسلفوا من خير أو شرّ (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي عليه إثابة أو تحمل عقاب (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي بأن وفّقه للإيمان والعمل الصالح (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب في انتقامه من أعدائه (الرَّحِيمُ) أي بأوليائه وأهل طاعته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) (٤٣)

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) أي التي هي أخبث شجرة معروفة في البادية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(طَعامُ الْأَثِيمِ) (٤٤)

(طَعامُ الْأَثِيمِ) أي الفاجر الكثير الآثام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (٤٦)

(كَالْمُهْلِ) وهو دردي الزيت ، أي عكره في قعره (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) أي يضطرب فيها من شدة الحرارة فيقلق القلوب ويحرقها. وقوله (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي الماء الحارّ الذي انتهى غليانه. وقوله : (فِي الْبُطُونِ) كقوله (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٦ ـ ٧] ، وهذه الآية كآية الصافات (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) [الصافات : ٦٢ ـ ٦٧] ،

القول في تأويل قوله تعالى :

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) (٤٧)

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) أي ادفعوه بعنف (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي وسطها ومعظمها.

٤٢٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) (٤٨)

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي لتستوفي جميع أجزاء بدنه نصيبها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩)

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي يقال له ذلك ، على سبيل الهزء والتهكم ، فيتم له ، مع العذاب الأول ، وهو الحسىّ ، العذاب العقلي.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) (٥٠)

(إِنَّ هذا) أي العذاب أو الأمر (ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي تشكّون ، مع ظهور دلائله. أو تتمارون وتتلاحقون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٥١)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي يأمن صاحبه من الخوف والفزغ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ) (٥٣)

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) أي ما رقّ من الحرير وكثف (مُتَقابِلِينَ) أي في مجالسهم أو أماكنهم ، لحسن ترتيب الغرف ، وتصفيف منازلهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) (٥٤)

(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرنّاهم بما فيه قرة أعينهم واستئناس قلوبهم ، لوصولهم بمحبوبهم ، وحصولهم على كمال مرادهم.

٤٢٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) (٥٥)

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ، آمنين من كل ضرر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) قال ابن جرير : أي لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة ، الموت بعد الموتة الأولى ، التي ذاقوها في الدنيا.

وكان بعض أهل العربية يوجه (إِلَّا) هنا بمعنى (سوى) أي سوى الموتة الأولى. انتهى.

يعني أن الاستثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) أي سهلناه حيث أنزلناه بلغتك ، وهو فذلكة للسورة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتعظون بعبره وعظاته وحججه ، فينيبوا إلى طاعة ربهم ويذعنوا للحق (فَارْتَقِبْ) أي ما يحل بهم من زهوق باطلهم (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي منتظرون عند أنفسهم غلبتك. أو هو قولهم (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) وهذا وعد له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصرة والفتح عليهم ، وتسلية ووعيد لهم. وقد أنجز الله وعده ، كما قال سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، وقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١].

٤٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الجاثية

سميت بها لتضمن آيها بيان سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة ، لأجل اجتماع الأمم محاكمة إلى الله تعالى ، وفصله بينهم يوم القيامة ، وهي من المطالب الشريفة في القرآن. وتسمى (سورة الشريعة) لتضمن آيها وجه نسخ هذه الشريعة ، سائر الشرائع ، وفضلها عليها. وهو أيضا من المطالب العزيزة فيه. قاله المهايمي.

وهي مكية. واستثنى بعضهم منها آية (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية : ١٤] ، فإنه قيل إنها مدنية ، نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما سيأتي ، وآياتها سبع وثلاثون آية.

٤٢٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٢)

(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) قال المهايمي : فعزّته تقتضي إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم ، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها. وأنواع السعادات ، وحدة النظر ، والحكمة تقتضي محو الشبه وإزالة النقائص وإحراق الشقاوة وتمهيد الفكر. وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته ، لتكميل القوة النظرية والعملية ، ليتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية ، من الإيمان والإيقان والعقل. وذلك بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه. فمنها آيات الأجسام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٥)

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أي مطر. سمي رزقا لأنه سببه (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي عن الله ، ما وعظهم به ودعاهم إليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) (٦)

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) أي الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي بعد آياته ودلائله الباهرة. وتقديم اسم الله للمبالغة ؛ والتعظيم. كما في قولك (أعجبني زيد وكرمه).

٤٢٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (٧)

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ) أي كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل (أَثِيمٍ) أي بترك الاستدلال ، لا سيما إذا لم يترك عن غفلة ، بل مع كونه ،

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢)

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ) أي لا بالإخبار عنها بالغيب ، بل (تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ) أي على إنكارها (مُسْتَكْبِراً) أي عن قبولها ، لا يتأثر بها أصلا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) استهانة بها (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي من بعد انقضاء آجالهم ، عذابها (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا) أي من الأموال والأولاد (شَيْئاً) أي من عذاب الله (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) يعني آلهتهم التي عبدوها ، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر واتخذوهم نصراء في الدنيا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا) أي القرآن (هُدىً) أي بيان ودليل على الحق ، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة ، وجهاد وهداية وغوص فيه ، لاستخراج لآليه ، وصيد منه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نعمة هذا التسخير ، فتعبدوه وحده ، وتصرفوا ما أنعم به عليكم ، إلى ما خلقتم له.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣)

٤٢٧

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في آيات الله وحججه وأدلته ، فيعتبرون بها ويتفكرون. قال المهايميّ : منها أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده. وجعل البعض سبب البعض ، دليل حكمته ، وجعل الكل مسخرا للإنسان ، دليل كمال جوده. فمن أنكر هذه الآيات ولم يشكر هذه النعم ، استوجب أعظم وجوه الانتقام.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤)

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي صدّقوا بالله واتبعوك (يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من علمهم. ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش. وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد شتمه رجل من غفار ، فهمّ أن يبطش به ، فتكون الآية مدنية. قيل : يؤيده ما أورد على كونها مكية. من أن من أسلم بها كانوا مقهورين فلا يمكنهم الانتصار منهم. والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح. وأجيب بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله بقلبه ، ليثاب عليه. مع أن دوام عجز كل أحد منهم غير معلوم. فالصواب أن الآية مكية كالسورة. ومعنى نزولها في عمر ـ إن صح ـ صدقها على قضيته ، والاستشهاد بها لسماحه. كما حققنا المراد من النزول ، غير ما مرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥)

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) أي لكونه افتكّها من العذاب (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي أساء عمله بمعصية ربه ، فعلى نفسه جنى ، لأنه أوبقها بذلك (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تصيرون. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦)

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي التوراة (وَالْحُكْمَ) أي الفهم بالكتاب

٤٢٨

والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب (وَالنُّبُوَّةَ) أي جعلنا منهم أنبياء ورسلا إلى الخلق (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني المنّ والسلوى (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) أي عالمي أهل زمانهم ، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم. كما قال تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٧)

(وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، تأبى الاختلاف ، ولكن أبوا إلا الاختلاف (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي ظلما وتعديا منهم ، لطلب الحظوظ العاجلة (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي بالمؤاخذة والمجازاة. قال ابن كثير : وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ، أن تسلك مسلكهم. وأن تقصد منهجهم. ولهذا قال جلّ وعلا :

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨)

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين ، الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا (فَاتَّبِعْها) أي تلك الشريعة الثابتة بدلائل والحجج (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يعني المشركين وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (١٩)

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن يدفعوا عنك من غضبه وعقابه شيئا ما ، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أعوان وأنصار على المؤمنين وأهل الطاعة. أو في التحزّب والتقوى. ولكن ماذا تغنيهم ولايتهم لبعضهم وقد تخلت عناية الله ونصرته عنهم؟ (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي من اتقاه بعبادته وحده ، وخشيته بكفايته من بغى عليه ، وكاده بسوء. والأظهر تفسير الآية بآية (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا

٤٢٩

يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١)

(هذا) أي القرآن (بَصائِرُ لِلنَّاسِ) أي يبصرون به الحق من الباطل ، ويعرفون به سبيل الرشاد. قال الزمخشري : جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع ، بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحا وحياة ، أي فهو تشبيه بليغ (وَهُدىً) أي من الضلالة (وَرَحْمَةٌ) أي من العذاب لمن آمن وأيقن (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي يطلبون اليقين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اكتسبوا سيئات الأعمال (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي من عدم التفاوت. قال الزمخشري : والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محيا. وأن يستووا مماتا. لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على ركوب المعاصي. ومماتا حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والوصول إلى ثواب الله ورضوانه ، وأولئك على اليأس من رحمة الله والوصول إلى هول ما أعدّ لهم. انتهى.

وزد عليه : حيث عاش هؤلاء على الهدى والعلم بالله وسنن الرشاد وطمأنينة القلب ، وأولئك على الضلال والجهل والعبث بالفساد واضطراب القلب وضيق الصدر ، بعدم معرفة المخرج المشار إليه بآية (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٢)

(وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالحكمة والصواب. قال ابن جرير : أي للعدل والحق ، لا لما حسب هؤلاء الجاهلون بالله ، من التسوية بين الأبرار

٤٣٠

والفجار. لأنه خلاف العدل والإنصاف (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) قال الزمخشري : معطوف على (بالحق) لأن فيه معنى التعليل. أو على معلل محذوف ، تقديره ، خلق الله السموات والأرض ليدل بها على قدرته ، ولتجزى كل نفس (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي في جزاء أعمالهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ) (٢٤)

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى ، فكأنه يعبده. فجعله إلها تشبيه بليغ أو استعارة. قال القاشاني : الإله المعبود ، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلها. إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته ، فهو إلهه لو كان حجرا! (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ). أي عالما بحاله ، من زوال استعداده ، وانقلاب وجهه ، إلى الجهة السفلية. أو مع كون ذلك العابد للهوى عالما بعلم ما يجب عليه فعله في الدين ، على تقدير أن يكون (عَلى عِلْمٍ) حالا من الضمير المفعول في (أَضَلَّهُ اللهُ) لا من الفاعل. وحينئذ يكون الإخلال لمخالفته علمه بالعمل ، وتخلف القدم عن النظر. لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى. أو على علم منه غير نافع. لكونه من باب الفضول. ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) أي بالطرد عن باب الهدى ، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه ، لمكان الرّين وغلظ الحجاب ، فلا يعقل منه شيئا (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي عن رؤية حجج الله وآياته (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) أي فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة أو الحال غير حياتنا هذه التي نحن فيها (نَمُوتُ) أي بالموت البدني الطبيعي ، (وَنَحْيا) أي الحياة الجسمانية الحسية ، لا موت ولا حياة غيرهما (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي مرّ الليالي والأيام وطول العمر (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي : وما يقولون ذلك عن علم ولكن عن ظن وتخمين. و (بِذلِكَ) إشارة إلى نسبة الحوادث إلى الدهر ، أو إلى إنكار البعث ، أو إلى كليهما قال الزمخشري : كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس. وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح

٤٣١

بأمر الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة وحدث إلى الدهر والزمان. وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر) أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر. انتهى.

وقال الخطابي ، معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر. فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور ، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها. وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور. وكان عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا (بؤسا للدهر) و (تبا للدهر). انتهى.

قال ابن كثير : وقد غلط ابن حزم. ومن نحا نحوه من الظاهرية ، في عدّهم الدهر من الأسماء الحسنى. أخذا من هذا الحديث. انتهى.

تنبيه :

في هذه الآية ردّ على الدهرية. وهم المعطلة بأن متمسكهم ظن وتخمين. لم يشم رائحة اليقين. وما هذا سبيله ، فباب القبول في وجهه مسدود (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦].

قال الشهرستاني في معطلة العرب : فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة ، وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا). إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي. وقصر الحياة والموت على تركبها وتحللها.

فالجامع هو الطبع ، والمهلك هو الدهر (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). فاستدل عليهم بضرورات فكرية ، وآيات فطرية ، في كم آية وسورة فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ، ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٨٤]. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥]. وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) [النحل : ٤٨] ، وقال (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩]. وقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١]. فثبتت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق. فإنه قادر على الكمال. إبداء وإعادة. انتهى.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥ / ٢٢٩. عن أبي قتادة.

٤٣٢

ولي في الرد على الدهريين ، وهم الماديون والطبيعيون ، كتاب وسمته (دلائل التوحيد) فليرجع إليه المريد ، فليس وراءه ، بحمده تعالى ، من مزيد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي بأن الله باعث خلقه يوم القيامة (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي انشروهم أحياء ، حتى نصدق ببعثنا أحياء بعد مماتنا ، وإطلاق الحجة على ذلك ، إما حقيقة بناء على زعمهم ، فإنهم ساقوه مساق الحجة ، أو هو مجاز تهكما بهم. كأنه قيل : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة. بمعنى أن لا حجة لهم البتة ، وفيه مبالغة لتنزيل التضاد منزلة التجانس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦)

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي قل لهم في جواب قولهم (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : قل الله يحييكم ثم يميتكم ، لا الدهر. لما عرف من وجوب رجوع العالم إلى واجب الوجود ، هو سبب الأسباب ، ومصدر الكائنات ، أو قل لهم (في جواب إنكارهم البعث) : بأن من قدر على الإبداء ، قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة ، على ما مرّ مرارا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) (٢٧)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فلا مالك غيره ، ولا معبود سواه (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي الذين أتوا بالباطل في أقوالهم وأفعالهم ، وهم عبدة غيره تعالى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣١)

٤٣٣

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي باركة ، مستوفزة على الركب لا حراك بها. شأن الخائف المنتظر لما يكره وذلك عن الحساب أو في الموقف الأول ، وقت البعث قبل الجزاء (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي اللوح الذي أثبت فيه أعمالها. ويعطى بيمين من كان سعيدا. وشمال من كان شقيا (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان ، وإنما أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه تعالى ، لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ) أي نستكتب الملائكة (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي ما صلح به حالهم في المعاد الجسماني (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي في جنته (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي فيقال لهم (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي بكسب الآثام ، والكفر بالله ، وعدم التصديق بمعاد ، ولا الإيمان بثواب وعقاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢)

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) أي : أي شيء هي؟ أي : لا نستيقن بها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي إنها كائنة وآتية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٥)

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي قبائح أعمالهم ، أو عقوبات أعمالهم السيئات (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني الجزاء (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي نترككم في العذاب ترك ما ينسى ، كما تركتم التأهب له. فـ (نَنْساكُمْ) استعارة أو مجاز مرسل (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتكم حتى آثرتموها على الآخرة

٤٣٤

وزعمتم أن لا حياة سواها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه. من (الإعتاب) وهو إزالة العتب. كناية عن الإرضاء. أو : لا هم يردّون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة ، فما بعد الموت مستعتب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٧)

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ) أي الثناء الكامل. قال ابن جرير : أي فلله الحمد على نعمه وأياديه عند خلقه. فإياه فاحمدوا أيها الناس ، فإن كل ما بكم من نعمة فمنه ، دون ما تعبدون من دونه ، من آلهة ووثن (رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الاستعلاء ،. ونهاية الرفع والكبر على كل شيء ، وغاية العلوّ والعظمة باستغنائه عنه وافتقاره إليه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي القوي القاهر لكل شيء (الْحَكِيمُ) قال القاشاني : أي المرتب لاستعداد كل شيء ، بلطف تدبيره ، المهيّئ لقبوله ، لما أراد منه من صفاته ، بدقيق صنعته ، وخفي حكمته (لا إله إلا هو رب العالمين).

وافق الفراغ من تفسير هذه السورة قبيل ظهر الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة عام ١٣٢٦ بمنزلنا بدمشق الشام. بقلم جامعه جمال الدين القاسمي.

٤٣٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأحقاف

قال المهايميّ : سميت بها لأن مكانها من حيث قبوله سرعة تأثير ريح العذاب فيه. كالدليل على إنذاره. ففيه إشعار على أن إنذارات القرآن كالدلائل على أنفسها. ثم في قصتهم اتساق الإنذار إلى صيرورة المرجوّ مخوفا. ففيه إشعار بأن إنذارات القرآن مما يخاف منها صيرورة ما يرجوه الجهال مخوفا عليهم. وذلك من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.

وهي مكية. واستثنى بعضهم منها (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ ...) [الأحقاف : ١٧] الآيتين. وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ...) [الأحقاف : ١٠] الآية. (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) [الأحقاف : ١٥] الأربع الآيات. (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ) [الأحقاف : ٣٥] الآية ، فهي مدنية ـ كذا قيل. وتقدم في طليعة سورة الجاثية تحقيق ذلك. وآيها خمس وثلاثون.

٤٣٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٣)

(حم) ، (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : الحكمة وإقامة العدل في الخلق. (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي : وبتقدير أجل معين لكل منها ، يفنيه إذا هو بلغه ، وهو يوم القيامة. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا) أي : من هول ذلك اليوم (مُعْرِضُونَ) أي : لا يؤمنون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤)

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : من الأوثان التي تعبدونها. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال ، أو شيء سماويّ بالشركة ، حتى تستحق العبادة. (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقليّ ، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. أي : ائتوني بكتاب إلهيّ من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد ، وإبطال الشرك ، دالّ على صحة دينكم. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي : أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين ، شاهدة باستحقاقهم للعبادة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في دعواكم ، فإنها لا تكاد تصح ، ما لم يقم عليها برهان عقليّ ، أو سلطان نقليّ. وحيث لم يقم عليها شيء منهما ، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل ، تبين بطلانها.

٤٣٧

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (٥)

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) أي : دعاءه لعجزه عنها (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي : لأنهم إما جمادات ، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم. و (الغفلة) مجاز عن عدم الفائدة فيها. أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره.

لطيفة :

قال الناصر : في قوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) نكتة حسنة. وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة. ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها ، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية ، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم. فالوجه ـ والله أعلم ـ أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها ، وإن وافق ما قبلها ، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني ، حتى كان الحالتين ، وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما ، كالشيء وضده. وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة ، لا تزيد على عدم الاستجابة. والحالة الثانية التي في القيامة ، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم. فهو من وادي ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٩ ـ ٣٠] انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (٦)

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) أي : جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب (كانُوا) أي : آلهتهم (لَهُمْ أَعْداءً) أي : لتبرئتهم منهم. قال الشهاب : أعداء استعارة ، أو مجاز مرسل للضارّ. (وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) قال ابن جرير : أي وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا ، بعبادتهم جاحدين ، لأنهم يقولون يوم القيامة : ما أمرناهم بعبادتنا ، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا ، تبرّأنا إليك منهم ، يا ربنا! أي : فالتكذيب بلسان المقال ، قصدا إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين وأهواؤهم.

٤٣٨

وقال القاشانيّ : كانوا أعداء ، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم ، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ. وكذا استعباد الموالي لخدمهم. فإذا ارتفعت الأغراض ، وزالت العلل والأسباب ، كانوا لهم أعداء ، وأنكروا عبادتهم. ، يقولون : ما خدمتمونا ، ولكن خدمتم أنفسكم. كما قيل في تفسير قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الزخرف : ٦٧]. انتهى.

وقيل : الضمير في (كانُوا) في الموضعين ، للعابدين ، لئلا يلزم التفكيك. وفيه نظر : لأنه خلاف المتبادر من السياق ، إذ هو لبيان حال الآلهة معهم ، لا عكسه ، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم. وتسميته كفرا ، خلاف الظاهر أيضا. وقد أوضح ذلك آية (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢]. والقرآن يفسر بعضه بعضا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : بادهوه بالجحود أول ما سمعوه ، من غير إجالة فكر ، ولا إعمال روية. واللام في (لِلْحَقِ) لام الأجل متعلقة ب (قالَ). وقيل : بمعنى الباء ، متعلقة ب (كَفَرُوا) ، وعدّي الكفر باللام ، حملا على نقيضه ، وهو الإيمان ، فإنه يعدى بها نحو (أَنُؤْمِنُ لَكَ) [الشعراء : ١١١].

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٨)

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا ، إن أصابني به. و (أم) ـ على ما قالوا ـ منقطعة مقدرة ب (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام ، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر ، حتى أضرب عنه ، أن الكذب خصوصا على الله متفق على قبحه ، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر ، فإنه ، وإن قبح ، فليس بهذه المرتبة ، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة.

٤٣٩

وقال الناصر : هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها ، فإنه انتقال إلى موافق ، لكنه أزيد من الأول ، فنزل لزيادته عليه ، مع ما تقدمه مما ينقص عنه ، منزلة المتنافيين ، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر. وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات ، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : تخوضون في حقه من أنه سحر أو إفك (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي : لمن راجع منكم الكفر وتاب وآمن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩)

(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي : ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم ، فلم تستنكرون بعثتي ، وتستبعدون رسالتي ، كقوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [آل عمران : ١٤٤] ، و (البدع) كالبديع ، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير : ومن البدع قول عديّ بن زيد :

فلا أنا بدع من حوادث تعتري

رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد

ومن البديع قول الأحوص :

فخرت فانتمت فقلت : ذريني

ليس جهل أتيته ببديع

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال أبو السعود : أي : أيّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان ، من أفعاله تعالى ، وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه : ما أدري ما يصير إليه أمري ، وأمركم في الدنيا. وقيل : يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن (ما) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.

وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير : بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة ، هو ومن اتبعه

٤٤٠