تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

أسماعهم عن الحق ، وإعراضهم عن الإصغاء إليه. ولو كان فيهم إحداهما ، لكفاهم ذلك. فكيف وقد جمعوهما؟ (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ) أي ما تسمع (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي منقادون لما تأمرهم به من الحق.

تنبيه :

قال ابن كثير : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ، على توهيم (١) عبد الله بن عمر في رواية مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم. حتى قال له عمر : يا رسول الله! ما تخاطب من قوم قد جيّفوا؟ فقال : والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول ، منهم. ولكن لا يجيبون. وتأولته عائشة على أنه قال : إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق.

وقال قتادة : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته ، تقريعا وتوبيخا ونقمة.

ثم قال ابن كثير : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة. من أشهر ذلك ، ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا(ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلّم عليه إلا ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه‌السلام). انتهى.

وقال ابن الهمام : أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بهذه الآية ونحوها. ولذا لم يقولوا : بتلقين القبر. وقالوا : لو حلف لا يكلم فلانا ، فكلمه ميتا لا يحنث. وأورد عليهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أهل القليب (ما أنتم بأسمع منهم) وأجيب تارة بأنه روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها أنكرته. وأخرى بأنه من خصوصياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة له. أو أنه تمثيل. كما روي عن علي كرم الله وجهه. وأورد عليه ما في مسلم (٢) من أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا. إلا أن يخص بأول الوضع في القبر ، مقدمة للسؤال ، جمعا بينه وبين ما في القرآن. نقله الشهاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٥٥)

__________________

(١) الحديثان أخرجهما البخاري في : الجنائز ، ٨٧ ـ باب ما جاء في عذاب القبر ، حديث ٧٢٦ و ٧٢٧.

(٢) أخرجه مسلم في : الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، حديث رقم ٧١.

٢١

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) قرئ بفتح الضاد وضمها. أي من أصل ضعيف هو النطفة (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) يعني حال الطفولة والنشء (قُوَّةً) يعني حال البلوغ والشبيبة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي بالشيخوخة والهرم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي من الأشياء. ومنها هذه الأطوار التي يتقلب بها الإنسان (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) أي الواسع العلم والقدرة. كيف؟ وهذا الترديد في الأحوال المختلفة والتغيير من صفة إلى صفة ، أظهر دليل على علم الصانع سبحانه وقدرته ، المستتبع انفراده بالألوهية (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) أي في الدنيا أو القبور. وإنما يقدرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له. أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا. وهكذا كانوا يبتون أمرهم على خلاف الحق. كذا في (الكشاف).

وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة. ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان. وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضا. فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا. ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. انتهى.

وقال الشهاب : المراد من قوله : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ، تشابه حاليهم في الكذب وعدم الرجوع إلى مقتضى العلم. لأن مدار أمرهم على الجهل والباطل. والغرض من سوق الآية وصف المجرمين بالتمادي في الباطل ، والكذب الذي ألفوه. انتهى.

وقيل : كان قسمهم استقلالا لأجل الدنيا ، لما عاينوا الآخرة ، تأسفا على ما أضاعوا في الدنيا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٥٧)

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) ردّا لما حلفوا عليه ، وإطلاعا لهم على الحقيقة (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي فيما كتبه الله وأوجبه بحكمته (إِلى يَوْمِ

٢٢

الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أنه حق ، لتفريطكم في طلب الحق واتباعه (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي بالشرك ، أو إنكار الربوبية ، أو الرسالة ، أو شيء لا يجب الإيمان به (مَعْذِرَتُهُمْ) أي بأنهم كفروا عن جهل. لأنه إنما كان عن تقصيرهم في إزالته ، أو عن عناد (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي ولا يطلب منهم الإعتاب. أي إزالة العتب بالتوبة والطاعة. لأنهما ، وإن كانتا ماحيتين للكفر والمعاصي ، فإنما كان لهما ذلك في مدة الحياة الدنيا ، لا غير.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل وصف يوضح الحق ويزيل اللبس. أو من كل دليل على الأمور الأخروية. والحق يجري مجرى المثل في الظهور (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) أي مما اقترحوه أو غيرها (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) أي لا يؤمنون بها. ويعتقدون أنها سحر وباطل (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق. بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها. فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ، ويوجب تكذيب المحق. قاله أبو السعود (فَاصْبِرْ) أي على ما تشاهد منهم ، من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي في قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] ، (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يحملنك على الخفة والقلق (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) أي بما تتلو عليهم من الآيات البينة ، بتكذيبهم إياها ومكرهم فيها. فإنه تعالى منجز لك ما وعدك من نصرك عليهم وجعله العاقبة لك ، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين.

٢٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة لقمان

سميت به لاشتمالها على قصته التي تضمنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته ، وذم الشرك والأمر بالأخلاق والأفعال الحميدة. والنهي عن الذميمة. وهي معظمات مقاصد القرآن. قاله المهايميّ. وهي مكية. ويقال : إلا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ ...) [لقمان : ٢٧ ـ ٢٨] ، الآيتين. وآياتها أربع وثلاثون آية. وسيأتي الكلام على لقمان والخلاف فيه.

٢٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦)

(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي ذي الحكمة الناطق بها (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بيان لإحسانهم ، يعني ما عملوه من الحسنات. أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه ، لإظهار فضلها وإنافتها على غيرها. والمراد بالزكاة ، على أنها مكية هي مطلق إخراج المال تقربا بالتصدق منه ، وتزكية للنفس بإيتائه ، من وصمة البخل والشح المردي لها. لا أنصباؤها المعروفة. فإنها إنما بيّنت بالمدينة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تعريض بالمشركين. وأنهم يستبدلون بهذا الكتاب المفيد الهدى والرحمة والحكمة ، ما يلهي من الحديث عن ذلك الكتاب العظيم. ليضلّوا أتباعهم عن الدين الحق. قال الزمخشريّ : و (اللهو) كل باطل ألهى عن الخير ، وعما يعني. ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير ، والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرافات والمضاحيك وفضول الكلام. وما لا ينبغي ، مما كانوا يؤفكون به عن استماع حكم التنزيل وأحكامه. ويؤثرونه على حديث الحق. وقوله تعالى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بما هي الكمالات ومنافعها ، والنقائص ومضارّها (وَيَتَّخِذَها هُزُواً) الضمير للسبيل ، وهو مما يذكر ويؤنث (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

٢٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠)

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى) أي أعرض عنها (مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أي ثقلا مانعا من السماع (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الضمير للسموات. وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله (بِغَيْرِ عَمَدٍ) كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني. والجملة لا محل لها لأنها مستأنفة. أو في محل الجر ، صفة للعمد. أو بغير عمد مرئية. يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها ، بقدرته. كذا في (الكشاف) (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي تميل فتهلككم لما في جوفها من قوة الجيشان (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) أي من كل نوع من أنواعها (وَأَنْزَلْنا) أي لحفظكم وحفظ دوابّكم ، وللرفق بكم وبدوابكم (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف من الأغذية والأدوية (كَرِيمٍ) أي كثير المنافع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(١١) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢)

(هذا) أي ما ذكر من السموات والأرض ، وما تعلق بهما من الأمور المعدودة (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إضراب عن تبكيتهم بما ذكر ، إلى التسجيل عليهم بالضلال البيّن المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة ، لاستحالة أن يفهموا منها شيئا ، فيهتدوا به إلى العلم

٢٦

ببطلان ما هم عليه. أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه. ووضع الظاهر موضع ضميرهم ، للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه. ومتعدون عن الحدود. وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. أفاده أبو السعود.

ثم أشار تعالى إلى أن بطلان الشرك مقول على لسان ذوي الحكمة. كيف لا؟ والتوحيد أساس الحكمة ، بقوله سبحانه (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) يعني استكمال النفس بالعلوم النظرية ، وملكة الأفعال الفاضلة بقدر الطاقة البشرية ، آمرين له على لسان نبيّ أو بطريق الإلهام (على قول الجمهور أنه حكيم) أو الوحي (على قول عكرمة أنه نبيّ) (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) أي على ما أعطاك من نعمه ، من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا. كذا قاله المهايميّ. والأظهر أن (أن) مفسرة. فإن إتيان الحكمة في معنى القول. والشكر كلمة تجمع ما تدور عليه سعادة الدنيا والآخرة. لأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه إلى ما خلق لأجله (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لعود ثمرات شكره عليه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي غنيّ عن كل شيء. فلا يحتاج إلى الشكر. وحقيق بالحمد. بل نطق بحمده كل موجود.

تنبيه :

قال ابن كثير : اختلف السلف في لقمان. هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ، على قولين : الأكثرون على الثاني. ويقال إنه كان قاضيا على بني إسرائيل ، في زمن داود عليه‌السلام. وما روي من كونه عبدا مسّه الرق ، وينافي كونه نبيا. لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها. ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا ، وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة ، إن صح السند إليه. فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة. قال : كان لقمان نبيا. وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفيّ. وهو ضعيف. والله أعلم. انتهى.

وزعم بعضهم أن لقمان هو بلعام المذكور في التوراة ، وكان حكيم شعب وثنيّ. وكان منبأ عن الله تعالى. وأغرب في تقريبه ، بأن الفعل العربيّ وهو (لقم) معناه بالعبريّ بلع. والله أعلم.

وقد نظم السيوطيّ من اختلف في نبوته ، فقال :

واختلفت في خضر أهل النقول

قيل نبيّ أو وليّ أو رسول

لقمان ، ذي القرنين ، حواء ، مريم

والوقف في الجميع رأي المعظم

٢٧

ثم قرن لقمان ، بوصيته إياه بعبادة الله وحده ، البرّ بالوالدين ، كما قال تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ، وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن الكريم. وقال هاهنا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤)

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي بالإحسان إليهما ، لا سيما الوالدة. لأنه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا فوق ضعف إلى الولادة. و (وهنا) حال من (أمه) أي ذات وهن. أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال. أي : تهن وهنا. وقوله (عَلى وَهْنٍ) صفة للمصدر. أي كائنا على وهن. أي تضعف ضعفا فوق ضعف. فإنها لا تزال يتزايد ضعفها. لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا (وَفِصالُهُ) أي فطامه (فِي عامَيْنِ) ثم فسّر الوصية بقوله سبحانه (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي بأن تعرف نعمة الإحسان وتقدره قدره. قال في (البصائر) : الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور. وحبه له. واعترافه بنعمته. والثناء عليه بها. وأن لا يستعملها فيما يكره. هذه الخمسة هي أساس الشكر وبناؤه عليها. فإن عدم منها واحدة ، اختلّت قاعدة من قواعد الشكر. وكل من تكلم في الشكر ، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور. انتهي.

وقوله تعالى (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) تعليل لوجوب الامتثال. أي إليّ الرجوع ، لا إلى غيري ، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر.

تنبيهات

الأول ـ قال الزمخشريّ : فإن قلت : قوله تعالى (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت : لما وصى بالوالدين ، ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا ، وتذكيرا بحقها العظيم مفردا.

٢٨

ومن ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)(لمن قال له من أبرّ؟) : أمك ثم أمك ثم أمك. ثم قال بعد ذلك : ثم أباك. وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه.

أحمل أمّي وهي الحمّاله

ترضعني الدّرّة والعلالة

ولا يجازى والد فعاله الثاني ـ قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كقوله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣] ، ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. لأنه قال في الآية الأخرى (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥] ، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا ، ليذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه. كما قال تعالى (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٤].

الثالث ـ قال الزمخشريّ : فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة ، أنها الغاية التي لا تتجاوز. والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم ، إن علمت أنه يقوى على الفطام ، فلها أن تفطمه. ويدل عليه قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥)

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) أي في إشراك ما لا تعلمه مستحقا للعبادة ، تقليدا لهما.

وقال الزمخشريّ : أراد بنفي العلم به نفيه ، أي لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الأدب ، ٢ ـ باب من أحق الناس بحسن الصحبة ، حديث رقم ٢٣٠٩ ، عن أبي هريرة.

٢٩

كقوله : (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ٤٢].

قال في (الكشف) : ليس هذا من قبيل نفي العلم لنفي وجوده. كما مر في القصص. وإلا لقال ما ليس بموجود. بل أراد أنه بولغ في نفيه حتى جعل كلا شيء. ثم بولغ في سلك المجهول المطلق.

قال الشهاب : وهذا تقرير حسن ، فيه مبالغة عظيمة (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.

قال السيوطيّ في (الإكليل) : في الآية أن الوالد لا يطاع في الكفر. ومع ذلك يصحب معروفا (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) أي بالتوحيد والإخلاص في الطاعات ، وعمل الصالحات (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كناية عن الجزاء ، كما تقدم نظائره.

قال القاضي : والآيتان ، يعني (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إلى قوله ـ (تَعْمَلُونَ) معترضتان في تضاعيف وصية لقمان ، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك. كأنه قال : وقد وصينا بمثل ما وصى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك. فإنهما ، مع أنهما تلو البارئ تعالى في استحقاق التعظيم والطاعة ، لا يجوز أن يطاعا في الإشراك. فما ظنك بغيرهما؟ انتهى.

ثم بين تعالى بقية وصايا لقمان ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧)

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي إن الخصلة من الإساءة أو الإحسان ، إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر ، في أخفى مكان وأحرزه ، كجوف الصخرة. أو حيث كانت في العالم العلويّ أو السفليّ (يَأْتِ بِهَا اللهُ) أي يحضرها ويحاسب عليها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي ينفذ علمه وقدرته في كل شيء (خَبِيرٌ) أي يعلم كنه الأشياء ، فلا يعسر عليه. والآية هذه كقوله تعالى : (وَنَضَعُ

٣٠

الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء : ٤٧] الآية ، وقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ و ٨].

لطيفة :

قوله تعالى (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) الآية ، من البديع الذي يسمى التتميم. فإنه تمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة. وهو من وادي قولها (كأنه علم في رأسه نار). (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) أي بحدودها وفروضها وأوقاتها ، لتكميل نفسك بعبادة ربك (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) لتكميل غيرك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) أي من المحن والبلايا. أو فيما أمرت به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الداعي إلى الحق معرّض لإيصال الأذى إليه. وهو أظهر. ويطابقه آية (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣] ، (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى الصبر. أو إلى كل ما أمر به (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي مما عزمه الله من الأمور. أي قطعه قطع إيجاب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩)

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) أي لا تعرض بوجهك عنهم ، إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقارا منك لهم ، واستكبارا عليهم. ولكن ألن جانبك ، وابسط وجهك إليهم. كما جاء في الحديث (١) (ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط) (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي خيلاء متكبرا (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي معجب في نفسه (فَخُورٍ) أي على غيره (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي توسط بين الدبيب والإسراع (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) أي انقص من رفعه ، وأقصر ، فإنه يقبح بالرفع حتى ينكره الناس ، إنكارهم على صوت الحمير. كما قال (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)

__________________

(١) أخرجه الترمذي في : البر والصلة ، ٤٥ ـ باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر ، ونصه : كل معروف صدقة. وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك ، عن جابر بن عبد الله.

٣١

معللا للأمر على أبلغ وجه وآكده و (أنكر) بمعنى أوحش. من قولك (شيء نكر) إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت ، كما يقال في العرف للقبيح (وحش) وأصله ضد الأنس والألفة. فهو إما مجاز أو كناية.

قال الزمخشريّ : الحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة وكذلك نهاقه. ومن استفحاشهم لذكره مجردا ، وتفاديهم من اسمه ، أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به. فيقولون (الطويل الأذنين) كما يكنى عن الأشياء المستقذرة. وقد عدّ في مساوي الآداب ، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة. ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا ، وإن بلغت منه الرحلة. فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه ، وإخراجه مخرج الاستعارة ، وأن جعلوا حميرا ، وصوتهم نهاقا ـ مبالغة شديدة في الذم والتهجين. وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه. وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان. انتهى.

تنبيه :

جاء ذكر لقمان في أحاديث مرفوعة. منها ما رواه الإمام أحمد (١) عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه. وروى ابن أبي حاتم عن القاسم بن مخيمرة ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه : يا بنيّ إياك والتقنع ، فإنه مخوفة بالليل ، مذمة بالنهار.

ومن الآثار فيه ما رواه ابن أبي حاتم عن السريّ بن يحيى قال : قال لقمان لابنه : يا بنيّ إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.

وعن عون بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بنيّ! إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام (يعني السلام) ثم اجلس في ناحيتهم ، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا. فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم. وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. نقله ابن كثير رحمه‌الله.

ثم نبه تعالى خلقه على نعمه الوافرة المستتبعة انفراده بالألوهية ، فقال سبحانه :

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢ / ٨٧.

٣٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢١)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي من النجوم والشمس والقمر ، التي ينتفعون من ضيائها وما تؤثره في الحيوان والنبات والجماد بقدرته تعالى. وكذا من الأمطار والسحب والكوائن العلوية التي خلقها تعالى لنفع من سخرت له. وكذا ما أوجد في الأرض من قرار وأشجار وأنهار وزروع وثمار ، ليستعملها من سخرت له فيما فيه حياته وراحته وسعادته (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) أي محسوسة ومعقولة. كإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة الشبه والعلل (وَمِنَ النَّاسِ) يعني الجاحدين نعمته تعالى (مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في توحيده وإرساله الرسل (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي برهان قاطع مستفاد من عقل (وَلا هُدىً) أي دليل مأثور عن نبيّ (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي منزل من لدنه تعالى ، بل لمجرد التقليد. و (المنير) بمعنى المنقذ من ظلمة الجهل والضلال (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لمن يجادل. والجمع باعتبار المعنى (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي يدعو آباءهم إلى اعتقادات وأعمال ، هي أسباب العذاب. كأنه يدعوهم إلى عين العذاب.

فهم متوجهون إليه حسب دعوته. ومن كان كذلك فإنّى يتبع.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

٣٣

(٢٦) وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٩)

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي في أعماله (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب. وهو تمثيل لحال المؤمن المخلص المحسن ، بحال من أراد رقيّ شاهق ، فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلّي منه (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي من الأعمال الظاهرة والباطنة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على أن جعل دلائل التوحيد بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون أيضا (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي شيئا ما. فلذلك ؛ لا يعملون بمقتضى اعترافهم (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فلا يستحق العبادة فيهما غيره (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) أي عن العالمين ، وهم فقراء إليه جميعا (الْحَمِيدُ) أي المحمود فيما خلق وشرع ، بلسان الحال والمقال (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد نفاده (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي التي أوجد بها الكائنات ، وسيوجد بها ما لا غاية لحصره ومنتهاه. والسبعة ، إنما ذكرت ، على سبيل المبالغة لا الحصر. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) أي إلا كخلقها وبعثها في سهولته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي أمد قدره الله تعالى لجريهما ، وهو يوم القيامة (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لأن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق ، والتدبير الفائق ، لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزوجل محيطا بما يأتي ويذر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)

٣٤

(ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع واختصاص البارئ بها (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي بسبب أنه الحق ، وجوده وإلهيته (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي بإحسانه في تهيئة أسبابه (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي عظيم الصبر على البأساء والضراء (شَكُورٍ) أي كثير الشكر للنعم ، بالقيام بحقها (وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي علاهم وأحاط بهم (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) أي كالسحب والحجب (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي التجأوا إليه تعالى وحده ، لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد ، بما دهاهم من الضر (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) قال ابن كثير : قال مجاهد : أي كافر ، كأنه فسر (المقتصد) هاهنا بالجاحد كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل. وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر : ٣٢] الآية ، فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل. ويحتمل ، أن يكون مرادا هنا أيضا ، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام ، والآيات الباهرات في البحر. ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك ، كان مقصرا والحالة هذه ، والله أعلم. انتهى (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي غدّار ، ناقض للعهد الفطريّ ولعقد العزيمة وقت الهول البحريّ (كَفُورٍ) أي مبالغ في كفران نعمه تعالى. لا يقضي حقوقها ، ولا يستعملها في محابّه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) أي ليس بمغن أحدهما عن الآخر شيئا ، لانقطاع الوصل في ذلك اليوم الرهيب. قال أبو السعود : وتغيير النظم ـ في الثانية ـ للدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزى. وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة (إِنَ

٣٥

وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي بالثواب والعقاب. لا يمكن إخلافه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم وقت قيامها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي في وقته الذي قدره ، وإلى محله الذي عينه في علمه (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) أي من ذكر أو أنثى ، سعيد أو شقيّ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) أي من خير أو شر (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) أي في بلدها أو غيره. لاستئثار الله تعالى بعلم ذلك. وقد جاء الخبر تسمية هذه الخمس ، مفاتح الغيب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي بما كان ويكون ، وبظواهر الأشياء وبواطنها ، لا إله إلا هو.

٣٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السجدة

سميت بها ، لأن آية السجدة منها ، تدل على أن آيات القرآن من العظمة بحيث تخرّ وجوه الكل ، لسماع مواعظها ، وتنزه منزلها عن أن يعارض في كلامه. وبشكره على كمال هدايته. وهذا أعظم مقاصد القرآن. أفاده المهايميّ. وهي مكية ، وآيها ثلاثون.

روى البخاريّ (١) في (كتاب الجمعة) عن أبي هريرة قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الفجر ، يوم الجمعة الم تنزيل السجدة ، وهل أتى على الإنسان.

ورواه مسلم (٢) أيضا.

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينام حتى يقرأ الم. تنزيل السجدة ، وتبارك الذي بيده الملك.

قال ابن كثير : تفرد به أحمد رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : الجمعة ، ١٠ ـ باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ، حديث ٥٢٢.

(٢) أخرجه في : الجمعة ، حديث رقم ٦٥ و ٦٦.

٣٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣)

(الم) تقدم أن هذه الفواتح أسماء للسور (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي في كونه منزلا (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي يتبعون الحق. وذلك أن قريشا لم يبعث إليهم رسول ، قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلطف تعالى بهم وبعث فيهم رسولا منهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٥)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم الكلام في ذلك (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) أي ما لكم عنده ناصر ولا شفيع من الخلق (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) أي تتعظون بالقرآن فتؤمنوا (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) أي يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية ، من الملائكة وغيرها ، نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي يصعد إليه ، أي مع الملك للعرض عليه (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي مقدار صعوده على غير الملك ، ألف سنة من سني الدنيا.

قال ابن كثير : أي يتنزل أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرضين. كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ)

٣٨

[الطلاق : ١٢] الآية. وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق السماء. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

(ذلِكَ) أي المدبر (عالِمُ الْغَيْبِ) أي ما غاب عن العباد وما يكون (وَالشَّهادَةِ) أي ما علمه العباد وما كان (الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره (الرَّحِيمُ) أي بالعباد في تدبره (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي أحكم خلق كل شيء. لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) يعني آدم (مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي من نطفة (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف ممتهن. والسلالة الخلاصة. وأصلها ما يسلّ ويخلص بالتصفية (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي قوّمه في بطن أمه (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي جعل الروح فيه ، وأضافه إلى نفسه تشريفا له (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي خلق لكم هذه المشاعر ، لتدركوا بها الحق والهدى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي بأن تصرفوها إلى ما خلقت له.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢)

(وَقالُوا) أي كفار مكة (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميز منه ، أو غبنا فيها (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي نجدد بعد الموت (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بالبعث بعد الموت للجزاء والحساب (كافِرُونَ) أي جاحدون. قال أبو السعود : إضراب وانتقال من بيان كفرهم بالبعث ، إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه ، وهو كفرهم بالوصول إلى العاقبة ، وما يلقونه فيها من الأحوال والأهوال جميعا (قُلْ) أي بيانا للحق وردّا على زعمهم الباطل (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) أي يقبض أرواحكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي بالبعث للحساب والجزاء.

٣٩

فائدة :

قال ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) في هذه الآية : مذهب جمهور أصحابنا أن الروح جسم لطيف بخاريّ يتكوّن من ألطف أجزاء الأغذية ، ينفذ في العروق ، حالّة فيها. وكذلك للقلب ، وكذلك للكبد.

وعندهم أن لملك الموت أعوانا تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه. لو لا ذلك لتعذر عليه وهو جسم أن يقبض روحين في وقت واحد في المشرق والمغرب ، لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين. في وقت واحد.

قال أصحابنا : ولا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضون للأرواح عند انقضاء الأجل.

قالوا : وكيفية القبض ، ولوج الملك من الفم إلى القلب ، لأنه جسم لطيف هوائي ، لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة ، فيخالط الروح ، التي هي كالشبيهة بها ، لأنها بخاريّ. ثم يخرج من حيث دخل ، وهي معه.

وإنما يكون ذلك في الوقت الذي يأذن الله تعالى له فيه وهو حضور الأجل.

فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق ليقبض روحه تحت الماء. فالتزموا ذلك ، وقالوا : ليس بمستحيل أن يتخلل الملك الماء في مسامّ الماء ، فإن فيه مسامّ ومنافذ وفي كل جسم. على قاعدتهم في إثبات المسامّ في الأجسام.

قالوا : ولو فرضنا أنه لا مسامّ فيه ، لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا ، كما يلجه الحجر والسمك ، وغيرهما. وكالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر فتقعره وتحفره. وقوة الملك أشدّ من قوة الريح. انتهى.

والأولى الوقوف ، فيما لم تعلم كيفيته ، عند متلوّه وعدم مجاوزته ، أدبا عن التهجم على الغيب وتورعا عن محاولة مالا يبلغ كنهه ، وأسوة بما مضى عليه من لم يخض فيه ، وهم الخيرة والأسوة ، والله أعلم.

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ) وهم القائلون تلك المقالة الشنعاء (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي مطأطئوها من الحياء والخزي ، لما قدمت أيديهم (رَبَّنا) أي يقولون ربنا (أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) أي علمنا ما لم نعلم ، وأيقنا بما لم نكن به موقنين (فَارْجِعْنا) أي إلى الدنيا (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) أي مقرّون بك وبكتابك ورسولك والجزاء.

٤٠