تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

أن يكون تقديره : أفمن زين له سوء عمله ، ذهبت نفسك عليهم حسرة ، بقوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تهلك نفسك حزنا على ضلالهم وعدم اتباعهم لك (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي فيجازيهم عليه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩)

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، كَذلِكَ النُّشُورُ) أي مثل إحياء الموات ، إحياء الأموات. وكثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها ، ليعتبر المرتاب في هذا. فإنه من أظهر الآيات وأوضحها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠)

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) أي الشرف والرفعة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي فليطلبها من عنده ، باتباع شريعته ، وموالاة أنبيائه ورسله والتأسي بهم في الصلاح والإصلاح ، والصبر والثبات ، واطّراح كل ملامة رغبة في الحق وعملا بالصدق. وهذا كآية (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٣٩]. وكآية (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وهو الداعي إلى الحق والإصلاح ، والمنبه على سبل الضلال والفساد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي يرفع الكلم العمل الصالح ، على أن يكون المستكن للكلم. إشارة إلى أن العمل لا يقبل إلا بالكلم المؤثر في إبلاغ دعوة الخير. والضمير المستتر للعمل. والبارز للكلم. أي يكون العمل الصالح موجبا لرفعها وقبولها لأنه يحققها ويصدقها ، كما قال تعالى عن شعيب عليه‌السلام (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] ، (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي الأعمال السيئة المفسدة لصلاح الأمة وقيام عمرانها (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي يضمحلّ. لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه.

١٦١

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١)

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي ذكرانا وإناثا. لطفا منه ورحمة (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي من أحد. وإنما سمي معمرا لما يؤول إليه. أي وما يمدّ في عمر أحد (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) وهو علمه تعالى الذي سبق. ببلوغ أصله إليه (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : الحفظ والزيادة أو النقص ، سهل. لشمول علمه وعموم قدرته.

لطيفة :

الضمير في (عمره) للمعمر قبله. باعتبار الأصل المحوّل عنه. لأن الأصل (وما يعمر من أحد) كما ذكرنا. أو هو على التسامح المعروف فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين : كقولهم (له عليّ درهم ونصفه) أي نصف درهم آخر. أو للمنقوص من عمره لا للمعمر ، كما في الوجه السابق ، وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور ، كما قيل (وبضدها تتبين الأشياء) فيعود الضمير على ما علم من السياق. وقد أطال بعضهم الكلام في ذلك. ومحصله ، كما ذكره الشهاب ، أنه اختلف في معنى (معمره) فقيل : المزاد عمره. بدليل ما يقابله من قوله (يُنْقَصُ) إلخ. وقيل (من يجعل له عمر). وهل هو واحد أو شخصان؟ فعلى الثاني هو شخص واحد. قالوا مثلا : يكتب عمره مائة ثم يكتب تحته مضى يوم ، مضى يومان ، وهكذا ، فكتابة الأصل هي التعمير. والكتابة بعد ذلك هو النقص. كما قيل :

حياتك أنفاس تعدّ فكلما

مضى نفس منها انتقصت به جزءا

والضمير في (عمره) حينئذ راجع إلى المذكور. والمعمّر هو الذي جعل الله له عمرا طال أو قصر. وعلى القول الأول هو شخصان. والمعمر الذي يزيد في عمره. والضمير حينئذ راجع إلى (معمر آخر) إذ لا يكون المزيد من عمره منقوصا من عمره. وهذا قول الفرّاء وبعض النحويين. وهو استخدام أو شبيه به. انتهى.

ثم أشار تعالى لآيات أخرى من آيات قدرته ووحدانيته ، بقوله :

١٦٢

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢)

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي شديد العذوبة (سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي قويّ الملوحة (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) يعني السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) أي زينة تتحلّون بها. كما قال تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]. (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) أي تمخر الماء وتشقه بجريها (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي بالتنقل فيها (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣)

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني مدة دوره ، أو منتهاه ، أو يوم القيامة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي فإنّى يستأهلون العبادة. و (القطمير) لفافة النواة. وهو مثل في القلة والحقارة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (١٤)

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) أي على الفرض (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي لعدم قدرتهم على النفع (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يقرون ببطلانه ، وأن لا أمر لهم فيه (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك بالأمر مخبر ، مثل خبير عظيم أخبرك به. وهو الحق سبحانه. فإنه الخبير بكنه الأمور دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفي ما يدعون لهم من الإلهية.

١٦٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) أي رحمته وعنايته ولطفه وإمداده في كل لمحة ونفس. وسرّ وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد ، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى. والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر وأخذت البأساء بمخانقهم ، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعا إلى سؤاله لا مردّ له. وحاثّا إلى اللجإ إليه لا صادّ عنه. كما بين في غير آية. مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة. لغناه المطلق ، كما قال (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي المحمود لنعمه التي لا تحصى.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧)

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع. قال الزمخشريّ : وهذا غضب عليهم ، لاتخاذهم له أندادا ، وكفرهم بآيه ، ومعاصيهم ، كما قال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) [محمد : ٣٨].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس آثمة (وِزْرَ أُخْرى) أي إثم نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته ، لا تؤخذ نفس بذنب نفس. كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ والجار بالجار ، ولا يرد آية (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، لأنها في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ، ما فيها شيء من وزر غيرهم.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس أثقلتها الأوزار (إِلى حِمْلِها) أي إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) أي لم تجب ولم تغث بحمل شيء (وَلَوْ كانَ) أي المدعوّ المفهوم من الدعوة (ذا قُرْبى) أي ذا قرابة من الداعي ، من أب أو ولد أو أخ. وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم وغنائهم عنهم. وأنه لا تملك نفس

١٦٤

لنفس شيئا ، وأن كل امرئ بما كسب رهين. ثم بين من يتعظ ويتذكر. فقال سبحانه (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهر من أوضار الأوزار (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩)

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثل للكافر والمؤمن.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ) (٢٠)

(وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) مثل للحق والباطل.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ) (٢١)

(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) مثل للثواب والعقاب و (الْحَرُورُ) الريح الحارة بالليل ، وقد تكون بالنهار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢٢)

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي : ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله ومعرفة تنزيله ، وأموات القلوب. لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله ، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه ، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه. وهذا ترشيح لتمثيل المصرّين على الكفر بالأموات ، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام ، من إيمانهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ) (٢٣)

١٦٥

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر. فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع. وإن كان من المصرّين فلا عليك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة من الأمم الدائنة بملة ، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله ، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧]. وكقوله سبحانه (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦].

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥)

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي : وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك ، فلا تبال بهم وتأس بمن كذّب من الرسل السالفة ، فقد جاءوهم بالآيات والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم ، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح ، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله ، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق. وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر ، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب ، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا. وجوز أن يراد بالجميع واحد ، والعطف لتغاير الأوصاف.

القول في تأويل قوله تعالى :

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٢٦)

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري بالعقوبة. وفيه مزيد تشديد وتهويل لها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧)

١٦٦

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ، وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) قرأ الجمهور (جدد) بضم الجيم وفتح الدال ، جمع (جدة) بالضم ، وهي الطريقة من (جدّه) إذا قطعه ، أي ومن الجبال ذوو جدد ، أي طرائق بيض وحمر. وإنما قدر المضاف ، لأن الجبال ليست نفس الطرائق. و (غرابيب) جمع (غربيب) وهو الأسود المتناهي في السواد ، يقال : أسود غربيب ، كما يقال : أحمر قان ، وأصفر فاقع ، تأكيدا. وإما قدم هنا ، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير ، ذهابا إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨)

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي اختلافا كذلك ، أي كاختلاف الثمرات والجبال. وقوله تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) تكملة لقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] ، بتعيين من يخشاه عزوجل من الناس ، بعد بيان اختلاف طبقاتهم ، وتباين مراتبهم ، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل. وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح ، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان. أي إنما يخشاه تعالى بالغيب ، العالمون به عزوجل ، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة. لما أن مدار الخشية معرفة المخشيّ والعلم بشئونه ، فمن كان أعلم به تعالى ، كان أخشى منه عزوجل. كما قال عليه الصلاة والسلام : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (١). ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته. وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة ، امتنع إنذارهم بالكلية. أفاده أبو السعود.

وقال القاشانيّ : أي ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به ، لأن الخشية ليست هي خوف العقاب ، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة واستحضاره لها. فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته. ومن تجلى الله له بعظمته ، خشيه حق خشيته. وبين الحضور التصوّريّ الحاصل للعالم غير العارف ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : النكاح ، ١ ـ باب الترغيب في النكاح ، حديث رقم ٢٠٩٩ عن أنس بن مالك ، قطعه من حديث طويل.

١٦٧

وبين التجلّي الثابت للعالم العارف ـ بون بعيد. ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان. انتهى.

ويذكر بعض المفّسرين هنا القراءة الشاذة. رفع الاسم الجليل ونصب العلماء. ويتأوّلون الخشية بالتعظيم استعارة. وربما استشهدوا بقوله :

أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليّ ولكن ملء عين حبيبها

وقد طعن في (النشر) في هذه القراءة. والحق له. لمنافاتها للسياق والسباق. وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ! وبالله التوفيق.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي غالب على كل شيء بعظمته ، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحا.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (٢٩)

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يداومون على تلاوته وتدبره ، للأخذ بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) أي أجرا وفضلا لا يفنى ، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة. والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٠)

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي لأعمالهم. والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢)

١٦٨

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) أي : ثم ، بعد أخذ الذين كفروا ، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل وعناية ورحمة ، المصطفين من الموحدين. ثم بيّن انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة ، بقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي بالإثم والعصيان (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي في العمل ، ليس من المجرمين ولا من السابقين (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٤)

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)

القول في تأويل قوله تعالى :

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥)

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي الإقامة (مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) أي تعب (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي كلال.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي : أو ما عشتم في الدنيا أعمارا ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر؟ قال قتادة : اعلموا أن طول العمر حجة. فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر. وقد نزلت هذه الآية. وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة.

١٦٩

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً) (٣٩)

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي مستخلفين فيها. أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي بغضا شديدا (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً) (٤٠)

(قُلْ) أي تبكيتا لهم (أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي شركة في خلقها (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي حجة وبرهان ، بأنه أذن لهم في الإشراك (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣)

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما) أي ما أمسكهما (مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ

١٧٠

نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) وفي معنى الآية قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) [الأنعام : ١٥٦ ـ ١٥٧]. وقوله تعالى : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الصافات : ١٦٧ ـ ١٧٠].

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً(٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) أي بما اقترفوا من معاصيهم (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي من نسمة تدب ، لشؤم معاصيهم ، والضمير للأرض لسبق ذكرها. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرا بمن يستحق أن يعاقب ، وبمن يستوجب الكرامة.

١٧١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يس

هي مكية. واستثنى منها بعضهم قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] الآية ، لما أخرجه الترمذيّ (١) والحاكم عن أبي سعيد قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة. فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية. ولا حاجة لدعوى الاستثناء فيها وفي نظائرها. لأن ذلك مبنيّ على أن المراد بالنزول أن الواقعة كانت سببا لنزولها ، مع أن النزول في الآثار يشمل ذلك ، وكل ما تصدق عليه الآية ، كما بيناه مرارا. لا سيما في المقدمة. يؤيده أنه جاء في هذه الرواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ لهم هذه الآية. كما في رواية الصحيحين (٢). وهكذا يقال فيما روي أن آية (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) [يس : ٣٧]. من هذه السورة نزلت في المنافقين. فإن المراد ما ذكرناه. ولم يهتد لهذا التحقيق أرباب الحواشي هنا ، فاحفظه. وآيها ثلاث وثمانون آية. ومما روي في فضلها ما أخرجه (٣) الترمذيّ عن أنس رفعه : إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ، وفي إسناده ضعف.

__________________

(١) أخرجه في : التفسير ، ٣٦ ـ سورة يس ، ١ ـ حدثنا محمد بن وزير الواسطي.

(٢) أخرجه البخاري في : الأذان ، ٣٣ ـ باب احتساب الآثار ، حديث ٤١٥ ، عن أنس ، وليس في مسلم.

(٣) أخرجه في : ثواب القرآن ، ٧ ـ باب ما جاء في فضل يس.

١٧٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(يس) (١)

(يس) تقدم الكلام في مثل هذه الفواتح مرارا. وحاصله ـ كما قاله أبو السعود ـ أنها إما مسرودة على نمط التعديد ، فلا حظّ لها من الإعراب ، أو اسم للسورة كما نص عليه الخليل وسيبويه. وعليه الأكثر. فمحله الرفع على أنه خبر محذوف. أو النصب ، مفعولا لمحذوف ، وعليهما مدار قراءة (يس) بالرفع والنصب.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٢)

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) أي ذي الحكمة أو الناطق بالحكمة ، ولما كانت منزلة الحكمة من المعارف ، منزلة الرأس ، وكانت أخص أو صاف التنزيل ، أوثرت في القسم به دون بقية صفاته ، لذلك.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤)

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الموصل إلى المطلوب بدون لغوب. والتنكير للتفخيم والتعظيم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) (٥)

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) بالنصب على إضمار فعله ، وبالرفع خبر لمحذوف. أو خبر لـ (يس) إن كان اسما للسورة. أو مؤولا بها. والجملة القسمية معترضة. والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به ، اهتماما.

١٧٣

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٦)

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) أي برسول ولا كتاب (فَهُمْ غافِلُونَ) أي عن أمر حق الخالق والمخلوق ، بالكفر والفساد ونكران البعث والمعاد.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧)

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) أي استأهلوا لأن ينزل بهم العذاب وينتقم منهم أشد الانتقام (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يريدون أن يؤمنوا ويهتدوا ، كفرا وكبرا وعنادا. وبغيا في الأرض بغير الحق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (٨)

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أي اللحى. أي واصلة إليها وملزوزة إليها (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي ناصبو رؤوسهم ، غاضّو أبصارهم. يقال : أقمح الرجل ، في رأسه وغض بصره. وأقمح الغلّ الأسير ، إذا ترك رأسه مرفوعا لضيقه ، فهو مقمح. إذا لم يتركه عمود الغلّ الذي ينخس ذقنه ، أن يطأطئ رأسه. قال ابن الأثير : هي في قوله تعالى : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) كناية عن الأيدي لا عن الأعناق. لأن الغلّ يجعل اليد تلي الذقن والعنق ، وهو مقارب للذقن. وقال الأزهريّ : أراد عزوجل أن أيديهم لما غلّت عند أعناقهم ، رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا ، كالإبل الرافعة رؤوسها ، وهذا معنى قول ابن كثير : اكتفى بذكر الغل في العنق ، عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين ، لما دل السياق عليه. فإن الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٩)

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) قال الزمخشريّ : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم ، بأن جعلهم

١٧٤

كالمغلولين المقمحين ، في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رؤوسهم له. وكالحاصلين بين سدّين. لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم ، في أن لا تأمل لهم ولا تبصر. وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. انتهى. أي فالمجموع استعارة تمثيلية. وفي (الانتصاف) للناصر : إذا فرقت هذا التشبيه ، كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال. وكان استكبارهم عن قبول الحق وعن الخضوع والتواضع لاستماعه ، مشبها بالإقماح. لأن المقمح لا يطأطئ رأسه. وقوله (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) تتمة للزوم الإقماح لهم. وكان عدم الفكر في القرون الخالية مشبها بسدّ من خلفهم ، وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم انتهى. فيكون فيه تشبيه متعدد. قال الشهاب : والتمثيل أحسن منه. انتهى.

ثم قال الناصر : يحتمل أن تكون الفاء في (فهم مقمحون) للتعقيب ، كالفاء الأولى ، أو للتسبّب ، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغلّ يوجب الإقماح. فإن اليد ، والعياذ بالله ، تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن ، دافعة بها ومانعة من وطأتها. ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير ، فإن اليد متى كانت مرسلة مخلاة ، كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها. ولعله يتحيّل بها على فكاك الغلّ ، ولا كذلك إذا كانت مغلولة. فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة. أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم ، مشبها بغلّ الأيدي. فإن اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. انتهى.

وإنما اختير هذا ، لأن ما قبله وما بعده في ذكر أحوالهم في الدنيا ، وجعله أبو حيان لبيان أحوالهم في الآخرة ، على أنه حقيقة لا تمثيل فيه. فورد عليه أن يكون أجنبيا في البين. وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله : (حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) [يس : ٧] ، والأول أدق ، وبالقبول أحق.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠)

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) أي خوفتهم بالقرآن (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يريدون أن يؤمنوا. ولما صدقت الآية على مثل أبي جهل وأصحابه من كفرة قريش ، الذين هلكوا في بدر ، وكانوا طواغيت الكفر ، أشار بعضهم إلى أن الآية نزلت في ذلك.

١٧٥

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (١١)

(إِنَّما تُنْذِرُ) أي الإنذار المترتب عليه النفع (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن بالتأمل فيه والعمل به (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي عمل الصالحات لوجهه ، وإن كان لا يراه (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) أي لذنوبه في الدنيا (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي ثواب حسن في الجنة.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢)

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي للبعث (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نحفظ عليهم ما أسلفوا من الخير والشر (وَآثارَهُمْ) أي ما تركوه من سنة صالحة ، فعمل بها بعد موتهم. أو سنة سيئة فعمل بها بعدهم (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي في اللوح المحفوظ ، أو العلم الأزليّ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (١٣)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) أي مثّل لأهل مكة مثلا (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي اذكر لهم قصة عجيبة ، قصة أصحاب القرية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي الدعاة إلى الحق ورفض عبادة الأوثان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) (١٤)

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي فقوّيناهما برسالة ثالث (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ).

١٧٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧)

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي التبليغ عن الله ظاهرا بيّنا لا سترة فيه ، وقد خرجنا من عهدته.

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٨)

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم. فكان إذا حدث في البلد ما يسيء من حريق أو بلاء ، نسبوه إليهم. وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه ، وآثروه وقبلته طباعهم. ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا. كما حكى الله عن القبط (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف : ١٣١] ، وعن مشركي مكة (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] ، أفاده الزمخشري : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) أي عن دعوتكم إلى التوحيد (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

القول في تأويل قوله تعالى :

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

(قالُوا) أي الرسل (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي سبب شؤمكم معكم ، وهو الكفر والمعاصي (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي وعظتم بما فيه سعادتكم. وجواب الشرط محذوف ، ثقة بدلالة ما قبله عليه. أي تطيرتم وتوعدتم بالرجم والتعذيب (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي في الشؤم والعدوان.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (٢٠)

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) أي يسرع في المشي ، حيث سمع بالرسل

١٧٧

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أي بالإيمان بالله وحده.

القول في تأويل قوله تعالى :

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢١)

(اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي جعلا ولا مالا على الإيمان (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي في أنفسهم بالكمالات والأخلاق الكريمة والآداب الشريفة. أي فيجدر أن يتأسّى بهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٢)

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني. وهذا تلطّف في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه ، وإمحاض النصح ، حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه. والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره. كما ينبئ عنه قوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي بعد الموت.

القول في تأويل قوله تعالى :

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣)

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي فأضرع إليها وأعبدها ، وهي في المهانة والحقارة بحيث (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) أي من ذلك الضر ، بالنصر والمظاهرة. وفيه تحميق لهم ، لأن ما يتخذ ويصنعه المخلوق ، كيف يعبد؟

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥)

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي فاسمعوا إيماني واشهدوا به. قال السمين : الجمهور على كسر النون. وهي نون الوقاية ، حذفت بعدها ياء الإضافة ، مجتزى عنها بكسرة النون ، وهي اللغة العالية. وقرأ بعضهم بفتحها وهي غلط. انتهى.

١٧٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧)

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) أي ثوابا على صدق إيمانك وفوزك بسببه بالشهادة (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي ليقبلوا على ما أقبلت عليه ، ويضحوا لأجله النفس والنفيس.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) (٢٨)

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد موته بالشهادة (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي لإهلاكهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) قال الرازيّ : إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا ، على أسهل وجه ، فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩)

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ميتون كالنار الخامدة. رمزا إلى أن الحيّ كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب ، والميت كالرماد. كما قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

تنبيهات :

الأول ـ قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه‌السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين ، غيره. وفي ذلك نظر من وجوه :

أحدهما ـ أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عزوجل ، لا من جهة المسيح عليه‌السلام. كما قال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) ولو كان هؤلاء من الحواريين ، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه‌السلام. والله أعلم.

١٧٩

ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا.

الثاني ـ أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم. وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح. ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة. وهن : القدس لأنها بلد المسيح. وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها. والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والأساقفة والشمامسة والرهابين ، ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده. ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها ـ كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم ـ كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين ـ فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم.

الثالث ـ أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف. أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم. بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] ، فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن ، قرية أخرى غير أنطاكية. كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية ـ إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة ـ مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ، ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى كلام ابن كثير.

وأقول : إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها ، حرصا على الثمرة من أول الأمر ، واقتصارا على موضع الفائدة ، وبعدا عن مشرب القصاص والمؤرخين. لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى. وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت ، ثم إن المفسرين رحمهم‌الله عنوا بالبحث والأخذ والتلقي. فكان من سلف منهم يرون فيما يرون أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته. حتى جعل ذلك فنّا برأسه وألف فيه مؤلفات. ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت. لا سيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل. إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما ، إن كان جزمه من غير طريق القواطع فإن القاطع. هو

١٨٠