تفسير القاسمي - ج ٨

محمّد جمال الدين القاسمي

تفسير القاسمي - ج ٨

المؤلف:

محمّد جمال الدين القاسمي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الفتح

سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق ، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز. وكل هذه أمور جليلة ـ إفادة المهايميّ ـ.

وآيها تسع وعشرون ، وهي مدنية. نزلت مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة ، عدة له بالفتح. قال أنس : لما رجعنا من الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، فنحن بين الحزن والكآبة ، فنزلت. واختلف في المكان الذي نزلت فيه ، فوقع عند محمد بن سعد (بضجنان) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة. وعند الحاكم في ـ الإكليل ـ بكراع الغميم. وعن أبي معشر (بالجحفة).

قال الحافظ ابن حجر : والأماكن الثلاثة متقاربة. وروى البخاريّ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ وهو في بعض أسفاره ـ لعمر : لقد أنزلت عليّ الليلة سورة ، لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.

وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفّل قال : قرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح ، فرجّع فيها.

٤٨١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١)

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال الرازيّ : في الفتح وجوه :

أحدها ـ فتح مكة ، وهو ظاهر.

وثانيها ـ فتح الروم وغيرها.

وثالثها ـ المراد من الفتح ، صلح الحديبية.

ورابعها ـ فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان.

وخامسها ـ المراد منه الحكم ، كقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] ، وقوله (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) [سبأ : ٢٦]. انتهى.

ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها ، مما يصدق عليها الفتح الربانيّ ، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية ، الذي حفظ الثقات زمنه ، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه ، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.

قال الإمام ابن كثير : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ، ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك ، على تكرّه من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهم ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه حيث أحصر ورجع ، أنزل الله عزوجل هذه السورة ، فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم

٤٨٢

الحديبية. روى البخاريّ (١) عن البراء رضي الله عنه قال : (تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية).

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض» ، ثم قرأها عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخرجاه في الصحيحين (٢) من رواية قتادة به ـ.

وروى الإمام أحمد (٣) عن مجمّع بن جارية الأنصاريّ رضي الله عنه ـ وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن ـ قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجنا مع الناس نرجف ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

قال ، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه أبو داود في الجهاد.

ثم قال ابن كثير : فالمراد بقوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ـ أي بينا ظاهرا ـ هو صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأمن الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.

وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ، ما مثاله :

كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أمن الناس به ، وكلّم بعضهم بعضا ، وناظره في الإسلام ، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. ولهذا سماه الله فتحا في قوله (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) نزلت في الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال : نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٥ ـ باب غزوة الحديبية ، حديث ١٦٨٦.

(٢) أخرجه مسلم في : الجهاد ، حديث ٩٧.

(٣) أخرجه في المسند ٣ / ٤٢٠.

٤٨٣

المنبئة لها وعليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب ، قصة زكريا ، وخلق الولد له ، مع كونه كبيرا ، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة ، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به ، وذكر بانيه ، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة ، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢)

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) قال أبو السعود : غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى ، بمكابدة مشاقّ الحروف ، واقتحام موارد الخطوب. (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي جميع ما فرط منك ، من ترك الأولى. وتسميته ذنبا ، بالنظر إلى منصبه الجليل.

قال ابن كثير : هذا من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ، ولا من الآخرين. وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله ، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه ، قال حين بركت به الناقة : حبسها حابس الفيل. ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها ، فلما أطاع الله في ذلك ، وأجاب إلى الصلح ، قال الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...) الآيات».

وقوله تعالى : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك. (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويرشدك طريقا من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود : أصل الاستقامة ، وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلا قبل.

٤٨٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣)

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي قويّا منيعا ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، والظفر الذي يمدك به.

القول في تأويل قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤)

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أي السكون والطمأنينة إلى الإيمان والحق. (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي يقينا منضما إلى يقينهم.

قال القاشاني : السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن. وهو من مبادئ عين اليقين ، بعد علم اليقين ، كأنه وجدان يقينيّ معه لذة وسرور.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه. (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي في تقديره وتدبيره.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) (٥)

واللام في قوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) متعلق بمحذوف ، نحو : أمر بالجهاد ليدخل ... إلخ. أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك ، أو متعلق ب (فَتَحْنا) على تعلق الأول به مطلقا ، وهذا مقيدا ، أو بقوله (لِيَزْدادُوا). (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦)

٤٨٥

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي ظن الأمر السوء ، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع ، كالقتل والإهانة والإذلال. وقرئ (دائِرَةُ السَّوْءِ) بالضم ، وهما لغتان من (ساء) كالكره والكره. (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي بالقهر والحجب. (وَلَعَنَهُمْ) أي بالطرد والإبعاد في الآخرة. (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً).

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) قيل في سر التكرير : إنه ذكر سابقا على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته ، فلذلك ذيله بقوله (عَلِيماً حَكِيماً) ، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ، فلذا ذيله بقوله (عَزِيزاً حَكِيماً) فلا تكرار. وقيل : إن الجنود جنود رحمة ، وجنود عذاب ، وأن المراد هنا الثاني ، ولذا تعرّض لوصف العزة. وقال القاشاني : كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين ، بعكس ما فعل بالمؤمنين. وبدّل (عَلِيماً) بقوله (عَزِيزاً) ليفيد معنى القهر والقمع ، لأن العلم من باب اللطف ، والعزة من باب القهر.

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٨)

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه (وَمُبَشِّراً) أي لمن استجاب لك بالجنة (وَنَذِيراً) أي لمن خالفك بالنار.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩)

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ) أي تؤيدوا دينه وتقرّوه (وَتُوَقِّرُوهُ) أي تعظّموه (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي غدوة وعشيا ـ على ظاهره ـ أو دائما ، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع ، كما يقال (شرقا وغربا) لجميع الدنيا. والضمائر كلها ـ على ما ذكرنا ـ لله ، وجوّز إعادة الأولين للرسول ، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكا.

٤٨٦

القول في تأويل قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠)

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) أي على قتال قريش تحت الشجرة ، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ ، ولا يولوهم الأدبار. (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أي لأن عقد الميثاق مع رسول الله ، كعقده مع الله ، من غير تفاوت ، لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ونواهيه. (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) تأكيد لما قبله. أي أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم ، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال القاشاني : أي قدرته البارزة في يد الرسول ، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم ، فيضرهم عند النكث ، وينفعهم عند الوفاء.

(فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض عهده (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي لعود ضرر ذلك عليه خاصة. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وهو الجنة.

تنبيه :

هذه البيعة هي بيعة الرضوان. وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ألفا وأربعمائة ، وقيل : وثلاثمائة ، وقيل : خمسمائة. والأول أصح ـ على ما قاله ابن كثير ـ وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها ، لزم إيرادها مفصلة.

قال ابن إسحاق : خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذي القعدة معتمرا ، لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدّوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ، ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدي ، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ، ومعظما له.

وقال الإمام ابن القيّم : قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة. وكان معه ألف وخمسمائة. هكذا في الصحيحين (١) عن جابر. وفيهما (٢) عن عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٥ ـ باب غزوة الحديبية ، حديث ١٦٨٥.

(٢) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٥ ـ باب غزوة الحديبية ، حديث ١٨٩٤.

٤٨٧

أبي أوفى : كنا ألفا وثلاثمائة. وعن جابر فيهما (١) : كانوا ألفا وأربعمائة ـ والقلب إلى هذا أميل ـ وهو قول البراء بن عازب ، ومعقل بن يسار ، وسلمة بن الأكوع. ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة ، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة ، يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريبا من عسفان ، أتاه عينه فقال : إني تركت كعب بن لؤيّ ، قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت. واستشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وقال : أترون أن نميل إلى ذراريّ هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت ، فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر : الله ورسوله أعلم! إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد. ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فروحوا إذن. فراحوا ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن خالد بن الوليد بالغميم ، في خيل لقريش ، فخذوا ذات اليمين ، فو الله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بعترة الجيش. فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم ، بركت راحلته. فقال الناس : حل حل ، فألحّت : فقالوا : خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال : والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها. ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس أن نزحوه ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العطش ، فانتزع سهما من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه. قال ، فو الله! ما زال يجيش لهم بالريّ ، حتى صدروا عنه. وفزعت قريش لنزوله عليهم ، فأحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه ، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم ، فقال : يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان ، فأرسله إلى قريش وقال : أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمّارا ، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات ، فيدخل عليهم ، ويبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عزوجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان. فانطلق عثمان ، فمر على قريش ببلدح ، فقالوا : أين تريد؟ فقال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، ونخبركم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عمّارا. فقالوا :

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٥ ـ باب غزوة الحديبية ، حديث ١٦٨٥.

٤٨٨

قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به ، وأسرج فرسه. فحمل عثمان على الفرس وأجاره ، وأردفه أبان حتى جاء مكة. وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون! فقالوا : وما يمنعه يا رسول الله ، وقد خلص قال : ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معا. واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح ، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر ، وكانت معركة ، وتراموا بالنبل والحجارة ، وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم. وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عثمان قد قتل. فدعا إلى البيعة ، فثار المسلمون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تحت الشجرة ، فبايعوه على أن لا يفروا. فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيد نفسه وقال : هذه عن عثمان. ولما تمت البيعة رجع عثمان. فقال المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال : بئس ما ظننتم بي! والذي نفسي بيده! لو مكثت بها سنة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيم بالحديبية ، ما طفت بها ، حتى يطوف بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت! فقال المسلمون : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للبيعة تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم ، إلا الحرّ بن قيس ، وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان أول من بايعه أبو سنان الأسديّ ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات ، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لم نجئ لقتال أحد. ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب ، وأضرت بهم : فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جمّوا. وإن أبوا إلا القتال ، فو الذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره قال بديل : سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولا ، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا. فقال عروة بن مسعود الثقفيّ : إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته. فقالوا : ائته. فأتاه ، فجعل يكلمه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا من

٤٨٩

قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك : أي محمد! أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن أخرى ، فو الله إني لأرى وجوها ، وأرى أوشابا من الناس ، خليقا أن يفروا ويدعوك! فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه! قال : من ذا؟ قالوا : أبو بكر. قال : أما والذي نفسي بيده! لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك! وجعل يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلما كلمه أخذ بلحيته. والمغيرة بن شعبة على رأس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه السيف ، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال : أخّر يدك عن لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفع عروة رأسه وقال : من ذا؟ قال : المغيرة بن شعبة. فقال : أي غدر! أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية. فقتلهم ، وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء.

ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فو الله! ما تنخم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها جلده ووجهه ، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم! لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا. والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا فلان ، وهو من قوم يعظّمون البدن ؛ فابعثوها له ، فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبّون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه فقال : رأيت البدن قد قلّدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا مكرز بن حفص ، وهو رجل فاجر فجعل يكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبينا هو يكلّمه ، إذ جاء سهيل بن عمرو ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد سهل لكم من أمركم ، فقال : هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب ، فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل : أما الرحمن ، فو الله ما ندري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب : باسمك اللهم. ثم

٤٩٠

قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال سهيل : فو الله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني رسول الله وإن كذبتموني! اكتب : محمد بن عبد الله. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل : والله! لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : على أن لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك ، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلما؟! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. فقال سهيل : هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : فو الله! إذن لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأجره لي قال : ما أنا بمجيره لك ، قال : بلى ، فافعل. قال ما أنا بفاعل. قال مكرز : قد أجزناه لك. فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما لقيت ـ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله ـ قال عمر ابن الخطاب : والله! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله! ألست نبيّ الله؟ قال : بلى! قلت : ألسنا على الحق ، وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى! فقلت : على م نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال : إني رسول الله ، وهو ناصري ، ولست أعصيه. قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى! أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا! قال : فإنك آتيه ، وتطوف به! قال فأتيت أبا بكر ، فقلت له كما قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردّ عليه أبو بكر كما ردّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء ، وزاد : فاستمسك بغرزه حتى تموت فو الله! إنه لعلى الحق. قال عمر : فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموا وانحروا ثم احلقوا. فو الله! ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت أم سلمة : يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم ، حتى فعل ذلك : نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا. ثم جاءت نسوة مؤمنات. ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) [الممتحنة : ١٠] ، حتى بلغ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. فتزوج إحداهما معاوية ، والأخرى صفوان بن أمية.

٤٩١

ثم رجع إلى المدينة ، وفي مرجعه أنزل الله عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...) الآيات. فقال لعمر : أفتح هو يا رسول الله؟ قال : نعم! فقال الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله! فما لنا! فأنزلنا الله عزوجل (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ....) [الفتح : ٤] ، الآية. ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير ـ رجل من قريش ـ مسلما ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا : العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا جيدا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل! والله إنه لجيد ، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفرّ الآخر يعدو ، حتى بلغ المدينة ، فدخل المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قتل ، والله! صاحبي ، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال : يا نبيّ الله! قد أوفى الله ذمتك ، وقد رددتني إليهم ، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويل أمّه! مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله والرحم لمّا أرسل إليهم ، فمن أتاه فهو آمن ، فأنزل الله عزوجل (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) [الفتح : ٢٤] الآية. وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل ، قدمها ، وخلّوا بينه وبين مكة ، فأقام بها ثلاثا ، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب ، والسيوف في القرب ، وأن من أتانا من أصحابكم لم نردّه عليك ، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا ، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا : يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال : من أتاهم منا ، فأبعده الله ، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم ، جعل الله له فرجا ومخرجا. هذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في (زاد المعاد).

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١)

٤٩٢

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) قال مجاهد : هم أعراب المدينة ، كجهينة ومزينة ، استتبعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخروجه إلى مكة ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاءوه ، فقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك : شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا ، وإصلاح معايشنا ، والخوف على أهلنا من الضيعة ، فاستغفر لنا ربنا.

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) تكذيب لهم في اعتذارهم ، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون ، وإنما هو الشك في الله ، والنفاق. وكذا طلبهم للاستغفار أيضا ، ليس بصادر عن حقيقة ، لأنه بغير توبة منهم. ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به ، ما لم يكن مترجما عن الاعتقاد الحق.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي لا أحد يمنعه تعالى من ذلك ، لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم ، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم ، ولذا هددهم بقوله سبحانه (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي فيجازيكم عليه.

لطيفة :

قال الناصر : لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل ـ والله أعلم ـ : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا. لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا ، كقوله : (فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) [المائدة : ١٧] ، (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] ، (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) [الأحقاف : ٨]. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض الحديث (١) : إني لا أملك لكم شيئا ـ يخاطب عشيرته ـ وأمثاله كثيرة. وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه ، وليس كذلك حرمان المنفعة ، فإنه ضرر عائد عليه ، لا له. فإذا ظهر ذلك ، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه ، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير

__________________

(١) أخرجه مسلم في : الإيمان ، حديث رقم ٣٥٠.

٤٩٣

وشر ، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة. وخص عبارة دفع الضر ، لأنه هو المتوقع لهؤلاء ، إذ الآية في سياق التهديد ، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) [الأحزاب : ١٧] ، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (١٣)

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ) أي اعتقدتم أنه لن يرجع (الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي بل تستأصلهم قريش. (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي حسّن الشيطان ذلك وصححه ، حتى حبب لكم التخلف. (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو عدم نصر الرسول ، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) هالكين ، مستوجبين لسخط الله ، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي : من النار تسعتر عليهم.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) قال ابن جرير : هذا من الله جل ثناؤه حثّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله ، في طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله يغفر للتائبين ، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده ، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.

٤٩٤

القول في تأويل قوله تعالى :

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٥)

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) أي بعذر الاشتغال بأموالهم وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) أي قصدتم السير (إِلى مَغانِمَ) أي أماكنها. قال ابن جرير : وذلك ما كان وعد الله أهل الحديبية من غنائم خيبر (ذَرُونا) أي اتركونا في الانطلاق إليها (نَتَّبِعْكُمْ) أي نشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ) أي بعد ظهور كذبهم في الاعتذار ، وطلب الاستغفار (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قال ابن جرير : أي وعد الله الذي وعد أهل الحديبية ، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم ، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة ، إذ انصرفوا عنها على صلح ، ولم يصيبوا منهم شيئا.

وقال آخرون : بل عنى بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة. وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة : (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة : ٨٣] ، والأكثرون على الأول. وذلك أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست ، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ، ففتحها وغنم أموالا كثيرة ، فخصها بهم.

قال الشراح : وكان ذلك بوحي. ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر ، وبعد فتح مكة أيضا. وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى : (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ...) [التوبة : ٨٣] الآية. فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية ، وقد نزل بعدها بكثير؟ ـ والله أعلم ـ.

(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم. وهو نفي في معنى النهي. قال الشهاب : فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي ، وهو أبلغ.

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) قال ابن جرير : أي من قبل مرجعنا إليكم. إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر ، لأن غنيمتها لغيركم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم ، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. قال الشهاب : وهو

٤٩٥

إضراب عن كونه بحكم الله. أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا.

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) أي عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين (إِلَّا قَلِيلاً) أي فهما قليلا ، وهو ما كان في أمور الدنيا ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم : ٧].

القول في تأويل قوله تعالى :

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦)

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي عن المسير معك (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي يفوق قتال من أقاتلهم ، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه ، بل (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال. وقرئ شاذا أو يسلموا بمعنى إلا أن يسلموا ، أو حتى يسلموا. (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) يعني الغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي عن الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لتضاعف جرمكم.

ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار ، وإن حدثت بعد التخلف الأول ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) قال المهايمي : وإن أمكنة القتال بإحساس صوت مشي العدوّ ، ومشي فرسه ، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه. (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) أي وإن أمكنه القتال قاعدا ، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ ، ولا يقوى قوة القائم (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام ، فلا قوة له في دفع العدوّ ، فضلا عن الغلبة عليه.

ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء ، وإن فاتهم الجهاد ، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله ، بقوله سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ (١) وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

٤٩٦

وَمَنْ يَتَوَلَ) أي عن إطاعتهما ، وإن كان أعمى أو أعرج أو مريضا (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي بالمذلة دنيا ، والنار أخرى.

تنبيه :

اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم (أولو بأس شديد) ـ على أقوال :

أحدها ـ أنهم هوازن.

الثاني ـ ثقيف ، وكلاهما غزاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالث ـ بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب ، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه.

الرابع ـ أهل فارس والروم ، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه.

ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية ، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة. ولو عدّ من الأوجه كفار مكة ، لم يبعد ، بل عندي هو الأقرب ، لأن السين للاستقبال القريب ، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة ، منصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم ، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد ، إذ دعاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتال قريش أو يسلموا ، فكان ما كان من إسلامهم طوعا أو كرها ـ والله أعلم ـ.

القول في تأويل قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨)

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يعني بيعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب ، وعلى أن لا يفرّوا ، ولا يولوهم الدبر ، تحت شجرة هناك.

وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد. ففي الصحيحين (١) من حديث أبي عوانة عن طارق ، عن سعيد بن المسيّب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة. قال : فانطلقنا من قابل حاجّين ، فخفي علينا مكانها ، وإن كان بينت لكم ، فأنتم أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في : المغازي ، ٣٥ ـ باب غزوة الحديبية ، حديث ١٨٩٨.

٤٩٧

وفيهما أيضا عن سفيان قال : إنهم اختلفوا في موضعها.

وروى ابن جرير عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّب قال : كان جدي يقال له (حزن) ، وكان ممن بايع تحت الشجرة ، فأتيناها من قابل ، فعمّيت علينا.

ثم قال ابن جرير : وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال : أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول : هنا ، وبعضهم يقول : ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، هذا التكلّف ، فذهبت الشجرة ، وكانت سمرة ، إما ذهب بها سيل ، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع ؛ أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة ، فيصلّون عندها ، فتوعّدهم ، ثم أمر بقطعها ، فقطعت!.

ولا ينافي ما تقدم ، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها ، أو توهّموها ، فاتخذوها مسجدا ، ومكانا مقدسا ، فقطعها عمر حالتئذ ، صونا لعقيدتهم من الشرك ، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد ، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها ، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها ، وإجلال مثال أصحابها.

وقال في (الفتح) أيضا في شرح حديث ابن عمر ، وقوله : رجعنا من العام المقبل ، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله ، ما مثاله :

وقد وافق المسيّب بن حزن ، والد سعيد ، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة. والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان ، لما وقع تحتها من الخير ، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجّهال لها ، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر ، كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله (كانت رحمة من الله) أي كان خفاؤها عليهم ، بعد ذلك ، رحمة من الله تعالى. انتهى.

وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان ، سميت لهذه الآية ، وتقدمت قصتها مفصلة.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي في الصبر والطمأنينة والوقار. (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) قال ابن جرير : أي وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة ، بقتالهم أهلها ، (فَتْحاً قَرِيباً) ، وذلك ـ فيما قيل ـ فتح خيبر.

٤٩٨

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٩)

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) وهي مغانم خيبر ، وكانت أرضا ذات عقار وأموال ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل بيعة الرضوان خاصة. (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي ذا عزة في انتقامه من أعدائه ، وحكمة في تدبير خلقه.

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠)

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد. (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت ، إلى قيام الساعة. وقيل : المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول ، كما قاله ابن جرير ، لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة ، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية إليها ، من فتح خيبر وغنائمها. (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي أيدي أهل خيبر ، فانتصرتم عليهم ، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول. قال : لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ...) الآية. أي والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول : لا مانع من التأكيد ، لا سيما في مقام التذكير بالنعم ، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى ، والتبيين لمطلقها ـ والله أعلم ـ.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين ، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان ، وأنه ضامن نصرهم ، والفتح لهم. (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله. وقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١)

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) معطوف على (هذِهِ) أي فعجّل لكم هذه المغانم ، ومغانم أخرى ، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين ، لأنه قال : (لَمْ

٤٩٩

تَقْدِرُوا عَلَيْها) وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن : هي فارس والروم. قال القرطبيّ : وكونها معجلة ، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر ، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.

وعن قتادة : هي مكة. قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله قتادة ، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها. ومعقول أنه لا يقال لقوم ، لم يقدروا على هذه المدينة ، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يروموها فتتعذر عليهم ، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك ، وكان معلوما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه ، خيبر لحرب ، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية ، علم أن المعنى بقوله (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) غيرها ، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت ، فكانت مكة وأهلها كذلك. وأخبر الله تعالى نبيّه والمؤمنين ، أنه أحاط بها وبأهلها. وأنه فاتحها عليهم. انتهى.

وقال القرطبي : معنى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي أعدها لكم ، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه ، فهو محصور لا يفوت. فأنتم ، وإن لم تقدروا عليها في الحال ، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل : (أَحاطَ اللهُ بِها) علم أنها ستكون لكم ، كما قال (وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً). وقيل : حفظها الله عليكم ، ليكون فتحها لكم. انتهى.

وقد جوّز في (أُخْرى) أن تكون معطوفة على (مَغانِمَ) المنصوب ب (وَعَدَكُمُ) وأن تكون مرفوعة بالابتداء و (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفتها و (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) خبر. وأوجه أخر.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي : لا يبعد عليه إذا شاءه.

ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر والنصر المستمر ، لصدق إيمانهم إخلاصهم في ثباتهم ، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب ، بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣)

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ) أي بعد هذا الفتح والنصر المعجل (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ)

٥٠٠