تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

ذلك التأويل. وما حمله على هذا إلّا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهّال. وهو مما لا قيمة له عند العارفين. فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة. وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلم الإصرار على تحسين هذه البدعة؟

يقول بعض الناس : إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها. وهي ما رواه الترمذيّ (١) بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : إن رجلا ضرير البصر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني. فقال : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال : فادعه. قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة. يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي. اللهم فشفعه فيّ. قال الترمذيّ : وهو حديث حسن صحيح غريب ، ونقول أولا : قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد. ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به ، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك. ولا وجه لابتعادهم عن العمل به ، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي. كما قال عمر (٢) رضي الله عنه ، في حديث الاستسقاء : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا ، قال ذلك ، رضي الله عنه ، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون ، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يقول (كنا نستسقي بنبيك) وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من الأعلى للأدنى ، كما ورد في الحديث. وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٨٠] ، ثم المسألة داخلة في باب العقائد ، لا في باب الأعمال. ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال (هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز)؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ

__________________

(١) أخرجه في : الدعوات ، ١١٨ ـ باب حدثنا محمود بن غيلان.

(٢) أخرجه البخاري في : الاستسقاء ، ٣ ـ باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء ، إذا قحطوا ، حديث ٥٧٢.

١٢١

شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، سورة يونس ، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فلا استعانة إلا به ، وقد صرح الكتاب بأن أحدا لا يملك للناس من الله نفعا ولا ضرّا ، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا. ثم البرهان العقليّ يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إرادتهم ، بما يتخذه أهل الجاه عندهم ، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك. ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة ، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين ، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة. ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده. فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن. (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النجم : ٢٨] ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

ثم راجعت (اقتضاء الصراط المستقيم) للإمام العلم تقيّ الدين ابن تيمية رضي الله عنه. فرأيته ذكر نحوا من ذلك ، وعبارته : فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها ، تعمّ الوسيلة في عبادته وفي مسألته. فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها ، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته. ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة ، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره : وقول عمر رضي الله عنه (إنا كنا ، إذا أجدبنا ، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبينا) معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله ، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته. ليس المراد به ، إنا نقسم عليك به. أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه. كما يقوله بعض الناس : أسألك بجاه فلان عندك. ويقولون : إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ، ويروون حديثا موضوعا (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ، فإن جاهي عند الله عريض) فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه ، لفعلوا ذلك بعد موته ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس. مع علمهم أن السؤال به والإقسام به ، أعظم من العباس. فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه ، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات. وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فإن الحيّ يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء ، لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى. فإنه طلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره. فعلّمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاء أمره فيه ، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيّه فيه. فهذا يدل على أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم شفع فيه ، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته ، وأن قوله (أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة) أي بدعائه وشفاعته. كما قال

١٢٢

عمر : كنا نتوسل إليك بنبينا. فلفظ (التوجه) و (التوسل) في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال (يا محمد! يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها. اللهم! فشفعه فيّ) فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيّه. وقوله (يا محمد! يا نبيّ الله!) هذا وأمثاله نداء ، يطلب به استحضار المنادى في القلب. فيخاطب المشهود بالقلب. كما يقول المصلّي : السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته. والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا. يخاطب من يتصوّره في نفسه. وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به ، فيه إجمال واشتراك. غلط تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة ، يراد به التشبث به (في الأصل التسبب به) لكونه داعيا وشافعا مثلا. أو لكون الداعي محبّبا له ، مطيعا لأمره ، مقتديا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له ، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته. فلا يكون التوسل ، لا شيء منه ولا شيء من السائل ، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله. فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أي في كل ما تأتون وما تذرون. لا سيما في ارتكاب ما يكرهه ، فضلا عما يؤذي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُولُوا) أي في كل شأن من الشؤون (قَوْلاً سَدِيداً) أي قويما حقا صوابا. قال القاشانيّ : (السداد) في القول ، الذي هو الصدق والصواب ، هو مادة كل سعادة ، وأصل كل كمال. لأنه من صفاء القلب وصفاؤه يستدعي جميع الكمالات. وهو وإن كان داخلا في التقوى المأمور بها ، لأنه اجتناب من رذيلة الكذب ، مندرج تحت التزكية التي عبر عنها بالتقوى. لكنه أفرد بالذكر للفضيلة. كأنه جنس برأسه. كما خص جبريل وميكائيل من الملائكة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١)

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي بإمداد الصلاح والكمالات والفضائل عليكم. لأنه

١٢٣

لا يصح عمل ما بدون الصدق أصلا. وبه يصلح كل عمل (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل. فإن الحسنات يذهبن السيئات (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في الأوامر والنواهي التي من جملتها هذه التشريعات (فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) أي في الدارين.

وقال القاشانيّ : أي فاز بالتحلية والاتّصاف بالصفات الإلهية ، وهو الفوز العظيم.

تنبيه :

قال الزمخشريّ : المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والبعث على أن يسدّ قولهم في كل باب. لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. وهذا الآية مقررة للتي قبلها. بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع إتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه‌السلام. وإتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. انتهى.

ولك أن تضم إلى المراد من الآية الذي ذكره ، مرادا آخر. وهو نهيهم أيضا عما خاض فيه المنافقون من التعويق والتثبيط وبث الأراجيف في غزوة الأحزاب ، المتقدمة أوائل السورة وبالجملة ، فالسياق يشمل ذينك وغيرهما. إلا أن الذي يراعى أولا ، هو ما كان التنزيل لأجله ، وذلك ما ذكر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢)

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال أبو السعود : لما بيّن عظم شأن طاعة الله ورسوله ، ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ، ومثال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك ببيان عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل ـ مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها ، صدر عنهم بعد القبول والالتزام. وعبر عنها ب (الأمانة) تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين ، وائتمنهم عليها. وأوجب عليهم تلقّيها بحسن الطاعة والانقياد.

١٢٤

وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها. وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السموات وغيرها ، بالعرض عليهنّ ، لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهنّ لها ـ وعن عدم استعدادهنّ لقبولها ، بالإباء والإشفاق منها ، لتهويل أمرها وتربية فخامتها ـ وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها ، بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة التي يستعمل فيها القوى الجسمانية ، التي أشدها وأعظمها ما فيهنّ من القوة والشدة. والمعنى : أن تلك الأمانة في عظم الشأن ، بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام ، التي هي مثل في القوة والشدة ، مراعاتها ، وكانت ذات شعور وإدراك ، لأبين قبولها وأشفقن منها. ولكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق ، روما لزيادة تحقيق المعنى المقصود بالتمثيل وتوضيحه. وقوله تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي عند عرضها عليه. إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده ، أو بتكليفه إياها يوم الميثاق ـ أي تكلفها والتزمها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة ـ وهو إما عبارة عن قبوله لها بموجب استعداده الفطريّ ، أو عن اعترافه بقوله (بلى). وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) اعتراض وسط بين الحمل وغايته ، للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما عهده وتحمله ـ أي أنه كان مفرطا في الظلم ، مبالغا في الجهل. أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة. أو اعترافهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تبديلا. وإلى الفريق الأول أشير بقوله عزوجل :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة. على أن اللام للعاقبة. فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل ، لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها ، أبرز في معرض الغرض ـ أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية. وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده. أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة. وتلافيهم لما

١٢٥

فرط منهم من فرطات. قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة. والالتفات إلى الاسم الجليل أولا ، لتهويل الخطب وتربية المهابة. والإظهار في موضع الإضمار ثانيا ، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي مبالغا في المغفرة والرحمة. حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم. انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود. وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام ، وإجادته في المقام. وهكذا عادتنا في كل مجوّد ، أن ننقله ولا نتصرف فيه.

بقي في الآية لطائف نشير إليها :

الأولى ـ فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة ، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين. وبعضهم بمعرفته تعالى. قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها. وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب. انتهى.

وقيل : المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعية والاختيارية ، لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وبعرضها ، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار ، وإرادة صدوره من غيره ـ وبحملها ، الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ، فيكون الإباء امتناعا عن الخيانة وإتيانا بالمراد. فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها ، أبين الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها. حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية ، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة. كما قال : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، وخانها الإنسان حيث لم يأت ـ وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ بما أمرناه به ؛ إنه كان ظلوما جهولا. وإرادة الخيانة من حملها ، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله. كما يقال (ركبته الديون) وقرره الزمخشريّ بقوله : وأما حمل الأمانة فمن قولك (فلان حامل للأمانة ومحتمل لها) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، ويخرج عن عهدتها. لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حاملها. ألا تراهم يقولون (ركبته الديون) و (لي عليه حق) فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ومنه قولهم (أبغض حق أخيك) لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه. وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى (فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان) فأبين إلا أن يؤدينها. وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه

١٢٦

ما يسعده مع تمكنه منه ، وهو أداؤها. انتهى ملخصا.

الثانية ـ نقل ابن كثير آثارا عن بعض التابعين ؛ أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا. وأنه قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. فقلن : يا رب! إنا لا نستطيع هذا الأمر ، ليس بنا قوة. ولكنا لك مطيعين. قال الشراح : ولا بعد ، أن يخلق الله فيها فهما لخطابه ، وأنه كان على سبيل التخيير لها. ولذا عبر بالعرض ، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها. انتهى.

قال الإمام ابن حزم في (الفصل) في الردّ على من جعل للجمادات تمييزا ، ما مثاله : وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال ، وإباية كل واحد منها ، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك. وهذا نص قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [الكهف : ٥١] ، فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق ، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان ، فقد دخل في قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١٥].

إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السموات والأرض والجبال الأمانة ، إلا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها. وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها. فلما أبتها وأشفقت منها ، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة.

قال : هذا ما يقتضيه كلامه عزوجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك. انتهى.

وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز ، كما بينه ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) وسبقه الزمخشريّ حيث قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم. ومن ذلك قولهم (لو قيل للشحم أين تذهب ، لقال أسوّي العوج) وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال. ولكن الغرض أن السّمن في الحيوان مما يحسّن قبيحه. كما أن العجف مما يقبح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف. وكذلك تصوير عظم الأمانة ، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. انتهى.

الثالثة ـ قال الرازيّ : إن قال قائل : لم قدم التعذيب على التوبة ـ في آخر الآية؟ نقول : لما سمي التكليف أمانة ، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن ، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة ، فكان التعذيب على

١٢٧

الخيانة كاللازم ، والأجر على الحفظ إحسان ، والعدل قبل الإحسان.

الرابعة ـ ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث. منها عن أبي هريرة مرفوعا : أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك. رواه أبو داود (١) والترمذي (٢). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : أربع ، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة. رواه الإمام أحمد (٣) والطبرانيّ وعن أبي هريرة (٤) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمن سأل عن الساعة : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال : كيف إضاعتها؟ يا رسول الله! قال : إذا وسّد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة.

الخامسة ـ قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) أن عمر ابن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة : من حلف بالأمانة فليس منا ، تفرد به أبو داود (٥). أي لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته. وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام. كما تقرر في موضعه. والله أعلم.

السادسة ـ سبق لي أن كتبت في الآية شيئا. في منتصف ربيع الأول سنة ١٣٢٤ ، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم. فسأل بعض الناس عن تفسير الآية. ولم يكن ثمة تفسير فاستعنت بالله تعالى ، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه.

أردت إثباته هنا تعزيزا للمقام ، ونصه : في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع (ردّ العجز على الصدر) ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقص مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق. أبان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين ، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبني ونحوها ، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا وذلك في قوله تعالى : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا

__________________

(١) رواه في : كتاب البيوع ، ٧٩ ـ باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده ، حديث ٣٥٣٥.

(٢) أخرجه في : البيوع ، ٣٨ ـ باب حدثنا أبو كريب ، حديث ١٢٦٤.

(٣) أخرجه في المسند ٢ / ١٧٧ ، والحديث رقم ٦٦٥٢.

(٤) أخرجه البخاري في : العلم ، ٢ ـ باب من سئل علما وهو مشتغل في حديثه ، حديث ٥٢.

(٥) أخرجه في : الأيمان ، ٥ ـ باب كراهية الحلف بالأمانة ، حديث ٣٢٥٣.

١٢٨

اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) [الأحزاب : ١٥ ـ ١٦] ، فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم ، والتثبيط لهم وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة ، بين الله تعالى في خاتمة السورة ، شأن الأمانة ، وعظم خطرها ، وأنها عند الله بمكان عظيم. وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا ، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشدّ أزرها ، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب ، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا ، فيخذل من وثق به ، ويمالئ العدوّ عليه ويثبط من يجرى منه نوع معونة ، ويوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم ، فتكثر القالة وترتبك العامة فما أسوأ ما يأتي به وما أفظع ما ارتكب وما أعظم جريمته! وجليّ أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها ، وما ذكر بعض من آثارها. ففي أي مرتبة تكون الخيانة؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة. كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار. فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها ، هي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون ، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة. وكان من أثرها السيّئ في المدينة وأهلها ما كان ـ وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره ، والإنسان هنا ، المعنيّ به جنس المنافق الذي قصّ من نبئه ما قصّ. والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل ، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد ، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه ، وبالعذاب الذي سيلقاه ، وبكون هذا الأمر أمرا ربّانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل. والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، هو ظهور خطرها لهذه المكونات ، وفظاعة الخيانة فيها ، وإشفاق كلّ من خطر تحملها. وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن. مع أنهن أقوى أجساما وأعظم ثباتا وأصبر على طوارئ الحدثان ، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها. وإن الإنسان ، مع ضعفه بالنسبة لهن ، حملها وما حفظها ولا رعاها. واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه. فما أظلمه وما أجهله! والقصد رميه بالظلم والجهل. وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال. فيا لله ما أطغاه! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة ، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان. ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩١] ، وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل ، وخارق من خوارقه في باب البلاغة. فإن أسلوبه في

١٢٩

إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب ، أسلوب انفرد به عن كل كلام. وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن ، هل كان بإيداع عقل فيهن أولا ، وفي تعيين زمانه وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن ، وفي معنى لوم الإنسان ورميه بالظلم والجهل ، بعد ما عرضت عليه ، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك ـ كله فلسفة لفظية ، ولّدها عشاق الظواهر والألفاظ ، الولعون في الغلوّ بمفرداتها ، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم. فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه ـ ولن يجدوا إليه سبيلا ما دام هذا سبيلهم ـ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

١٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبأ

سميت بها لتضمن قصتها آية تدل على نعيم الجنة في السعة وعدم الكلفة والخلوّ عن الآفة ، وتبدّلها بالنقم ، لمن كفر بالمنعم .. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. واستثني منها (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [سبأ : ٦] الآية. وروى الترمذيّ (١) عن فروة بن مسيك المراديّ قال : أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله! ألا أقاتل من أدبر من قومي؟ الحديث. وفيه : وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل : يا رسول الله! وما سبأ؟ الحديث.

قال ابن الحصار : هذا يدل على أن هذه القصة مدنية. لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع.

قال : ويحتمل أن يكون قوله (وأنزل) حكاية عما تقدّم نزوله قبل هجرته. أفاده في (الإتقان) وآيها أربع وخمسون.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٤ ـ سورة سبأ ، ١ ـ حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد.

١٣١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) خلقا وملكا ، وتصرفا بما شاء (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) أي في النشأة الآخرة. قال الشهاب : السموات والأرض عبارة عن هذا العالم بأسره. وهو يشتمل على النعم الدنيوية. فعلم من التوصيف بقوله (الَّذِي) إلخ ، أنه محمود على نعم الدنيا ، ولما قيّد الثاني بكونه في الآخرة ، علم أن الأول محله الدنيا فصار المعنى : أنه المحمود على نعم الدنيا فيها ، وعلى نعم الآخرة فيها. أو هو من باب الاحتباك. وأصله : الحمد لله إلخ في الدنيا ، وله ما في الآخرة والحمد فيها. فأثبت في كل منها ما حذف من الآخرة. وقوله تعالى : (وَلَهُ الْحَمْدُ) معطوف على الصلة ، أو اعتراض ، إن كانت جملة (يعلم) حالية (وَهُوَ الْحَكِيمُ) أي الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته (الْخَبِيرُ) أي بخلقه وأعمالهم وسرائرهم ، ثم ذكر مما يحيط به علما قوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) (٢)

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي من الأمطار والمياه والكنوز والدفائن والأموات (وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي من الشجر والنبات وماء العيون والغلة والدواب (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) أي من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والمقادير (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي من الملائكة وأعمال العباد (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ) أي لمن تاب من المؤمنين وقام بواجب شكره.

١٣٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني مشركي مكة (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي ساعة الجزاء ، إنكارا لها (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) أي الساعة. رد لكلامهم وتأكيد لما نفوه ، باليمين بالله عزوجل (عالِمِ الْغَيْبِ) بالجرّ صفة ، والرفع خبر محذوف. وقرئ (علّام). بالجرّ. وفي هذا التوصيف تقوية للتأكيد. لأن تعقيب القسم بجلائل نعوت المقسم به ، يؤذن بفخامة شأن المقسم عليه وقوة إثباته وصحته. لما أن في حكم. الاستشهاد على الأمر. لا سيما إذا خص من الأوصاف ما له اختصاص بهذا المعنى. فإن قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية ، وأولها مسارعة إلى القلب ، إذا قيل عالم الغيب (لا يَعْزُبُ) أي لا يغيب بضم الزاي وكسرها (عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي فالجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء وإن تناهى في الصغر. فالعظام وأجزاء البدن ، وإن تلاشت وتفرّقت وتمزّقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرّقت. ثم يعيدها كما بدأها أول مرة ، لسعة علمه وعظم قدرته ، جلّ شأنه.

لطائف :

الأولى ـ عامة القرّاء على رفع (أَصْغَرُ) و (أَكْبَرُ) وفيه وجهان :

أحدهما : الابتداء والخبر (إِلَّا فِي كِتابٍ) والثاني النسق على (مِثْقالُ). وعلى هذا فيكون قوله (إِلَّا فِي كِتابٍ) تأكيدا للنفي في (لا يَعْزُبُ) كأنه قال : لكنه في كتاب مبين. ويكون في محل الحال. وقرأ بعض السلف بفتح الراءين. وفيه وجهان : أحدهما ـ أن (لا) هي لا التبرئة. بني اسمها معها. والخبر قوله (إِلَّا فِي كِتابٍ). والثاني ـ النسق على (ذَرَّةٍ) لامتناعه من الصرف.

الثانية ـ يشير قوله تعالى (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ) إلى أن (مِثْقالُ) لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب أيضا.

الثالثة ـ قال الكرخيّ : فإن قيل فأيّ حاجة إلى ذكر (الأكبر) فإن من علم الأصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر؟ فالجواب : لما كان الله تعالى أراد بيان إثبات

١٣٣

الأمور في الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت فيه الصغائر لكونها محل النسيان. وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فاعلم أن الإثبات في الكتاب ليس كذلك. فإن الأكبر مكتوب فيه أيضا. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) علة لقوله تعالى (لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وبيان لما يقتضي إتيانها من جزاء المحسن والمسيء (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي عيش هنيء في الآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) (٥)

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي بالطعن فيها ونسبتها إلى السحر والشعر وغير ذلك. (مُعاجِزِينَ) أي مقدرين الغلبة والعجز في زعمهم الفاسد وظنهم الباطل (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وهو أسوأ العذاب و (مِنْ) للبيان (أَلِيمٌ) بالرفع صفة (عذاب) ، وبالجرّ صفة ل (رجز) قراءتان. وقد جوّز في قوله (وَالَّذِينَ سَعَوْا) أن يكون مبتدأ ، وجملة (أُولئِكَ ..) إلخ خبره وأن يعطف على (الَّذِينَ) قبله. أي ويجزي الذين سعوا. ويكون جملة (أُولئِكَ) التي بعده مستأنفة ، والتي قبله معترضة. وفي التعبير عن طعنهم وصدّهم بالسعي ، تمثيل لحالهم. فإن المكذب آت بإخفاء آيات بينات ، فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ، ليروّج كذبه لعله يعجز المتمسك به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨)

(وَيَرَى) أي يعلم (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي

١٣٤

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي دينه وشرعه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من قريش (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ) يعنون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقتم كل تفريق ، بحيث صرتم ترابا ورفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي فيما قاله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون تخيل به ذلك. فرد تعالى عليهم ما نعى به سوء حالهم بقوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي المتناهي أمره. فإن من يدعى إلى الصلاح والرشاد ، ونبذ الهوى والفساد ، فيرمي الداعي بالفرية والجنون ، لمغرق في الجهالة. ومبعد أيّ بعد في الضلالة. ثم أشار إلى تهويل تلك العظيمة التي تفوهوا بها ، وإنها موجبة لنزول أشد العذاب ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٩)

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء. والأرض ، وإنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم ، محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عزوجل ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات ، وكفرهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة ، أفاده الزمخشريّ. و (الكسف) بسكون السين ، بمعنى القطع ، إما جمع كسفة ، أو فعل بمعنى مفعول ، أو مخفف من المصدر. وقرأ حفص (كسفا) بالفتح (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله (لَآيَةً) أي دلالة واضحة (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي راجع إلى ربه مطيع له. فإن شأنه لا يخلو من الاعتبار في آياته تعالى ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ونشر الرميم كما قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) [يس : ٨١]. وقال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧]. ثم أخبر تعالى عما آتى داود وسليمان من الفضل والملك وسعة السلطان ووفرة الجند وكثرة العدد والعدد ، ببركة إنابتهما وقيامهما بشكر الرب تعالى ، عدة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه المنيبين الشاكرين بنيل مثل ذلك ، وتذكيرا بقدرته على كل شيء ، فقال تعالى :

١٣٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١)

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) أي رجّعي معه التسبيح و (يا جِبالُ) بدل من (فَضْلاً) أو من (آتَيْنا) بتقدير قولنا ، أو قلنا يا جبال أوّبي معه (وَالطَّيْرَ) بالرفع والنصب ، عطفا على لفظ الجبال ومحلها. وجوز انتصابه مفعولا معه وأن يعطف على (فَضْلاً) بمعنى وسخرنا له الطير. قال الزمخشري : فإن قلت أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال وآتينا داود منا فضلا ، تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما! ألا ترى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته غير ممتنع على إرادته. انتهى. (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي دروعا واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أي اقتصد في نسج الدروع لتتناسب حلقها (وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي وقلنا له ولأهله ذلك (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فأجازيكم به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) (١٢)

(وَلِسُلَيْمانَ) أي وسخرنا له (الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشيّ كذلك والريح الهواء المسخر بين السماء والأرض. ويطلق بمعنى النصرة والدلالة والغلبة والقوة ، كما في القاموس (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) أي النحاس المذاب ، أي أجرينا له ينبوعه لكثرة ما توفر لديه منه من سعة ملكه (وَمِنَ الْجِنِ) أي الشياطين الأقوياء (مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من رفيع المباني وإشادة القصور وغيرها (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بأمره تعالى : (وَمَنْ يَزِغْ) أي يعدل (مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي النار. ثم فصل ما ذكر من عملهم بقوله تعالى :

١٣٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣)

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) أي مساكن ومجالس شريفة أو مساجد (وَتَماثِيلَ) أي صور ونقوش منوعة على الجدر والسقوف والأعمدة ، جمع (تمثال) وهو كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان ، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.

قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس : احتجت به فرقة في جواز التصوير ، وهو ممنوع فإنه منسوخ في شرعنا (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) أي وصحاف كالجوابي وهي الحياض الكبار. و (الجفان) جمع جفنة وهي كالصحفة والقصعة ، ما يوضع فيه الطعام مطلقا. وقيل الجفنة أعظم القصاع. ثم يليها القصعة وهي ما تشبع عشرة. ثم الصحفة وهي ما تشبع خمسة. ثم الميكلة وهي ما تشبع ثلاثة أو اثنين. ثم الصحيفة (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) أي ثابتات على الأثافي ، لا تنزل عنها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) أي قيل لهم : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه. وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف. كما أن فيه وجوب الشكر. وأنه يكون بالعمل ولا يختص باللسان. لأن حقيقته صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله. وداود عليه‌السلام قد يدخل هنا في (آله) فإن آل الرجل قد يعمه (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) أي المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ، أكثر أوقاته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) (١٤)

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ) أي على سليمان (الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) وهي الأرضة (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) أي عصاه التي ينسأ بها ، أي يطرد ويؤخر (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أي الشديد من الجري على رسمه لهم ، والدأب عليه ، لظنهم إياه حيّا.

١٣٧

ثم بين تعالى من أخبار بعض الكافرين بنعمه ، إثر بيان أحوال الشاكرين لها ، ما فيه عظة واعتبار ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥)

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) اسم لأبي قبيلة. وقد قرئ بمنع الصرف على أنه اسم لها (فِي مَسْكَنِهِمْ) أي في مواضع سكناهم ، وهي باليمن يقال لها (مأرب) كمنزل من بلاد الأزد ، في آخر جبال حضرموت. وكانت في الزمن الأول قاعدة التبابعة ، فإنها مدينة بلقيس ، بينها وبين صنعاء نحو أربع مراحل. وقرئ مساكنهم (آيَةٌ) على قدرته تعالى ومجازاته المسيء (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) أي جماعتان من البساتين عن يمين بلدهم وشمالها. أو لكل واحد جنتان عن يمين مسكنه وشماله : قيل لهم (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) أي بصرف ما أنعم به عليكم إلى ما خلق لأجله. ثم بين ما يوجب الشكر المأمور به ، بقوله سبحانه : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي لطيفة جميلة مباركة لا عاهة فيها (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لمن شكره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) (١٦)

(فَأَعْرَضُوا) أي عن الشكر (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي سيل الأمر العرم ، أي الصعب والمطر الشديد ـ أو الوادي ـ أو السّكر الذي يحبس الماء ـ أو هو البناء الرصين المبنيّ بين الجبلين لحفظ ماء الأمطار وخزنها. وقد ترك فيه أثقاب على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم ، فلما طغوا أهلكهم الله بخراب هذا البناء ، فانهال عليهم تيار مائه ، فأغرق بلادهم وأفسد عمرانهم وأرضهم. واضطر من نجا منهم للنزوح عنها. كما قال تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) أي ثمر مرّ ، أو بشع لا يؤكل (وَأَثْلٍ) شجر يشبه الطرفاء من شجر البادية لا ثمر له (وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وهو شجر النبق. أي قلة لا تسمن ولا تغني من جوع. فهذا تبديل النعم بالنقم. لمن لم يشكر النعم ، كما قال تعالى :

١٣٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) (١٧)

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي بشكر النعم ، أو باتباع الرسل وتكذيب الحق والعدول إلى الباطل ، ثم بين تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيّ والبلاد الآمنة والقرى المتواصلة ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (١٨)

(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي بالزروع والثمار وحسن العمران وهي قرى بصنعاء كما قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومالك وغيرهم (قُرىً ظاهِرَةً) أي متواصلة ، يرى بعضها من بعض لتقاربها. فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو ظاهرة للمسافرين لا تبعد عن مسالكهم (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا بين قراها مقادير متساوية. فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة. ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب ، فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ، ولا يخاف من عدوّ ونحوه (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي لا تخافون في الليل أو النهار ، أو وإن تطاول أمد سفركم فيها وامتد ، فلا ترون إلا الأمن. والأمر على تقدير القول بلسان المقال بواسطة نبيّ ونحوه. أو بلسان الحال. كأنهم لما تمكنوا منه جعلوا مأمورين به. فالأمر للإباحة. وفي (في) إشعار بشدة القرب ، حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (١٩)

(فَقالُوا) أي بلسان الحال والميل إلى المهالك الشيطانية (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) أي فاستعدوا لضلالهم وكفرهم لأن تجعل أمكنتهم تعمل فيها المطيّ والرواحل ، لتباعد ما بينها وبين ما يسيرون إليه. وحصل ذلك بما بدلوا به من بلادهم الحسنة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي حتى حل بهم ما حل (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي

١٣٩

يتحدث الناس بهم ويتعجبون من نبئهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والعيش الهني (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرّقناهم كل تفريق ، حتى اتخذه الناس مثلا مضروبا. يقولون (تفرقوا أيادي سبا ، وذهبوا أيدي سبا) بألف مقصورة. قال الأزهري : العرب لا تهمز سبأ في هذا الموضع. لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز. وإن كان أصله مهموزا. والذهاب معلوم. والأيادي جمع أيد. والأيدي جمع يد. وهي بمعنى الجارحة ، وبمعنى النعمة ، وبمعنى الطريق ، وهو المراد. قال في التهذيب : قولهم ذهبوا أيدي سبا ، أي متفرقين. شبهوا بأهل سبأ لما مزقهم الله في الأرض كل ممزق. فأخذ كل طائفة منهم طريقا على حدة. و (اليد) الطريق. يقال : أخذ القوم يد بحر .. فقيل للقوم إذا ذهبوا في جهات مختلفة (ذهبوا أيدي سبا) أي فرقتهم طرقهم التي سلكوها ، كما تفرق أهل سبا في مذاهب شتى.

قال ابن مالك : إنه مركب تركيب خمسة عشر ، مبنيّا على السكون. وفي (زهر الأكم ، في الأمثال والحكم) أن سبا كانت أخصب بلاد الله. كما قال تعالى : (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) قيل كانت مسافة شهر للراكب المجدّ. يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الأنهار واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاندهم أحد إلا قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول. فجمع لذلك حمير أهل مملكته وشاورهم. فاتخذوا سدّا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد ، وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. فلما كفروا نعم الله تعالى ، ورأوا أن ملكهم لا يبيده شيء ، وعبدوا الشمس ، سلط الله على سدّهم فأرة فخرقته. وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق. وأباد خضراءهم. وتبددوا في البلاد. فلحق الأزد بعمان. وخزاعة ببطن مرّ. والأوس والخزرج بيثرب. وآل جفنة بأرض الشام. وآل جذيمة الأبرش بالعراق.

وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس ، أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبأ ما هو؟ أرجل أم امرأة؟ أم أرض؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل هو رجل ولد له عشرة. فسكن اليمن منهم ستة. وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير. وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان. قال ابن كثير : وإسناده حسن إلا ابن لهيعة.

روى الإمام أحمد أيضا عن فروة بن مسيك رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله

١٤٠