تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣)

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي بإعادة الروح إلى الجسد ، بعد مفارقتها إياه ، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم.

وفي ابن جرير بحث نحويّ في دخول الباء في (بِقادِرٍ) بديع. ويذكر في مباحث زيادة الباء ، في مطولات العربية.

(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي من إعادة المعدوم ، ولو فني الجسد وغيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥)

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا) أي الإحياء إحياء (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ) أي على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي : أولو الثبات والجد منهم ، فإنك منهم. والعزم ـ في اللغة ـ كالعزيمة ، ما عقدت قلبك عليه من أمر. والعزم أيضا القوة على الشيء والصبر عليه. فالمراد به هنا المجتهدون ، المجدّون ، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم ، وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل ، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وكثير من الأولياء. فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل ، وأن (من) بيانية لا تبعيضية ، فكل رسول من أولي العزم ، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم ، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص. ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال : أحدها ـ أنهم جميع الرسل. والثاني ـ أنهم أربعة : نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث ـ أنهم خمسة بزيادة عيسى ، كما قيل :

٤٦١

أولي العزم نوح والخليل الممجّد

وموسى وعيسى والنبيّ محمد

والرابع ـ أنهم ستة ، بزيادة هارون أو داود. والخامس ـ أنهم سبعة بزيادة آدم. والسادس ـ أنهم تسعة ، بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف. وقد يزاد وينقص.

وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق ، وذبه عن حريم التوحيد ، وحمى الشريعة ، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية ، وأموره الخارجية ، كمبارزة كل أهل عصره ، كما كان لنوح. أو لملك جبار في عصره ، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية ، كنمروذ إبراهيم ، وجالوت داود ، وفرعون موسى. ولكل موسى فرعون ، ولكل محمد أبو جهل. وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية ، ونفس ربانية ، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام. ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص ، وهذا مما كشفت بركاتهم سره ـ أفاده الشهاب ـ (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم ، فإن ذلك نازل بهم لا محالة ، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) أي من عذاب الله ونكاله وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا أو في الآخرة (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه ، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا ، ومبلغ ما فيها مكثوا.

وقوله تعالى (بَلاغٌ) قال ابن جرير : فيه وجهان :

أحدهما ـ أن يكون معناه : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، ذلك لبث بلاغ ، بمعنى : ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم ، ثم حذف (ذلك لبث) ، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها.

والآخر ـ أن يكون معناه : هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية ، إن فكروا واعتبروا ، فتذكروا. انتهى.

وأشار المهايميّ إلى معنى آخر فقال : ليس من حق الرسل الاستعجال ، بل حقهم بلاغ.

(فَهَلْ يُهْلَكُ) أي بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي الذين خالفوا مره ، وخرجوا من طاعته. نعوذ بالله من غضبه ، وأليم عقابه.

٤٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

سميت به ، لما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد متفرقا ، أعظم من الإيمان بما نزل مجموعا على سائر الأنبياء عليهم‌السلام. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة (القتال) ، لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم ، وما يترتب على القتال وكثرة فوائده ـ قاله المهايميّ ـ.

وهي مدنية. وحكى النسفيّ قولا غريبا ، أنها مكية. وآيها ثمان وثلاثون.

٤٦٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (١)

(الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : جحدوا توحيد الله ، وعبدوا غيره (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : أعرضوا وامتنعوا عن الإقرار لله بالوحدانية ، ولنبيه بالرسالة. أو صدوا غيرهم عن ذلك. (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي جعلها على غير هدى ورشاد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.

وقوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) أي بما أنزل الله به جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما خصه بالذكر ، مع دخوله فيما قبله ، تعظيما لشأنه وتعليما ، لأنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به ، إذ يفيد بعطفه أنه أعظم أركانه ، لإفراده بالذكر. وقد تأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي الثابت بالواقع ونفس الأمر. (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ، ما كان منهم من الكفر والمعاصي ، لرجوعهم عنها وتوبتهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي حالهم وشأنهم ، وعملهم في الدنيا بالتأييد والتوفيق.

قال الشهاب : (البال) يكون بمعنى الحال والشأن. وقد يخص بالشأن العظيم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) «كل أمر ذي بال». ويكون بمعنى الخاطر القلبيّ ، ويتجوز به عن القلب. ولو فسر به هنا كان حسنا أيضا. وقد فسره السفاقسيّ بالفكر ، لأنه إذا صلح قلبه وفكره ، صلحت عقدته وأعماله.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في : النكاح ، ١٩ ـ باب خطبة النكاح ، حديث ١٨٩٤.

٤٦٤

وقال ابن جرير : البال كالمصدر ، مثل الشأن ، لا يعرف منه فعل ، ولا تكاد العرب تجمعه إلا في ضرورة شعر ، فإذا جمعوه قالوا : (بالات).

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣)

(ذلِكَ) أي المذكور من فعله تعالى بالفريقين ما فعله كائن (بِأَنَّ الَّذِينَ) أي بسبب أن الذين (كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يشبه لهم الأشباه ، فيلحق بكل قوم من الأمثال أشكالا.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : أين ضرب الأمثال؟ قلت : في أن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار. واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين. أو في أن جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز المؤمنين. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤)

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) لما كان طليعة هذه السورة تمهيدا لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد ، الصادّين عن منهج الرشاد ، وبعثا على الصدق في قتالهم ، كسحا لعقبة باطلهم ، عملا بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان ، وتمييزا لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان ، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة. ولذا قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها. فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم ، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام. أي : فإذا كان الأمر كما ذكر ، فإذا لقيتموهم في المحاربة ، فضرب الرقاب. وأصله : فاضربوا الرقاب ضربا. فحذف الفعل ، وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وفيه اختصار وتأكيد بليغ. والتعبير به عن القتل ، تصوير له بأشنع صورة ، وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون

٤٦٥

منه (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي غلبتموهم ، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) بفتح الواو ، وقرئ بكسرها. وهو ما يوثق به ، أي يربط ويشد ، كالقيد والحبل. أي فأمسكوهم به كيلا يقتلوكم فيهربوا منكم (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون بعد ذلك عليهم ، فتطلقونهم بغير عوض ، لزوال سبعيّتهم ، وإما تفدون فداء ، فتطلقونهم بعوض مال ، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون ، أو يتخلص أسيرهم.

قال المهايميّ : ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] ، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال. ولم يذكر الاسترقاق ، لأنه في معنى استدامة الأسر ، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية. ولا تزالوا كذلك (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي : إلى انقضاء الحرب و (الأوزار) كالأحمال وزنا ومعنى. استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها ، استعارة تصريحية أو مكنية ، بتشبيهها بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ، وأثبت له ذلك تخييلا. وقد جاء ذكرها في قول الأعشى :

وأعددت للحرب أوزارها :

رماحا طوالا وخيلا ذكورا

وقيل : أوزارها آثامها. يعني : حتى يترك أهل الحرب ـ وهم المشركون ـ شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.

تنبيهات :

الأول ـ قال في (الإكليل) : في الآية بيان كيفية الجهاد.

الثاني ـ للسلف قولان في أن الآية : منسوخة أو محكمة.

فروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي أنها منسوخة بقوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، قالوا : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم.

وروي عن ابن عمر وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز ، أن الآية محكمة ليست منسوخة ، وأنه لا يجوز قتل الأسير ، وإنما له المن أو الفداء.

ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء ، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة.

ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات ، محمول على المفصل في

٤٦٦

مثل هذه الآية ، أي إن القتل عند اللقاء ، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير ، إلا أن تبدو مصلحة في القتل ، فتلك من باب آخر.

وثم قول ثالث : وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام ، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل ، لعلمه من آيات أخر ، لا سيما ومرجع الأمر إلى المصلحة. وهذا القول هو الذي أختاره. وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ. فالأول هو المرجح. وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الإحكام ، لما قدمناه في مقدمة التفسير ، من تغاير اصطلاح السلف والأصوليين في النسخ.

ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك ، وعبارته :

والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة. وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر. وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، الآية. بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ، ويفادي ببعض ، ويمن على بعض ، مثل يوم بدر : قتل عقبة بن أبي معيط ، وقد أتي به أسيرا. وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلما ، وهو على فدائهم والمن عليهم قادر ، وفادى بجماعة ، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر. ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده. ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب ، من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما ذلك فيهم. وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى ، فخص ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك ، قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكررا ، فأعلم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ، ما له فيهم مع القتل. انتهى كلام ابن جرير.

الثالث ـ من فوائد الآية أيضا جواز تخلية سبيل المشركين ، إذا ضعفت شوكتهم ، وأمنت مفسدتهم ، لأن ذلك من لوازم المن وقبول الفداء ، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل ، ينافيه نص هذه الآية ، وقبول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون ، فتفهّم.

٤٦٧

وبالجملة ، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم ، أن الأمير يخيّر ، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين ، بين قتال واسترقاق ، ومنّ وفداء. ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين ، لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر ، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ ، كوليّ اليتيم ، لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى. فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، فقتله أصلح. ومنهم الضعيف ذو المال الكثير ، ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين ، يرجى إسلامه ، فالمنّ عليه أولى. ومن ينتفع بخدمته ، ويؤمن شرّه ، استرقاقه أصلح ـ كما في (شرح الإقناع) ـ.

الرابع ـ تسنّ دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة ، قطعا لحجته. ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة ، لحديث (١) بريدة بن الحصيب قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش ، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ، وبمن معه من المسلمين. وقال : إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ـ رواه مسلم ـ.

وقيد الإمام ابن القيّم وجوب الدعوة واستحبابها ، بما إذا قصدهم المسلمون. أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال ، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة ، دفعا عن نفوسهم وحريمهم وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ، لأنه أعرف بحال الناس ، وبحال العدوّ ، ونكايتهم وقربهم وبعدهم ـ كما في (شرح الإقناع) ـ.

وقوله تعالى : (ذلِكَ) خبر لمحذوف. أي الأمر ذلك. أو مفعول لمقدّر (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي : لانتقم منهم بعقوبة عاجلة ، وكفاكم ذلك كله. (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحق. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) أي استشهدوا. وقرئ (قاتلوا) (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الجهاد ، حديث رقم ٣.

٤٦٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) (٦)

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي بيّنها لهم في كثير من آياته ، تعريفا يشوق كل مؤمن أن يسعى لها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي الظفر والتمكين في الأرض ، وإرث ديار العدوّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي خزيا وشقاء. وأصله من السقوط على الوجه ، كالكبّ. (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي جعلها على غير هدى واستقامة. (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي من الحق ، وشايعوا ما ألفوه من الباطل. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) كعبادتهم لأوثانهم ، حيث لم تنفعهم ، بل أوبقهم بها فأصلاهم سعيرا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم المكذّبة رسلها ، الرادة نصائحها. (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي ما اختص بهم ، وكان لهم ، يقال : دمّره بمعنى أهلكه. ودمّره عليه : أهلك ما يختص به من المال والنفس. فالثاني أبلغ ، لما فيه من العموم ، لجعل مفعوله نسيا منسيّا ، فيتناول نفسه وكل ما يختص به. والإتيان ب (على) لتضمنه معنى (أطبق عليه) أي أوقعه عليهم محيطا بهم ، أو هجم الهلاك عليهم. (وَلِلْكافِرِينَ) يعني المكذّبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَمْثالُها) أي أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة.

٤٦٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢)

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب ، إذا حاق بهم. (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي غير مفكّرين في المعاد ، ولا معتبرين بسنة الله ، كغفلة الأنعام عن النحر والذبح ، فلا همّ لهم إلا الاعتلاف دون غيره. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي مأواهم بعد مماتهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤)

(وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني مكة ، على حذف مضاف (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ، أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على برهان وحجة وبيان من أمر ربه ، والعلم بوحدانيته ، فهو يعبده على بصيرة منه. (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) أي فأراه إياه الشيطان حسنا ، فهو مقيم عليه. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥)

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي متغيّر الريح (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي من القذى ، وما يوجد في عسل الدنيا (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي من فرط حرارته.

٤٧٠

لطيفة :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ خبره (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) بتقدير حرف إنكار ومضاف. أي : أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد. أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. فلفظ الآية ، وإن كان في صورة الإثبات ، هو في معنى الإنكار والنفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار وانسحاب حكمه عليه ، وهو قوله : (أَفَمَنْ كانَ ..) إلخ ، وليس في اللفظ قرينة على هذا ، وإنما هو من السياق ، وإن فيه جزالة المعنى. وثم أعاريب أخر ، هذا أمتنها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦)

(وَمِنْهُمْ) أي ومن هؤلاء الكفار (مَنْ) أي كافر منافق (يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي من الصحابة ، استهزاء بما سمعوه من المتلوّ ، وتهاونا به (ما ذا قالَ آنِفاً) أي الساعة. هل فيه هدى؟ فإن بينوه لم يستفيدوا منه شيئا. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي فلا يدخلها الهدى لإبائهم عنه (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي آراءهم ، لا ما يدعو إليه البرهان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧)

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) أي باتباع الحق ، والمشي مع الحجة (زادَهُمْ هُدىً) أي بيانا لحقيقة ما جاءهم (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي أعانهم عليها. أو آتاهم جزاء تقواهم. أو بيّن لهم ما يتقون.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨)

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) قال ابن كثير : أي أمارات اقترابها ، كقوله تبارك وتعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ، أَزِفَتِ الْآزِفَةُ)

٤٧١

[النجم : ٥٦ ـ ٥٧] ، وكقوله جلت عظمته (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] ، وقوله سبحانه وتعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] ، وقوله جلّ وعلا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١]. فبعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ، لأنه خاتم الرسل ، الذي أكمل الله تعالى به الدين ، وأقام به الحجة على العالمين. وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمارات الساعة وأشراطها ، وأبان عن ذلك وأوضحه ، بما لم يؤته نبيّ قبله ، كما هو مبسوط في موضعه.

وقال الحسن البصريّ : بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ، وهو كما قال. ولهذا جاء في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبيّ التوبة ، ونبيّ الملحمة ، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبيّ.

روى البخاريّ (١) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بإصبعيه هكذا ـ بالوسطى والتي تليها ـ : بعثت أنا والساعة كهاتين.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي ذكرى ما قد ضيعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة. يعني : أن ليس ذلك بوقت ينفعهم فيه التذكر والندم ، لأنه وقت مجازاة ، لا وقت استعتاب واستعمال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩)

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) قال ابن جرير : أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة ويجوز لك وللخلق عبادته ، إلا الله الذي هو خالق الخلق ، ومالك كل شيء. يدين له بالربوبية كل ما دونه. والفاء فصيحة في جواب شرط معلوم ، مما مر من أول السورة إلى هنا ، من حال الفريقين.

قال السيوطي : وقد استدل بالآية من قال بوجوب النظر ، وإبطال التقليد في العقائد ، ومن قال بأن أول الواجبات ، المعرفة قبل الإقرار.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) قال ابن جرير : أي وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها ، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الرقاق ، ٣٩ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» حديث رقم ٢٠٦٨.

٤٧٢

قال الشهاب : وإنما أعيد الجار ، لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذنوبهم معاص كبائر وصغائر ، وذنبه ترك الأولى.

وقال السيوطي : استدل بالآية من أجاز الصغائر على الأنبياء. انتهى.

والمسألة مبسوطة بأقوالها ، وما لها وما عليها في (الفصل) لابن حزم ، فارجع إليه.

وفي الصحيح (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي ، وخطاياي وعمدي ، وكل ذلك عندي».

وفي الصحيح (٢) أنه كان يقول في آخر الصلاة : «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني. أنت إلهي لا إله إلا أنت».

وفي الصحيح (٣) أنه قال : «يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم ، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي متصرّفكم فيما تتصرفون فيه ، وإقامتكم على ما تقيمون عليه من الأقوال والأعمال ، فيجازيكم عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي مبيّنة لا تقبل نسخا ولا تأويلا ، (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الدعوات ، ٦٠ ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت» حديث رقم ٢٤٠٤ ، عن أبي موسى الأشعري.

(٢) أخرجه البخاري في : التهجد ، ١ ـ باب التهجد بالليل ، حديث رقم ٦١٣ ، عن ابن عباس.

(٣) أخرجه البخاري في : الدعوات ، ٣ ـ باب استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم والليلة ، حديث ٢٣٩٠ ، عن أبي هريرة.

٤٧٣

أي الأمر بقتال المشركين (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شك في الدين وضعف في اليقين (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. شبه نظرهم بنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره (فَأَوْلى لَهُمْ) قال الشهاب : اختلف فيه ، بعد الاتفاق على أن المراد به التهديد والوعيد ، على أقوال :

فذهب الأصمعيّ إلى أنه فعل ماض بمعنى قارب. وقيل : قرّب بالتشديد ، ففاعله ضمير يرجع لما علم منه ، أي : قارب هلاكهم. والأكثر أنه اسم تفضيل من الولي ، بمعنى القرب. وقال أبو عليّ : إنه اسم تفضيل من الويل. والأصل (أويل) فقلب ، فوزنه أفلع. وردّ بأن الويل غير متصرف ، وأن القلب خلاف الأصل ، وفيه نظر. وقد قيل : إنه فعلى ، من آل يؤول. وقال الرضي : إنه علم للوعيد ، وهو مبتدأ و (لهم) خبره. وقد سمع فيه (أولاة) بتاء تأنيث. وهو كما قيل ، يدل على أنه ليس بأفعل تفضيل ، ولا أفعل فعلى ، وأنه علم وليس بفعل ، بل مثل أرمل وأرملة ، إذا سمي بهما ، فلذا لم ينصرف. ولا اسم فعل ، لأنه سمع فيه (أولاة) معربا مرفوعا ، ولو كان اسم فعل بني. وفيه أنه لا مانع من كون (أولاة) لفظا آخر بمعناه ، فلا يرد شيء منه عليهم أصلا ، كما جاء (أوّل) أفعل تفضيل ، واسم ظرف ك (قبل) وسمع فيه (أوّلة) ـ كما نقله أبو حيان ـ فلا يرد النقض به كما لا يخفى. انتهى.

قال السمين : إذا قلنا باسميته. ففيه أوجه :

أحدها ـ أنه مبتدأ ، و (لهم) خبره ، تقديره : فالهلاك لهم.

والثاني ـ أنه خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : العقاب أو الهلاك أولى لهم ، أي أقرب وأدنى ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء. أي أولى وأحق بهم.

الثالث ـ أنه مبتدأ ، و (لهم) متعلق به ، واللام بمعنى الباء ، و (طاعة) خبره ، والتقدير : فأولى بهم طاعة دون غيرها ، وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١)

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فيه أوجه :

أحدها ـ أنه خبر (أولى) على ما تقدم.

الثاني ـ أنها صفة السورة. أي : فإذا أنزلت سورة محكمة طاعة ، أي : ذات طاعة ، أو مطاعة. ذكره مكيّ وأبو البقاء. وفيه بعد ، لكثرة الفواصل.

الثالث ـ أنها مبتدأ ، و (قول) عطف عليها ، والخبر محذوف. تقديره : أمثل بكم من غيرهما. وقدره مكيّ : منا طاعة ، فقدّره مقدما.

٤٧٤

الرابع ـ أن يكون خبر مبتدأ محذوف. أي أمرنا طاعة.

الخامس ـ أن (لهم) خبر مقدم و (طاعة) مبتدأ مؤخر. والوقف والابتداء يعرفان مما قدمته ، فتأمل ـ أفاده السمين ـ.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي : جدّ الحال ، وحضر القتال : قال أبو السعود : أسند العزم ، وهو الجد ، إلى الأمر ، وهو لأصحابه ، مجازا. كما في قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] ، وعامل الظرف محذوف. أي خالفوا وتخلفوا. وقيل ناقضوا. وقيل : كرهوا. وقيل : هو قوله تعالى : (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) على طريقة قولك : إذا حضرني طعام ، فلو جئتني لأطعمتك. أي : فلو صدقوه تعالى فيما قالوه من الكلام المنبئ عن الحرص على الجهاد ، بالجري على موجبه (لَكانَ) أي الصدق (خَيْراً لَهُمْ) أي في عاجل دنياهم ، وآجل معادهم. قيل : فلو صدقوه في الإيمان ، وواطأت قلوبهم في ذلك ألسنتهم. وأيّا ما كان ، فالمراد بهم الذين في قلوبهم مرض ، وهم المخاطبون بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢)

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن تنزيل الله تعالى ، وفارقتم أحكام كتابه ، وما جاء به رسوله (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي بالتغاور والتناهب (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي تعودوا لما كنتم عليه في جاهليتكم من التشتت والتفرق ، بعد ما جمعكم الله بالإسلام ، وألف به بين قلوبكم ، وأمركم بالإصلاح في الأرض ، وصلة الأرحام. وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال ، وبذل الأموال. وقد ساق ابن كثير هنا من الأحاديث في صلة الرحم لباب اللباب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣)

(أُولئِكَ) إشارة إلى المذكورين (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ) أي عن استماع الحق لتصامّهم عنه بسوء اختيارهم (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤)

٤٧٥

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) قال ابن جرير : أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه‌السلام ، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله ، فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي فلا يصل إليها ذكر ، ولا ينكشف لها أمر. وتنكير (القلوب) للإشعار بفرط جهالتها ونكرها ، كأنها مبهمة منكورة. و (الأقفال) مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها ؛ وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة ، إذ لا يمكن فتحها أبدا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥)

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي عادوا لما كانوا عليه من الكفر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي الحق بواضح الحجة.

(الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي زين لهم ارتدادهم وحملهم عليه (وَأَمْلى لَهُمْ) أي ومدّ لهم في الآمال والأمانيّ ، أو أمهلهم الله تعالى ، فمد في آجالهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة. والمعنى : الشيطان سول لهم ، والله أملى لهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦)

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم ، (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم (قالُوا) أي المنافقون (لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي بعض أموركم ، أو ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد ، والتظاهر على الرسول ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، كما أوضح ذلك قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) [الحشر : ١١] ، وهم بنو قريظة والنضير الذين كانوا يوالونهم ويوادّونهم.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي : إخفاءهم لما يقولونه لليهود.

٤٧٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨)

(فَكَيْفَ) أي : يفعلون ويدفعون ضرر الردة عليهم (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) أي : التي ولوها عن الله إلى أعدائه (وَأَدْبارَهُمْ) أي التي ولوها عن الأعداء إلى الله.

(ذلِكَ) أي التوفي الهائل (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) أي من إطاعة أعدائه ، (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي في معاداتهم ، فأدى بهم إلى الردة (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي التي كانت تفيدهم النجاة من ذلك الضرب ، ومن الفضائح الدنيوية.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩)

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي نفاق تفرع منه أضغان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ) أي يظهر (اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي أحقادهم لرسوله وللمؤمنين ، فتبقى أمورهم مستورة. والمعنى : أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١)

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لعرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة متاخمة للرؤية (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم التي نسمهم بها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي أسلوبه وما يرومون من غير إيضاح به.

قال في (الإكليل) : استدل بالآية من جعل التعريض بالقذف موجبا للحد.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) أي فيجازيكم بحسب قصدكم.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أي أهل المجاهدة في سبيل الله ، والصبر على المشاق (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي أفانين أقوالكم ، وضروب

٤٧٧

بياناتكم ، وأعمال قوة ألسنتكم في نشر الحق والصدع به والدأب عليه ، هل هو متمحض لذلك ، أم فيه ما فيه من المحاباة خيفة لوم اللائم.

قال القاشانيّ : علم الله تعالى قسمان : سابق على معلوماته إجمالا في لوح القضاء ، وتفصيلا في لوح القدر ، وتابع إياها في المظاهر التفصيلية من النفوس البشرية ، والنفوس السماوية الجزئية. فمعنى (حَتَّى نَعْلَمَ) حتى يظهر علمنا التفصيليّ في المظاهر الملكوتية والإنسية ، التي يثبت بها الجزاء ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي فتذهب سدى ، لا تثمر لهم نفعا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي لكن يعذبهم ويعاقبهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥)

(فَلا تَهِنُوا) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون بالله عن جهاد الذين اعتدوا عليكم ، وصدوا عن سبيل الله ، (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي الصلح والمسالمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي الأغلبون ، فإن كسح الضلال من طريق الحق لا منتدح عنه ، ما تيسرت أسبابه ، وقهرت أربابه (وَاللهُ مَعَكُمْ) أي بنصره ما تمسكتم بحبله (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم ثوابها ويضيعها.

٤٧٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦)

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي فلا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك الجهاد (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي ثواب إيمانكم وتقواكم (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي لأنه غنيّ عنكم ، وإنما يريد منكم التوحيد ، ونبذ الأوثان ، والطاعة لما أمر به ونهى عنه.

قال بعض المفسرين : أي لا يسألكم جميع أموالكم ، بل يقتصر منكم على جزء يسير ، كربع العشر وعشره. إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم ، وهو معطوف على الجزاء. والمعنى : إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع ، أي : لا يأخذه منكم ، كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم. ولا يخفى حسن مقابلته لقوله (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) أي يعطكم كل الأجور ، ويسألكم بعض المال ـ هذا ما قاله الشهاب ـ.

والظاهر أن المراد بيان غناه تعالى عن عباده ، وأن طلب إنفاق الأموال منهم ، لعود نفعه إليهم لا إليه ، لاستغنائه المطلق ، فإن في الصدقات دفع أحقاد صدور الفقراء عنهم ، وفي بذله للجهاد دفع غائلة الشرور والفساد ، وكله مما يعود ثمرته عليهم.

ثم أشار تعالى إلى حكمته ورحمته في عدم سؤاله إنفاق أموالهم كلها ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٣٧)

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي فيجهدكم بالمسألة ، ويلح عليكم بطلبها منكم ، تبخلوا بها وتمنعوها ، ضنّا منكم بها ، ولكنه علم ذلك منكم ، ومن ضيق أنفسكم ، فلم يسألكموها.

قال الزمخشريّ : الإحفاء المبالغة ، وبلوغ الغاية في كل شيء. يقال (أحفاه في المسألة) إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، و (أحفى شاربه) إذا استأصله.

(وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي أحقادكم ، وكراهتكم لدين يذهب بأموالكم. وضمير (يخرج) لله تعالى ، ويعضده القراءة بنون العظمة. أو للبخل لأنه سبب الأضغان.

٤٧٩

وقرئ (يخرج) من الخروج ، بالياء والتاء ، مسندا إلى الأضغان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في جهاد أعدائه ، ونصرة دينه (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي بالنفقة فيه. (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي يمسكه عنها ، لأنه يحرمها الأجر ، ويكسبها الوزر (وَاللهُ الْغَنِيُ) أي : عن كل ما سواه ، وكلّ شيء فقير إليه. ولهذا قال سبحانه (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي بالذات إليه. فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم ، لا ينفكون عنه ، أي وإذا كان كذلك ، فإنما حضكم في النفقة في سبيله ليكسبكم بذلك ، الجزيل من ثوابه. وليعلم أن سبيل الله يشمل كل ما فيه نفع وخير ، وفائدة وقربة ومثوبة. وإنما اقتصر المفسرون على الجهاد لأنه فرده الأشهر ، وجزئيّه الأهم ، وقت نزول الآيات ، وإلا فلا ينحصر فيه.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي عما جاءكم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يهلككم ثم يأتي بقوم آخرين غيركم ، بدلا منكم ، يؤمنون به ، ويعملون بشرائعه.

(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله ، على ما يؤمرون به.

٤٨٠